بسم الله الرحمن الرحيم
الفرق الإسلامية: تعريفات الماضي وتنزيلات على الحاضر والمستقبل
بدعة الضرار وتجددها في هذا الزمان
I. نظرات عامة حول البدع
II. في تصنيفات البدع
III. حقائق عن الضرار
1. المال الحرام وبدعة الضرار
2. بدعة الضرار وطلب النجدة عند أعداء الدين
IV. تنزيلات على العصر
V. شريعة الائتلاف وثقافة الضرار في هذا الزمان
VI. خاتمة
الفرق الإسلامية: تعريفات الماضي وتنزيلات على الحاضر والمستقبل
بدعة الضرار وتجددها في هذا الزمان
I. نظرات عامة حول البدع
درس فقهاء السلف البدع غير بعيدين عن الثقافة السارية في بيئتهم. فأحصوها وفحصوها بما تسمح به الحريات المتاحة، وحسب المسافة التي كانت في أيامهم بين السلطان والقرآن. فمنهم من جعلها مسائل فلسفية كلامية بعيدة عن هموم الأمة وفقه الواقع. ومنهم من تقرب بها إلى السلطات فكانت له تصنيفات يبتغي بها العافية أو العطاء. ومنهم من نفخ في أمر غير ذي شأن منها، ليصرف نظر العامة عن البدع الحقيقية. فرأى الفقهاء المنتسبون إلى السنة في البدع نوعين:
النوع الأول : بدعة قولية اعتقادية كمقالات الجهمية والمعتزلة والرافضة والخوارج والقدرية والمرجئة والكرّامية والسالمة والصوفية وسائر الفرق الضالة واعتقاداتهم.
النوع الثاني : بدعة فعلية في العبادات كالتعبد لله بعبادة لم يشرعها. " كتاب الإيمان: ابن تيمية."
ورغم تقعرهم للتمويه على الناس أن الدين لا بد له من كهنوت يفسر لهم أن الدين ليس يسرا، وهل دين الفطرة هو ما يدعون؟ رغم ذلك التكلف في الاستقصاء الدقيق للبدع، نلاحظ أن ابن تيمية لم يذكر بدعة النصب، اتباعا لأهل السنة في سكوتهم أو موالاتهم لمعاوية، أول مؤسس لبدعة النواصب، بعد رفضه لبيعة سيدنا علي، واقتراف جريمة حربه الانفصالية عليه. ولم يذكروا كذلك ضمن تصنيفاتهم بدعة الضرار، رغم التحذير القرآني الشديد منها، لخطورتها القصوى على وحدة الأمة.
أما تعريف فقهاء الشيعة للبدعة، فيرون أنها " تكون وتنحصر في مورد واحد، هي : إدخال ما ليس من الدين في الدين، كما عرفها الشريف المرتضى (رحمه الله) حيث قال : (البدعة الزيادة في الدين أو نقصان منه من غير إسناد الى الدين … ) (الرسائل / الشريف المرتضى 3 / 83). فبهذه النية يعتبر المبتدع مشرعاً فيحرم عليه ذلك. أما من يفعل شيئاً لم يفعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو من الخير والصلاح والمقدمات الممدوحة والمعينة على العبادة أو الميسّرة لأدائها، فلا يصح وصفها بالبدعة – كما يقول أهل السنة - مع العلم أن أهل السنة خالفوا ما اشترطوا، وكان لهم مما لا يحصى من البدع التي ابتدعوها، لم ينزل الله بها من سلطان .
ومن العلماء من أحصى البدع حسب تاريخ إحداثها في المجتمع الاِسلامي. فلما لاحظوا أن معظمها ظهر في القرن الأول، تيقنوا من ضعف بعض الأحاديث التي تعدل الصحابة كلهم. وقد ذكرنا في المواضيع السابقة مراسيم معاوية الأربعة وأثرها في ظهور بدعة التلاعب في الحديث. فاستنتج العلماء من ذلك أن سنة الخلفاء أو سنة الصحابة لا تعتبر من أصول التشريع، لما حقق أهل الرواية والدراية في أحاديث تريد تعديل الصحابة ،خاصة الشيخين ومعاوية، لجعل أفعالهم مصدرا من مصادر التشريع. ومن تلك الأخبار خبر : "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي"، أو خبر " أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم". أو خبر " خيركم قرني ثم الذين يلونهم..." قال ابن حزم في هذه المسألة : ..."إن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أمر باتباع سنة الخلفاء الراشدين لا يخلو ضرورة من أحد وجهين: إما أن يكون صلى الله عليه وسلم أباح أن يسنوا سننا غير سننه، فهذا لا يقوله مسلم، ومن أجاز هذا فقد كفر.. إلى آخر نقده العقلي ."
أما عن البدع التي ظهرت فيهم ولا يحل لنا اتباعها فهو الذي دار عليه حديثنا حول الروافض وحول النواصب... وكان القرن الاَول ملطخا بدماء حرب الجمل ومعركة صفين. وفيه قُتل في محرابه علي، وقبله عمر، وعثمان رضي الله عن الجميع. وفيه ظهر الخوارج وارتكبوا ما ارتكبوا من أبشع الجرائم. وفيه أيضاً قُتل الاِمام الحسين عليه السلام سبط الرسول الاَعظم وسيد شباب أهل الجنة. وفيه استبيحت المدينة بأمر معاوية وابنه يزيد فقتل من الصحابة والتابعين عدد كبير ونهبت الاَموال وحرّقت الدور وبقرت بطون الحوامل وهتكت الاَعراض. وفيه حوصرت مكة وضربت الكعبة بالمنجنيق.
