كتاب : نظرات في فقه ظهور الحجة
الجزء الأول
نظرات في فقه ظهور الحجة
تأليف: محمد المهدي الحسني
30 رمضان 1438 - موافق 25 يونيو 2017
الفهرس:
باب في أسباب كمون أو ظهور الحجة:
باب في معرفة أول حجة لله على خلقه بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:
باب في مرحلة كمون الحجة الأول وبناء فقه الحجة الخائف المقهور:
باب في مرحلة ظهور الحجة الأول بدولة جامعة للأمة وذكر عهده للأشتر:
باب في الكمون الثاني: أسبابه وأحكامه:
باب في معاناة الحجة الثاني سيدنا الحسن مع أنصاره:
باب في الانكسار التاريخي الأول:
باب في طول أو قصر الفترة بين حجتين ظاهرين بدولة ممتنعة:
باب في تبيان ما هو كسبي وما هو وهبي في ظهور أو ضمور الحجة :
باب في تأويل حديث الأئمة الإثنا عشر في زمان الفترة عند أهل السنة وعند الإمامية:
باب في فقه زمان الفترة بين حجتين ظاهرين عند السنة والشيعة ما قبل الخميني:
باب في فقه ظهور الحجة عند الإمامية، ويعنون به فقط الظهور الأخير: ظهور مهدي آخر الزمان
باب في ولاية الفقيه وتجديد الإمام الخميني لمعالجة مشكل غيبة الحجة أو ضموره:
باب في سند التجديد بين مجدد القرن ومجدد القرن الذي يليه :
باب في اعتراف البنا - مجدد القرن الماضي - بمذهب الشيعة الإمامية، وانقلاب الإخوان عليهم في هذا القرن:
باب في لزوم الأمة اتخاذ رأس واحد وباقي القادة نواب عنه:
باب في فقه ظهور الحجة حسب نظرية التحيز الرباعي:
باب في ماذا خسر العرب بجحود الحجة الظاهر بدولة ممتنعة؟
باب في تحرير الشعوب بقيادة حامية لبيضة المسلمين:
{{ يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ۖ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَٰئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا}} (الإسراء:71)
في بداية شهر رمضان المبارك للسنة الماضية، همست في أذن علمائنا الأفاضل، خاصة المشرفين على تربية شباب الصحوة الجديدة الموحدة للأمة بإذن الله، أن يجتهدوا - لئلا يفوتهم الركب - على إعادة تكوين أنفسهم بأنفسهم. فلا يعذر الداعية إلى الله ورسوله بجهل زاد العالم الساعي لوحدة المسلمين... حذر أن يكون من القاصمين لظهر سيدنا علي كرم الله وجهه، لما اشتكى إلى الله فقال: قصم ظهري اثنان: عالم متهتك، وجاهل متنسك.
واقترحت عليهم الاعتكاف طيلة رمضان وتقسيم أيامه كالتالي:
ثلثه الأول: توبة: عبر إعادة برمجة القرص الصلب لعقولهم بإدخال معطيات فقه وفهم سلف أئمة أهل البيت الأولين، بنية التحقق في مقام حديث صحيح: { إن ابني هذا سيد ، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين}؛ ذلك من مقتضيات التوبة التي تلزم معرفة ما يجب أن تتوب منه وإليه: التخلي والتحلي... مرتبة الإسلام: {المسلم من سلم الناس من لسانه ويده }.
ثلثه الثاني: مغفرة : عبر إعادة برمجه القرص الصلب للذاكرة المخفية من قلوبهم. وبرمجة كل الروابط والحلقات المنطقية التي كان الصحابة يختبرون بها قلوب أولادهم ... ذلك لتصحيح سند تربيتهم الروحية، وللتحقق في مرتبة الإيمان المستجلبة للغفران.
الثلث الأخير : أن يسأل الله العتق من النار والورود على الحوض تحت لواء الحمد الذي يحمله من حمله في الدنيا، كرم الله وجهه، بفضله ومنه، فلا تكون له التفاتة لعلمه أو فهمه كما قال الشيطان : "أنا خير منه"، أو إلى محمدة يبتغي بها أجرا أو استعلاء على الناس...!!! فيبخس الناس حقهم في الاختلاف معه. ذلك للتحقق في مرتبة الإحسان في أجَلِّ تصريفاتها : {{ لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}}. (النساء : 114).
ومن تجليات الإحسان: الاعتبار في ليلة القدر: أن قدر الله ماض في عباده ... الاختلاف موجود شئنا أم أبينا ... الاختلاف طبيعة : بدأنا بتدبيره بشريعة الإصلاح بين فئتين عظيمتين من المسلمين... في الثلث الأول من رمضان، مع حديث سيدنا الحسن... ثم اختبرنا قلوبنا عبر الامتحان المعلوم ... في الثلث الثاني، ثم ارتفعنا لتدبير الاختلاف ليس فقط بين المسلمين، لكن بين كل الناس... كما ذكرته الآية... فبلغنا مستوى توسم القطبية التي تسعد تحت حكمها البشرية كلها... دولة المن على المستضعفين ... دولة العدل الشمولي المحترم لقوانين الطبيعة والشريعة والقدر ، يرضى عنها ساكن الأرض وساكن السماء. فهي حجة الله على خلقه في هذا الزمان.
وبعد مرحلة التحصيل العلمي، كانت مرحلة اختبار رجال الصحوة الجديدة عبر مسائل يتكتم عنها أهل سنة معاوية.
ولقد أضحت تلك المسائل التي اكتشفها أخيرا بعض دعاة أهل السنة، بعدما استزادوا في علمهم بالتتلمذ على تراث أهل البيت، خاصة نهج البلاغة، أضحت من بديهيات مسلمات " باب السماء فوقنا ". ذلك أن النهج إرث مشترك بين المنتسبين للسنة وبين شيعة أهل البيت. كنوزه لا يختلف عليها اثنان، ولكن يتدافع عليها أكثر من عنزين:
• في ميدان التدافع العلمي : ثلاثة متنازعين:
1. العالم المتهتك : يبتغي بعلمه ثمنا قليلا: المال، الجاه... ؛
2. الجاهل المتنسك : حُجب بتنسكه عن ربه، وعن حجة الله في أرضه، فهو يدعو إلى الله، ولكن ربما عبر نفسه وطريقته وحزبه بوعي منه أو بغير وعي ؛
3. العالم الرباني: يحبب الله إلى الناس، ويحبب الناس إلى الله، ويصلح ذات البين، ويرفض البغي وأهله. فهو شديد الحذر من الحكم بالظنة، والأخذ بالشبهة.
• في ميدان التدافع السياسي: أربعة متنازعين:
1. الناكثون للعهود والمواثيق الشرعية، ومنهم مثلا أولئك الذين يتبضعون مشروعيتهم في " أغورا " الديموقراطية العلمانية التلمودية، أو يستجدونها في " عكاظ" الوهابية؛
2. القاسطون: الذين يعرفون أهل الحق فيختارون البغي المادي أو المعنوي عليهم، معاندة أو استكبارا أو نفاقا أو نصبا؛
3. المارقون: الذين يعتقدون أن فهمهم للدين هو عين الصواب الواجب اتباعه، ومن لم يفعل، فهو كافر مستباح دمه وماله وعرضه: عقيدة الفكر الخوارجي/ التيمي/ الوهابي.
4. الفرقة الناجية: من قدر الله لهم إماما هاديا مهديا يسلك بهم الطريق: ... كما ورد معناه في الحديث الصحيح :{... وَإِنْ تُوَلُّوا عَلِيًّا وَلَنْ تَفْعَلُوا تَجِدُوهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا يَسْلُكُ بِكُمُ الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ}.
والطريق المستقيم لا يكون إلا للإمام الحجة للجامع بين:
· الغاية الاستخلافية/التمكينية لأمة الإسلام: أي يكون ظاهرا منصورا بدولة ممتنعة عن الأعداء؛
· وبين الغاية الإحسانية في السلوك والأخلاق والفضائل والقيم الإنسانية.
وهو الإمام الذي قدر الله أن يسبق غيره لبناء دولة العترة والقرآن في هذا القرن... طبقا لحديث مجدد القرن، ولحديث/وصية الثقلين الخليفتين. والباغي عليه يجري عليه حكم الحديث الصحيح الذي رواه مسلمٌ في «صحيحه» (3/1480) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ، فَاقْتُلُوا الْآخَرَ مِنْهُمَا».
وهذه الفقرة الأخيرة هي التي سوف يكون لها أكبر معامل في موضوع الامتحان:
· لرجال الصحوة الجديدة والعلم الرباني؛
· ولزعماء السياسة الشرعية والوحدة الإسلامية.
وهو نفس الامتحان لمن يليهم من الدعاة، والأمراء، والزعماء. وعامة الناس تبع لهؤلاء...
فإن نجحوا في الامتحان، جنبوا قومهم قدر " ولن تفعلوا"، أو قدر " رزية الخميس".
وإن رسبوا، فإنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم، بتأديبهم عبر دورة الناكثين والقاسطين والخوارج: قاسمهم المشترك : الاصطفاف في "تكتلات ضرار" مدعومة من الخارج، بأسهم بينهم شديد... حكمهم: أهل فتنة، أو أهل إسلام فيه دخن، لا أهل ردة، وأمرهم إلى الله. ثم يتوب الله على من تاب، يؤوبون للحق طوعا أوكرها، بل قل "مكره أخوك لا بطل". وما أكثر الناس الذين يختارون التعلم عبر الطريق الصعب، أو العقبة الكأداء.
وتلك هي دروس دورة الثلاثين حولا: من عهد وفاة نبي الهداية صلى الله عليه وآله وسلم سنة 11 للهجرة، إلى يوم استشهاد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه سنة 41 للهجرة.
وهي خلاصة دورة الثلاثين يوما التكوينية التي اقترحتها لشهر التوبة، والمغفرة، والهبات الربانية والفتوحات القدرية.
{{ مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}}. (فاطر:2).
هناك نصوص تبين تكفل قوانين الله القدرية بإظهاره، إن تعذرت الشورى الشرعية، والبيئة الحاضنة، ونصوص تبين وجوب التحيز إليه ونصرته حذر ميتة الجاهلية.
ومنها تفسير قوله تعالى: {{ يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ...الآية}} (71الإسراء) قال علي - رضي الله عنه - : بإمام عصرهم . وروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله : يوم ندعو كل أناس بإمامهم فقال :{ كل يدعى بإمام زمانهم وكتاب ربهم وسنة نبيهم... الحديث}.
منها حديث تجديد الدين على رأس كل مائة سنة: قوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله: { إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا }. رواه أبو داود وصححه السخاوي في "المقاصد الحسنة"، والألباني في "السلسلة الصحيحة". وتجديد الدين هو تجديد المعاملات التي على رأسها الحكم.
منها حديث سيدنا علي كرم الله وجهه: { أن الأرض لا تخلو من حجة الله على خلقه إلى يوم القيامة }،
وأن { من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية }.
وعند مشاييخ أهل السنة قريبا من هذه الأحاديث: ( من مات وليس عليه طاعة مات ميتة الجاهلية). رواه أحمد في مسنده.
وقد أنكر ابن تيمية وشيوخ الوهابية صيغته الأولى " من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية" لأنهم يقولون ببيعة المتغلب بالسيف، وهي من أباطيل أهل سنة معاوية التي عانى من أجلها مالك والشافعي وأبو حنيفة ما هو معروف في قصص محن الفقهاء مع الملك الوراثي الجبري والعاض.
وقد أحدث معاوية أول نقض لعرى الإسلام. فكانت هذه الثغرة سببا في ظهور اجتهادات متضاربة في مسألة كيفية إعادة عقد عرى الإسلام بداية بأول عروة نقضت فيه: الحكم. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، وأولهن نقضا الحكم وآخرهن الصلاة ". حديث حسن - أخرجه أحمد 5/ 251.
وأجمع العلماء باستثناء بعض الخوارج، أن الولاية، أو الإمامة، مرتبطة شرعا وعقلا وطبيعة بوجوب تأمير رأس يدبر أمر جسد الأمة القرآنية.
والولاية هي ركن الدين الخامس في فقه أئمة أهل البيت، لما رأوا خطرها، لكن، ربما أخطأ بعضهم لما عمموا أو عينوا أو وقتوا لظهور أئمتهم. ولم يميزوا بين إمام الظاهر وإمام الباطن، وهم يقرأون في نهج البلاغة: ما روي عن عليّ(عليه السلام)، قال: (لا تخلو الأرض من قائم لله بحجّة، إمّا ظاهراً مشهوراً، أو خائفاً مغموراً، لئلا تبطل حجج الله وبيّناته). وهذا موضوع آخر يتعلق بقوانين القدر في اختيار حجة الله في أرضه، قبل أن يظهر.
أما إذا أظهرت قوانين القدر حجة القرن في دولة لها منعة من نقيضها: دولة ممثل الدجال لهذا الزمان، فهذا مختصر للطريق ومنحة ربانية لا تتكرر في القرن مرتين - حسب حديث مجدد القرن - فلا مناص للمتقين إلا شكر نعمة إظهار حجته، والعض عليها بالنواجد، حذر موتة الجاهلية بالنسبة للفرد، وحذر استفحال هذه الحروب الهمجية التي تدمر الشعوب المسلمة.
والثابت في مسألة الحكم هو ما أتى به القرآن والسنة من قوانين محكمة، لا مجال للتمرد عليها، كحكم الشورى، وحكم التداول، والحكم بما أنزل الله، وهو عين العدل الشمولي المحترم لقوانين الطبيعة وقوانين الشريعة وقوانين القدر. ومن تمرد عليها فكأنما تمرد على قانون الجاذبية فألقى بنفسه من جبل شاهق فلقي مصير المنتحرين الهلكى. والله لطيف بعباده، يأمرهم بأمره الرحيم: {{… وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}} ”سورة البقرة: 195″.
والمتغير هو من يُـنصَّـب في مسؤولية إقامة الحكم بما أنزل الله. وهو الدين كله، غير منقوص ولا مبتور. وهو موقع من مواقع الامتحان والابتلاء، تتحكم فيه قوانين القضا والقدر، إذا تعطلت شريعة الشورى المرجحة بوصية العترة، أو أصابها دخن، تبعا لقوله تعالى: {{ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }} ” آل عمران: 26 ."
وفي النهاية، بعد تجربة الحكم الظالم المتمرد على أحكام الدين، يؤول الاستخلاف إلى الطائفة الصالحة المصلحة، بعد نهج خيار الشورى، مصداقا لقوله تعالى: {{ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ }} “الأنبياء:105″ …
فالحكم مسير أو مخير:
• مسير تابع لقوانين القدر، إن تخاذل الناس على إقامة رشد الشورى القرآنية؛ {{... فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ...الآية}} (التوبة:24)
• ومخير عند احترام خيار الشورى المرجحة بالعترة. وهو من آكد الواجبات، تبعا لقوله تعالى: {{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ }} “سورة الشورى: آية 38” … وتبعا لحديث الثقلين الخليفتين: القرآن والعترة.
ذلك من أجل أن يرجع الحكم حكما راشدا صالحا مصلحا. لماذا؟ لأن الله وعد الأمير الذي لم يطلب الإمارة، وإنما اختارته شورى المؤمنين المتنورين بفهم العترة للدين، وعده بالعون والتسديد والبطانة الصالحة. أما الحاكم العاض أو الجبري، فيكله الله إلى تدبيره ، ويسلط عليه هيمنة بطانة الشر. وشتان ما بين من وُكِـل لتدبيره وابتلي ببطانة الشر الماسونية، وبين من نال أوسمة عون الله ثم عون المؤمنين.
ولقد نهي رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم وعلى آله عن طلب الإمارة. فقال عليه الصلاة والسلام : (لا تسأل الإمارة فأنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة، أعنت عليها ) وقال صلي الله عليه وسلم ( إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة ). وقال أيضا عليه الصلاة والسلام : ( إنا لا نولي أمرنا من طلبه ). وقال أيضا للعباس لما أتاه يطلب إمارة: { نفس تحييها خير من إمارة لا تحصيها}.
أأعجمي وعربي؟
ولقد قضى ربنا بمقتضى قانون قدري، أن يكون الحكم “عربيا إسلاميا”. ومن حكم بأحكامه القرآنية هو المستخلف الصالح المصلح في الأرض، سواء كان من العرب أو الفرس أو الترك أو الأمازيغ أو الأقباط أو النوبة أو الأحباش أو الأكراد أو الأمريكان، أو الروس، أو غيرهم. قال تعالى : {{ وَكَذَٰلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ}} ” سورة الرعد: 37″.
نسخ المشرع المطلق جل وعلا شريعة التوراة لما حرفها أحبار السوء فصارت “تلمودا”. حذرنا منه رسولنا المصطفى صلى الله عليه وسلم بأدب وحكمة، في الحديث الذي رواه أبو داود : (( ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالله ورسله، فإن كان باطلاً لم تصدقوه، وإن كان حقاً لم تكذبوه )). . وغضب حين رأى مع عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – صحيفة فيها شيء من التوراة، وقال – عليه الصلاة والسلام – : “أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟! ألم آتِ بها بيضاء نقية؟ لو كان أخي موسى حيًا ما وسعه إلا اتباعي”(رواه احمد والدارمي وغيرهما). .
أم عربي عبري؟؟
فلما تخندق أبناء إبراهيم عليه السلام من حكام العرب ويهود صهيون في خندق العلمانية التلمودية وجعلوها مرجعية حكمهم على العالم بعد التمرد على المرجعية القرآنية، ولما اقتسم مترفو العرب ثروات المسلمين، مع أثرياء بريطانيا وفرنسا وأمريكا، ثارت شعوب العالم على حكمهم المستبد الجائر. فكل ما نشاهده اليوم من حروب وثورات ، هي من جملة الآليات و الجنود المجندة التي يسخرها الله لإمضاء سنة التداول…
فحكام العرب الخاضعون للمرجعية العلمانية التلمودية هم إلى ذبول وأفول ، لما شهد الناس جميعا على سوء تدبيرهم للسلطة وللثروة التي سيطروا عليها، من عائدات نفطية ومعاملات ربوية وأصول في شركات الصناعات الحربية. إنها سنة التداول على الحكم بالقسط. يحكم به من أراد أن تسري عليه اصطفائية الاستخلاف، بعد محبة حقيقية لله ولرسوله، تبعا لقوله تعالى : {{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءاَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}} “المائدة:54″.
ولقد أذن زوال الحكم العربي العبري ، وانتقل إلى المسلمين العجم الذين أقاموا رشد الشورى، وعقدوا العزم على تطبيق الأحكام القرآنية.
فهو زمان ظهور الحجة المنصور بقوم يحبهم الله ويحبونه، يحملون أمانة الرسالة الخالدة، كلما تخاذل عنها عصاة العرب.
فلا محيد من الاعتراف بالحجة الظاهر بأول دولة متحررة، والتعاون معه على البر والتقوى. فهو الطريق الآمن والشرط للانتقال السلمي، من فوضى التشرذم والاقتتال والهمجية والتخلف الذي يطبع زمان التيه العربي، إلى رحاب العالمية الإسلامية الفاتحة لعهد نظام عربي جديد، تتحقق فيه آمال أجيالنا المقبلة بحول الله وقوته.
من أجل كان لزاما على علماء المسلمين وضع أسس لتخصص جديد يمكن تسميته فقه ظهور الحجة، فقه جامع متفق عليه بين كل المذاهب، استعدادا للمرحلة الكونية لاتحاد الأمة الإسلامية، تحت إرشاد حجة الله الظاهر، تتعاون على البر والتقوى وتتناهى عن الإثم والعدوان، وفق المشتركات القرآنية بتفسيرها المحمدي وفهمها العلوي، وتقريرات الخلفاء الثلاثة التي أمضاها لهم سيدنا علي كرم الله وجهه، بصفته أمام الباطن، فكان مرجعا للخلفاء في مشكلات ومستجدات فروع الدين. وبصفته إمام الظاهر لما أجمعت الأمة على بيعته بعد سيدنا عثمان.
نبحث في مسألة خفاء أو ظهور الحجة، انطلاقا من خبر سيدنا علي كرم الله وجه : {... لا تخلو الأرضُ من قائمٍ للهِ بحجةٍ إما ظاهرًا مشهورًا، وإما خائفًا مغمورًا؛ لئلا تبطُلَ حججُ اللهِ وبيّناتُه، وكم وأين أولئك؟! أولئك واللهِ هم الأقلُّون عددًا، والأعظمون عند الله قدرًا، بهم يدفع اللهُ عن حججِه؛ حتى يؤدوها إلى نظرائِهم؛ ويزرعوها في قلوب أشباهِهم، هجَم بهم العلمُ على حقيقةِ الأمرِ- فباشروا روحَ اليقين،
فاستسهلوا ما استَوْعَرَ منه المُتْرفُون، وأَنِسُوا بما استَوْحَشَ منه الجاهلون، وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلَّقة بالمنظرِ الأعلى}.
فقهاء الإمامية عينوا ووقتوا وحددوا هذا الحجة الخائف المستور، فجعلوه هو الإمام الثاني عشر، الذي زعموا أنه اختفى وغاب عن الأنظار... نسلم لهم معتقدهم ونقول كما قال إخوان القرن الماضي : ننتظر جميعا ظهور الإمام المهدي لنتأكد من الأمر. ونحن لم يفترض علينا شرعا أن نسلم بما تعتقدون، إذ ليس ذلك من أركان الإسلام ولا من أركان الإيمان.
والواضح من قول سيدنا علي :{ لا تخلو الأرضُ من قائمٍ للهِ بحجةٍ إما ظاهرًا مشهورًا، وإما خائفًا مغمورًا} تفيد أن الكلام ينسحب على كل الأحقاب والعصور ، حتى على زمان الغيبة المفترض. فلا يعقل إذن أن يكون في زمان واحد حجتان مغمورتان.
والواضح أيضا من قوله { بهم يدفع اللهُ عن حججِه؛ حتى يؤدوها إلى نظرائِهم؛ ويزرعوها في قلوب أشباهِهم} يفيد أن هناك سندا متصلا بين الحجج، إلى حين ظهور ختمهم الأبهر المهدي المنتظر. فلا توجد هناك فترة بين الحجج.
فإذا جمعنا بين حديث مجدد القرن وحديث { لا تخلو الأرض من حجة ....} استنتجنا أن لكل قرن حجة إما ظاهرا مشهورا أو خائفا مغمورا.