وإذا كان المقياس الذي يقيِّم البدعة هو المسافة بينها وبين الالتزام بالتعاليم التي جاء بها الرسول الاَكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فمن المشروع أن نتساءل كما تتساءل المصادر الشيعية (البــدعــة مفهومها وحدودها ، تأليف : مركز الرسالة ) حول مصداقية تلك الأقوال التي تتشبت بها الوهابية، رغم مناقضتها لأحاديث أخرى كحديث : « يرد عليَّ يوم القيامة رهط من أصحابي فَيُحَلَّؤون عن الحوض، فأقول: يا ربي أصحابي، فيقول: إنّه لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقري» اهـ.
أقول: قبول سنة الصحابة كأصل للتشريع في الأصول الثابتة ، فتح الباب لقبول غيرهم من البشر لتلويث الدين باجتهادات بشرية أخرى. فقيل هذا مالكي وهذا شافعي وهذا جعفري ...الخ. ثم لما انقرض ذلك القرن قيل هذا مالكي أشعري وهذا حنفي معتزلي ... وهذا إمامي خمسي...الخ ثم لما انقرض ذلك القرن زيد في بطاقة الهوية الدينية فقيل هذا مالكي أشعري جنيدي، وهذا إمامي إثناعشري... وغير ذلك من التصنيفات التي ما أنزل الله بها من سلطان في الدين المحمدي. لأن الدين الحنيف أتمه الله في التنزيل، وتفضل علينا بوصية الاقتداء بسيدنا علي في معايير التأويل للفروع أو المسكوت عنه من المسائل...
وكان الصحابة على وعي بذلك. فعندما أهمل الشيخان حديث الثقلين، ووصية الموالاة، قال زعيم الأنصار سعد بن عبادة: (أيها الناس إني والله ما أردتها حتى رأيتكم تصرفونها عن علي، ولا أبايعكم حتى يبايع علي، ولعلي لا أفعل وإن بايع!).
ومن أخطر البدع التي تسربت للامة عبر معتقد تعديل الصحابة وجعل سنتهم أصلا من أصول الدين ومصدرا من مصادر الشريعة، بدعة النصب التي فرخت بدعة نقض عروة الحكم والاستيلاء عليه بالسيف، وبدعة نقض الشورى وبدعة ولاية العهد... التي تطورت في زماننا إلى ولاية العهد أس إثنان. ولربما سوف تتطور إلى ولاية العهد أس 3 أو أس 4 الخ، طمعا في بقاء الملك في العقب إلى أن يسلم الراية للمسيح الدجال... أما أن يسلمها إلى المهدي المنتظر... هذا محال في القياس بديع.
II. في تصنيف البدع:
كما اجتهد السلف في دراسة البدع حسب ظروفهم وواجبات وقتهم، ربما كان من المفيد للمشروع المستقبلي الهادف لإعادة النظر في التراث الفقهي، أن يستكشف تحليلات لها تلائم مستجدات العصر. ولربما كان ذلك مساهمة في إعادة النظر في مناهج التعليم الديني، وفي فقه تدبير الاختلاف المذهبي، للوقاية من البغي والاقتتال، ثم الفشل وذهاب ريح الأمة الذي طبع هذا الزمان.
وانطلاقا من حقنا في البحث الموضوعي في ملوثات الدين حسب ضروريات العصر، يمكن بداية التمييز بين البدع الميتة والبدع الحية...
أولا :البدع الميتة: وهي البدع التي انقرضت بموت مثيريها في القرون الأولى، فلا وجود لها اليوم بيننا، إلا في متحف المسوخات الكلامية. لكن الكهنوت الجديد يريد نفخ الروح فيها لإعادة إنتاج الجدل المقعد عن العمل، والمبعد عن العلم النافع لبناء الذات...مثله كمثل ذلك القاضي الذي وظف في قرية آمنة مطمئنة لا تنازع فيه يحتاج إلى تدخل خارجي، فرأى أن وجوده يقتضي إشعال الفتن لكي يلجأ الناس إليه ليحكم بينهم فيما لم يكونوا فيه يختلفون. فإن كان لك يا أخي من الوقت ما تصنفه في الوقت الفارغ، وصرفته في إطلالة على تلك البدع المثيرة للزوابع الكلامية القديمة، لوجدت أن آية قرآنية أو حديثا يوجد فيهما ما يشفي فضولك فيها نهائيا. إلا أن تكون من المصروفين، والعياذ بالله، عن الاهتداء بالقرآن الكريم، وعن الاقتداء بخاتم المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم الذي ناضل على التنزيل، وعن الاستزادة من العلم النبوي عبر باب مدينة العلم الذي ناضل على التأويل، سيدنا علي كرم الله وجهه.
ثانيا : البدع الحية: وهي البدع التي خطرها قائم، ووضوح النهي عنها لازم، لكن الكهنوت المرتزق بالدين يريدون صرف نظرك عنها لعدة أسباب، نذكرها بعد قليل.
كما أنه يمكن تقسيم البدع الحية إلى صنفين:
· بدع لازمة للفرد لا تتعداه. تعرقل سعيه الفردي للتقرب من ربه لتحقيق الغاية الإحسانية؛
· بدع متعدية إلى الأمة، تريد صدها عن الغاية الاستخلافية.
البدع اللازمة:
البدع اللازمة للفرد خطرها محصور فيه. أن يكون الشخص علمانيا أو مرتدا أو منافقا أو يصلي التراويح أو لا يصلى نافلة الضحى أو يسدل أو يسلم على الناس بعد الصلاة ... وما إلى ذلك مما يحصونه من الممارسات الشخصية، فهذا خطره لازم للفرد ما لم يقاتل أحدا على معتقده. و حتى الشخص الذي "ابتلي بشئ من المعاصي القذرة"، يتركه الإسلام وشأنه ما لم يعمد للمجاهرة بالبدعة لنشرها لتعم المجتمع، وترجع ثقافة غالبة، ربما وصلت إلى سدة الحكم، وشرعت بشريعة تحلل بدعته. مثلا في هذا الزمان بدعة العلمانية الفردية. الفرد يختار العلمانية فهذا شأنه إذ لا إكراه في الدين. هو حر أن لا يعترف بشريعة القرآن وسنة النبي. لكن عندما تكون بدعة العلمانية حركة جماعية تريد فرض عقيدتها على المجتمع المسلم، فهذا يقتضي رد اعتدائها على الحرمات. والرد يكون بالمثل لا غير، عكس ما ذهب إليه فقهاء السنة من نسخ رحمة الاسلام وعدله بآية السيف. لأن الاختلاف هو سنة من سنن الله في خلقه. ويبقى اختلاف رحمة حضارية، وشأنا داخليا يحفظ للمجتمع أمنه واستقراره، ما لم يستقو باليهود والنصارى المغيرين على الأمة.
البدع المتعدية:
هذا النوع يعرقل مسيرة الأمة نحو الغاية الاستخلافية. ويمكن ترتيبه في قسمين :
· القسم الأول : بدع تهدد المسلمين من الداخل؛
· القسم الثاني: بدع تفتح الطريق للخطر الخارجي.
الصنف الأول يبدأ اجتهادا داخليا مشروعا في الفروع، - إذ لا اجتهاد في الأصول الثابتة إلا في التطبيق - ، ينتج مذاهب اختلاف رحمة، تخفيفا وتوسيعا على المسلمين. هذا ما لم يتطور الأمر إلى اختلاف نقمة حالقة للدين... بإنتاجه لبدعة من البدع، تتطور لتظهر في فرقة باغية، تقاتل على بدعتها بالسيف. فإن قاتل المسلمون الفرقة الباغية لكفها عن الظلم فبها ونعمت، وإلا أثم المسلمون جميعا وتطور الأمر إلى خلاف وتنازع ورجوعهم كفارا يضرب بعضهم رقاب بعض. فتتطور البدعة كفرا بواحا، تختل معه أمور المسلمين. لكن لا تستأصل عرى الإسلام كلية، لأن كل فرقة تتظاهر أنها الفرقة التي تحمي حمى الملة والدين:
· فرقة تظهر ذلك نفاقا للحفاظ على المصالح الدنيوية، لأن المنافق، ولو كان في الآخرة في الدرك الأسفل من النار، يقبل منه تظاهره بالإسلام، إذ أمرنا أن نحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر. مقابل تظاهره بالإسلام، يعصم دمه وماله وعرضه.
· وفرقة مؤمنة صادقة في إيمانها... وأجرها على الله، وعلامتها الصبر، والمودة في العترة.
وفي الحالتين حالة النفاق وحالة الصدق، تبقى معظم أركان الإسلام والإيمان والإحسان سارية في المجتمع إذا كانت موازين الإصلاح والقسط والعدل معتمدة في تدبير الاختلاف.
III. حقائق عن الضرار:
القسم الثاني: أي البدع التي تفتح الطريق للخطر الخارجي، يمكن جمعها تحت مصطلح بدعة الضرار. وحوله سوف يدور بحثنا، بعد هذه المقدمات.
يبدأ الضرار مودة لمن حاد الله ورسوله، ثم تتطور المودة إلى تجسس وتبادل للمعلومات المخابراتية على كل صغيرة وكبيرة في شؤون المسلمين إلى درجة كشف العورات والثغرات التي يمكن للعدو مداهمة الأمة منها، أو تدبير مكايد التدمير الذاتي والقتال بالوكالة.
ثم يتطور الأمر للتعاون مع المعتدين على الشعوب المسلمة.
ثم إلى قتال المسلمين في صفوف الأعداء المغيرين.
ثم إلى طلب حماية اليهود والنصارى والملحدين وفتح البلاد لهم.
ثم إلى تسليم زمام الأمور لهم لفعل ما يطيب لهم في شؤون المسلمين. يخربون المساجد أو يردونها كنائس، أو اسطبلات، أو متاحف أو مزابل... ثم يمنعون الأذان ويجرمون كل من يقوم بالشعائر التي هي من أركان الدين.
ثم يعمدون إلى الاستئصال العرقي وطرد المسلمين من ديارهم وأوطانهم... بعد فشلهم وذهاب ريحهم نهائيا.
ولا نتوسع في هذه المراحل ونحن في الأيام التي تخلد مأساة النكبة الفلسطينية. بعدما خلدنا نكبة البلقان وقبلها نكبة الأندلس، وحديثا نكبات الاستعمار والحماية وخضوع أقطارنا لدين العلمانية التلمودية، وآخرها نكبة الاقتتال الشرس بالوكالة لصالح أعداء الدين.
الصنف الأول من البدع أو البدع الداخلية رغم خطورتها فإنها لا تُفضي إلى انهيار الأمة واندثارها. من أجل ذلك تركت مشكلاتها للتأويل الذي قاتل عليه سيدنا علي، فهو الذي أوتي مفاتيح الفرز بين الإسلام والنفاق والكفر الفردي الذي يسع المسلمين دون أن يكسر بيضتهم ويستأصلهم استئصالا جسديا... ونرتبها في البدع الطاعنة في صاحب التأويل وعترته. وقد تطرق لها حديثنا في بدعة الرفض وبدعة النصب.