ونسيت أن أضيف للباب السابق هذه الوظيفة المهمة لحجة القرن: وصل سند الحجج، ليكون تجديدهم لقرنهم ناسخا لتجديد من سبقهم من الحجج.
ومن أسباب كمون الحجة الخائف المغمور، نذكر :
· أنه لم يعثر على البيئة الحاضنة التي تنصره وتؤازره: لم يجد على الحق أعوانا.
· لم تتوفر شروط المبايعة التي كانت في بيعة الرضوان: شرط الممانعة والحماية من دولة ممثل الدجال.
القرن الماضي قدر الله أن يُمتحن فيه بنو إسرائيل بالعلو في الأرض مرة أخرى، لينظر الأشهاد كيف سيتصرفون في ملك الله العظيم. وهم في حالة استثنائية : حبل من الله وحبل من الناس. (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) آل عمران/112 . ومن جملة بغيهم: المساهمة في قتل حجة القرن الماضي.
فكان حجة القرن الماضي خائفا مغمورا ختم الله له بالشهادة، وشهد الناس على عصاة بني إسرائيل على سوء تصرفهم في زمان علوهم. إذ القرن الماضي، كان قرن الفواجع الكبرى: اختفاء الخلافة، ضياع القدس، تقسيم العالم الإسلامي في محميات فرضت عليها الجزية والمعاملات الربوية، والحروب والحظر التكنولوجي... وغيرها من الحروب الطاحنة والتفجيرات النووية.
لكن وظيفة تأدية الأمانة إلى أهلها قام بها الشيخ البنا رضي الله عنه أحسن قيام. والإمام الخميني والإمام باقر الصدر ومتنورو الشيعة، يعترفون له بذلك. فهو عين ما ورد في قول سيدنا علي: { بهم يدفع اللهُ عن حججِه؛ حتى يؤدوها إلى نظرائِهم؛ ويزرعوها في قلوب أشباهِهم} .والاعتراف كان متبادلا بين الحجتين كما سنبينه في مواضيعه إن شاء الله.
وهذا الرجوع للمنابع الصافية لفقه سينا علي كرم الله وجهه، هو الأصل المتفق عليه بين السنة والشيعة الذي سيوحدنا.
لأن ما يقرأه أهل السنة عن المراجع الشيعية الذين أتوا بعد عهد علي والحسن والحسين ، ربما كان فيه من المفاهيم ما يفرق ولا يجمع. لأنه ابتعد عن تلك المنابع الأولى المتفق عليها نظرا لوجود النص.
مثلا ما يقوله بعض الشيعة عن الإمام الخائف. هم يعينونه في الإمام الثاني عشر. وهذا لا يستقيم كما بينت ذلك آنفا. ويتكلفون في البحث عن الحجج كما ورد في تفسير دعائهم للإمام الغائب، "المرتقب الخائف". وهو اللقب السابع والعشرون - كما يقولون - من ألقاب مولانا بقية الله المهدي.
ويبحثون في القرآن الكريم ما يمكن الاحتجاج به فيقولون: هذا اللقب هو ايضاً من الألقاب ذات الجذور القرآنية، فأصله ورد في موضعين من سورة القصص ضمن حكايتها لما جرى لكليم الله موسى (عليه السلام) في مناصرته لأحد شيعته في نزاعين من القبط، الموضع الاول في الآية 18، والثاني في الآية 21 من سورة القصص.
اي قوله تعالى «فأصبح في المدينة خائفاً يترقب» وذلك بعد قتل عدوه الأول، وقوله تعالى «فخرج منها خائفاً يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين» وذلك بعد ان اخبره مؤمن آل فرعون «يا موسى ان الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فأخرج اني لك من الناصحين».
ويبحثون عما يمكن الاحتجاج به من السنة الحسينية، ومنه ما رواه الشيخ المفيد في الارشاد وغيره ان الامام الحسين (عليه السلام) عندما خرج من مكة المكرمة بأتجاه كربلاء تلا قوله عزوجل {{ فخرج منها خائفاً يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين}}.
ثم يلجؤون لحجج ليست بالضرورة ملزمة، قولهم: وعندما نلاحظ المنشأ القرآني لهذا اللقب من ألقاب مولانا المهدي (سلام الله عليه) نعرف بسهولة معنى وصف الامام بالخائف، اذ يتضح انه ليس المراد من الخوف الطبيعي المألوف، بل المقصود الاشارة الى الأخطار التي تتهدده (عليه السلام)، بمعنى ان المراد هو التنبيه الى كونه (ارواحنا فداه) معرض في كل حين لخطر القتل والتصفية والابادة مثلما كان حال موسى كليم الله ومثلما كان حال سيد الشهداء الامام الحسين (عليه السلام) عندما خرج من مكة بعدما وصلت اخبار خطة اموية لاغتباله في البلد الحرام.
ثم يستنتجون سبب الغيبة، قولهم: وعليه يتضح ان من اهم دلالات لقب (الخائف المرتقب) هو ان الامام في حالة مستمرة من الحذر واتخاذ الاحتياطات اللازمة لدرء خطر القتل والتصفية الذي يتهدده، وهذا هو من اهم علل غيبته (عليه السلام) فهي وسيلة لدرء خطر القتل مثلما كان خروج موسى من مصر وتوجهه الى مدين وغيبته فيها وسيلة لدرء مؤامرة قتله التي حاكها الملأ.
ثم يتكلفون في تفسير أنواع الخوف، قولهم: وعلى اي حال فإن الخوف هنا هو خوف على تعريض المخطط الالهي لحفظ الحجة وهداية العباد للخطر بقتل الامام (ارواحنا فداه) والا فان اولياء الله هم اشد حباً لله واشد شوقاً للقائه عزوجل، وابعد الناس عن الحرص على الحياة الدنيا.
ويفسرون "سر اقتران وصف الخائف بصفة المرتقب": فيقولون: الاجابة تمر عبر معرفة معنى المرتقب، وهو صفة من الترقب الذي يعني مراقبة الاوضاع مقرونة بانتظار تحقق شيءٍ منتظر، وهو هنا الوعد الالهي او الاذن الالهي بالظهور وازاحة ستار الغيبة الذي وضع لدفع الاخطار المهددة لحياة الامام (ارواحنا فداه).
فلربما التفريط في التعلق بالمنابع الفقهية الصافية الأولى، - وأقصد كتاب الله بتفسيره النبوي وتأوله العلوي - هو العائق الأول لمسألة التقريب بين السنة والشيعة. أهل سنة معاوية اتخذوا عقائد ومذاهب لهم بعيدة عن تلك الأصول، كما حدث لفقهاء الشيعة. فاختل مفهوم الأمة الواحدة.
والكلمة السواء التي سوف تجمعنا إن شاء الله هو الرجوع الجماعي لفقه سيدنا علي، بعد فترة زمانية يتم فيها عقد العزم على التعاون السياسي على البر والتقوى مع أول دولة إسلامية متحررة من سيطرة دولة ممثل الدجال في هذا الزمان.
وستسند بعد ذلك لفقهاء الأمة محاولات لرأب الصدع الفقهي، ورفع مستوى التعاون على البر والتقوى بين طوائف المسلمين إلى أفاق أرحب. أما بداية مشروع التوحيد بعمل الفقهاء فهذا بعيد المنال كما سنبينه في موضعه إن شاء الله.
ومن جملة المحاولات لجلب مدد الظهور بالتعاون مع حجة القرن المنصور، لأهل السنة في بلاد المغرب، ما جاء خواطر متفرقة في منشورات سابقة: منشور "الوجيز في تأويل تاريخ الجماعة" قلت فيه: هو تأويل متميز، مستفيد من علم البرازخ الزمانية والمكانية، وتصور لا يعبر إلا عن رأي صاحبه، فهو غير ملزم لأحد من خلق الله... مما ورد فيه:
• من سنة 1975 م /1395هـ إلى سنة 1980 م / 1400 هـ : مرت الجماعة بمرحلة الاستمداد من حجة الله المغمور مجدد القرن الماضي : الإمام البنا رضي الله عنه. تزامن مع قدر ظهور دولة بني إسرائيل، ومع قدر زوال الخلافة العثمانية؛ فكان هو وأتباعه حجة مغمورا، كما جاء في قول أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه: «اللّهم بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة إمّا ظاهراً مشهوراً وإمّا خائفاً مغموراً لئلا تبطل حجج الله وبيناته »(نهج البلاغة: الكلمات القصار: 147).
• من سنة 1980م / 1400 هـ إلى 2006 م / 1427 هـ : مرحلة تألق الجماعة في فترة الاستمداد من الخميني رضي الله عنه الذي كان مجدد القرن الحالي، حجة الله المشهور المنصور بقوم يحبهم الله ويحبونه، بشهادة القرآن.
• من سنة 2006 م / 1427 هـ إلى يومنا هذا : مرحلة مزايلة دولة حجة الله ... فانسحب عليهم حكم الفترة والتجوال في صحراء التيه العربي لتأديبهم على موقفهم من دولة العترة الظاهرة، وهو في الحقيقة بغي معنوي على أنفسهم. وانحراف عن الشعار المرفوع: {{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}} (النحل: 90).
والدليل لما قيل، من مدد القول الثقيل، من برازخ التأويل:
• تواترت رؤا الإخوان سنوات قبل 2006 أن الخلافة سيبزغ فجرها سنة 2006...
• و صدق الله وعده للمحسنين : انتصار دولة حجة الله في أرضه الظاهر بالقومة الحسينية، وهو أول انتصار في القرن يحققه المسلمون على دولة ممثل الدجال... حزب الله أفلح في تحرير لبنان من الغزو الإسرائيلي
• أهدى الشريف نصر الله هذا الإنجاز العظيم للعرب جميعا... فقبلته الشعوب واحتفلت به عزة واستنهاضا، ورفضه القادة حسدا واعتراضا...
• ثم نكس جل حكام العرب المنتسبين لسنة معاوية على رؤوسهم...
• فكانت 2006 سنة بشارة ويمن على دولة حجة الله وحلفه وحزبه...
• وكانت 2006 سنة نحس وشؤم على المشترطين على ربهم : أن يكونوا هم أصحاب الخلافة ...
• و{{ الله أعلم حيث يجعل رسالته}} (الأنعام : 124).
• ومنذ ذلك الابتلاء بحجة الله، أصبح حلم خلافة أهل سنة معاوية الذين يكادون يسطون به، خرافة...
• إذ كل من يعترض على ربه، يسلبه علم تأويل الأحاديث والأحداث والحدثان.
• ويوشك أن يقع تحت طائلة تكملة نفس الآية :{{... سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (الأنعام : 124 ). العقاب من جنس العمل: " الصغار جزاء الاستكبار"...
• وأقدم وأخطر جرم وقع في عالم الخلق: استكبار إبليس بقوله " أنا خير منه". لم ينفع معه علم ولا عبادة ولا زعامة في عالم الملائكة الكروبيين. أحرى أن تنفع معه زعامة في عالم البشر المذنبين... مأساة قال عنها ربنا: {{ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) }}. ( سورة الأعراف ).
• ومن سلب علم التأويل، والنظر من برزخ الأعراف، حرم وهب التمكين وتدبر سورة الأعراف ... ربما رحمة به ... لأنه لو مكن له بشرطه، سيكون كمن يحرص على الإمارة... والحريص على الإمارة تتربصه الحسرة والندامة... فجنبه الله إمارة قال عنها نبينا صلى الله عليه وآله وسلم : {...نفس تحييها خير من إمارة لا تحصيها}. أخرجه ابن ماجه عن جابر (كنز العمال، 6/41).
• فلو مُكن له وهو حاسد أو مكفر لحجة الله المشهور، أو معطل لحكم شرعي متفق عليه: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ، فَاقْتُلُوا الْآخَرَ مِنْهُمَا»، لكان في مكان هؤلاء السفاكين لدماء أهل القبلة ... أو مكان هؤلاء الذين يؤدون لليهود والنصارى الجزية عن يد وهم صاغرون. فاعتبروا يا أولي الألباب ... واتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم...
انتهى المقتطف من المنشور بتصرف.
وقد يستهجن البعض هذا الخلط بين الفقه وبين التاريخ، والرد الجميل : ما ضل الفقهاء بعد هدى كانوا عليه إلا عندما فصلوا القرآن عن أسباب النزول، والأحاديث عن سياقها التاريخي : أي أسباب ورود الحديث.
موضوع ترتيب أفضلية الصحابة وأحقيتهم بالولاية بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ألفت فيه أسفار منذ فجر الإسلام. والخلاف حول الموضوع سيستمر إلى يوم القيامة.
· وأفضل مدخل لمقاربة الموضوع : " وشهد شاهد من أهلها ".
· وأصوب نظرة للموضوع ما تمناه نبي الرحمة لأمته: تجنيبهم الاختلاف على وصيه، كما حدث لأقوام الأنبياء من قبله.
· وأحكم مقاربة للموضوع: نظرية خليفة الباطن وخليفة الظاهر: التي تفسر ما يظهره الله في الوجود حسب مقتضيات نظرية " ليس في الإمكان أبدع مما كان".
1. معرفة أول حجج الله على خلقه بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حسب الشهود:
شهادة مهندسي أحداث السقيفة أنفسهم: خاصة أصحاب الرأي الأول بزعامة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأصحاب الرأي الآخر الذي عارضه يوم السقيفة: زعيم الأنصار: سعيد بن عبادة.
سيتبين لنا أن سيدنا عمر كان على علم بمن هو أحق بها وأهلها من خلال خبر بيعة الفلتة، ومن خلال مناظرة حول الإمامة بعد الرسول صلى الله عليه وآله’ دارت بينه وبين ابن عباس. ذكرت المناظرة في مصادر التاريخ الأولى سنية أو شيعية التي دونت قبل تدوين الحديث.
ورد في صحيح البخاري : عن إبن عباس ، قال :....... ثم إنه بلغني أن قائلاً منكم يقول : والله لو قد مات عمر بايعت فلانا ! فلا يغترن إمرؤ أن يقول : إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت ألا وإنها قد كانت كذلك ولكن الله وقى شرها...
فهذا اعتراف يقطع الطريق على الغلاة الذين يتكلفون اختراع الحجج الشرعية لصحة بيعة عمر لأبي بكر.
وللمزيد من الإفصاح عن خلل الشورى الذي كان في السقيفة، نورد المناظرة حول الإمامة التي وردت رواية عن ابن عمر ورواها الطبري. قال الخليفة عمر لابن عباس:
يا ابن عباس! أتدري ما منع قومكم منكم بعد محمد؟
فكرهتُ أن أجيبه، فقلت: إن لم أكن أدري فأميرالمؤمنين يُدريني.
فقال عمر: كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة والخلافة فتَبْجحوا على قومكم بجحاً بجحاً؛ فاختارت قريش لانفسها فأصابت ووُفّقَتْ.
فقلت: يا أميرالمؤمنين! إن تأذن لي في الكلام وتُمِط عني الغضب تكلمتُ.
فقال: تكلم يا ابن عباس.
فقلت: أما قولك ـ يا أميرالمؤمنين ـ اختارت قريش لانفسها فأصابت ووفقت؛ فلو أنَّ قريشاً اختارت لانفسها حيث اختار اللّه عزّ وجلّ لها لكان الصواب بيدها غير مردود ولا محسود، وأما قولك إنهم كرهوا أن تكون لنا النبوة والخلافة؛ فإن اللّه عزّ وجلّ وصف قوماً بالكراهية فقال: (ذَلِك بِأنَّهُمْ كرِهوا ما أنزَلَ اللّهُ فأحْبَطَ أعْمَالَهُمْ).
فقال عمر: هيهات واللّه يا ابن عباس؛ قد كانت تبلغني عنك أشياء كنت أكره أن أُقِرَّكَ عليها فتزيل منزلتك مني.
فقلت: وما هي يا أميرالمؤمنين؟ فإن كانت حقّاً فما ينبغي أن تزيل منزلتي منك، وإن كانت باطلاً فمثلي أماط الباطل عن نفسه.
فقال عمر: بلغني أنك تقول: إنما صرفوها عنا حسداً وظلماً.
فقلت: أما قولك ـ يا أمير المؤمنين ـ ظلماً فقد تبين للجاهل والحليم، وأما قولك حسداً؛ فان إبليس حسد آدم فنحن ولده المحسودون.
فقال عمر: هيهات! أبت واللّه قلوبكم ـ يا بني هاشم ـ إلاّ حسداً ما يحول، وضغناً وغشاً ما يزول.
فقلت: مهلاً يا أميرالمؤمنين! لا تصِف قلوب قوم أذهب اللّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً بالحسد والغش؛ فإن قلب رسول اللّه (صل الله عليه واله) من قلوب بني هاشم.
فقال عمر: إليك عني يا ابن عباس.
فقلت: أفعل.
فلما ذهبت أقوم استحيا مني فقال:
يا ابن عباس مكانك! فواللّه إني لراعٍ لحقّك، محبُّ لما سرك.
فقلت: يا أميرالمؤمنين! إن لي عليك حقّاً وعلى كل مسلم، فمن حفظه فحظه أصاب، ومن أضاعه فحظه أخطأ. ثمّ قام فمضى.
أما الشاهد الثاني في حدث السقيفة فهو زعيم الأنصار سعد بن عبادة:
بين أمير المؤمنين " عليه السلام " دوافع سعد بن عبادة إلى طلب البيعة له ، فكتب " عليه السلام " إلى أصحابه يقول : "
لقد كان سعد لما رأى الناس يبايعون أبا بكر نادى: أيها الناس إني والله ما أردتها، حتى رأيتكم تصرفونها عن علي، ولا أبايعكم حتى يبايع علي، ولعلي لا أفعل وإن بايع، ثم ركب دابته وأتى حوران، وأقام في خان حتى هلك ولم يبايع (كشف المحجة لثمرة المهجة: 173).
ولربما أن الأنصار بادروا للقول: " منا أمير ومنكم أمير" ، لما استيقنوا أن قريشا لن تمكن عليا من الوصول إلى الحكم ، وقد تأكد لديهم ذلك حينما شهدوا حرمان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، كتابة وصيته، يوم رزية الخميس.
وبالفعل حل بالأنصار ما توقعوه من الحلف القرشي، فقد استأثروا بكل الامتيازات ، فكان ذلك دليلا من دلائل النبوة، لما أخبرهم به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : { إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدي أَثَرَةً فاصْبِرُوا حَتَّى تلقَوْنِي علَى الْحوْضِ}. البخاري
2. وأصوب نظرة للموضوع ما تمناه نبي الرحمة لأمته: تجنيبهم الاختلاف على وصيه، كما حدث لأقوام الأنبياء من قبله.
رغم ظهور الحجة بالوصية لعلي أمام الجموع الغفيرة وفي مناسبات متكررة، وتأكيده لهم بأنها أمر من عند الله كما ورد في تفسير " سأل سائل بعذاب واقع ... الآية" ، ورغم واتفاق الناس على أحقية سيدنا علي في الولاية، شاء الله إمضاء قدره على الأمة المتنازعة على رسولها كما حدث للأمم السابقة.
والمشكلات الفقهية التي تطرح في هذا الباب، كيف ينبغي التصرف في زمان ظهر للعيان، ما صدر من الصحابة في عصيان لأمر نبيهم في تولية سيدنا علي؟ والجواب الفقهي لها سيكون مفيدا عند تطبيقه لهذا الزمان.
العصيان الأول : رفض كتابة وصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛
العصيان الثاني : التثاقل في تنفيذ جيش أسامة.
العصيان الأول : رفض كتابة النبي لوصيته: سماها ابن عباس "الرزية كل الرزية". أو رزية الخميس . يمكن تصنيفها كنوع من أخطر أنواع الرفض أين منه رفض بيعة الشيخين. رفض وصية رسول الله بما يصلح عليه أمر الأمة، أولها وآخرها... لو فزنا بها لما وقعت انكسارات في تاريخنا. مأساة كان وقعها ثقيل على النبي وآل بيته، لكنهم صبروا لأنها من تصاريف القدر التي لا تدفع إلا بالصبر والرضا والتسليم، عندما يؤدي الفرد واجباته الشرعية. رفض ذكرته روايات من كتب الصحيحين وغيرها كذلك ورد عن المصادر الشيعية، عن ابن عباس أنه قَالَ: " لَمَّا اشْتَدَّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعُهُ قَالَ { ائْتُونِي بِكِتَابٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ؛ وفي رواية لن تضلوا بعده أبدا } قَالَ عُمَرُ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَلَبَهُ الْوَجَعُ – وفي روايات يهجر أي يهذي - وَعِنْدَنَا كِتَابُ اللَّهِ حَسْبُنَا فَاخْتَلَفُوا، وَكَثُرَ اللَّغَطُ، قَالَ { قُومُوا عَنِّي وَلَا يَنْبَغِي عِنْدِي التَّنَازُعُ}. فَخَرَجَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ كِتَابِهِ.
فهذه المصيبة يمكن اعتبارها "رزية في الغاية الاستخلافية" الجماعية. كانت السبب في انقسام الأمة، بعد الانكسار التاريخي الناصبي الذي مهد لنزول السيف على الأمة منذ ذلك الحين إلى يومنا هذا. فصدقت نبوءة المعصوم صلى الله عليه وآله وسلم، إذ قال : { افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي.} وفي بعض الروايات: هي الجماعة. رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم.
انظروا إلى خطر المخالفة والتنازع في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم. فقول عمر " كفانا كتاب الله"، وكأن النبي الذي أنزل عليه كتاب الله سوف يخالفه. هذا الرفض - الذي كأنما يريد حذف فقرة من حديث الخليفتين -، ربما أوشك أن يكون من نوع رفض قسمة الرسول التي لم يرض بها الصحابي ذو الخويصرة التميمي لما قال : ( يا محمد اعدل !! ) ، فأنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال : ( ويحك ، ومن يعدل إذا لم أعدل ؟! ) ثم أخبر : ( أنه يخرج من ضئضئ هذا أقوام تحقِرون صلاتكم مع صلاتهم ، وصيامكم مع صيامهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ! ). فهي العقبة الثانية التي وقفت حجر عثرة أمام الغاية الاستخلافة للأمة بسبب فتنة الخوارج، أصلها رفض قسمة النبي صلى الله عليه وسلم.
فإن رضي المرء بالرزية الاستخلافية برفض الشق الثاني من حديث الخليفتين، مدعيا الاكتفاء بحبل الله الممدود من السماء إلى الأرض، فأقل ما يمكن القول عنه أنه أساء الأدب مع النبي ومع آل بيته. فلربما أقدم بجرأة على رزية في "الغاية الإحسانية" الفردية. ذلك جزاء من طرده النبي بسبب التنازع عنده ومخالفة أمره.
ولقد أراد نبي الهداية أن يوثق ما أمره الله به في الوصية لعلي، لما شاهد بوادر الرفض لها متكررة حتى من لدن أكابر الصحابة... فلجأ إلى تدبير للوقاية من الفتنة قبل حدوثها، وهو الخبير بمواقع القدر، أراد تجنيب أمته مصائب التنازع والاختلاف ...
العصيان الثاني:
لجأ نبينا صلى الله عليه وآله وسلم إلى تدبير آخر يريد به الخير لأمته، لكنه لم يلق من الصحابة إلا ما لقيه التدبير الأول. ملخصه ما ذكرته أحاديث صحيحة عند الشيعة، مضطربة الصيغ عند السنة. مضمونها: " انّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعث من استدعى له المتخلّفين عن جيش اُسامة، وكان منهم الشيخان، فلما حضروا قال لهم (صلى الله عليه وآله): {ألم آمركم أن تنفّذوا جيش اُسامة؟}. فقالوا: بلى يا رسول الله. فقال (صلى الله عليه وآله): { فلم تأخّرتم عن أمري}؟ فقال بعضهم: إني كنت قد خرجت ثم رجعت لاُجدِّد بك عهداً. وقال بعض آخر: إني لم أخرج لأني لم اُحب أن أسأل عنك الركبان. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): { نفّذوا جيش اُسامة، نفّذوا جيش اُسامة ـ يكرّرها ثلاثاً }. وتماطلوا ورفضوا إلى أن توفى الله رسوله وهم على تلك الحال... وهي حال، أقل ما يقال عنها، حال الذي في عنقه طاعة أمير الجيش أسامة بن زيد، وتركه ينتظر في منطقة الجرف، ورجع إلى المدينة، والنبي كاره لحضوره. هكذا أرادها النبي صلى الله عليه وسلم، من أجل إبعادهم ليستتب الأمر للوصي، دون تدخل المناوئين الطاعنين في إمارة من يستأمرهم نبيهم، مثلما طعنوا في إمارة أسامة ومن قبل في إمارة أبيه زيد... فلما رأى الناس تجرؤهم على مخالفة الرسول وحرصهم الكبير على وظيفة لم يكلفهم بها أحد، تجرأوا هم كذلك على الصراع على السلطة. هذا هو عين قول زعيم الأنصار سعد بن عبادة لما رأى الناس يبايعون أبا بكر نادى : (أيها الناس إني والله ما أردتها حتى رأيتكم تصرفونها عن علي، ولا أبايعكم حتى يبايع علي، ولعلي لا أفعل وإن بايع!) ( البحار ج30 ص 120 للمجلسي). .
فلما حدث ما حدث من تولية سيدنا أبي بكر كان نبينا قد تنبأ بما سيحدث، فأبى إلا أن يسيجه بشرعه ليكون حكما ساريا في مثل تلك النازلة.
الأحكام الفقهية الصحيحة لفقه كمون الحجة لا يمكن إصدارها إلا بعد معرفة موقف الإمام علي من الأحداث التي استنزلتها.
فلننظر ما قام به الإمام علي بعد بيعة الخليفة أبي بكر الصديق.
بعد أتمام تجهيز النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج علي وزوجته السيدة فاطمة في الليل يذكرون الناس بوصية النبي(صلى الله عليه وآله وسلم). وكما جاء في تاريخ اليعقوبي (واجتمع جماعة إلى عليّ بن أبي طالب يدعونه إلى البيعة فقال لهم: أُغدوا عليّ محلّقين الرؤوس؛ فلم يغد عليه إلاّ ثلاثة نفر)( عبد الله بن سبأ للعلامة العسكري ، فصل السقيفة .وعن تاريخ اليعقوبي ج2 ص 105، شرح النهج لابن أبي الحديد ج2 ص 4) .
روى اليعقوبي في تاريخه: (ثم إن علياً حمل فاطمة على حمار وسار بها ليلاً إلى بيوت الانصار يسألهم النُصْرة وتسألهم فاطمة الانتصار له فكانوا يقولون: يا بنت رسول اللّه قد مضت بيعتنا لهذا الرجل، ولو كان ابن عمك سبق إلينا أبا بكر ما عدلنا به، فقال عليّ: أفكنتُ أترك رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ميتاً في بيته لم أُجَهزه وأخرج إلى الناس اُنازعهم في سلطانه؟ فقالت فاطمة: ما صنع أبو الحسن إلاّ ما كان ينبغي له ولقد صنعوا ما اللّه حسيبهم عليه!)( ابن سبأ للعلامة العسكري باب السقيفة، كتاب السقيفة للجوهري ، الامامة والسياسة لابن قتيبة ج1 ص12).
ولقد أشار معاوية في أيام حكمه على الشام الى ليلة السقيفة تلك في كتاب أرسله لعلي أثناء معارك صفين حيث يقول :
( وأعهدُك أمس تحمل قعيدة بيتك ليلاً على حمار ويداك في يدي ابنيك الحسن والحسين يوم بويع ابو بكر الصدّيق، فلم تدع أحداً من أهل بدر والسوابق إلاّ دعوتهم إلى نفسك ومشيت إليهم بامرأتك، وأدللت إليهم بابنيك، واستنصرتهم على صاحب رسول اللّه، فلم يجبك منهم إلاّ أربعة أو خمسة، ولَعَمري لو كنتَ مُحقّاً لاجابوك ولكنّك اُدعيت باطلاً وقلت ما لا يعرف ورُمت ما لا يدرك. ومهما نسيت فلا أنسى قولك لابي سفيان لمّا حرَّكَك وهيَّجك: لو وجدتُ أربعين ذوي عزم منهم لناهضتُ القوم)( ابن سبأ للعلامة العسكري باب السقيفة ، وعن شرح النهج ج2 ص67، ، صفين لنصرالمنقري ص 182 ). وفي رسالة آخرى من معاوية لعلي يذكر فيها يوم السقيفة :
( وعلى كلهم بغيت عرفنا ذلك في نظرك الشزر، وقولك الهجر، و تنفسك الصعداء، و إبطائك عن الخلفاء، تقاد إلى كل منهم كما يقاد الفحل المخشوش حتى تبايع وأنت كاره)( كتاب صفين، لنصر المنقري).
وأجاب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب :( أما بعد، فقد أتاني كتابك.. وقلت: إني كنت أُقاد كما يقاد الجمل المخشوش حتى أبايع.. ولعمر الله لقد أردت أن تذمّ فمدحت، وأن تفضح فافتضحت، وما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوماً ما لم يكن شاكّاً في دينه ولا مرتاباً بيقينه..)( رسائل الامام في نهج البلاغة ، ومثله في كتاب صفين لنصر المنقري)، هذا دليل على أن الامام علي بن أبي طالب أُجبر على بيعة الخليفة الاول، ودليل على محاولته تذكير الناس بأنه هو وصي النبي والاولى بالخلافة من غيره .
وذكر الطبري :
( ولما بويع لأبي بكر ، كان الزبير ، والمقداد ، يختلفان في جماعة من الناس الى علي ، وهو في بيت فاطمة ، فيتشاورون ويتراجعون امورهم ، فخرج عمر حتى دخل على فاطمة ، وقال : يا بنت رسول الله تأمني أحد من الخلق احب الينا من أبيك ، وما من أحد أحب الينا منك بعد أبيك ، وأيم الله ما ذاك بما نعى ان اجتمع هؤلاء النفر عندك ان آمر بتحريق البيت عليهم ، فلما خرج عمر جاءوها فقالت : تعلمون ان عمر جاءني وحلف لي بالله ان عدتم ليحرقن عليكم البيت ، وأيم الله ليمضين لما حلف له...) (تاريخ الطبري ج3 ص 198)
وذكرت باقي كتب التاريخ الرواية بألفاظ شتى ولكنها اتفقت على أن حزب الخليفة الأول أرسل جماعة من المؤيدين له الى بيت فاطمة ابنة النبي ، وأضرم القوم النار بباب البيت وأخرجوا من كان في البيت بقوة السلاح ومنهم الزبير بن العوام الذي خرج شاهراً سيفه فعثر فسقط السيف من يده فأقتادوه بالقوة الى الخليفة الجديد ابوبكر ، ويروى أن خالد بن الوليد ضربه من خلفه بحجر فعثر الزبير وسقط السيف من يده فقام محمد بن مسلمة بكسر السيف على صخرة. روى الطبري:
(أتى عمر بن الخطّاب منزل عليّ وفيه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين فخرج عليه الزبير مصلتاً بالسيف فعثر فسقط السيف من يده فوثبوا عليه فأخذوه) ( تاريخ الطبري ج2 ص 443 ) وروى كذلل: (وذهب عمر ومعه عصابة منهم محمد بن مسلمة واسيد بن حضير وسلمة بن أسلم الى بيت فاطمة، فقال لهم : انطلقوا فبايعوا ، فأبوا عليه ، وخرج إليهم الزبير بسيفه ، فقال عمر : عليكم الكلب ( يقصد عمر بالكلب الزبير بن العوام ) ، فوثب عليه سلمة بن أسلم . فأخذ السيف من يده فضرب به الجدار ، ثم انطلقوا به وبعلي ومعهم بنو هاشم ، وعلي يقول : انا عبد الله وأخو رسول الله ، حتى انتهوا به الى ابي بكر ، فقيل له : بايع فقال : انا أحق بهذا الأمر منكم ، لا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي ، أخذتم هذا الأمر من الأنصار ، واحتججتم عليهم بالقرابة من رسول الله ، فأعطوكم المقادة ، وسلموا اليكم الامارة ، وانا احتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار ( يعني أنه اقرب رحما وصلة للرسول منهم فهو ابن عمه فاذا المهاجرين احتجوا على الانصار بحجة القرابة للرسول فهو (علي) أقرب انسان للرسول وبذلك ووفقا لحجة المهاجرين فأنه أولى بالخلافة منهم ) ، فانصفونا ان كنتم تخافون الله من انفسكم ، واعرفو لنا من الأمر مثل ما عرفت الأنصار لكم ، وإلا فبؤوا بالظلم وأنتم تعلمون فقال عمر : انك لست متروكا حتى تبايع ، فقال له علي : احلب يا عمر حلبا لك شطره ، اشدد له اليوم أمره ليرد عليك غدا ، الا والله لا اقبل قولك ولا ابايعه ، فقال له أبو بكر : فإن لم تبايعني لم أكرهك ، فقال له ابو عبيدة الجراح : يا ابا الحسن ، انك حديث السن ، وهؤلاء مشيخة قريش قومك ، ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالأمور ، ولا أرى أبا بكر الا أقوى على هذا الأمر منك ، واشد احتمالا له ، واضطلاعا به ، فسلم له الأمر وارض به ، فإنك ان تعش ويطل عمرك فأنت لهذا الأمر خليق وبه حقيق في فضلك وقرابتك وسابقتك وجهادك
فقال علي : يا معشر المهاجرين ، الله الله ، لا تخرجوا سلطان محمد عن داره وبيته الى بيوتكم ودوركم ، دفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقه ، فوالله يا معشر المهاجرين لنحن ـ أهل البيت ـ أحق بهذا الأمر منكم ، أما كان منا القاريء لكتاب الله ، الفقيه في دين الله ، العالم بالسنة ، المضطلع بأمر الرعية ، والله انه لفينا ، فلا تتبعوا الهوى ، فتزدادوا من الحق بعدا .
فقال بشير بن سعد : لو كان هذا الكلام سمعته منك الأنصار ياعلي قبل بيعتهم لأبي بكر ، ما اختلف عليك اثنان ، ولكنهم قد بايعوا . وانصرف علي الى منزله ، ولم يبايع ، ولزم بيته حتى ماتت فاطمة فبايع ) .( تاريخ الطبري ج3 ص 207 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج6 ص 612.)
ويروي الدينوري فيذكر تهديد عمر لعلي بالقتل إن لم يبايع :
(لما أخرجوا عليا مضوا به إلى أبي بكر، فقالوا له: بايع، فقال إن أنا لم أفعل فمه؟ قالوا(عمر وصحبه) :إذا والله الذي لا إله إلا هو نضرب عنقك، قال: إذا تقتلون عبد الله وأخا رسوله، قال عمر: أما عبد الله فنعم، وأما أخا رسوله فلا، وأبو بكر ساكت لا يتكلم، فقال له عمر: ألا تأمر فيه بأمرك فقال: لا أكرهه على شيء، ما كانت فاطمة إلى جنبه )(الإمامة والسياسة لابن قتيبة ج1 ص 13) ! تأمل موقف عمر المشهور بمقولة ( دعني أضرب عنقه)، فهو لايمانع من ضرب عنق أول المسلمين و خير الناس بعد النبي.
كان وجود فاطمة على قيد الحياة هو المانع من قتل علي بن أبي طالب والتخلص منه ، فأبو بكر يقول : (لا أكرهه على شئ ماكانت فاطمة الى جنبه) . إن قول الخليفة هذا يرجح أن فاطمة لم تمت ميتة طبيعية فهناك من عجل بأجلها في سبيل تصفية الامور، فبموتها اصبح قتل علي بن ابي طالب ممكنا ولذا لم يكن لعلي بعد رحيلها سوى مبايعة الخليفة. إن إمتناع علي بن أبي طالب عن البيعة ثم مبايعته لابي بكر بالاكراه دليل ساطع على عدم قبول أمير المؤمنين بما حدث ، وكأن بيعته بالاكراه والتهديد كان رسالة للأجيال لكي تعرف أنه لم يبايع عن طيب نفس وبايع بالاكراه. ذكر ابو الفدا عن عائشة قولها:( لم يبايع علي أبا بكر حتى ماتت فاطمة وذلك بعد ستة أشهر لموت أبيها )( تاريخ ابو الفدا، باب موت النبي).
أما رواية الأحداث من مصادر أهل السنة:
بيعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه ثابتة في الصحيحين وإن وقعت متأخرة بضعة أشهر.
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أن أباها أبا بكر رضي الله عنه دخل على علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد أن دعاه :
( فَتَشَهَّدَ عَلِيٌّ فَقَالَ : إِنَّا قَدْ عَرَفْنَا فَضْلَكَ وَمَا أَعْطَاكَ اللَّهُ ، وَلَمْ نَنْفَسْ عَلَيْكَ خَيْرًا سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيْكَ ، وَلَكِنَّكَ اسْتَبْدَدْتَ عَلَيْنَا بِالْأَمْرِ ، وَكُنَّا نَرَى لِقَرَابَتِنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصيبًا .حَتَّى فَاضَتْ عَيْنَا أَبِي بَكْرٍ ، فَلَمَّا تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ قَالَ : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أَصِلَ مِنْ قَرَابَتِي ، وَأَمَّا الَّذِي شَجَرَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنْ هَذِهِ الْأَمْوَالِ : فَلَمْ آلُ فِيهَا عَنْ الْخَيْرِ ، وَلَمْ أَتْرُكْ أَمْرًا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُهُ فِيهَا إِلَّا صَنَعْتُهُ .
فَقَالَ عَلِيٌّ لِأَبِي بَكْرٍ : مَوْعِدُكَ الْعَشِيَّةَ لِلْبَيْعَةِ ، فَلَمَّا صَلَّى أَبُو بَكْرٍ الظُّهْرَ رَقِيَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَتَشَهَّدَ وَذَكَرَ شَأْنَ عَلِيٍّ وَتَخَلُّفَهُ عَنْ الْبَيْعَةِ وَعُذْرَهُ بِالَّذِي اعْتَذَرَ إِلَيْهِ ، ثُمَّ اسْتَغْفَرَ ، وَتَشَهَّدَ عَلِيٌّ، فَعَظَّمَ حَقَّ أَبِي بَكْرٍ ، وَحَدَّثَ أَنَّهُ لَمْ يَحْمِلْهُ عَلَى الَّذِي صَنَعَ نَفَاسَةً عَلَى أَبِي بَكْرٍ ، وَلَا إِنْكَارًا لِلَّذِي فَضَّلَهُ اللَّهُ بِهِ ، وَلَكِنَّا نَرَى لَنَا فِي هَذَا الْأَمْرِ نَصِيبًا ، فَاسْتَبَدَّ عَلَيْنَا ، فَوَجَدْنَا فِي أَنْفُسِنَا ، فَسُرَّ بِذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ ، وَقَالُوا : أَصَبْتَ ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى عَلِيٍّ قَرِيبًا حِينَ رَاجَعَ الْأَمْرَ الْمَعْرُوفَ ) رواه البخاري (3998) ومسلم (1759).
اعتمادا على ما ورد نستنتج القواعد الفقهية لزمان كمون الحجة من مواقف سيدنا علي مع معارضيه الذين خالفوا وصية نبينا في توليته، لأن سيدنا علي هو الوصي على التأويل الحق للكتاب والسنة، بنص شرعي لا جدال فيه. أما قول أهل سنة معاوية بجواز اتخاذ كل الصحابة مصدرا للتشريع، فهذا لم يصدر فيه نص صحيح متفق عليه كما سيأتي بيانه.
أولها : لم يشارك الإمام القوم في شورى السقيفة لأنها كانت أصلا باطلة لعدم استدعاء بني هاشم إليها: فالشورى لا يمكن أن تسمى شورى إلا بعد الاتفاق حول المشاركين فيها، سمهم إن شئت أهل الحل والعقد، أو الشورى العامة عبر صناديق الاقتراع؛
ثانيها : كان من الرافضين لنتيجة تلك الشورى فما بني على باطل فهو باطل : وقد اعترف عمر بن الخطاب بذلك فسماها بيعة الفلتة.
ثالثا : حاول تنظيم معارضة سلمية لثني الصحابة عن قرارهم الرافض لوصية الرسول؛ وفيه قاعدة ترجيح طاعة الرسول على قرار شورى باطلة.
رابعا : لم يجد أنصارا لتغيير المنكر، فرجح لزوم بيته: قاعدة المقاطعة واعتزال القوم وعدم الركون للذين شاقوا الرسول وأهل بيته.
خامسا : لم يستسلم لما هددوه بالقتل إن لم يبايع. فأقره سيدنا أبي بكر على موقفه ما دامت فاطمة الزهراء في الحياة. قاعدة عدم جواز بيعة المكره؛
سادسا: بعد وفاة الزهراء عليها السلام، رجح الإمام علي عليه السلام إنقاذ دولة المسلمين من انفراط عرى الإسلام المتبقية، فكان إمام الباطن الذي يمد خليفة الظاهر بالنصح والمشورة السديدة. فهو وجوب النصح للحكام في مرحلة كمون الحجة.
سابعا : الصبر الجميل على مرحلة الكمون وانتظار الفرج.
في زمان كمون الحجة الأول بعد النبي، استنتجنا قواعد فقهية من مواقف سيدنا علي مع معارضيه الذين خالفوا وصية نبينا في توليته. كان آخرها قاعدة انتظار الفرج بعد تأدية وظيفة النصح والاستشارة والإمداد لخلفاء الظاهر، ما داموا يستمعون للنصح، وما دام فيض الإمداد ساريا ببركة سندها المتصل مع معدن النبوة.
ولقد طال صبر الإمام الوصي لما رأى أن الأمر مبيت، والإصرار على إبعاده عن الإمامة تكرر في كيفية انتقال السلطة لسيدنا عمر بعد وفاة سيدنا أبي بكر، مجرد استخلاف لا شورى فيه لأهل الحل والعقد. فكانت هذه البدعة البكرية مصدرا لمن يشرعون بشرع لم يأذن به الله: مصدر فعل الصحابة. فجاءت في صيغتها عند فقهاء أهل السنة : جواز عقد الشورى بفرد واحد! وهي الممهدة لولاية العهد الوراثية.
ثم تكرر الأمر وزاد أمر تعمد صرف الولاية عن علي في بدعة اختيار عمر لمجلس شورى محبوك الذي سيبث في خلافته. فكان مجلسا على المقاس لكي تمر الخلافة لبني أمية بقيادة عثمان ابن عفان. والذي أخذ عن عمر بدعة عدم التسوية في القسمة العرب والعجم. واستفحلت الظاهرة حتى ظهر نظام الإقطاع وتحليل بيع وشراء أراضي الخراج. ونظام التوزيع الجائر لثروات وأموال المسلمين. والتفاصيل مذكورة في كتب التاريخ من المصادر المتقاطعة المختلفة.
وأعدل حكم على فواجع مرحلة ضمور الحجة وقهره والتخلف عن نصرته، هو حديث الإمام علي كرم الله وجهه نفسه عن المرحلة. ذكره في الخطبة الشقشقية المشهورة. وقد وردت في مصادر سنية وشيعية كثيرة قبل جمعها في كتاب نهج البلاغة. قال الشيخ المحمودي في نهج السعادة : 2 / 512 : « ليُعلم أنّ الخطبة الشريفة قد رواها جماعة كثيرة من علماء السنّة والإماميّة ، ومن عجائب الدهر أنّه مع كثرة الدواعي على إخفاء أمثال هذا الكلام، واستقرار ديدنهم على تغطيته وستره ، وتمزيق أصله وإحراق مصادره، ومع ذلك كلّه قد تجلّى في اُفق كتب كثير من أهل الإنصاف من علماء أهل السنّة، وتلألأ بدره التام بحيث ينفذ شعاعه في حاسة العميان فضلاً عن أهل البصائر والضمائر". فرواها الحافظان : ابن مردويه ، والطبراني ـ كما يأتي ـ.
ورواها ابن الخشاب عبد الله بن أحمد ، واعترف بأنّها من كلام أمير المؤمنين عليه السلام وأنّه وجدها في كتب العلماء وأهل الأدب بخطوطهم قبل أن يُخلق الرضي مؤلف كتاب نهج البلاغة بمائتي سنة ، كما ذكره عنه ابن أبي الحديد في شرح الخطبة. أما مصادر السنيين الأساسيّة مثل الصحاح الستّة ، فإنها تتجنّب رواية أيّ شيء يتعلّق بإثبات حقّ أمير المؤمنين عليه السلام ، حتّى عن لسانه !! وهذا التكتم عن الحق لا يمنعنا من الالتزام بمنهجيتنا الصارمة في الأخذ المباشر عن سيدنا علي لأنه الإمام المعترف به من لدن الجميع. ومراجع أهل السنة الأساسية قد تجنبت مر الحديث، مكرهة بالمراسيم الأربعة التي أصدرها معاوية.