أما البدع من الصنف الثاني، فخطرها استئصالي، يهدد وجود الأمة الإسلامية المحمية بدولة السلطان والقرآن. من أجل ذلك اقتضت معالجتها التدخل المباشر للوحي وللسنة النبوية لتبيين طرق وءدها في المهد قبل استفحال خطرها. فهي البدع التي عالجها لنا الذي قاتل على التنزيل، صلى الله عليه وآله وسلم.
ذلك ما يمكن استنباطه من الحديث الذي أخرجه الحاكم في المستدرك، عن أبي سعيد الخدري قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله فانقطعت نعله فتخلف علي يخصفها " فمشى قليلا ثم قال: { إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله}. فاستشرف لها القوم وفيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، قال أبو بكر أنا هو قال: { لا }. قال عمر أنا هو، قال: { لا ولكن خاصف النعل } يعني عليا. فأتيناه فبشرناه فلم يرفع به رأسه كأنه قد كان سمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله. ". ( حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه / 3 / 32 ، وقال الذهبي في التلخيص: على شرط البخاري ومسلم .)
الضرار بناء على شفا جرف هار، تعاون على تأسيسه رجلان اثنان:
· "رجل مانح" من رجال المال الحرام؛
· "رجل مانع" ابتغى المنعة لمشروعه عند اليهود والنصارى والكفار.
1. المال الحرام وبدعة الضرار:
يتضايق الوهابيون في هذا الزمان من ذكر صحابي شارك في بدعة الضرار بشكل مباشر لسببين:
· السبب الأول لأنه صحابي فهو مشمول بما وضعوه من أحاديث الاقتداء بأي كان من الصحابة بحكم أقوالهم المكذوبة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ذكرناها سابقا.
· والسبب الثاني لأن ما وقع له مع المال الحرام ربما انسحب على أمراء البيترودولار الذين ينفقون المال المغصوب من الشعب المقهور، في تسمين العجل الذهبي وتخريب الأمة بأسلحتهم. وكذلك الإنفاق على الكهنوت الناصبي المكفر لأهل القبلة، وعلى شراء الذمم.
رجل المال الحرام هو ثعلبة بن حاطب الانصاري. معالجة بدعته اقتضت تنزيل الوحي، وكذلك النضال على التنزيل.
في قول الله تعالى : {{ وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ}}. "التوبة:75"، ذكر كثير من أهل التفسير في سبب نزولها قصة أخرجها الطبراني في الكبير... " أن ثعلبة بن حاطب الانصاري أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالاً، قال : ويحك يا ثعلبة! قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه، ثم رجع إليه فقال: يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالاً : قال ويحك يا ثعلبة! تريد أن تكون مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لو سألت أن يسيل لي الجبال ذهباً وفضة لسالت، ثم رجع إليه فقال: يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالاً، والله لئن آتاني الله مالاً لأوتين كل ذي حق حقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم ارزق ثعلبة مالاً، فاتخذ غنماً فنمت كما ينمو الدود حتى ضاقت عنها أزقة المدينة فتنحى بها وكان يشهد الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يخرج إليها، ثم نمت حتى تعذرت عليه مراعي المدينة فتنحى بها، فكان يشهد الجمعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يخرج إليها، ثم نمت فتنحى بها فترك الجمعة والجماعات فيتلقى الركبان ويقول ماذا عندكم من الخير وما كان من أمر الناس، فأنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها...) قال: فاستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدقات رجلا من الأنصار ورجلا من بني سليم وكتب لهما سنة الصدقة وأسنانها وأمرهما أن يصدقا الناس وأن يمرا بثعلبة فيأخذا منه صدقة ماله، ففعلا حتى ذهبا إلى ثعلبة فأقرءاه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صدقا الناس فإذا فرغتما فمرا بي ففعلا، فقال : والله ما هذه إلا أخية الجزية! فانطلقا حتى لحقا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم :(وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ.. إلى قوله يكذبون ) [ التوبة : 75] ، قال : فركب رجل من الأنصار قريب لثعلبة راحلة حتى أتى ثعلبة، فقال: ويحك يا ثعلبة هلكت! أنزل الله عز وجل فيك من القرآن كذا، فأقبل ثعلبة ووضع التراب على رأسه وهو يبكي ويقول : يا رسول الله يا رسول الله، فلم يقبل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقته حتى قبض الله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتى أبا بكر رضي الله عنه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا أبا بكر قد عرفت موقفي من قومي ومكاني من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل مني، فأبى أن يقبله، ثم أتى عمر رضي الله تعالى عنه فأبى أن يقبل منه، ثم أتى عثمان رضي الله تعالى عنه فأبى أن يقبل منه، ثم مات ثعلبة في خلافة عثمان رضي الله تعالى عنه " .
والفقه السني الرسمي عنده مشكلة مع هذه القصة للأسباب التي ذكرت من قبل. قال القرطبي في تفسيره : " ... ثعلبة بدري أنصاري وممن شهد الله له ورسوله بالإيمان حسب ما يأتي بيانه في أول الممتحنة، فما روي عنه غير صحيح...
وقال الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث الكشاف :وهذا إسناد ضعيف جداً، وضعف القصة أيضاً الذهبي في ميزان الاعتدال، والسيوطي في أسباب النزول وغيرهم.
لكن مشاركة هذا "الصحابي " في قضية الضرار التي وثقها المحدثون والمؤرخون من السنة ومن الشيعة، ربما أحرجتهم لأنها دليل آخر على فساد معتقد تعديل الصحابة قاطبة.