والنص المشهور للخطبة الشقشقية ننقله كما ورد في النهج ، جاء فيه:
أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ تَقَمَّصَهَا فُلاَنٌ، وَإِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَى. يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ وَلاَ يَرْقَى إِلَيَّ الطَّيْرُ. فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثَوْباً وَطَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً. وَطَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طِخْيَةٍ عَمْيَاءَ يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ. وَيَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ. وَيَكْدَحُ فِيهاَ مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقى رَبَّهُ فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى فَصَبَرْتُ وَفِي الْعَيْنِ قَذًى. وَفِي الْحَلْقِ شَجاً أَرَى تُرَاثِي نَهْباً حَتَّى مَضَى الأَوَّلُ لِسَبِيلِهِ فَأَدْلَى بِهَا إِلَى فُلاَنٍ بَعْدَهُ
ثُمَّ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ الأَعْشَى:
شَتَّانَ مَا يَوْمِي عَلَى كُورِهَا **** وَيَوْمُ حَيَّانَ أَخِي جَابِرِ
فَيَا عَجَبا بَيْنَا هُوَ يَسْتَقِيلُهَا فِي حَيَاتِهِ إِذْ عَقَدَهَا لآِخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ لَشَدَّ مَا تَشَطَّرَا ضَرْعَيْهَا فَصَيَّرَهَا فِي حَوْزَةٍ خَشْنَاءَ يَغْلُظُ كُلاَمُهَا وَيَخْشُنُ مَسُّهَا. وَيَكْثُرُ الْعِثَارُ فِيهَا. وَالاعْتِذَارُ مِنْهَا.
فَصَاحِبُهَا كَرَاكِبِ الصَّعْبَةِ إِنْ أَشْنَقَ لَهَا خَرَمَ. وَإِنْ أَسْلَسَ لَهَا تَقَحَّمَ فَمُنِيَ النَّاسُ لَعَمْرُ اللَّهِ بِخَبْطٍ وَشِماسٍ وَتَلَوُّنٍ وَاعْتِرَاضٍ.
فَصَبَرْتُ عَلَى طُولِ الْمُدَّةِ وَشِدَّةِ الْمِحْنَةِ. حَتَّى إِذَا مَضَى لِسَبِيلِهِ. جَعَلَهَا فِي جَمَاعَةٍ زَعَمَ أَنَّي أَحَدُهُمْ فَيَا لِلَّهِ وَلِلشُّورَى مَتَى اعْتَرَضَ الرَّيْبُ فِيَّ مَعَ الأَوَّلِ مِنْهُمْ حَتَّى صِرْتُ أُقْرَنُ إلَى هذِهِ النَّظَائِرِ لكِنِّي أَسْفَفْتُ إذْ أَسَفُّوا وَطِرْتُ إِذْ طَارُوا.
فَصَغَى رَجُلٌ مِنْهُمْ لِضِغْنِهِ وَمَالَ الآخَرُ لِصِهْرِهِ مَعَ هَنٍ وَهَنٍ
إلَى أَنْ قَامَ ثَالِثُ الْقَوْمِ نَافِجاً حِضْنَيْهِ بَيْنَ نَثِيلِهِهِ وَمُعْتَلَفِهِ. وَقَامَ مَعَهُ بَنُو أَبِيهِ يَخْضِمُونَ مَالَ اللَّهِ خَضْمَةَ الإِبِلِ نِبْتَةَ الرَّبِيعِ إِلَى أَنِ انْتَكَثَ فَتْلُهُ. وَأَجْهَزَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ وَكَبَتْ بِهِ بِطْنَتُهُ
فَمَا رَاعَنِي إلاَّ وَالنَّاسُ كَعُرْفِ الضَّبُعِ إِلَيَّ يَنْثَالُونَ عَلَيَّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. حَتَّى لَقَدْ وُطِىءَ الْحَسَنَانِ.وَشُقَّ عِطْفَايَ مُجْتَمِعِينَ حَوْلِي كَرَبِيضَةِ الْغَنَمِ
فَلَمَّا نَهَضْتُ بِالأَمْرِ نَكَثَتْ طَائِفَةٌ وَمَرَقَتْ أُخْرَى وَقَسَطَ آخَرُونَ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا كَلاَمَ اللَّهِ حَيْثُ يَقُولُ: {{ تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادَاً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}}.
بَلى وَالله لَقَدْ سَمِعُوهَا وَوَعَوْهَا. وَلكِنَّهُمْ حَلِيَتِ الدُّنْيَا فِي أَعْيُنِهِمْ وَرَاقَهُمْ زِبْرِجُهَا.
أَمَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ. وَبَرَأَ النَّسَمَةَ ، لَوْلاَ حُضُورُ الْحَاضِرِ وَقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ. وَمَا أَخَذَ اللَّه عَلَى العُلَمَاءِ أَنْ لاَ يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ وَلاَ سَغَبِ مَظْلُومٍ لأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا وَلَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا. وَلأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ.
قَالُوا : وَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ السَّوَادِ عِنْدَ بُلُوغِهِ إِلَى هذَا الْمَوْضِعِ مِنْ خُطْبَتِهِ فَنَاوَلَهُ كِتَاباً فَأَقْبَلَ يَنْظُرُ فِيهِ.
قَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَو أَطْرَدْتَ خُطْبَتَكَ مِنْ حَيْثُ أَفْضَيْتَ.
فَقَالَ هَيْهَاتَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ تِلْكَ شِقْشِقَةٌ هَدَرَتْ ثُمَّ قَرَّتْ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَوَاللَّهِ ما أَسِفْتُ عَلَى كَلامٍ قَطُّ كَأَسَفِي عَلَى هذَا الْكَلامِ أَنْ لاَ يَكونَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلامُ بَلَغَ مِنْهُ حَيْثُ أَرَادَ (اهـ).
فلما أذن زمان ظهور حجته كرم الله وجهه، جاء الثوار من أطراف الدولة الإسلامية خاصة من مصر، يشتكون من جور الحكام. فكانت أحداث الفتنة الكبرى المعروفة في التاريخ، انتهت باغتيال الخليفة عثمان بن عفان. وهرع الناس إلى الإمام علي بن أبي طالب. فنصبه إجماع أهل الحل والعقد وسائر المسلمين، في عملية شورى عامة لم تتوفر في بيعة أي خليفة من قبله.
فكان أول تصحيح سياسي أقدم عليه: رد المظالم التي اقترفها العهد العثماني والتي كانت سبب اغتياله.
ظهر ذلك في أول خطبة لتنصيبه، وفصله في دستور للسياسة الشرعية يعرف بالعهد الذي كتبه للأشتر لما ولاه مصر وإفريقية.
أما ما جاء في خطبه وأفعاله حول رد المظالم والقسمة بالسوية ، نجده في نهج البلاغة: خطبة فيما ردّه على المسلمين من قطائع عثمان:
وَاللهِ لَوْ وَجَدْتُهُ قَدْ تُزُوِّجَ بِهِ النِّسَاءُ، وَمُلِكَ بِهِ الاِْمَاءُ، لَرَدَدْتُهُ; فَإِنَّ في العَدْلِ سَعَةً، وَمَنْ ضَاقَ عَلَيْهِ العَدْلُ، فَالجَوْرُ عَلَيْهِ أَضيَقُ!
( قَطائِعُ عثمان: ما منحه للناس من الاراضي، وكان الاصل فيها أن تنفق غلتها على أبناء السبيل وأشباههم كقطائعه لمعاوية ومروان).
وهذا العدل ظهر مفصلا في دستور كتبه الإمام علي بن أبي طالب لعامله على مصر : مالك الأشتر النخعي. وهو العهد الخالد المنظم للتعايش السلمي العادل بين العرب والعجم، مسلمين وغير مسلمين. وثيقة هي اليوم من المصادر الحقوقية المعتمدة لحقوق الإنسان، في منظمة الأمم المتحدة. وتم اعتمادها باقتراح كوفي عنان الأمين العام السابق للمنظمة بعد مشورة دامت سنتين. http://www.eslam.de/arab/manuskript_arab/briefe/regierungsauftrag_imam_alis.htm
وقد انطلق الحقوقيون من العهد المذكور لكتابة أبحاث ودراسات حول السياسة الشرعية للدولة الحديثة، ربما استفدنا منها لكتابة دساتيرنا التائبة من التبعية التشريعية للغرب.
انتهينا في باب ظهور حجة سيدنا علي عليه السلام بدولة جامعة للمسلمين، إلى تلك الأحكام الفقهية العظيمة التي ضمها عهده لعامله على مصر وإفريقية الصحابي الجليل: مالك الأشتر. وكفى بتلك الأحكام اعترافا أن تعتمد في المصادر القانونية لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة كما رأينا. لكن مع الأسف لما سطا عصاة بني إسرائيل على زعامة مؤسسات الأمم المتحدة، ضاعت تلك الأحكام كما ضاع الإسلام المحمدي بعد المراسيم الأربعة التي أصدرها معاوية. وبقيت تلك الأحكام في طي الخفوت، بعد أن عوضها الفقهاء للملك العاض والملك الجبري "بأحكام المراسيم الأريعة"، ثم "بالأحكام السلطانية ". ثم لم يبق للأحكام الدين المحمدي الأصيل أثر في العصر الحديث، لما عوضها حلفاء عصاة بني إسرائيل بالدساتير والأحكام الصهيووهابية التي تحكمنا اليوم في زمان التيه العربي.
إلى أن شاءت الأقدر الربانية بعث الروح في العهد الأشتري من جديد في دستور دولة القومة الحسينية المباركة في إيران.
العهد الأشتري كما سميته كان الجامع لكل تلك التطبيقات العملية للعلم النبوي. والعلم إمام العمل. ومدينة العلم رسول الله وعلي بابها فمن أراد العلم فعليه بالباب.
والعلم النبوي هو الضابط والموجه لكل ما أنجزه الإمام علي. فكانت سيرته العملية المعصومة منبعا للفقه الصواب الناسخ لما سبقه من اجتهادات الخلفاء. خاصة في الفقه الخاص بمجاهدة أصل كل الفتن، التي نخرت وتنخر العالم الإسلامي منذ الفتنة الكبرى إلى يومنا هذا. فتنة الناكثين وفتنة القاسطين وفتنة المارقين. ذكرها الصحابة في عدة أحاديث منها : ما رواه الخطيب باسناده عن علقمة والاسود. قالا: اتينا أبا أيوب الأنصاري عند منصرفه من صفين، فقلنا له: يا أبا أيوب إن الله أكرمك بنزول محمّد صلّى الله عليه وسلّم وبمجىء ناقته تفضلا من الله واكراماً لك حتّى أناخت ببابك دون الناس، ثم جئت بسيفك على عاتقك تضرب به أهل لا اله الاّ الله فقال: يا هذا ان الرائد لا يكذب أهله، وان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمرنا بقتال ثلاثة مع علي، بقتال الناكثين، والقاسطين، والمارقين، فأما الناكثون فقد قابلناهم أهل الجمل طلحة والزبير، وامّا القاسطون فهذا منصرفنا من عندهم ـ يعني معاوية، وعمرواً ـ وأما المارقون فهم أهل الطرفاوات وأهل السعيفات، وأهل النخيلات، وأهل النهروانات، والله ما أدري أين هم ولكن لا بدّ من قتالهم ان شاء الله. قال وسمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول لعمّار: «يا عمّار تقتلك الفئة الباغية، وأنت إذ ذاك مع الحق والحق معك، يا عمّار بن ياسر، ان رأيت علياً قد سلك واديا وسلك الناس وادياً غيره فأسلك مع علي فإنّه لن يدليك في ردى ولن يخرجك من هدى، يا عمّار من تقلد سيفاً أعان به علياً على عدوه قلده الله يوم القيامة وشاحين من در، ومن تقلد سيفاً أعان به عدو علي عليه قلده الله يوم القيامة وشاحين من نار. قلنا يا هذا حسبك رحمك الله، حسبك رحمك الله».
( اهـ.: من كتاب تاريخ بغداد للخطيب).
قدر الله أن يكتب الطي للعهد الأشتري بعد جريمة كان القاسطون هم من تولى كبرها. ذكرها الذهبي في كتابه أعلام النبلاء، في التعريف بصاحبها الأشتر رضي الله عنه: قال الذهبي: " ملك العرب مالك بن الحارث النخعي أحد الأشراف والأبطال المذكورين، حدث عن عمر وخالد بن الوليد، وفقئت عينه يوم اليرموك. وكان شهما مطاعا زعرا، ألب على عثمان وقاتله، وكان ذا فصاحة وبلاغة. شهد صفين مع علي، وتميز يومئذ، وكاد أن يهزم معاوية، فحمل عليه أصحاب علي، لما رأوا مصحف جند الشام على الأسنة يدعون إلى كتاب الله، وما أمكنه مخالفة علي، فكف. قال عبد الله بن سلمة المرادي نظر عمر إلى الأشتر فصعد فيه النظر وصوبه، ثم قال إن للمسلمين من هذا يوما عصيبا. ولما رجع علي من موقعة صفين، جهز الأشتر واليا على ديار مصر فمات في الطريق مسموما. فقيل إن عبدا لعثمان عارضه فسم له عسلا. وقد كان علي يتبرم به لأنه صعب المراس، فلما بلغه نعيه قال إنا لله مالك وما مالك، وهل موجود مثل ذلك، لو كان حديدا لكان قيدا، ولو كان حجرا لكان صلدا، على مثله فلتبك البواكي.
إلى أن قال الذهبي: وسر بهلاكه عمرو بن العاص وقال إن لله جنودا من عسل. " اهـ.
وباغتيال الأشتر قدر الله أن يدخل سيدنا علي في مرحلة كمون انتهت باستشهاده : غدر به زعيم المارقين الخوارج ابن ملجم لعنة الله عليه.
أما ما يمكن استنباطه من أحكام فقهية عن مرحلة الضمور الثاني لحجة الله سيدنا علي كرم الله وجهه:
وجوب قتال الفرقة الباغية في صف الحجة الظاهر؛
تطبيق أحكامه عليه السلام في قتال بغاة الناكثين والقاسطين والمارقين.
أما وجوب قتال الفرقة الباغية على الحجة الظاهر، فهي أول فتنة اختبر فيها الناس بعد الرسول صلى الله عليه وآله. ومع وضوح ذلك بأدلة في القرآن وصحيح الحديث، فإن الفقهاء اختلفوا بحجة اعتماد أفعال الصحابة بدون تمييز بين الصحابة حسب الحديث الموضوع أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم، فجعلوهم مصدرا للتشريع. فكانت مدخلا من مداخل الشركيات التي بعضها يكون سندا لبعض إلى يومنا هذا.
ولا بد من تفصيل في بيان سند الأخطاء الفقهية السنية القاتلة لوحدة الأمة وتناسل بعضها من بعض، بداية ببدعة النكث: أي نكث بيعة حجة الله في زمانه. يتدارس إخواننا الشيعة ذلك التسلسل الذي طرأ في الفقه السني كالتالي:
حرب معاوية على علي بصفين، كانت امتدادا لحرب الجمل، إذ أن قيام أم المؤمنين بالحرب على علي باسم الطلب بثار عثمان، مهد السبيل لمعاوية الأموي أن يقيمها عليه كذلك، وحجة معاوية في المطالبة بدم عثمان الأموي أقوى من حجة عائشة التيمية. وحجته أظهر علي بطلانها بقوله: بايع ثم طالب. كما مهدت له السبيل أيضا لان يجعل الخلافة ملكا وراثيا في آل أمية أسرة الخليفة القتيل يورثها الآباء الأبناء. وهو الانكسار التاريخي الذي نقض عروة الحكم.
وكان من نتائج الحربين ( الجمل وصفين ) خروج الخوارج على علي وحربهم بنهروان ، فإن هاتين الحربين شوشتا على جماعة من المتنطعين أمرهم، فخرجوا على المسلمين كافة، يكفرونهم، ويريقون دماءهم ويقطعون السبيل ويسلبون الأمن بما أقاموا من حروب امتد مداها إلى عصر الخلافة العباسية.
وكأن حرب الجمل لم تقع في فترة قصيرة من الزمن بل امتدت إلى آماد بعيدة في الدهر.
وكان من نتائجها ظهور التحزب والحرب الكلامية:
وكان طبيعيا أن يستتبع ذلك تفريق كلمة المسلمين وانقسامهم إلى شيع وأحزاب فأصبحوا علوية وعثمانية وخوارج وبكرية إلى غير ذلك من طوائف متخاصمة تقوم بينها حروب دموية أحيانا وكلامية أخرى .
وكان من مجالات حروبهم الكلامية واقعة الجمل نفسها ومن قام بها ورضي عنها ، فقد قالت الخوارج فيها : إن عائشة وطلحة والزبير كفروا بمقاتلتهم عليا ، وقالوا : إن عليا كان يوم ذاك على الحق ولكنه كفر بعد التحكيم .
ولعنوا عليا في تركه اغتنام أموالهم وسبي ذراريهم ونسائهم.
وقال فريق من المعتزلة بفسق كلا الفريقين من أصحاب حرب الجمل وأنهم خالدون مخلدون في النار.
وقال آخرون منهم : إن أحد الفريقين فاسق لا محالة وأقل درجات الفريقين أنه لا تقبل شهادته. وأن لو شهدوا جميعا على باقة بقل لم تقبل.
وقال فريق ثالث منهم : كل أهل الجمل هالكون إلا من ثبتت توبته وكذلك طلحة والزبير، أما عائشة فإنها اعترفت لعلي يوم الجمل بالخطأ وسألته العفو.
وروى الجاحظ عن بعض السلف : أنهم كانوا يقولون إذا ذكروا يوم الجمل: " هلكت الاتباع ونجت القادة".
وقال أكثر الأشاعرة : إن أصحاب الجمل أخطأوا ولكنه خطأ مغفور كخطأ المجتهد في بعض مسائل الفروع ولا يلزم به الكفر ولا الفسق ولا التبري ولا العداوة.
وقال قسم منهم : إن عائشة وطلحة رجعا عن الخطأ.
وقال غيرهم : إنهم اجتهدوا فلا إثم عليهم ولا نحكم بخطأهم وخطأ علي وأصحابه.
والخلاصة التي معها الصواب - والصواب مع علي بشهادة الرسول صلى الله عليه وآله- : ما قاله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في حق صاحبة أول بدعة قاتلة لوحدة المسلمين: " ولها بعد حرمتها الأولى والحساب على الله ".
وهو غير كلام الأشاعرة الذين جعلوا أنفسهم في مقام الربوبية بقولهم "خطأ مغفور" ، عوض ترك الحساب لله. وقد أخطأوا كذلك في وصفهم لما وقع وكأنه اجتهاد في الفروع، بينما وحدة الأمة منصوص عليها في الأصول القرآنية الثابتة. وعلى أي : {{ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}} (البقرة: 134) ، سوف لن نسأل إلا عن موقفنا مع حجة قرننا الذي أظهره الله بدولة متحررة عن دولة ممثل الدجال.
وهو الحل السلمي لمداواة كلوم العرب في زمان التيه. وإلا فعلى الأقل عليهم الاطلاع على أحكام الحرب التي سنها لنا أمير المؤمنين لدفع بغي الناكثين والقاسطين والمارقين ومن يمثلهم في هذا الزمان.
فظهر للعقلاء أن الرجوع لفقه سيدنا علي كرم الله وجهه الذي يعترف به أهل السنة وكذلك الشيعة يغنينا عن عقائد ومذاهب تلك الفرق المتناحرة
وقد وضعت لتلك الأحكام تحيينا لما طلبه واجب الوقت في الحرب العالمية على حلب، كانت تهدد الشباب بخسارة الدنيا والآخرة، والمشعلون لها في رفاهية من العيش:
1. إعادة النظر في التقسيم بين جهاد الطلب وجهاد الدفع. جهاد الطلب أو الغزو يمكن إرجاء البحث فيه لأن القتال اليوم يدور في دار الإسلام. جهاد الدفع أي رد الصائل أو صد الهاجم وأفضل من هذه المصطلحات المصطلح القرآني الأصلي مصطلح قتال أهل البغي.
2. القتال ليس مرادفا لكلمة قتل... كلمة قتال يقترب مفهومها من كلمة جهاد... والجهاد أنواع وأنواع... وأذكى أنواع الجهاد ما يجلب النصر دون إنفاق درهم أو إحداث هدم أو إسالة دم. وأفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر... والسلطان الجائر كذلك أنواع وأنواع... سلطان دولة ممثل الدجال وحلفها الصهيوإنجيلي، سلطان العلمانية التلمودية وأنظمتها المستبدة الفاسدة، وقس على ذلك.
3. التمييز بين أنواع البغي التي أمر الإمام الوصي سيدنا علي عليه السلام بدفعها مراعيا لأدبيات الحرب الشرعية : عند ابتدائها، وأثناء خوض غمارها ، وعند نهايتها صلحا اختياريا، أو حسما قتاليا ، وعند ترتيب نتائجها من أسر وغنائم وقصاص وغير ذلك من أحكام السلم والهدنة والحرب.
4. الفرق المسلمة المفتونة التي أمر نبينا وصيه برد عدوانها حتى تفيء إلى أمر الله:
الناكثون : حرب الجمل في البصرة، بزعامة عائشة وطلحة والزبير. ومقابلهم في هذا الزمان من خانوا عهد الوفاء لشعوبهم وصاروا صنائع لأعدائهم يحكمونهم بالفساد والاستبداد الذي ينتجه الحكم بغير ما أنزل الله.
القاسطون: حرب صفين في الرقة بزعامة معاوية وعمر بن العاص. ومقابلهم في هذا الزمان النواصب والمنافقون الذين تحالفوا مع اليهود والنصارى في بغيهم على دولة القومة الحسينية.
المارقون: حرب الخوارج في النهروان قرب بغداد... ومقابلهم في هذا الزمان : أهل الشقاق والنفاق المكفرين لأهل القبلة من أجل تفجيرهم ونهب أموالهم وهتك أعراضهم.
وكلهم على كل حال أهل قبلة حكمهم الشرعي "أهل فتنة" وليس "أهل ردة". لأن لأهل الردة أحكاما شرعية غير أحكام أهل الفتنة.
5. والجهاد المأمور به شرعا، والذي فضله لا يختلف فيه أحد من المسلمين، له خصائص وشروط وأهداف وآداب جمعها لنا فقه أئمة أهل البيت، اعتمادا على كتاب الله بتفسيره النبوي وتأويله العلوي، لأن في زمان أمير المؤمنين اكتملت احكامه في ما اختص به من فقه قتال الفتنة، ولم تكن ظهرت في زمان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، إنما تنبأ بها، ونص على من ينبغي اتباعه في تأويل ملابساتها من أجل دفعها.