2. بدعة الضرار وطلب النجدة عند أعداء الدين:
أما الزعيم الروحي لبدعة الضرار، فالوحي المنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، تكفل كذلك بمعالجة بدعته نظرا لخطورتها الفائقة على دولة المسلمين الناشئة في المدينة المنورة. اسمه مرتبط بقضية مسجد الضرار. قبل تفصيلها، لا بد من سبر الأعماق النفسية لزعيمها الروحي: أبي عامر الراهب.
جاء خبره الغريب في كتب السيرة: " أبو عامر واسمه عمرو ، وقيل عبد عمرو يعرف بالراهب في الجاهلية، قرأ كتب اليهود ورأى فيها صفات نبي الله صلى الله عليه وسلم، وكان يذكر البعث ودين الحنيفية، فلما بعث رسول الله حسده. ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينه لقيه أبو عامر، فقال له: ما هذا الذي جئت به يا محمد؟ قال (صلى الله عليه وسلم): "جئت بالحنيفية، دين ابراهيم" قال أبو عامر : انا عليها فقال (صلى الله عليه وسلم) : "انك لست عليها". قال أبو عامر: أدخلت في الحنيفية ما ليس منها. فقال صلى الله عليه وسلم : "ما فعلت، ولكن جئت بها بيضاء نقية". قال أبوعامر: أمات الله الكاذب منا طريدا غريبا وحيدا. فقال (صلى الله عليه وسلم) : "آمين". فقال أبو عامر: لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم.
وفي نهاية اللقاء أطلق عليه رسول الله لقب : "الفاسق". فصار يسمى أبو عامر الفاسق بدلا من الراهب، وخرج إلى مكة والتقى فيها بزعماء قريش وراح يحرضها على قتال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وتعهد لها بمساندتهم إذا قدموا إلى المدينة. وأقام أبو عامر الفاسق بمكة فلما فتحت هرب إلى هرقل والروم فمات كافرا غريبا وحيدا طريدا كما دعى على نفسه" .
وعلاقته بقصة مسجد الضرار، ذكرها القرآن الكريم ، في سورة التوبة ، الآية/107-108 ، حيث يقول الله تعالى : {{ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ . لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ }}.
وتفاصيل القصة وردت في كتب التفسير وأسباب نزول آيات القرآن. قال ابن كثير: " سبب نزول هذه الآيات الكريمات : أنه كان بالمدينة قبل مَقدَم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها رجل من الخزرج يقال له : " أبو عامر الراهبُ " ، وكان قد تَنَصَّر في الجاهلية وقرأ علْم أهل الكتاب ، وكان فيه عبادة في الجاهلية ، وله شرف في الخزرج كبير ، فلما قَدم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مهاجرًا إلى المدينة ، واجتمع المسلمون عليه ، وصارت للإسلام كلمة عالية ، وأظهرهم الله يوم بدر ، شَرِق اللعين أبو عامر بريقه ، وبارز بالعداوة ، وظاهر بها ، وخرج فارًّا إلى كفار مكة من مشركي قريش ، فألَّبهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب ، وقدموا عام أحد ، فكان من أمر المسلمين ما كان ، وامتحنهم الله ، وكانت العاقبة للمتقين .وكان هذا الفاسق قد حفر حفائر فيما بين الصفين ، فوقع في إحداهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأصيب ذلك اليوم ، فجرح في وجهه ، وكُسِرت ربَاعِيتُه اليمنى السفلى ، وشُجَّ رأسه ، صلوات الله وسلامه عليه . وتقدم أبو عامر في أول المبارزة إلى قومه من الأنصار ، فخاطبهم واستمالهم إلى نصره وموافقته ، فلما عرفوا كلامه قالوا : لا أنعم الله بك عينا يا فاسق يا عدو الله ، ونالوا منه وسبُّوه . فرجع وهو يقول : والله لقد أصاب قومي بعدي شَر .وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعاه إلى الله قبل فراره ، وقرأ عليه من القرآن ، فأبى أن يسلم وتمرَّد ، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يموت بعيدًا طريدًا ، فنالته هذه الدعوة .
وذلك أنه لما فرغ الناس من أحد ، ورأى أمرَ الرسول صلوات الله وسلامه عليه في ارتفاع وظهور، ذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على النبي صلى الله عليه وسلم ، فوعده ومَنَّاه ، وأقام عنده ، وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار من أهل النفاق والريب يعدهم ويُمنَّيهم أنه سيقدمُ بجيش يقاتل به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويغلبه ويرده عما هو فيه ، وأمرهم أن يتخذوا له مَعقلا يقدم عليهم فيه من يقدم من عنده لأداء كُتُبه ، ويكونَ مرصدًا له إذا قدم عليهم بعد ذلك ، فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء ، فبنوه وأحكموه ، وفرغوا منه قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى تبوك ، وجاءوا فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي إليهم فيصلي في مسجدهم ، ليحتجوا بصلاته عليه السلام فيه على تقريره وإثباته ، وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم وأهل العلة في الليلة الشاتية ، فعصمه الله من الصلاة فيه فقال : ( إنا على سفر ، ولكن إذا رجعنا إن شاء الله ) ، فلما قفل عليه السلام راجعًا إلى المدينة من تبوك ، ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم ، نزل عليه الوحي بخبر مسجد الضِّرار ، وما اعتمده بانوه من الكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم مسجد قباء الذي أسس من أول يوم على التقوى ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك المسجد من هَدَمه قبل مقدمه المدينة."
وذكرت كتب التفسير والتاريخ أسماء الذين شاركوا في تأسيس جماعة الضرار، وذكروا فيهم رجل المال الحرام الذي منع الزكاة : ثعلبة بن حاطب.
فهو التآزر العضوي بين كتلة الأثرياء والأمراء، ومرتزقة العلماء الساعين إلى الزعامة الروحية عن طريق الحبرية الفاسقة، أو الرهبانية الضالة. يدفعهم الحسد إلى معاداة الأنبياء وأئمة الهداية، ودعاة التعاون على البر والتقوى. ويرصدون كل من يشاركهم نفس الطبع المستعد للتحالف مع قوى الإثم والعدوان. المتأهبة للسطو بالنبوة ودولتها القائمة بالحق. ومحاربة كل خلافة راشدة جامعة بين الخليفتين الموصى بهما في الحديث الصحيح الذي عليه قوام السياسة الشرعية : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: { إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله عز وجل وعترتي أهل بيتي، ألا وهما الخليفتان من بعدي، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض}. "الحديث بهذا اللفظ أخرجه الطبراني في المعجم الكبير".
IV. تنزيلات على العصر:
ذكرت أن بدعة الضرار تكفل لنا صاحب التنزيل بمباشرتها بحزم وصرامة بعدما تدخل الوحي لكشف تلبيساتها المعقدة. ذلك أنها بعناصرها الثلاثة: العنصر المانح، والعنصر المانع، والعنصر المدبر، تريد استئصال أمة الرسالة الخاتمة. عبر أساليب ماكرة، تتعدى مقاومة مسجد بمسجد آخر، إلى أبعد من ذلك في التخطيط : مقاومة الدولة الإسلامية بدولة إسلامية أخرى، تفريقا بين الشيعة والسنة كما صدع به زعيم الصهاينة في خطابه الأخير في الكنغريس الأمريكي.
لكن الرسالة تكفل لنا مرسلها عز وجل بحفظها عبر تسخير قوانين تتحكم في تداول سلطان نصرة الدين بين الناس.
فنستنتج أن أمة القرآن محفوظة كذلك على مر العصور والدهور بقوة قوانين الله القدرية، وقوانينه الشرعية، وقوانينه الطبيعية:
قوة القوانين القدرية من صنف قدر: {{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }} (الحجر: 9). وقدر: { إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا } " حديث صححه الألباني". وقدر: {{ أُوْلَئِكَ الَّذِيْنَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاَءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوْا بِهَا بِكَافِرِيْنَ }}. (سورة الأنعام أية 89). وقدر: {{ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}}. (القصص: 5).
قوة قوانين الشريعة التي يبتلي الله بها خلقه إذ جعل له حرية الاختيار بين النجدين لما افترقت الكلمة الأزلية في القبضتين: مثلا شريعة : { من كنت مولاه فعلي مولاه}. وشريعة {{ وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ۖ فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ ۚ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا ۖ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}}. (الحجرات: 9 ). وغيرها من أوامر الشريعة التي توصي بإقامة دولة الخليفتين: القرآن والعترة.
قوة قوانين الطبيعة التي بها ندرك كيف يتم التداول على الأيام بين الناس: {{ ... وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (آل عمران: 140). ذلك من أجل استشراف الأمة التي جاء دورها الاستخلافي بنصرة الرسالة الخاتمة الخالدة، لنتعاون معها على البر والتقوى. ونستكشف الأمة الفاجرة الباغية الظالمة لنعاملها بأمر نبينا { انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا " ، قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ نُصْرَتُهُ مَظْلُومًا ، فَكَيْفَ أَنْصُرُهُ ظَالِمًا ؟ ، قَالَ : " تَمْنَعُهُ مِنَ الظُّلْمِ ، فَذَلِكَ نُصْرَتُكَ إِيَّاهُ }. فلا مجال هنا لرواج دعوة الجاهلية الأولى، كما أحدث ذلك الزعيم الصهيوأعرابي الذي كرر فعل صاحب بدعة الضرار أبي عامر الفاسق، يشتكي للكفار هيمنة دولة العترة المنصورة بقوم من فارس، ويطلب تدخلهم لحمايته من حليفهم في الشام : حزب الله وحليفهم في اليمن : أنصار الله، وحليفهم في الجزيرة العربية الحشد الشعبي... ألا يرى أن قدر الله قد أحاط به؟ ألا يخشى نفس مصير نجمه الذي يهتدي بهديه لأنه " صحابي ". طرده الروم شر طردة، فأحاطت به خطيئته، وتحققت فيه نبوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
وسبحان الله نفس الطرد يوشك أن يتجدد في هذه الأيام. بوادره شاهدها كل من تتبع أحداث قمة كامب ديفيد الأخيرة، تحت عنوان: فشل كامب ديفيد يدفع السعودية لامتلاك السلاح النووي!.
لسان حال ذلك الرجل الحامي المستخلف على أمة الروم يقول للأعراب الحاقدين على دولة العترة ولحلفائم الصهاينة: أتريدون أن أضرب بسيفي الجبل؟ " اذهبا أنتما وربكما فقاتلا عدوكما إن كنتم قادرين" ! ثم لكي يطمئن الروم الضالين لئلا يثوروا عليه، يقول لهم " إنكم لأموال السفهاء من الوارثين، مدوهم بخردة سلاحكم الذي انتهت صلاحيته التدميرية، فإنهم قوم لا يعقلون ". فتبين أن "أمة الإسلام" الأمريكية، بدأت تسري فيها ثقافة دولة الخليفتين، المعارضة لإفساد دولة ممثل الدجال لهذا الزمان.