6. والجهاد الذي لا شبهة فيه يكون تحت إمرة إمام عادل أو من يتحالف معه أو من ينوب عنه. والإمام العادل هو واحد فرد لا يتعدد في القرن عند أهل القبلة، بحكم حديث مجدد القرن، وحديث حجة الله في أرضه، وحديث أمر قتل الباغي عليه... وبحكم أحاديث أخرى كقول رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عُمِّيَّةٍ يَدْعُو عَصَبِيَّةً أَوْ يَنْصُرُ عَصَبِيَّةً فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ ».صحيح مسلم. وحديث (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية).
وهذا الأصول في أحكام جهاد الفتنة استنبطها الفقه الإمامي من خطب أمير المؤمنين، خاصة ما ورد في نهج للبلاغة :
• من ذلك ما ورد في خطبة الجهاد وفيها يقول عليه السلام: "أمّا بعد: فإنّ الجهاد بابٌ من أبواب الجنّة، فتَحهُ الله لخاصّة أوليائه، وهو لباسُ التقوى، ودرعُ الله الحصينة، وجُنَّتِه الوثيقة، فمن تركه رغبة عنه، ألبسه الله ثوب الذلّ، وشمِلهُ البلاء، ودُيِّثَ ( أي ذلل) بالصَّغار والقماءة ( بمعنى الهوان) ، وضُرِب على قلبه بالأسداد ( الأقفال)، وأُديل الحقُّ منه ( بمعنى تداول غيره على الحق) بتضييع الجهاد، وسيم الخسف (المشقة) ، ومُنِع النصف (أي الإنصاف ، العدل)...
ومن وصاياه لعسكره قبل لقاء البغاة في قتال الفتنة:
• لا تقاتلوهم حتّى يبدؤوكم، فإنّكم بحمد اللَّه على حجّة، و ترككم إيّاهم حتّى يبدؤوكم حجّة أخرى لكم عليهم [ 1 ]، فإذا كانت الهزيمة بإذن اللَّه فلا تقتلوا مدبرا، و لا تصيبوا معورا، ولا تجهزوا على جريح،
• ولا تكشفوا عورة، ولا تمثلوا بقتيل، فإذا وصلتم إلى رحال القوم، فلا تهتكوا الستر، ولا تدخلوا داراً إلا بإذني، ولا تأخذوا شيئاً من أموالهم إلا ما وجدتم في عسكرهم فإذا وصلتم إلى رحال القوم، فلا تهتكوا الستر، ولا تدخلوا داراً إلا بإذني، ولا تأخذوا شيئاً من أموالهم إلا ما وجدتم في عسكرهم، ولا تهيجوا النّساء بأذى [ 2 ]، و إن شتمن أعراضكم، وسببن أمراءكم، فإنّهنّ ضعيفات القوى والأنفس والعقول [ 3 ]، إن كنّا لنؤمر بالكفّ عنهنّ وإنّهنّ لمشركات إن كان الرّجل ليتناول المرأة في الجاهليّة بالفهر أو الهراوة، فيعيّر بها وعقبه [ 4 ] من بعده.
• قتال أهل البغي في حرب بين طائفتين: لا بُدَّ فيه من إذن الإمام المعصوم أو نائبه وهو حجة الله في أرضه المجدد للدين في قرنه، الظاهر بدولة ممانعة لدولة نقيضه ممثل دجال الزمان وحلفائه. يقول عليه السلام: "لا يخرج المسلم في الجهاد مع من لا يُؤمَن على الحكم، ولا يُنفِذُ في الفيء أمر الله عزّ وجلّ، فإنّه إنْ مات في ذلك المكان كان مُعيناً لعدوِّنا في حبس حقِّنا والإشاطة بدمائنا، وميتته ميتةٌ جاهليّة"... ويقول فيه كذلك عليه السلام: "يا كميل لا غزو إلّا مع إمامٍ عادل ولا نفل إلّا من إمامٍ فاضل..(وسائل الشيعة، للعاملي).
والجهاد الأصغر: قسّمه الإمام عليّ عليه السلام إلى عدّة أقسام بقوله: "الجهاد على أربع شُعب: على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصِّدق في المواطن، وشنآن الفاسقين.."نهج البلاغة الحكمة 31".
وأمّا مراتب الجهاد الأصغر، فقد جعلها عليه السلام على ثلاث مراتب بقوله: "أوّل ما تُغْلَبُون عليه من الجهاد الجهاد بأيديكم، ثُمّ بألسنتكم، ثُمّ بقلوبكم. فمن لم يعرف بقلبه معروفاً، ولم يُنكر مُنكراً، قُلِبَ فَجُعِل أعلاه أسفله، وأسفله أعلاه"الحكمة 375".
والإمام الذي يصح الجهاد تحت رايته تكون له مكارم أخلاق بينها لنا أمير المؤمنين في نهج البلاغة: قال عليه السلام: "فوالله ما دفعت الحرب يوماً إلّا وأنا أطمع أنْ تلحق بي طائفة فتهتدي بي، وتعشو إلى ضوئي، وذلك أحبُّ إليّ من أنْ أقتلها على ضلالها وإنْ كانت تبوء بإثمها... (فهذه وراثة للرأفة النبوية بالمؤمنين).
التوكّل والاعتماد على الله: قال عليه السلام: "فإنّا لم نكن نُقاتل فيما مضى بالكثرة، وإنّما كنّا نُقاتل بالنصر والمعونة". فهذا للرد على المثبطين من كل نوع لكي يبقى المسلمون أذلة همج يقتل بعضهم البعض والناس من حواليهم في أمن وأمان.
أن يكون جانحا للصلح المنصف إذا دعي إليه. يقول عليه السلام في عهده إلى مالك الأشتر: "ولا تدفعنَّ صُلحاً دعاك إليه عدوّك، لله فيه رضىً، فإنّ في الصُلح دَعَةً لجنودك، وراحةً في همومك، وأمناً لبلادك، ولكن الحَذَرَ من عدوِّك بعد صلحه.."نهج البلاغة الرسالة 38.
العطف والرأفة بالجُند: في كتابه للأشتر يقول عليه السلام: "ليكن آثر رؤوس جندك من واساهم في معونته، وأفضل عليهم من جِدَته بما يسعهم ويسع مَنْ وراءهم من خلوف أهليهم.. فإنّ عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك..". وقال له أيضا: "ثُمّ تفقُّد من أمورهم ما يتفقّد الوالدان من ولدهما ولا يتفاقمنَّ في نفسك شيء قوّيتهم به، ولا تُحقّرنّ لطفاً تعاهدتهم به وإنْ قلّ... ولا تدع تفقُّد لطيف أمورهم اتكالاً على جسيمها". وقال له عليه السلام في اختيار أمراء الجيش : "فولِّ من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولإمامك، وأنقاهم جيباً، وأفضلهم حلماً، ممّن يُبطئ عن الغضب، ويستريح إلى العذر، ويرأف بالضعفاء، وينبو على الأقوياء".
ومن علاماته أيضا نزول نصحه الصادق إلى جنوده في المعارك بعد إبداء الحجة لهم أنهم مع الفرقة التي بغي عليها، فالنصر حليفها مع بعض الأسباب النفسية العملية، ينقلها لهم بعدما جربها بنفسه إذ كانت هي من أسرار شجاعته وهزمه لأبطال العرب والعجم. قال عليه السلام يوم أعطى الراية لابنه محمّدٍ بن الحنفيّة في معركة الجمل: "تزول الجبال ولا تَزُلْ! عضّ على ناجذك ، أعِرِ الله جمجمتك، تِد في الأرض قدمك... واعلم أنّ النصر من عند الله"الرسالة 38".
هذا مضافا إلى الشروط والأحكام العامة للجهاد والمذكورة في القرآن وبقية الأحاديث المتفق عليها: كحرمة القتال في أشهر الحرم، فإن هذه الحرمة تضيق فترة القتال بنسبة الثلث، مما يساهم في تعزيز فرص السلام فيما لو قبل الخصم بمنطق الدليل والحجة بدلا من منطق السلاح والقوة. والنهي عن قتل المجانين والصبيان والنساء وإن ساعدن، إلا مع الحاجة، والشيخ الفاني والخنثى المشكل، ويقتل الراهب والكبير إن كان ذا رأي أو قتال" ... وغيرها من القواعد التي يشترك فيها أهل القبلة، باستثناء بعض الوهابية النواصب والخوارج.
[ 1 ] على حجّة . . . : معكم الدليل و البرهان بأنكم على حق، و لو لم يكن لديكم إلاّ قول رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله: ( علي مع الحق والحق مع علي ) و( حربك حربي، و سلمك سلمي ) لكفى به حجة. و ترككم إياهم حتى يبدؤوكم حجّة أخرى لكم عليهم : لبدئهم بالحرب، فوجب الرد عليهم.
[ 2 ] فلا تقتلوا مدبرا . . . : موليا ( منهزما ) ولا تصيبوا معورا : هو الذي أمكن من نفسه عاجزا عن حمايتها. و لا تجهزوا على جريح : تسرعوا الى قتله. و لا تهيجوا النساء بأذى : أهجت الشيء : اثرته. و المراد : الأمر برعايتهن وعدم الإضرار بهن.
[ 3 ] ضعيفات القوى والانفس والعقول : احتملوا منهن الشتم والكلام النابي رعاية لضعفهن.
[ 4 ] بالفهر . . . : الحجر الذي يملأ الكف. أو الهراوة: العصا الضخمة. فيعيّر بها: ينسب الى العار، و يقبّح عليه فعله. وعقبه : ولده الباقون بعده. و المراد : بقاء العار عليه وعلى ذريته.
وصلت في تأليف كتاب " نظرات في فقه ظهور الحجة " إلى الحجة الثاني وهو سيدنا الحسن بن علي عليهما السلام. واستبشرت خيرا من موافقات المناسبات، لأن اليوم هو الخامس عشر من رمضان، الذي هو تاريخ ميلاده. فرجوت أن تكون تلك الموافقة - التي لم أتصنعها - من المؤيدات الربانية لجهد المقل: كلمات أبتغي به مرضاة الله في الإصلاح بين الناس. إذ : {{ لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}} (النساء:114).
وحجة الله على خلقه الثاني يعرف عند أهل السنة بصانع عام الجماعة: وهو من دلائل نبوة جده المصطفى، إذ قال صلى الله عليه وآله وسلم :{ إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين}. كذلك ذكره ابن كثير في كتاب دلائل النبوة.
وإذا كان إخواننا الشيعة يخلدون أبد الدهر مواليد أئمة الهداية من العترة، فنحن اليوم في المغرب نشتكي إلى الله من استبداد الفقه الوهابي الهادف لمحو أثار بقية الله. يمنع الناس من تخليد ذكرى مولد الرسول الأعظم. فلا غرو أن تمر ذكرى مولد سيدنا الحسن عندنا لا يعبأ بها حتى المنتسبون لشجرته المباركة. فتلك من بقايا معانات أئمة الهداية من أهل البيت.
تكلمنا عن معاناة الحجة الأول سيدنا علي، التي ختمت له بالشهادة. ولا أدخل في تفاصيل الحدث الأليم. فهو مفصل بما فيه الكفاية في مصادر الفريقين. إنما غرضنا من النوازل المرتبطة بأئمة الهداية حجج الله أن نستخلص منها القواعد الفقهية في الفروع ولربما حتى الأصول إذا اعتمدنا حديث "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي". على فرضية صحته وقد تكلم فيه الناس، وإن رفع إشكال " من هم الخلفاء الراشدون؟". وقد كانت فترة أوائل أهل البيت التأسيسية مصدرا من المصادر النقية قبل أن تلوثها مصادر أئمة السلطة.
أول قاعدة فقهية : وجوب غض الصوت بين الحجة السابق والحجة اللاحق : قال علي للحسن يوما: يا بني ألا تخطب حتى أسمعك؟ فقال: إني أستحي أن أخطب وأنا أراك، فذهب علي فجلس حيث لا يراه الحسن، ثم قام الحسن في الناس خطيبا وعليّ يسمع، فأدى خطبة بليغة فصيحة. فلما انصرف جعل علي يقول {{ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}} (آل عمران:34).
قاعدة الحرص على وحدة المسلمين والدفاع عنها : كان الحسن بن علي يوم الدار - وعثمان بن عفان محصور - عنده ومعه السيف متقلدا به يحاجف عن عثمان، فخشي عثمان عليه، فأقسم عليه ليرجعن إلى منزلهم تطييبا لقلب علي، وخوفا عليه رضي الله عنهم. ( البداية والنهاية: ابن كثير).
قاعدة النص أو الشورى المرجحة برأي العترة للحجة وقواعد أخرى نستخرجها بعد التعرف على رأي الفريقين في مقتل الإمام علي كرم الله وجهه.
رواية أهل السنة: روى الطبراني في المعجم الكبير: " لما أدخل ابن ملجم على علي - رضي الله عنه - ، قال : يا عدو الله ، ألم أحسن إليك ؟ ألم أفعل بك ؟ قال : بلى ، قال : فما حملك على هذا ؟ قال : شحذته أربعين صباحا ، فسألت الله أن يقتل به شر خلقه ، قال له علي - رضي الله عنه - : ما أراك إلا مقتولا به ، وما أراك إلا من شر خلق الله ، وكان ابن ملجم مكتوفا بين يدي الحسن ، إذ نادته أم كلثوم بنت علي وهي تبكي : يا عدو الله ، إنه لا بأس على أبي ، والله مخزيك ، قال : فعلام تبكين ؟ والله لقد اشتريته بألف ، وسممته بألف ، ولو كانت هذه الضربة لجميع أهل المصر ما بقي منهم أحد ساعة ، وهذا أبوك باقيا حتى الآن ، فقال علي للحسن - رضي الله عنهما - : إن بقيت رأيت فيه رأيي ، وإن هلكت من ضربتي هذه فاضربه ضربة ، ولا تمثل به ، فإني سمعت رسول الله عليه وسلم : " ينهى عن المثلة ولو بالكلب العقور " وذكر أن جندب بن عبد الله دخل على علي يسأل به ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إن فقدناك ولا نفقدك فنبايع الحسن ؟ قال : ما آمركم ، ولا أنهاكم أنتم أبصر ، فلما قبض علي - رضي الله عنه - بعث الحسن - رضي الله عنه - إلى ابن ملجم ، فأدخل عليه ، فقال له ابن ملجم : هل لك في خصلة ؟ إني والله ما أعطيت الله عهدا إلا وفيت به ، إني كنت أعطيت الله عهدا أن أقتل عليا ، ومعاوية أو أموت دونهما ، فإن شئت خليت بيني وبينه ، ولك الله علي إن لم أقتل أن آتيك حتى أضع يدي في يدك ، فقال له الحسن - رضي الله عنه - : لا والله أو تعاين النار ، فقدمه فقتله ، ثم أخذه الناس فأدرجوه في بواري ، ثم أحرقوه بالنار ، وقد كان علي - رضي الله عنه - قال : يا بني عبد المطلب لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين ، تقولون : قتل أمير المؤمنين ، قتل أمير المؤمنين ، ألا لا يقتل بي إلا قاتلي .
قاعدة لا قصاص إلا بعد حكومة عادلة ينصت فيها للمتهم؛
قاعدة لا يكون قتل الحجة الظاهر ذريعة لاقتتال بين المسلمين. كما فعل معاوية بمطالبة علي بتسليم قاتلي عثمان؛
تحريم المثلة ولو بالكلب العقور؛
قاعدة الشورى المرجحة بالوصية : أوصى الحجة الأول للحجة الثاني بإقامة الحد. ولا يقيم الحد إلا ولي الأمر فهذا تعيين ضمني لحجة عصره.
تحريم مخالفة الوصية: عرض الملعون ابن ملجم صفقة خبيثة عوض تنفيذ القصاص، فرفض الحسن.
أما رأي الإمامية في مسألة استخلاف الحسن:
( أسند الشيخ أبو جعفر القمّي، إلى تميم بن بهلول، إلى أبيه، إلى عبيد الله بن الفضل، إلى جابر الجعفي، إلى سفيان بن ليلى، إلى الأصبغ بن نباتة: أنّ عليّاً (عليه السلام) لمّا ضربه الملعون ابن ملجم(لعنه الله) دعا بالحسنين، فقال: (إنّي مقبوض في ليلتي هذه فاسمعا قولي، وأنت يا حسن وصيّي والقائم بالأمر من بعدي، وأنت يا حسين شريكه في الوصية فأنصت ما نطق، وكن لأمره تابعاً ما بقي، فإذا خرج من الدنيا فأنت الناطق بعده، والقائم بالأمر عنه)، وكتب له بوصيّته عهداً مشهوراً نقله جمهور العلماء).
وبعضهم رأى أن الوصية مستنبطة من حديث متفق عليه: {الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا}.
ثم لما اجتمعت كلمة أصحاب علي على تولية الحسن، كان أول أمر قام الحسن بمعالجته: مسألة وحدة المسلمين. قام بها أحسن قيام كان في الإمكان. خاصة لما شهد أن المزاج العام يوثر الحياة الدنيا على الآخرة. فهي معاناة مع أصحابه ترويها لنا المصادر التاريخية، لنتحقق أن الحسن لم يترك نهج أبيه في مجاهدة البغاة القاسطين والمارقين إلا بعد أحداث مؤلمة، أتت رحمة بالأمة لتظهر لها قواعد فقهية جديدة. فكان الصلح الحسني ممهدا للقومة الحسينية التي سوف تنضج الظروف الموضوعية لظهورها.
أسباب خذلان الأمة للإمام الحسن عليه السلام :
هي نفس أسباب الفتن التي نذكر بها دائما:
أولا : فتنة المارقين المكفرين. الإمام علي قضى على الخوارج بحسب الظاهر، ولكن بقايا أفكارهم ، بقايا فلولهم ، الشبهات التي كانوا يطرحونها في الأمة ، أثرت في مسيرة الإمام الحسن...
ثانيا : فتنة القاسطين الراكنين إلى الدنيا ، معاوية في الشام كان له سلطانه ، كانت له عطاياه ، يبعثها إلى أصحاب الإمام الحسن، يستميلهم لنصرته.
وقد فصل صاحب كتاب مَقاتل الطالبيين وغيره من المصادر التاريخية معاناة الإمام الحسن. أذكر منها ما حدث له لما ذهب ليرد بغي القاسطين : جيش الشام بزعامة معاوية، وما لاقاه من جيشه المنخور بعقيدة الخوارج، وبغدر جواسيس معاوية.
" نزل ( الحسن ) ساباط دون القنطرة ( أعالي الفرات قرب منبج ) فلما أصبح نادى في الناس: الصلاة جامعة، فاجتمعوا، وصعد المنبر، فخطبهم، فحمد الله فقال : الحمد لله كلما حمده حامد، وأشهد أن لا إله إلّا الله كلما شهد له شاهد، وأشهد أن محمدا رسول الله أرسله بالحق، وائتمنه على الوحي (صلى الله عليه وآله وسلم).
أما بعد، فو الله إني لأرجو أن أكون قد أصبحت بحمد الله ومنه وأنا أنصح خلق الله لخلقه، وما أصبحت محتملا على مسلم ضغينة ولا مريدا له سوءا ولا غائلة، ألا وإن ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة، ألا وإني ناظر لكم خيرا من نظركم لأنفسكم، فلا تخالفوا أمري، ولا تردوا عليّ رأيي، غفر الله لي ولكم وأرشدني وإيّاكم لما فيه المحبة والرضا".
وقبل المضي في سرد الأحداث نقتنص هذه القاعدة الفقهية المفيدة التي ضاعت معالمها في زماننا هذا:
قاعدة "ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة"
ربما يقترب من العنوان الثالث الذي ظهر لي أخيرا في مشروع رسالة إلى الحراك الذي يشهده بلدنا من أجل إتمام تحرره من ذل الجزية: 3. الوحدة في الثورة، خير من القعود في الفشل والفرقة.
أرجع لمحنة سيدنا الحسن:
قال: فنظر الناس بعضهم إلى بعض، وقالوا: ما ترونه، يريد [بما قال] ؟ قالوا: نظنه والله يريد أن يصالح معاوية ويسلم الأمر إليه، فقالوا: كفر والله الرجل. ثم شدّوا على فسطاطه فانتهبوه حتى أخذوا مصلّاه من تحته، ثم شد عليه عبد الرحمن بن عبد الله بن جعال الأزدي، فنزع مطرفه عن عاتقه، فبقي جالسا متقلدا السيف بغير رداء، ثم دعا بفرسه فركبه، وأحدق به طوائف من خاصّته وشيعته، ومنعوا منه من أراده، ولاموه وضعّفوه لما تكلم به، فقال: ادعوا لي ربيعة وهمدان، فدعوا له، فأطافوا به، ودفعوا الناس عنه، ومعهم شوب من غيرهم، فقام إليه رجل من بني أسد من بني نصر بن قعين يقال له الجراح بن سنان، فلما مرّ في مظلم ساباط قام إليه، فأخذ بلجام بغلته وبيده معول، فقال: الله أكبر يا حسن، أشركت كما أشرك أبوك [من قبل] ، ثم طعنه، فوقعت الطعنة في فخذه، فشقته حتى بلغت أربيّته، فسقط الحسن إلى الأرض بعد أن ضرب الذي طعنه بسيف كان بيده وأعتنقه، وخرا جميعا إلى الأرض، فوثب عبد الله بن الخطل ، فنزع المعول من يد [جراح بن سنان] فخضخضه به، وأكبّ ظبيان بن عمارة عليه، فقطع أنفه ثم أخذوا الآجرّ ، فشدّخوا وجهه ورأسه، حتى قتلوه.
وحمل الحسن على سرير إلى المدائن، وبها سعد بن مسعود الثقفي واليا عليها من قبله، وكان علي ولّاه فأقره الحسن بن علي، فأقام عنده يعالج نفسه.
وقد أحصوا ما أصابه من قومه :
1. الإمام (عليه السلام ) عندما كان يصلي في الناس ، كان لا يأمن على حياته ، لكثرة الغدر والمندسين في صفوف أصحابه ، كان في بعض الصلوات يطلب لامته أي درعه ، يلبس الدرع ويجعلها تحت ثوبه ، ولا يتقدم للصلاة بهم ، إلا كذلك ، يصلي الصلاة الواجبة وهو يلبس الدرع تحت ثيابه ، ورغم ذلك رماه أحدهم في الصلاة بسهم فلم يثبت فيه .