موازين الحق تبين لك يا أخ العرب كيف تنصر أخاك ظالما أو مظلوما: أن تكفه عن الظلم والبغي في كلتا الحالتين. أما أن تؤيده في عزاء الجاهلية، فلا أبلغ من زجر نبيك، لعلاج فقدان القوامة، لما ظن البعض أن التبضع عند الكفار حلال !!! قال صلى الله عليه وآله وسلم: { من تعزى عليكم بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا} الحديث صحيح رواه النسائي وابن حبان وأحمد بسند صحيح. تحذيرا من كل بدعة ضرارية، وعنصرية أعرابية تريد الاستعلاء على الفرس أو الترك أو الأمازيغ أو أبناء العم حام... وقد كان التحذير من العصبية النتنة كذلك على رؤوس الأشهاد في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بمنى في وسط أيام التشريق ، وهو على بعير ، فقال : { يا أيها الناس ، ألا إن ربكم عز وجل واحد ، ألا وإن أباكم واحد ، ألا لا فضل لعربي على عجمي ، ألا لا فضل لأسود على أحمر إلا بالتقوى ، ألا قد بلغت ؟ " ، قالوا : نعم . قال : " ليبلغ الشاهد الغائب }.
V. شريعة الائتلاف وثقافة الضرار في هذا الزمان:
معظم أحداث القرن الماضي كان هدفها القضاء على ما بقي من عرى الدين الموحد للمسلمين، في إطار الخلافة العثمانية الحافظة لبيضة للمسلمين.
بداية الانهيار كان انتشار عادة غريبة في سائر الأقطار العربية: تنافس الأثرياء والأعيان في رفع أعلام الحماية الخارجية. بدأها يهود ثم تبعهم كل أصحاب المصالح والأغراض... ثم سار على نهجهم الأمراء. فهي الثقافة المبنية على مسلمة: " كيفما تكونوا يولى عنكم".
وتطورت ثقافة الاستقواء بغير المسلمين إلى مرحلة القتال تحت رايات أعداء الدين. في المشرق قاتل الأعراب تحت راية الإنجليز وباعوا فلسطين لليهود. في المغرب كان نفس القتال تحت راية فرنسا وإسبانيا بين العرب والأمازيغ...
إلى أن تطورت ثقافة الخضوع للغرب في توطين دين العلمانية التلمودية الذي يسيطر على جل الأقطار العربية.
فلو نظرنا بعين البصيرة الواعية بثقافة القرآن، لسهل علينا رصد البدع القاضية على وحدة الأمة. ولوجدنا أن ثقافة الضرار هي من أهم أسباب انهيار الأمة العربية.
ولا تزال ثقافة الضرار المفرقة بين المسلمين، الطاعنة في أصل من أصول الدين: أصل الوحدة والتآزر والتعاون على البر والتقوى، لا تزال تلك البدعة هي المسيطرة على الأنظمة العربية إلى يومنا هذا. ولا زالت تقوم على نفس الدعائم التي قامت عليها زمن التنزيل.
نفس التكتل الداعم : المال الحرام ( مال ثعلبة )، والجاه الجاهلي ( كفار قريش)، والحبرية الفاسقة الذي جاء في قصة الضرار، نجده اليوم متمثلا في:
· الثروات النفطية والمعدنية ... الملوثة بكافة أنواع الفساد، خاصة النهب والربا، إلى درجة تبرم الأقدار عن مباركتها كما حدث لمال ثعلبة، وقبله، لمال قابيل. فصارت سحتا، ينفقونه سفاهة لتقوية كارتيل الأبناك الربوية، ومركب الصناعات الحربية الصهيوإنجيلية، تزودهم بالسلاح المشروط استعماله لقتل الأطفال والنساء والمسالمين من الناس في أقطار المسلمين.
· الجاه الجاهلي المتمثل في التحالف الأعرابي المعتدي والمغير على دولة العترة الناشئة وأنصارها. بتبريرات واهية:
o لا تتورع بذكر العصبية النتنة المفرقة بين المسلمين العرب والترك والفرس والكرد والأقباط والأمازيغ والنوبة والأحباش وغيرهم من أجناس المسلمين الذين يشكلون عامل قوة للدين الحنيف. ولا تتنكر لمعتقد بدعة النصب المعادي لدولة الخليفتين التي هي أصلا من أصول الدين.
o الحبرية الفاسقة المتمثلة في الفقه التكفيري الوهابي، الذي أحيى بدعة الضرار الداعية لمولاة اليهود والنصارى، والاستقواء بهم في حربه على المسلمين. والذي اعتمد على بدع أخرى طاعنة في أصول الحكم التي نص عليها القرآن، وفسرتها لنا سنة النبي صلى الله عليه وسلم فقط.
نفس ثقافة الضرار تسربت إلى المناهج المنظرة للتيار الإسلامي المنتسب إلى السنة. ولربما فاق ذلك التيار في معاداته لدولة العترة حتى الأنظمة التي يسيطر عليها دين العلمانية. ولا غرو في ذلك وقد وردت أخبار تنص على أن اشد الناس عداوة للإمام المهدي في آخر الزمان، هم فقهاء المذاهب. ذلك أنهم يسترزقون بحبريتهم أو رهبانيتهم، للحصول على المال والجاه في بيئتهم التي ساهموا في قولبتها ثقافيا. يستميتون في البقاء في الصدارة، لا تطرق ضمائرهم مراجعة أو استقالة، ولو كانوا دون مستوى المصطفين لبناء دولة الخليفتين الثقلين. أو على الأقل من المتعاونين معها على البر والتقوى. ولتجدن من تلك الجماعات من ينفذ بدعة الضرار الصائل الباغي.
ولو وجد بعضهم سبيلا لحفر الحفر، في غزواتهم لردمها على العترة كلها، لفعلوا ذلك بدون أدنى تهيب. وذلك إحياء لمكيدة أبي عامر الفاسق في غزوة أحد. وقد حدث شيء من ذلك في فاجعة قاعدة سبايكر العراقية.
ولو استطاع بعضهم بعث روح الراهب الفاسق المحركة لطلب نصرة الشيطان أو الدجال على دولة العترة، لسخرها للحصول على المدد النووي الصهيوإنجيلي. ولقد سمع ذلك في لقاء كامب ديفيد الأخير.
فاتضح أن سر اضطراب أمر الدول، والجماعات، والأحزاب المحتكرة للسنية، أوالمغتصبة لها، هو ضلوعهم في هذه البدعة الناخرة لجسد الأمة بوعي أو بغير وعي.
ويمكن استخلاص أهم إفرازاتها وتبعاتها في النكبات التالية:
التحالف مع الإنجليز لتدمير الخلافة العثمانية؛ بيع فلسطين ليهود؛ سجن الشعوب المسلمة في أقفاص الحدود الاستعمارية؛ فقدان القوامة في تدبير الشأن العام، وضياع الثروات والطاقات الذاتية؛ فشل الجماعات السنية في بناء التحالفات النافعة للأمة مع دولة العترة؛ تسخير المال الحرام لتمويل الفقه التكفيري المفرق بين المسلمين، وتسخير الجماعات الإرهابية لقتال أهل القبلة؛ الاستقواء باليهود والنصارى في محاربة دولة العترة الظاهرة بالسلطان والقرآن، والاستماتة في محاولات استئصالها لمنع تحقيقق الغاية الاستخلافية للأمة.
ويبقى مراد الله في ظهور " داعش " لغزا من الألغاز المحيرة... {{ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ۚ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْبَشَرِ}}. (المدثر: 31). قريب إن شاء الله حل عقدتها المرعبة. بما فيه خير للصادقين في طلب الحق. كما قال الإمام علي كرم الله وجهه : ليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه.
VI. خاتمة
تزامن هذا التأليف مع الذكرى 67 لنكبة ضياع القدس، وكذلك مع ذكرى الإسراء والمعراج... وما أدراك ما الإسراء والمعراج؟
· الإسراء يرمز إلى البعد الأرضي العدلي للغاية الاستخلافية لأمة الإسلام. والإسلام هو دين كل الرسل عليهم الصلاة والسلام. فلما ختمت الرسالة، كان لها استمرارية في أئمة الهداية الموصى بهم في حديث الخليفتين الثقلين.
· والمعراج يرمز إلى الغاية الإحسانية الفردية: {{ وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا }}. (سورة مريم: 95)؛ ونهايتها السعيدة الورود على الحوض، وشربة ماء الحياة الخالدة في الجنة من يد خاتم الأنبياء والمرسلين، الذي أرسل إلى الناس كافة، رحمة مهداة للعالمين، صلى الله عليه وآله وسلم.
والعلاقة بين حركية الإسراء وتسامي المعراج، فات أن أشرت له بالقول: إن من يملك مفتاح القدس يملك الكون... ومن باع القدس خسر الدنيا والآخرة. ومن فقد بوصلة القدس، يوشك أن يفجع في إيمانه/إحسانه، وكذلك في سعيه لتحقيق الغاية الاستخلافية لأمته، اتباعا لوصية نبيه في حديث الثقلين، لا نمل من تكراره بصيغه المختلفة، رحمة بالذي تبرز مخالب طبعه، ليسطو بمن يذكره بأصول شرعه، وهو على كل حال لن يعدو قدره، {{ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا }} (الطلاق: 3.).
عَنْ حُذَيْفَةَ بن أُسَيْدٍ الْغِفَارِيِّ : " أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنِّي فَرَطٌ لَكُمْ ، وَارِدُونَ عَلَيَّ الْحَوْضَ ، وَإِنِّي سَائِلُكُمْ حِينَ تَرِدُونَ عَلَيَّ عَنِ الثَّقَلَيْنِ ، فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِي فِيهِمَا ؟ السَّبَبُ الأَكْبَرُ كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، سَبَبٌ طَرَفُهُ بِيَدِ اللَّهِ ، وَطَرَفُهُ بِأَيْدِيكُمْ ، فاسْتَمْسِكُوا بِهِ ، وَلا تَضِلُّوا وَلا تُبَدِّلُوا ، وَعِتْرَتِي أَهْلُ بَيْتِي ، فَإِنَّهُ قَدْ نَبَّأَنِيَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ أَنَّهُمَا لَنْ يَنْقَضِيَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ ". المعجم الكبير - للطبراني / ح - (ج 3 / ص 113)
اللهم اجعلنا من المساهمين في إعادة بناء وحدة المسلمين وتعاونهم على البر والتقوى لبلوغ الغاية الاستخلافية لأمة الإسلام التي كانت خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر والبغي.
اللهم حقق لنا غايتنا الإحسانية: سعادة النظر إلى وجهك الكريم في الجنة، بعد ورودنا الحوض، تحت لواء الحمد، مع النبي وعترته الطيبين الطاهرين، عليهم أفضل الصلوات وأزكى التسليم.
{{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}}. (النحل : 90).
{{ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)}}. سورة الصافات.
ألفه برباط الفتح
يوم الاثنين 27 / رجب / 1436 هـ.
الموافق 15 / ماي / 2015 م.
محمد المهدي الحسني