2. لما صار في (ساباط) ضربه أحدهم بخنجر مسموم ، جعله يعالج المرض فترة .. وإذا بأحد المدّعين من شيعته ، يقترح تسليمه لمعاوية ، ما دام في هذه الحال!.. هذه حالات غير طبيعية في حياة الإمام الحسن (عليه السلام ) من الخذلان .
3. ُيؤَمِّر الكندي على أربعة آلاف مقاتل ، ولكن هذا الكندي يترك الجيش ويهرب إلى معاوية في الشام ، نظير خمسمائة ألف درهم!! .. يخطب الإمام يتألم الإمام (عليه السلام ) من واقع الأمة الذي آلات إليه .. ولكنه يعين شخصا من بني مراد وإذا به يخذل الإمام (عليه السلام ) وهو على أربعة آلاف مقاتل .. فيهرب إلى معاوية مقابل المال ، وأنتم تعلمون عندما يهرب القائد ما الذي يحصل للجيش ؟..
بنود الصلح والقواعد الفقهية المستخرجة منه:
ومن كلامه عليه السلام ما كتبه في كتاب الصلح الذي استقر بينه وبين معاوية حيث رأى حقن الدماء وإطفاء الفتنة:
بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما صالح عليه الحسن بن علي بن أبي طالب معاوية بن أبي سفيان صالحه على: أن يسلم إليه ولاية أمر المسلمين على أن:
يعمل فيهم بكتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسيرة الخلفاء الراشدين
وليس لمعاوية بن أبي سفيان أن يعهد إلى أحد من بعده عهدا بل يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين
وعلى أن الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله شامهم وعراقهم وحجازهم ويمنهم
وعلى أن أصحاب على وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم
وعلى معاوية بن أبي سفيان بذلك عهد الله وميثاقه وما أخذ الله على أحد من خلقه بالوفاء بما أعطى الله من نفسه
وعلى أن لا يبغي للحسن ابن علي ولا لأخيه الحسين ولا لأحد من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غايلة سرا ولا جهرا ولا يخيف أحدا منهم في أفق من الآفاق
شهد عليه بذلك وكفى بالله شهيدا فلان وفلان والسلام
ولما تم الصلح وانبرم الأمر التمس معاوية من الحسن عليه السلام أن يتكلم بمجمع من الناس ويعلمهم إنه قد بايع معاوية وسلم الأمر إليه فأجابه إلى ذلك :
وقال أيها الناس ان أكيس الكيس التقى وأحمق الحمق الفجور وأنكم لو طلبتم ما بين جابلق وجابرس رجلا جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما وجدتموه غيري وغير أخي الحسين وقد علمتم إن الله هداكم بجدي محمد فأنقذكم به من الضلالة ورفعكم به من الجهالة وأعزكم به بعد الذلة وكثركم به بعد القلة أن معاوية نازعني حقا هو لي دونه فنظرت لصلاح الأمة وقطع الفتنة وقد كنتم بايعتموني على أن تسالمون من سالمت وتحاربون من حاربت فرأيت أن أسالم معاوية واضع الحرب بيني وبينه وقد بايعته ورأيت حقن الدماء خير من سفكها ولم أرد بذلك إلا صلاحكم وبقاءكم وان أدرى لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين.
مقتطف من كتاب كشف الغمة للإربلي (693 هـ) الجزء2 صفحة193
ولكن هذه الشروط وضعت تحت أقدام معاوية ، وسرعان ما ابتدع معاوية مراسيمه الأربعة التي غيرت إلى يومنا هذا الدين المحمدي الأصيل ولوثته تحت تهديد الحديد والنار والبأس الشديد.
بروتوكولات المراسيم الأربعة:
سميتها بروتوكولات تذكيرا ببروتوكولات حكماء صهيون، حاشاها أن تكون قواعد فقهية كما يحسبها النواصب من أهل سنة معاوية الذين يعدلون معاوية ويعظمونه تعظيما كبيرا.
أنقلها من بحث سابق بعنوان من هم النواصب وهل اندثرت بدعتهم؟ من فصل منهاج النصب تنظيرا؛ دستور الكراهية:
· مخالفة صريحة لدستور المودة القرآني الواضح في قوله تعالى: {{ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ...}}. (الشورى : 23)؛
· وسعيا عن سابق ترصد وإصرار في طمس التأكيد النبوي على أهمية هذه المودة في الحفاظ على عرى الدين، الذي نفهمه في حديث الثقلين كتاب الله وعترته، وحديث الغدير الموصي بوجوب موالاة سيدنا علي وعترته؛
· بعث معاوية نسخة واحدة إلى عماله في جميع الآفاق نصوصا لظهائر / مراسيم سلطانية مؤسسة لدستور الكراهية المناقض لدستور المودة، قصد التنفيذ الحازم دون مناقشة أو تهاون:
1. المرسوم الأول: {} أن برئت الذمة ممن روى شيئا من فضل أبي تراب - أي علي بن أبي طالب - وأهل بيته {}.
2. المرسوم الثاني: {} ألا يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة {}.
3. المرسوم الثالث: {} أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه وأهل ولايته، والذين يروون فضائله ومناقبه، فادنوا مجالسهم وقربوهم، وأكرموهم، واكتبوا لي بكل ما يروي كل رجل منهم، واسمه واسم أبيه وعشيرته {}.
4. المرسوم الرابع: {} أن الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر، وفي كل وجه وناحية، فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأولين، ولا تتركوا خبرا يرويه أحد من المسلمين في أبى تراب، إلا وتأتوني بمناقض له في الصحابة، فإن هذا أحب إلي، وأقر لعيني، وأدحض لحجة أبي تراب وشيعته وأشد عليهم من مناقب عثمان وفضله.
ثم لما ظهر لمعاوية بوادر تقبل عامة الناس لبدعه الطاعنة في الأصول، أراد المزيد من الحزم في التطبيق الصارم استعدادا لمهمة توريث الملك لابنه يزيد. فكانت الدفعة الثانية من النصوص والمراسيم التطبيقة.
كتب إلى عماله نسخة واحدة إلى جميع البلدان:
1. {} انظروا من قامت عليه البينة أنه يحب عليا وأهل بيته، فامحوه من الديوان واسقطوا عطاءه ورزقه {}.
2. {} من اتهمتوه بمولاة هؤلاء القوم فنكلوا به واهدموا داره {}.
فهو إذن مذهب الحزم والدم والهدم في تركيع المسلمين المتقربين لله ولنبيه بموالاة أئمة الهدى من العترة. ألا تشم رائحة هذا التنكيل بالعترة عبر ما يصلك من أخبار عن إيران واليمن والشام والبحرين حتى تقول لي أن النصب اندثر في هذا الزمان؟
فتلك إذن من الممهدات التي فتحت الطريق للحجة الثالث مفجر القومة الحسينية الأولى.
رجال الصحوة الجديدة الذين ينشرون بين عرب التيه ثقافة الأصول النقية، صار لهم وقع موجة العمق التي لا ترى. يكون أثرها هزة تقلب الأرض على دعاة الضلالة. وهؤلاء المخلفين في دروب التقليد الأعمى ، ما كان لهم من ذنب سوى خضوعهم لثقافة المراسيم الأربعة المؤسسة لدين الكراهية والتكفير وسفك الدماء.
وقد تعجب الناس من الصحوة الجديدة القالبة لعادات التقليد والتبعية، حتى صار بعض دعاتها وباحثيها وكأنهم عباقرة الأمة ونوابغها في مجال التنوير. وفي الحقيقة لم يكن لهؤلاء من عبقرية ولا تنوير إلا أن أتوا البيوت من أبوابها. قعدوا على الحصير للتتلمذ بتواضع على فقه آل البيت الأولين. فكانوا من المغترفين من مدينة العلم المحمدي عبر بابها، منصوص عليه في الكتاب وفي تفسيره النبوي وتأويله العلوي.
ولكن رجال الصحوة الجديدة يتربصهم خطر الصرف عن نصرة أهل الحق، وخيار الانقلاب على الأعقاب، بحكم ضغوطات ثقافة بيئتهم الحاضنة لهم. فلن تجد منهم إلا القليل ممن انتقلوا من طور فهم الانكسار التاريخي الأول، إلى طور فهم الانكسار التاريخي الثاني الذي يحدث الآن تحت أعينهم، من أجل أن يجنبوا أنفسهم وأمتهم فتنه المظلمة.
الصحوة الجديدة اقتحمت الطابوهات القديمة التي كممت الأفواه وقطعت الألسن، لسبب بسيط : لم يعد لها مبرر فلقد درج الطغاة الأولون الذين فرضوها. فرفعوا عنهم الرقابة الذاتية التي حبكتها ثقافة الشحن المذهبي الطائفي. وكان من أخطر وسائل الشحن المذهبي فرض قواعد فقهية ما أنزل الله بها من سلطان. بعضها يقدس المدنس، وبعضها يدنس المقدس. فاختلط على الناس الأمر بعدما ابتدعوا للتلبيس قواعد ومناهج أبعدت الناس عن صفاء وبساطة دين الفطرة.
الثقافة المهيمنة على أهل السنة لا تزال في عمق وعيها الباطن محاصرة بمراسيم معاوية المرعبة. كأنها مدينة مسيجة مليئة بالألغام.
من الممكن تغيير هذا الواقع الثقافي المهين لكرامة أهل الفكر والذكر. وأول خطوة تكون من عند أنفسهم برفع الرقابة الذاتية التي تحاصر وعيهم الباطن. فرعب المراسيم الأربعة لن يبقى له أي سند شرعي أو مبرر نفسي إن ربطنا الوصال مع فقه العترة للانكسار التاريخي الأول.
فيكتشف المتحرر من منهجيات قرن ضمور الحجة، أسبابا أخرى ومفاهيم جديدة للانكسار التاريخي الأول .
الانكسار التاريخي الأول يربطه الأستاذ عبد السلام ياسين بانفراط عقد وحدة الأمة بعد استشهاد الخليفة الثالث سيدنا عثمان بن عفان. يقول الأستاذ عبد السلام ياسين: وبذهاب سيدنا عثمان رضي الله عنه في الصالحين، تستيقظ العصبية القبلية، ويفتتن الصحابة في أمرهم لما يرون من تغير الأحوال فينازع الزبير وطلحة وعائشة رضي الله عنهم الخليفة الرابع مولانا عليا بن أبي طالب فيقاتل المسلمون وينهض معاوية ومعه عصبة من بني أمية، ومعه صنائعه في الشام –وكان واليا عليها مدة 20 سنة تمكن فيها بدهائه- فيطالب عليا بدم عثمان. ويتصادم جيشا علي الخليفة ومعاوية طالب الملك في صفين فيفصم بين المسلمين ما كان يجمعهم، ويبدأ الانحلال في وشائج جماعة المسلمين انحدارا، قرنا بعد قرن، إلى ما نشاهده من غثائية وتمزق ... ( كتاب الشورى والديموقراطية).
أما ما ذكره الأستاذ في مسؤولية معاوية عن هذا الانكسار ، قوله: بعد ثلاثين سنة من موته صلى الله عليه وسلم قال معاوية: أنا أول ملك! تحسب له صراحته هذه وما كان له أن يقول غير ما قال. ذهبت الشورى، وهي العقد الشرعي الذي ينبني عليه نظام الحكم في الإسلام، وبدأ الأمر يتفاقم يوما بعد يوم وخاصة عندما عزم معاوية على مبايعة يزيد المعروف بفسقه وسفهه وفي الأمة الأخيار من أمثال عبد الله بن عمر، والحسين بن علي، وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر، رضي الله عنهم وعن الصحابة أجمعين. ولما عارضه هؤلاء الأربعة شرطوا عليه أن يجعل الأمر شورى بين المسلمين وكانوا في جمع حاشد. فخطب معاوية في الناس، بعد أن أمر رئيس حرسه قائلا: “أقم على رأس كل واحد من هؤلاء (الأربعة المعارضين) رجلين، ومع كل واحد منهما سيف. فإن ذهب منهم رجل يرد علي كلمة بتصديق أو تكذيب فليضرباه بالسيف (…) هكذا روى المشهد بن الأثير رحمه الله (…) فقطعت الخطبة السيفية ما بين عهدين، واستوت الملكية الوراثية على عرشها، وبايع الناس معاوية والسيف يتكلم، والأربعة الأحرار على رأس كل واحد منهم سيفان وأمر بالقتل ناجز. اهـ.
فلما ربط الأستاذ عبد السلام ياسين الانكسار التاريخي الأول بمنفذه معاوية، ربما كان قد تأثر بالرقابة الذاتية التي تفرضها الثقافة السنية في قرن ضمور الحجة. أما في زمان الظهور بالقومة الحسينية في هذا القرن، فلربما تعمق فهمنا للانكسار الأول إن وضعنا السؤال التالي: من مكن لمعاوية عشرين سنة في الشام حتى وطد ملكه؟ من كان السبب في منع النبي كتابة وصيته لئلا تفترق الأمة ؟ من هي المعارضة الأولى التي ناضلت لكي لا ينزل قدر الفرقة على الأمة؟
ربط الأستاذ ياسين هذا الانكسار بما أحدث معاوية ، دون الالتفات لمن ناضل لكي لا يحدث الانكسار أصلا. وهذا الفهم للانكسار الأول ربما كان العائق لفهم الانكسار الذي يحدث اليوم تحت أعيننا، ونعالجه بالمنهجية السنية، فنوشك أن نكون من المساهمين في استمرار الفرقة والتنازع والفشل وذهاب ريح الأمة.
والمنهجية السنية التي اختارها الأستاذ لقرنه: قرن ضمور الحجة: اختارت التوقف عما شجر بين الصحابة. أي لا فرق بينهم بين الطائفة الباغية والطائفة التي اعتدي عليها، أي "لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء".
أما في قرن ظهور الحجة بقومة حسينية مقتدرة، فالتمادي في موقف الحياد بين طائفة باغية، دام عدوانها واتصل قريبا من أربعين سنة، وطائفة اعتدي عليها، لن يقيم للأمة جسدا برأس مدبر وقلب مفكر. ويوشك أن تتغلب قوانين الطبيعة على قوانين الشريعة ليظهر في الجماعة من يؤيد الناكثين والقاسطين والمارقين الجدد. ولنا دليل في نصرة القرضاوي الذي أفتى بسفك دم البوطي، وبجواز تفجير الشاب السني نفسه وسط الروافض الصفويين.
وقد تقدم نفس التحذير من موقف التفرج أو التحيز للطائفة الباغية، الذي ربما تسلل لجماعة من تسلسل عقيدتها الأشعرية وسندها الصوفي وارتباطهما بالحسن البصري الذي سماه الإمام علي : سامري هذه الأمة.
قال ابن عباس: مرّ (أمير المؤمنين عليه السلام) بالحسن البصري و هو يتوضأ، فقال: يا حسن أسبغ الوضوء، فقال : يا أمير المؤمنين لقد قتلت بالأمس اناساً يشهدون أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، يصلون الخمس و يسبغون الوضوء، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام : فقد كان ما رأيت فما منعك أن تعين علينا عدونا ؟!
فقال : والله لأصدقنك يا أمير المؤمنين، لقد خرجت في أول يوم فاغتسلت وتحنطت وصببت عليَّ سلاحي، و أنا لا أشك في أن التخلف عن أم المؤمنين عائشة هو الكفر، فلما انتهيت إلى موضع من الخريبة ناداني مناد : " يا حسن إلى أين ؟ ارجع فإن القاتل والمقتول في النار"، فرجعت ذعراً وجلست في بيتي، فلما كان اليوم الثاني لم أشك أن التخلف عن ام المؤمنين عائشة هو الكفر، فتحنطت وصببت عليَّ سلاحي وخرجت أريد القتال، حتى انتهيت إلى موضع من الخريبة فناداني مناد من خلفي: " يا حسن إلى أين؟ فإن القاتل والمقتول في النار ". قال علي عليه السلام : صدقك أفتدري من ذلك المنادي؟ قال: لا. قال عليه السلام : ذاك أخوك إبليس و صدقك، إن القاتل والمقتول منهم في النار، فقال الحسن البصري: الآن عرفت يا أميرالمؤمنين أن القوم هلكى". (من كتاب مبادئ الحكمة للسيد تقي المدرسي).
الحسن البصري هذا هو الذي اسس مدرسة الاشاعرة وفي ظل مدرسته، نمت مدرسة الاعتزال على يد تلميذه واصل بن عطاء الذي يصف استاذه البصري بأنه يتغير بين عشية وضحاها، وانه لا يستقر على رأي، وأنه كل يوم هو في شأن.
أما فهم الانكسار الأول عبر باب مدينة علم الرسول وورثته، فيمكن تدبره في هذا المقتطف من كتاب " الاحتجاج" في عنوان: احتجاج الحسين بن علي عليهما السلام على عمر بن الخطاب في الإمامة والخلافة.
روي أن عمر بن الخطاب كان يخطب الناس على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله، فذكر في خطبته أنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فقال له الحسين عليه السلام - من ناحية المسجد -:إنزل أيها الكذاب عن منبر أبي رسول الله لا منبر أبيك!
فقال له عمر: فمنبر أبيك لعمري يا حسين لا منبر أبي من علمك هذا أبوك علي بن أبي طالب؟
فقال له الحسين عليه السلام: إن أطع أبي فيما أمرني فلعمري أنه لها وأنا مهتد به، وله في رقاب الناس البيعة على عهد رسول الله، نزل بها جبرئيل من عند الله تعالى لا ينكرها إلا جاحد بالكتاب، قد عرفها الناس بقلوبهم وأنكروها بألسنتهم، وويل للمنكرين حقنا أهل البيت، ماذا يلقاهم به محمد رسول الله صلى الله عليه وآله من إدامة الغضب وشدة العذاب!!
فقال عمر: يا حسين من أنكر حق أبيك فعليه لعنة الله، أمَّرنا لناس فتأمَّرنا ولو أمروا أباك لأطعنا.
فقال له الحسين: يا بن الخطاب فأي الناس أمرك على نفسه قبل أن تؤمر أبا بكر على نفسك ليؤمرك على الناس، بلا حجة من نبي ولا رضا من آل محمد، فرضاكم كان لمحمد صلى الله عليه وآله رضا؟ أو رضا أهله كان له سخطا؟! أما والله لو أن للسان مقالا يطول تصديقه، وفعلا يعينه المؤمنون، لما تخطأت رقاب آل محمد، ترقى منبرهم، وصرت الحاكم عليهم بكتاب نزل فيهم، لا تعرف معجمه، ولا تدري تأويله، إلا سماع الآذان، المخطئ والمصيب عندك سواء، فجزاك الله جزاك، وسألك عما أحدثت سؤالا حفيا.
قال : فنزل عمر مغضبا، فمشى معه أناس من أصحابه حتى أتى باب أمير المؤمنين عليه السلام فاستأذن عليه فأذن له، فدخل فقال: يا أبا الحسن ما لقيت اليوم من ابنك الحسين، يجهرنا بصوت في مسجد رسول الله ويحرض علي الطغام وأهل المدينة، فقال له الحسن عليه السلام: على مثل الحسين ابن النبي صلى الله عليه وآله يشخب بمن لا حكم له، أو يقول بالطغام على أهل دينه؟ أما والله ما نلت إلا بالطغام، فلعن الله من حرض الطغام.
فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: مهلا يا أبا محمد فإنك لن تكون قريب الغضب ولا لئيم الحسب، ولا فيك عروق من السودان، إسمع كلامي ولا تعجل بالكلام فقال له عمر: يا أبا الحسن إنهما ليهمان في أنفسهما بما لا يرى بغير الخلافة فقال أمير المؤمنين: هما أقرب نسبا برسول الله من أن يهما، أما فارضهما يا بن الخطاب بحقهما يرض عنك من بعدهما.
قال: وما رضاهما يا أبا الحسن؟
قال: رضاهما الرجعة عن الخطيئة، والتقية عن المعصية بالتوبة.
فقال له عمر: أدب يا أبا الحسن ابنك أن لا يتعاطى السلاطين الذين هم الحكماء في الأرض.
فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: أنا أؤدب أهل المعاصي على معاصيهم، ومن أخاف عليه الزلة والهلكة، فأما من والده رسول الله ونحله أدبه فإنه لا ينتقل إلى أدب خير له منه، أما فارضهما يا بن الخطاب.
قال: فخرج عمر فاستقبله عثمان بن عفان، وعبد الرحمان بن عوف.
فقال له عبد الرحمن: يا أبا حفص ما صنعت فقد طالت بكما الحجة؟
فقال له عمر: وهل حجة مع ابن أبي طالب وشبليه؟! . انتهى المقتطف من كتاب الاحتجاج للطبرسي.
ونحن دائما في سياق حديثنا عن الحجة الثالث سيدنا الحسين، هذه المحاججة العجيبة التي لا تخالف نصا من النصوص الموثوقة، ولا حدثا من أحداث التاريخ، ربما احتاجت منا المزيد من المدارسة والبحث لاستخراج قواعد فقهية نفيسة... لكن آثرت أن أربطها بواقعنا خاصة ما حدث ويحدث في ريفنا المنتفض. أحد مرتزقة مراكز البحث الغربية اتهم زعيم الحراك بالانفصالية وبالتشيع لعلي. وكان زعيم الحراك قد شاغب خطيب الجمعة الرسمي واستدل بحديث لعمر : إذا رأيتم في اعواجاجا فقوموني. فقال الباحث المرتزق: استدلاله بقول عمر إنما هو تقية. فهذا هو عين التهتك والجهل والتقرب للغرب يريد استحمارهم بالتظاهر بعلم أسرار الشيعة. والشاب الزفزافي المسكين لا يعرف عن الشيعة ولا عن السنة إلا مثلما يعرفه العامة. بل حتى علماء العدل والإحسان عندما يريدون نصح الملك يقولون له "كن عمر وقد السفينة ". فهم عن المرجعية المشتركة بين السنة والشيعة مصروفون (سيدنا علي) ، فلا يهتدون مثلا للمطالبة بمراجعة الدستور ليكون مقتديا بالعهد الأشتري مثلما هو حال دستور القومة الحسينية المباركة. إلا أن يتوب الله علينا لنتوب ...
ذكرنا في ما سبق أحاديث يعضد بعضها البعض، تبين أن المدبر الحكيم عز وجل لم يترك أمر البشرية بعد الرسل تتحكم فيه قوانين الطبيعة وقوانين الشريعة فقط. بل ربنا الخبير القدير له تدخل مباشر، دائم ومستمر عبر قوانينه القدرية التي لا مفر منها. أهملها الباحثون من أمثال ابن خلدون... وغيبها العلماء فظهر أثر ذلك في اجتهاداتهم المختلفة في مسألة الإمامة.
قوانين الطبيعة تريد فرض قانون الغاب والأهواء والصراعات: الملك الطبيعي كما سماه ابن خلدون.
قوانين الشريعة تريد ضبط القيم المجتمعية بوازع العقل والوحي: الخلافة كما يعرفها ابن خلدون: حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به ( ابن خلدون، المقدمة ص 191).
قوانين القدر تبين أن الله محيط بالأمر. فمهما تكلف البشر، فأمر الملك والخلافة والإمامة تحيط به المشيئة الربانية : {{ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}} (آل عمران:26).
والقوانين القدرية المهيمنة على تدبير أمر الإمامة، بين لنا منها الوحي والعلم النبوي معالم ومنارا في الطريق الموافقة للأقدار. لنسلكها حذر التيه في محظور منازعة القدر. نذكر منها:
• حديث تجديد الدين لكل قرن: ( إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها ) أبوداود والحاكم والبيهقي وغيرهم : حديث صحيح.
• حديث "لا تخلو الأرض من حجة لله " هو كذلك من المتفق عليه بين الإمامية والصوفية وسائر المذاهب المنتسبة للسنة.
• حديث " الإثنا عشر إماما " بلفظ مسلم: "إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة". وفي لفظ له: "لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً". وفي لفظ له أيضا: "لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة". وفي لفظ آخر: " لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً إلى اثني عشر خليفة". وفي رواية أبى داود: "لا يزال هذا الدين قائماً حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم تجتمع عليه الأمة".
فالضوابط الطبيعة والشرعية والقدرية لأمر الإمامة كانت منطلقا لاجتهادات علماء المسلمين على مر العصور. ولنا الحق في المساهمة في البحث في الموضوع لأن باب الاجتهاد لم يغلق كما يدعيه البعض، خاصة في هذا العصر الذي فتح الله للبشرية وسائل النشر الرقمي لمصادر المعرفة من الأصول الصافية.
ومن أول إطلالة على اجتهادات الفريقين في تحديد هوية وتوقيت الخلفاء الإثني عشر نجد ثغرات واضحة. والطوائف يعترفون أن المسألة تحتمل تأويلات. ليست من الأصول القطعية. فهي مسألة خلافية في الفروع قابلة للاجتهاد.
فنجد من فقهاء أهل السنة من حصر الخلفاء الإثني عشر فى القرن الأول، وأدرج فيهم ملوك بني أمية. بما فيهم يزيد الملعون !
من ذلك ما قاله القاضي عياض: "ويحتمل أن يكون المراد أن يكون" الاثنا عشر" في مدة عزة الخلافة وقوة الإسلام واستقامة أموره والاجتماع على من يقوم بالخلافة، ويؤيده قوله في بعض الطرق "كلهم تجتمع عليه الأمة" وهذا قد وجد فيمن اجتمع عليه الناس إلى اضطراب أمر بني أمية ووقعت بينهم الفتنة زمن الوليد بن يزيد، فاتصلت بينهم إلى أن قامت الدولة العباسية فاستأصلوا أمرهم، وهذا العدد موجود صحيح إذا اعتبر. قال: وقد يحتمل وجوها أخر، والله أعلم بمراد نبيه" .
أما الشيعة الإمامية الاثنا عشرية ، فهم يرون أن أئمتهم الأوائل : علي والحسن والحسين نص عليهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، كما هو معلوم للجميع ، ثم بعد الحسين نص كل إمام على الإمام الذي بعده إلى تمام ختمهم الإمام الغائب. ويجعلونه هو مهدي آخر الزمان .
وواضح أن مع افتراض وجود نص ووصية بين الأئمة ، نجد أنه بعد الحسين عليه السلام، لم يكن هناك من توفر له الشرط المنصوص عليه في الحديث: " كلهم تجتمع عليهم الأمة ". فلربما كانوا من صنف الحجة الخائف المغمور الذي لم تكن له دولة جامعة للأمة.
أما الصوفية فاجتهادهم في المسألة لخصها ابن عربي في نظرية إمام الظاهر وإمام الباطن: الظاهر منهما لا يلتفت إلى الباطن، أما الباطن فيدعم الظاهر ويمدّه بحسب قبوله لهذا الإمداد ولهذا العون، لأنه إمداد لا تسيير. ولا تنحصر سلطة الإمام الباطن بإمداد الملك الظاهر بل له الإمامة الكبرى التي تجعله صاحب السلطة الفعلي في الوجود. دولة الباطن على رأسها شخص واحد هو القطب أو الإمام الباطن أو الخليفة الباطن. وتضم دولته الباطنية إمامين، هما إمام اليمين وإمام اليسار، كما تضم أربعة أوتاد يحفظ الله بهم الجهات، وسبعة أبدال يحفظ الله بهم الأقاليم السبعة، والنقباء الإثنى عشر...
بعد الاطلاع على آراء الطوائف في هذه المسألة الفرعية - أقصد مسألة تعيين الأئمة الإثني عشر- ربما كان من واجبات الوقت تكليف فقهاء بمهمة وضع فقه للإمامة يتفق عليه الجميع نجعل من أهم مطالبه الحثيثة : جمع شمل الأمة وتعاونها على البر والتقوى، تحت بيضة تحميهم من أداء الجزية ومستحقات الديون الربوية المفروضة على الأمة في هذا الزمان. فهو شرط بيعة العقبة: الدم الدم الهدم الهدم: أي دولة ممتنعة لا يقدر عليها المعتدون من أعداء الأمة. فإن ظهرت هذه الإمامة القدرية وسطع نورها فحينها تتولى قوانين الشريعة مهمة إلزام سائر الناس بها. ذلك للتعاون معها من أجل انقاذ الأمة من هذا الانحطاط والعبودية الذي يكون دائما رمزه ضياع القدس.
ثم لنا الحق في إبداء الرأي في توصيف هؤلاء الأئمة:
منهم من تم لهم ذلك بنص نبوي متفق عليه: سيدنا علي وسيدنا الحسن وسيدنا الحسين عليهم السلام. وفي ظهورهم عناية ربانية بالأمة المحمدية لأن جميع ما قاموا به يعتبر نصا فقهيا يحتج به لمعالجة أمر وحدة الأمة.
والتسعة الباقون سيتوزعون على فترات من الزمان كما توزع الأنبياء والرسل من قبلهم. إلى أن يكون ختمهم المنصوص عليه أيضا في الحديث: المهدي المنتظر. وهؤلاء التسعة سوف يحققون للأمة وحدتها الكاملة كما ورد وفي رواية أبى داود: "... يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم تجتمع عليه الأمة".
أما في زمان الفترة بينهم فيكون للناس حجج خائفون مغمورون، لا حيلة لهم عند فساد الناس وافتقاد البيئة الحاضنة التي يمكن التعويل عليها للقيام بتغيير المنكر باليد.
ورأي مرشد جماعة العدل والإحسان في تعيين إمام الظهور: أن يتمكن بتحرير دولة، ثم يتم له انتظام تعاونه على البر والتقوى مع دولتين. وإذاك يعتبر حجة ظاهرا، لا ينبغي التخلف عنه.
وتتحفنا قوانين الله القدرية في هذا القرن المبارك بإظهار حجته على خلقه، المنصور بقوم يحبهم الله ويحبونه، تحقق فيه ما طلبه الأستاذ عبد السلام ياسين. نسأل الله تعالى أن يلهمنا رشد التعاون مع حجته الظاهر على البر والتقوى، لتحرير أمتنا من الجهل والذل والتبعية والفساد والاستبداد. فهو مشروع القومة الحسينية الوارثة لميراث الحسين.
يقول السيد علي الحسيني الخامنئي (دام ظله):
مقارعة الحسين(عليه السلام) ليزيد لم تكن ضد يزيد الفرد الفاني الذي لا يساوي شيئاً، بل كانت ضدّ جهل الإنسان وانحطاطه وضلاله وذلّه.
من الفصل السابق، يمكن استنتاج قاعدة مفادها : ظهور أو كمون الحجة له علاقة بالبيئة الحاضنة. فهو التعبير الزماني والمكاني لقانون قدري متكرر: {{ وَكَذَٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}} (آل عمران: 129) يفسره لنا حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( كيفما تكونوا يولى عليكم ). كلمات قدرية تفيد أن المظهر أو المخفي لحججه هو مالك الملك عز وجل، بعد النظر في استعداد الحجة لقبول أو الاعتذار عن حمل الأمانة. قبول أمانة الظهور للحجة هو اختياري. فالحجة له حق التقدير لمدى استعداد البيئة الحاضنة لنصرة مشرعه الإلهي. يقبل المسؤولية إن ظهر له أن أمته جاء دورها في الاستخلاف بعد تمام وعيها بخطر البدع القاتلة لوحدة المسلمين:
• فتنة أهل الضرار، المتهوكين الذين لهم قابلية الاستعمار والعبودية؛
• فتنة الناكثين /العلمانيين، الذين قبلوا تجريد الدين عن شريعة القرآن؛
• فتنة القاسطين / المتهتكين الذين باعوا دينهم بحطام الدنيا؛
• فتنة المارقين/ المكفرين لأهل القبلة من أجل استباحتهم.
وإن شهد حجة الله في أرضه أن القوم سرت فيهم كل تلك البدع، أو بعضها، فيكون أولى له أن يطلب الستر والكمون. فلربما كان نفعه للأمة أكثر فائدة عبر الإمداد الخفي، لا عبر التسيير الجلي. ذلك خير من قبول مهمة مستحيلة، ومسؤولية خاسرة، يصبح معها ظلوما جهولا.
فنستنتج أن ما هو وهبي هو وفاء الله بعهده للأمة المحمدية: يهب لها حججه المجددين لدينه على رأس كل قرن. وما هو كسبي هو حرية تصرف الحجة في قبول أو رفض الأمانة. والقبول أو الرفض مرتبط كذلك بما كسبت أيدي الناس من قبولهم أو رفضهم لعوامل الفساد التي ذكرنا في البدع القاتلة لوحدة الأمة.
والأمر يرجع في النهاية إلى ربط المسألة بما فرضته الشريعة من أحكام للتعامل مع قوانين القدر، المظهرة للرسل والأنبياء والحجج بعد زمان الفترة. فنعمة ظهورهم القدري الوهبي، يمتحن بها الناس عبر تصرفهم الكسبي معهم.
§ فمنهم الشاكرون للنعمة: نعمة الائتلاف والتعاون على البر والتقوى: {{... وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}} (آل عمران:103)؛
§ ومنهم الجاحدون لنعمة ظهور الحجة ، ومصيرهم معروف : رزية الخميس: من لم يشكر نعمة الله فقد تعرض لزوالها. وزوال النعمة تفتح باب افتراق الأمة وظهور البدع القاتلة لوحدتها التي ذكرتها.
§ ومنهم المشككون المتذبذبون لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. فهو النفاق الذي يكسب أصحابه الدرك الأسفل من النار والعياذ بالله.
والحاصل أن التأدب مع قوانين القدر الوهبية، لا يستقيم إلا بما كسب الفرد من التزام بقاعدة " اعملوا، فكل ميسر لما خلق له." وعمل الفرد هنا يكون بالسعي في الأرض، للبحث ثم للتعاون مع إمام زمانه، إذ { من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية}. وميتة الجاهلية واحدة سواء كان مع الناكثين أو القاسطين أو المارقين أو أهل الضرار.
وليكون الفرد منصفا، فلربما سأل نفسه مَن من أئمة المسلمين حقق اليوم ما حققته القومة الحسينية في مجال معالجة البدع القاتلة لوحدة المسلمين؟ من منهم استفتى شعبه ليحرره من شرك دين العلمانية التلمودية؟ من منهم حرر العباد من ذل الضرار : طلب الحماية ودفع الجزية لليهود والنصارى؟ من منهم تخلص من دين القاسطين: دين سنة معاوية الفاسدة المستبدة الناصبية؟ من منهم رد بغي المعتدين من المارقين المكفرين لآهل القبلة من أجل استباحة دمائهم وأعراضهم وأموالهم؟
فذلك سر فشل المترامين على أمانة حجة الله الظاهر، الذين تربوا في بيئة حاضنة لإحدى البدع القاتلة لوحدة الأمة. فلا يمكنهم أن ينتجوا لنا فقها لمقارعتها وهم غارقون في بحورها في زمان التيه العربي. فالسمكة لا تعرف من الكون إلا اليم. وبإعراضهم عن فقه "باب مدينة علم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم " وهو المقاتل على التأويل، كما كان نبينا يقاتل على التنزيل، يكونوا قد حرموا أنفسهم وحرموا قومهم مختصرا لطريق شكر نعمة الظهور بالحق... إلى متى ستقودهم بيئتهم الحاضنة ويقودونها إلى مصير الجاحدين ؟ الله أعلم بما كسبت أيادي القوم. باب التوبة الواعية بخطر الفتن المرتبطة بالبدع المذكورة مفتوح للمبتلين بالمنابر والمناصب. فهم المسؤولون عن تربية المجتمع من أجل إنقاذه من ثقافة أهل الضرار والناكثين والقاسطين والمارقين.
فمن كانت مرجعيته: التنزيل، وسنة المقاتل على التنزيل صلى الله عليه وآله وسلم، وفهم المقاتل على التأويل سيدنا علي كرم الله وجهه، كان سريع الدوران مع الحق حيث دار... والمتمسك بغير ذلك فهو على خطر أن يشرك بالله ما لم ينزل به سلطانا. نسأل الله تعالى أن يجعلنا من التوابين المهتدين.
سبقت الإشارة للمتفق عليه بين طوائف المسلمين في مسألة الأئمة :
في عدد الأئمة ونسبهم القرشي. هم إثنا عشر إماما كلهم من قريش؛
في المنصوص عليهم نصا صريحا : عليا والحسن والحسين عليهم السلام.
فهذه هي الأصول في المسألة والباقي كله فروع اجتهدت فيها فرق المسلمين، فكان لفرق "السنة" اجتهادهم الذي لا يلزم الطوائف الأخرى ولا يكفرون بعدم اعتقاده. وكذلك الحال بالنسبة لفرق الشيعة.
وقلت إن لكل مستبصر في هذا الزمان الرخصة بل واجب التفكر والاجتهاد في المسألة، شريطة التعلق بالأصول المتفق عليها، ومعرفة حجج السابقين. وهناك سبب آخر يوجب البحث في المسألة: حديث : من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية.
فإن كان منتسبا لأهل السنة فهل سيقلد عقيدتهم في المسألة دون أن يكلف نفسه عناء تدبرها من أجل قبولها إن رأى فيها الصواب، أو رفضها إن ظهر له سقمها ؟ والقول نفسه صحيح بالنسبة للمنتمين للشيعة. فقد كان اجتهاد السلف مرتبط بزمانهم: منهم من عايش إمام أو إمامين جامعين للأمة، ومنهم عايش زمان الفترة الأولى، ونحن في زماننا نعايش قومة حسينية قدر الله لها الظهور بدولة ممتنعة من دولة ممثل الدجال في هذا الزمان.
أما قول المنتسبين للسنة:
فمنه الغث ومنه السمين كما في جميع المسائل الفرعية:
جاء في فتح الباري في شرح صحيح البخاري : إن قوله اثنا عشر : إشارة إلى عدد خلفاء بني أمية. وأول بني أمية يزيد بن معاوية وآخرهم مروان الحمار، وعدتهم اثنا عشر، ولا يعد عثمان ومعاوية ولا ابن الزبير، لكونهم صحابة، ولا مروان بن الحكم لكونه صحابيا، أو لأنه كان متغلبا بعد أن اجتمع الناس على عبد الله بن الزبير، وليس على المدح بل على استقامة السلطنة، وهم يزيد بن معاوية وابنه معاوية ثم عبد الملك ثم الوليد ثم سليمان ثم عمر ابن عبد العزيز ثم يزيد بن عبد الملك ثم هشام بن عبد الملك ثم الوليد بن يزيد ثم يزيد بن الوليد ثم إبراهيم بن الوليد ثم مروان بن محمد.
كما ورد في فتح الباري أيضا: إن المراد أنه يملك اثنا عشر خليفة بهذه السمات بعد وفاة المهدي.
وجاء كذلك في فتح الباري في شرح البخاري: ما نقله أيضا: اثنا عشر خليفة في جميع مدة الإسلام إلى يوم القيامة.
وأرجح الأقوال في نظر أهل السنة في ذلك ما قاله القاضي عياض: "ويحتمل أن يكون المراد أن يكون" الاثنا عشر" في مدة عزة الخلافة وقوة الإسلام واستقامة أموره والاجتماع على من يقوم بالخلافة، ويؤيده قوله في بعض الطرق "كلهم تجتمع عليه الأمة" وهذا قد وجد فيمن اجتمع عليه الناس إلى اضطراب أمر بني أمية ووقعت بينهم الفتنة زمن الوليد بن يزيد، فاتصلت بينهم إلى أن قامت الدولة العباسية فاستأصلوا أمرهم، وهذا العدد موجود صحيح إذا اعتبر.
قال: وقد يحتمل وجوها أخر، والله أعلم بمراد نبيه اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله بعد نقل كلام القاضي وكلام لابن الجوزى (وينتظم من مجموع ما ذكراه أوجه: أرجحها الثالث من أوجه القاضي ؛ لتأييده بقوله في بعض طرق الحديث الصحيحة "كلهم يجتمع عليه الناس" وإيضاح ذلك أن المراد بالاجتماع انقيادهم لبيعته، والذي وقع أن الناس اجتمعوا على أبى بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي إلى أن وقع أمر الحكمين في صفين، فسمي معاوية يؤمئذ بالخلافة، ثم اجتمع الناس على معاوية عند صلح الحسن، ثم اجتمعوا على ولده يزيد ولم ينتظم للحسين أمر بل قتل قبل ذلك، ثم لما مات يزيد وقع الاختلاف إلى أن اجتمعوا على عبد الملك بن مروان بعد قتل ابن الزبير، ثم اجتمعوا على أولاده الأربعة: الوليد ثم سليمان ثم يزيد ثم هشام، وتخلل بين سليمان ويزيد عمر بن عبد العزيز، فهؤلاء سبعة بعد الخلفاء الراشدين، والثاني عشر هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك اجتمع الناس عليه لما مات عمه هشام، فولي نحو أربع سنين ثم قاموا عليه فقتلوه، وانتشرت الفتن وتغيرت الأحوال من يومئذ ولم يتفق أن يجتمع الناس على خليفة بعد ذلك، لأن يزيد بن الوليد الذي قام على ابن عمه الوليد بن يزيد لم تطل مدته بل ثار عليه قبل أن يموت ابن عم أبيه مروان بن محمد بن مروان ولما مات يزيد ولي أخوه إبراهيم فغلبه مروان، ثم ثار على مروان بنو العباس إلى أن قتل، ثم كان أول خلفاء بني العباس أبو العباس السفاح، ولم تطل مدته مع كثرة من ثار عليه، ثم ولي أخوه المنصور فطالت مدته، لكن خرج عنهم المغرب الأقصى باستيلاء المروانيين على الأندلس، واستمرت في أيديهم متغلبين عليها إلى أن تسموا بالخلافة بعد ذلك، وانفرط الأمر في جميع أقطار الأرض إلى أن لم يبق من الخلافة إلا الاسم في بعض البلاد، بعد أن كانوا في أيام بني عبد الملك بن مروان يخطب للخليفة في جميع أقطار الأرض شرقاً وغرباً وشمالاً ويميناً مما غلب عليه المسلمون، ولا يتولى أحد في بلد من البلاد كلها الإمارة على شيء منها إلا بأمر الخليفة، ومن نظر في أخبارهم عرف صحة ذلك فعلى هذا يكون المراد بقوله "
فظهر أن تأويل حديث صحيح: حديث الإثنا عشر إماما مسألة خلافية في الفروع، لا يكفر عليها أحد.
إلا أن الآراء التي تعتبر الملوك المتغلبين بالسيف خلفاء، والتي تعتبر ولاية العهد صيغة من صيغ الشورى التي يمكن حسب زعمهم عقدها بفرد واحد، ودليلهم : استخلاف أبي بكر لعمر، فهي آراء فيها نظر، واعتمادها كان سببا من أسباب اختلال أركان الدين المحمدي الأصيل.
واستقر رأي السلفية على ما ورد في قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله تعالى : "وفي الصحيحين عن جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يزال هذا الأمر عزيزا إلى اثنى عشر خليفة كلهم من قريش ولفظ البخاري اثنى عشر أميرا وفي لفظ لا يزال أمر الناس ماضيا ولهم أثنا عشر رجلا وفي لفظ لا يزال الإسلام عزيزا إلى أثنى عشر خليفة كلهم من قريش، وهكذا كان: فكان الخلفاء أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ثم تولى من اجتمع الناس عليه وصار له عز ومنعة معاوية وابنه يزيد ثم عبد الملك وأولاده الأربعة وبينهم عمر بن عبد العزيز وبعد ذلك حصل في دولة الإسلام من النقص ما هو باق إلى الآن فإن بني أمية تولوا على جميع أرض الإسلام وكانت الدولة في زمنهم عزيز" .
فالواضح أن ابن تيمية لم يترك أي احتمال لوحدة الأمة بعد ملوك بني أمية، ولم يكن له أي اعتبار للإمام المهدي المنتظر. فأمر الأمة كله بعد بني أمية: خوارج بعد خوارج، إلى يوم القيامة.
رأي الشيعة في حديث الإثنا عشر إماما:
من أجل ذلك حق لإخواننا الشيعة رفض هذه الاجتهادات ، كما هو الظاهر من كلام آية الله الشيخ جعفر السبحاني في كتاب : أضواء على عقائد الشيعة الإمامية: يقول:
ولا يكاد ينقضي تعجبي من القاضي عياض وابن حجر كيف يعرفان هؤلاء بمن عز بهم الإسلام والدين وصار منيعا وفيهم يزيد بن معاوية ذلك السكير المستهتر الذي كان يشرب الخمر ويدع الصلاة، ولم يكتف بذلك بل ضرب الكعبة بالمنجنيق، وأباح المدينة ثلاثة أيام بأعراضها وأموالها وأنفسها بعد قتله لابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) الحسين بن علي (عليه السلام) وأخوانه وأبنائه وخيرة أصحابه، وسير بنات رسول الله (صلى الله عليه وآله) سبايا دون حرمة لجدهم إلى الشام من أرض كربلاء، فليت شعري ما هو ميزان القوم في تفسيرهم للسنة النبوية وتعاملهم معها؟ وكل الحقائق تكذب ما ذهبوا إليه وما صرحوا به.
وهل اعتز الإسلام بعبد الملك الذي يكفي في ذكر مساوئه تنصيبه الحجاج على العراق فقتل من الصحابة والتابعين ما لا يخفى؟ !
وكيف اعتز الدين بالوليد بن يزيد بن عبد الملك المنتهك لحرمات الله حاول أن يشرب الخمر فوق ظهر الكعبة ففتح المصحف فإذا بالآية الكريمة: { وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ }، فألقاه ورماه بالسهام وأنشد:
تهددني بجبار عنيد * فها أنا ذاك جبار عنيد
إذا ما جئت ربك يوم حشر * فقل يا رب مزقني الوليد
ومن أراد أن يقف على جنايات الرجل وأقربائه وأجداده فليقرأ التاريخ الذي اسودت صفحاته بأفعالهم الشنيعة التي لا يسترها شئ ولا يغفل عنها إلا السذج والبلهاء.اهـ.
أما ما يعتقده إخواننا الشيعة في المسألة:
فلربما وقعوا في نفس أخطاء التعيين والتوقيت والتوريث للأئمة الإثنا عشر. وزادوا على ذلك ما ليس فيه نص صريح يتفق عليه أهل السنة : صفة العصمة لجميع أئمتهم دون سواهم.
فهم ينطلقون من نفس النصوص المخبرة عن الأئمة الإثنا عشر، ثم يضيفون إليها أحاديث في النص عليهم. وهذا فيه من الصواب ما هو معترف به: النص على ولاية علي، والنص على ولاية الحسن والحسين قاما أو قعدا... ثم يعتمدون مقالة نص وتوريث كل إمام لمن يليه. وهو نظر ليس من المتفق عليه لا بينهم وبين أهل السنة، ولا حتى بين طوائف الشيعة نفسهم.
يقول آية الله الشيخ جعفر السبحاني في المصدر المذكور أعلاه:
تعرف الشيعة الإمامية بالفرقة الاثنا عشرية، ومبعث هذه التسمية هو اعتقادهم باثني عشر إماما من بني هاشم نص عليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، كما هو معلوم للجميع، ثم نص كل إمام على الإمام الذي بعده، بشكل يخلو من الشك والإبهام.
ولقد تضافر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه يملك هذه الأمة اثنا عشر خليفة كعدد نقباء بني إسرائيل، وكما هو معلوم ومبسط في كتب الشيعة بشكل لا يقبل الشك.
إن هذه الروايات مع ما فيها من المواصفات لا تنطبق إلا على أئمة الشيعة والعترة الطاهرة "وإذا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو الشجرة وهم أغصانها، والدوحة وهم أفنانها، ومنبع العلم وهم عيبته، ومعدن الحكم وهم خزائنه، وشارع الدين وهم حفظته، وصاحب الكتاب وهم حملته" . فتلزم علينا معرفتهم، كيف وهم أحد الثقلين اللذين تركهما الرسول (صلى الله عليه وآله)، قدوة للأمة ونورا على جبين الدهر.اهـ.
وهذا كلام فيه من الصواب ما يتفق عليه عقلاء أهل السنة، إذ لا يعقل أن يتخذ يزيد الملعون ولا غيره من فسقة ملوك بني أمية أئمة للهداية والاستقامة.
ثم بعد استقصاء جميع صيغ حديث الأئمة الإثنا عشر، المعترف بها عند الفريقين، يضم إليها آية الله الشيخ جعفر السبحاني أحاديث أخرى في مقاربته للدلالة عليهم فيقول:
"وهذه الأحاديث من أنباء الغيب ومعجزات النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، خصوصا إذا ضمت إليها أحاديث الثقلين والسفينة وكون أهل بيت النبي أمانا لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء...
ثم يقول: فالأئمة الاثنا عشر المعروفون بين المسلمين، والذين ينادي بإمامتهم الشيعة الإمامية، والذين أولهم علي أمير المؤمنين وآخرهم المهدي تنطبق عليهم تلك العلائم، ومن وقف على حياتهم العلمية والاجتماعية والسياسية يقف على أنهم هم المثل الأعلى في الأخلاق، والقمة السامقة في العلم والعمل والتقوى والإحاطة بالقرآن والسنة، وبهم حفظ الله تعالى دينه وأعز رسالته.اهـ.
أقول : وكأنه سبقني وقد أردت أن أعترض عليه بما جاء في صيغة الحديث " كلهم تجتمع عليهم الأمة "
فيكون جوابه : قوله: " وأما ما ورد في بعض هذه الطرق أن: " كلهم تجتمع عليهم الأمة " فهو على فرض الصحة، فالمراد منه تجتمع على الإقرار بإمامتهم جميعا وقت ظهور آخرهم... اهـ
وللسيد محمد تقي الحكيم توضيح للمسألة يقترب من رأي ابن عربي في إمامة الباطن وإمامة الظاهر:
المراد من بقاء الأمر فيهم بقاء الإمامة والخلافة بالاستحقاق، لا بالسلطة الظاهرية، لأن الخليفة الشرعي خليفة يستمد سلطته من الله، وهي في حدود السلطة التشريعية لا التكوينية، لأن هذا النوع من السلطة هو الذي تقتضيه وظيفته باعتباره مشرعا، ولا ينافي ذلك ذهاب السلطة منهم في واقعها الخارجي وتسلط الآخرين عليهم...
والذي يرجح مما رشح من التاريخ من حقائق، أن أئمة أهل البيت الإثنا عشر الذين يحصيهم إخواننا الشيعة، ويثني عليهم عقلاء أهل السنة هم :
1/ علي بن أبي طالب رضي الله عنه . 2/ الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. 3/ الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه . 4/ علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب: زين العابدين . 5/ محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب: الباقر 6/. جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب: الصادق . 7/ موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب: الكاظم . 8/ علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن أبي طالب: الرضا.9/ محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب: الجواد.10/ علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب: الهادي. . 11/ الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب: العسكري. 12/. محمد بن الحسن العسكري ويسمى كذلك: الغائب ، و الخائف ، والمنتظر .
أما قول بعض المحققين من أهل السنة بخصوص عدم انطباق تلك الروايات على غير أهل البيت عليه السلامكما وردت في موقع ويكي شيعة :
قال بعض المحققين من أهل السنة: إنّ الأحاديث الدالة على كون الخلفاء بعده صلى الله عليه وآله وسلم اثنا عشر قد اشتهرت من طرق كثيرة، فبشرح الزمان وتعريف الكون والمكان، علم أن مراد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من حديثه هذا الأئمة الاثنا عشر من أهل بيته وعترته، إذ لا يمكن أن يحمل هذا الحديث على الخلفاء بعده من أصحابه، لقلتهم عن اثني عشر، ولا يمكن أن يحمله على ملوك الأمويين لزيادتهم على اثني عشر، ولظلمهم الفاحش ولكونهم غير بني هاشم، لأنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال «كلهم من بني هاشم» في رواية، ولا يمكن أن يحمله على الملوك العباسيين لزيادتهم على العدد المذكور، ولقلة رعايتهم الآية «قل لا أسألكم عليه أجرأ إلا المودة في القربى» وحديث الكساء، فلا بد من أن يحمل هذا الحديث على الائمة الاثني عشر من أهل بيته وعترته صلى الله عليه وآله وسلم لأنّهم كانوا أعلم أهل زمانهم وأجلهم وأورعهم وأتقاهم، وأعلاهم نسبا، وأفضلهم حسبا، وأكرمهم عند الله، وكان علومهم عن آبائهم متصلا بجدهم صلى الله عليه وآله وسلم وبالوراثة واللدنية.
وفي إقرار كبار علماء أهل السنة بأفضلية الأئمة الاثنا عشر ما ورد في المصدر السابق ويكي شيعة:
أقرّ الكثير من علماء أهل السنة بأفضلية الأئمة الاثني عشر من أهل البيت عليه السلام، وهذه الاعترافات توزعت على نحوين: بعضها أقرّ بأفضليتهم بنحوٍ عام؛ وبعضها أقرّ بأفضلية كل واحد من أئمة أهل البيت عليه السلام على من سواه، و من تلك الروايات:
صرّح محي الدين بن عربي بمنزلة أهل البيت عليه السلام بقوله: «أنّه لم يوجد في عالم الخلق من يوازي أهل بيت النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم)، فهم الأولى والأحق بالسيادة وعداؤهم بمثابة الخسران المبين ومحبتهم عين العبادة».
وقال الشيخ عبد الله الشبراوي الشافعي (المتوفى سنة 1172) وشيخ الجامع الأزهر في عصره في كتابه الاتحاف بحب الاشراف: «قال بعض أهل العلم: إنّ آل البيت حازوا الفضائل كلّها علما وحلما وفصاحة وصباحة وذكاء وبديهة وجودا وشجاعة، فعلومهم لا تتوقف على تكرار درس، ولا يزيد يومهم فيها على ما كان بالأمس بل هي مواهب من مولاهم، من أنكرها وأراد سترها كان كمن أراد ستر وجه الشمس، فما سألهم في العلوم مستفيد ووقفوا، ولا جرى معهم في مضمار الفضل قوم إلا عجزوا وتخلفوا».
وخاطبهم الإمام الشافعي إمام المذهب الشافعي بقوله:
يا آل بيت رسول الله حبكم ... فرض من الله في القرآن أنزله
كفاكم من عظيم القدر أنكم ... من لم يصل عليكم لا صلاة له.
وقال أستاذ الازهر الشيخ محمد حسين الذهبي وصاحب كتاب التفسير والمفسرون مطريا على شخصية الإمام أمير المؤمينين عليه السلام: «هو أبو الحسن، عليّ بن أبي طالب بن عبد المطلب، القرشي الهاشمي، اجتمع فيه من الفضائل ما لم يحظ به غيره، فمن ورع في الدين، إلى زهد في الدنيا، إلى قرابة وصهر برسول الله (صلى الله عليه وآله)، إلى علم جم وفضل غزير... و كان بحراً في العلم، قوي الحُجَّة، سليم الاستنباط، أُوتِيَ الحظ الأوفر من الفصاحة والخطابة والشعر، وكان ذا عقل قضائي ناضج، وبصيرة نافذة إلى بواطن الأُمور، وكثيراً ما كان يرجع إليه الصحابة في فهم ما خفي واستجلاء ما أشكل».
ووصف ابن الصباغ المالكي ( المتوفى 855) علم أمير المؤمنين عليه السلام في كتابه الفصول المهمة، بقوله: «أما علم الفقه الّذي هو مرجع الأنام ومجمع الأحكام ومنبع الحلال والحرام، فقد كان عليّ عليه السلام مطّلعاً على غوامض أحكامه، منقاداً له جامحاً بزمامه، مشهوداً له فيه بعلوّ محلّه ومقامه، ولهذا خصّه رسول اللَّه (ص) بعلم القضاء».
وأما محمد بن مسلم الزهري (المتوفى 124) أحد الفقهاء والمحدثين والأعلام التابعين بالمدينة، وممن حفظ علم الفقهاء السبعة، فقد قال في وصف الإمام السجاد عليه السلام: «ما رأيت أفقه من زين العابدين».
وقال عبد الله بن عطاء وهو من العلماء المعاصرين للإمام الباقر عليه السلام في وصف المنزلة العلمية الرفيعة للإمام الباقر عليه السلام: «ما رأيت العلماء عند أحد قط أصغر منهم عند أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين عليه السلام، ولقد رأيت الحكم بن عتيبة (عيينة) مع جلالته في القوم بين يديه كأنّه صبي بين يدي معلمه».
وعندما سئل إمام المذهب الحنفي (أبو حنيفة النعمان بن ثابت) عن الأفقه في زمانه، قال: «ما رأيت أحداَ أفقه من جعفر بن محمد الصادق عليه السلام».
وروي عن مالك بن أنس إمام المذهب المالكي والمتوفى عام 174 هجرية، أنه قال: «ما رأت عین ولا سمعت أذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد الصادق عليه السلام علماً وعبادةً وورعاً».
وقال أبو عثمان عمر بن بحر الجاحظ (المتوفى 255 هجرية) في وصف الصادق عليه السلام: «جعفر بن محمد عليه السلام الذي ملأ الدنيا علمه وفقهه، ويقال: إنّ أبا حنيفة من تلامذته، وكذلك سفيان الثوري، وحسبك بهما في هذا الباب».
الى غير ذلك من كلمات الثناء والاعتراف لهم عليه السلام بالتقدم في العلم والحلم والمنزلة الرفيعة.
اهـ.
أقول :
بناء على ما جاء من احتجاج الفريقين، تبقى هناك مسائل قابلة للبحث والدراسة:
ما هو موقع نصوص صحيحة أخرى لم يذكروها في الدلالة على الأئمة الإثنا عشر؟ أخص منها بالذكر: حديث " تجديد الدين على رأس كل مائة سنة"، وحديث " لا تخلو الارض من حجة ، اما ظاهراً مشهوراً واما خائفاً مغموراً" ، وحديث : "من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية".
يجيب إخواننا الشيعة على هذه المسألة الأخيرة : أمام الزمان في عصرنا الحاضر هذا هو الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري ويسمى كذلك: الغائب ، و الخائف ، والمنتظر...
فإن اقتنع إخواننا بهذا الجواب فلهم اجتهادهم في هذه المسألة الفرعية. ومعلوم في علم الأصول أنه لا يكفر الإنسان في مسألة في الفروع ... ولكن تبقى لديهم مشكلة في إقناع الناس برأيهم إذا أخذنا بعين الاعتبار صفة "الإمام الجامع للأمة" التي وردت في صيغ الحديث، ولصفة مجدد القرن - إذ لا يعقل أن يكون مجدد القرن مخفيا - ولصفة إمام الزمان الظاهر المشهور الذي تؤخذ منه البيعة: أي موحد الأمة بدولة ممتنعة عن دولة ممثل الدجال. وهي من المشكلات التي سنبحث فيها في الفصول المقبلة إن شاء الله.
انطلق البرنامج الإخواني السياسي للقرن الماضي من حديث الخلافة، ساعيا عبر تنظيم خلوي عصري، وتربية تعليمية على منهاج السنة لإقامة الخلافة. والحديث الذي يرتكزون عليه، والذي كان حاضرا عند القرضاوي، وبن لادن، وياسين، يروونه بأسانيده بالصيغة التي تذكر الخلافة الثانية : "تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم تكون ملكا عاضا، ثم تكون ملكا جبرية، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة" رُوي هذا الحديث من رواية أبي عبيدة بن الجراح وعبد الله بن عباس وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهم.
والحديث يفيد أن اجتماع الأمة تحقق في القرن الأول ولن يتحقق مرة أخرى إلا بالخلافة الأخيرة على منهاج النبوة في زمان المهدي المنتظر. فنفهم من تأويلهم للحديث، أن بين زمان الخلافتين تكون فترة لا يكون خلالها أي وحدة للأمة.
وعلى فرضية صحة صيغة الحديث المذكور، سنبين أن معتقد الإخوان الانتظاري للخلافة الثانية، يوافق معتقد الشيعة الإمامية لزمان الغيبة. وكلا الموقفين يتعارضان مع أحاديث أخرى تفيد عكس ما يتوهمون من ضمور شامل للحجة في زمان الفترة. ذلك قبل ظهور اجتهاد الخميني للقرن الحاضر، لمعالجة أمر الانتظارية، أو الفترة.
الإخوان وكذا الإمامية ما قبل الخميني كانوا في القرن الماضي، من هول صدمة انقراض الخلافة العثمانية سنة 1924، قد ظهرت لهم علامات الساعة، فتوهموا أن الخلافة الثانية ستكون غدا. بل منهم من اعتمد على ما تبقى من الوحي : الرؤيا الصالحة لكي يوقت سنة تحقق الوعد بالضبط.
أما قولهم عن صحة الحديث فنورد ما حققه حوله الأستاذ صلاح الدين بن أحمد الإدلبي - وهو أستاذ سابق لمادة الحديث الشريف وعلومه في سوريا والمغرب والسعودية ودبي وغيرها-. بعد عرض كل صيغ الحديث وأسانيدها يستنتج ويقول: خلاصة الأمر أن هذا الحديث بفقراته الثلاثة الأول "تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ثم تكون ملكا عاضا" صحيح بطرقه، حيث تشهد له الرواية الأولى من حديث حذيفة الجيدة الإسناد، وهي بلفظ "أنتم في نبوة ورحمة وستكون خلافة ورحمة وتكون ملكا عضوضا"، والرواية الثانية منه الضعيفة الإسناد، وتشهد له الطرق الضعيفة من حديث أبي عبيدة بن الجراح، وأن هذه الكلمة التي في آخر الحديث "ثم تكون خلافة على منهاج النبوة" هي مما يجب أن يُتوقف فيه، بسبب الشك في معرفة حال أحد رواة السند وتفرده بها. والله أعلم.اهـ.
والمنهاج الإخواني المعتمد على الصيغة الكاملة للحديث، يقترب من المنهاج الإمامي ما قبل الخميني. فالمنهاجان لا يذكران أي ظهور ممكن للدولة الإسلامية الواحدة، إلا ما سوف يحققه المهدي المنتظر. والفرق بين المنهاجين هو فقط في تعيين هذا الإمام... فهو حسب الإمامية الإمام الغائب الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري. وهو عند أهل السنة من الفرع الحسني، ولا وجود له اليوم بين الناس.
والاختلاف أيضا بين المنهاجين في مدة زمان الفترة/الغيبة. فهو عند الإخوان: يمتد ما بعد وفاة الإمام علي كرم الله وجهه سنة 40 للهجرة، إلى آخر الزمان. أما عند الإمامية فهو ما بعد تاريخ الغيبة الكبرى التي جاءت بعد 70 سنة من الغيبة الصغرى، أي من سنة 329 هـ. إلى حين رجوع المهدي المنتظر. وقد كانت ولادته سنة 15 شعبان 255 ﻫ. ثم غاب في السرداب كما يزعمون. إلى غير ذلك من المعتقدات الفرعية التي لا تلزم إلا أصحابها، ولا ينبغي أن تكون مسوغة للتكفير والتكفير المضاد.
والذي يهمنا في هذه التفاصيل هو رأي الفريقين في زمان الفترة. أنه لا أمل للمسلمين في أي نهضة أو وحدة أو ظهور بالحق على دولة ممثل الدجال. والأمر لم يتغير عند الإخوان: خاصة لما ساروا على منهاج القرن الماضي، ربما وراء الشباب الحالم المنتقل لطور إعلان الخلافة الوهابية التكفيرية على لسان البغدادي. وكان للبغدادي من الممهدات الوجودية - لئلا ينعت بدولة ضرار - تكفير الشيعة الذين سبقوا في بناء أول دولة متحررة من دولة ممثل الدجال لهذا الزمان. وقد قدر الله لإخواننا الشيعة ذلك الظهور، بعد اعتماد اجتهادات الخميني لمعالجة فقه الغيبة/ الفترة.
ولبث الإخوان متمسكين باجتهاد القرن الماضي لمعالجة المسألة، حتي بعد تلاشي حلم الخلافة بالنسبة لفريق، وبعد فشل تجارب الدولة التكفيرية لفرق السلفية الجهادية. فهم اليوم مصروفون عن فريضة التعاون على البر والتقوى مع أول حجة قدر الله له الظهور بدولة متحررة. بل بعضهم تم شحنهم وتوظيفهم وتمويلهم من لدن دولة ممثل الدجال وحلفائها، ليشكل عصابات ضرارية، تدمر كل شيء عارضها. وهم بقايا لأسلافهم القاتلين لوحدة الأمة :
• الناكثون/العلمانيون من الإخوان،
• القاسطون/النواصب من أهل سنة معاوية،
• المارقون الخوارج/ المكفرون لأهل القبلة من أجل استباحة أرواحهم وأعراضهم وأموالهم.
عاملهم المشترك كفر نعمة ظهور الحجة بدولة ممتنعة، وتعلقهم بخرافة خلافتهم المعارضة الضرارية. فهم - إن لم يعجلوا بواجب شكر النعم -، معرضون لتأديب النقم ، في عداد من قال الله في حقهم بسبب إجرامهم: {{ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَىٰ إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)}}: ( سورة الأحقاف).
لقد احتار فقهاء الإمامية بعد الغيبة الأخيرة للإمام الثاني عشر، الذي يعتبرونه هو المهدي المنتظر.
أصل حيرة واختلاف فقهاء الشيعة جاءهم من جهة الاشتراط على الله، أن يكونوا هم الذين يختارون و يعينون أو يورثون منصب الإمامة. وقد فات أن بينت أن هذا الأمر تتحكم فيه قوانين الله القدرية : {{ ...اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ...}} ( الأنعام: 124)، إذا تعذرت الشورى القرآنية المرجحة برأي العترة. الموصى بها في حديث الثقلين الخليفتين " كتاب الله وعترتي".
ونفس الحيرة والوجوم أصاب أهل السنة الذين تورطوا هم كذلك في التعيين والتوقيت. لما انقضى عدد الأئمة الإثنا عشر الذين أحصوهم في بني أمية، سقط في أيديهم، لما تساءلوا ثم ماذا بعد؟
والسؤال ثم ماذا بعده؟ طرحه كذلك فقهاء الشيعة. فظهرت الفرق كل يجتهد في هذه المسألة حسب فهمه وأهليته للاجتهاد.
وكما قلت من قبل إن لكل باحث الحق في التفكر فيها، وبينت أنها قابلة لمنطق الفترة التي كانت بين الرسل، قرون وقرون بين رسول والذي يليه، فهو احتمال توزيع الأئمة التسعة الذين لم يرد فيهم نص نبوي، بعد النص على علي والحسن والحسين، على امتداد التاريخ إلى أن يظهر في آخر الزمان ختمهم المهدي المنتظر.
وهذه النظرية كانت ستبدد الحيرة والاختلاف عن الفقهاء شيعة كانوا أو سنة. وتزيل عنهم عنت التكلف بما تكفل الله بإظهاره، عن طريق قوانينه القدرية، خاصة قانون مجدد القرن وغيره.
أما وقد وقع قدر افتراق الأمة بعد رفض سيدنا عمر الوصية، فكان من مهمات العلماء معالجته حسب اجتهادهم. ونحن بصدد اجتهاد فقهاء الشيعة في معالجة الحيرة بعد خلو الزمان من الحجة بعد الثاني عشر من أئمتهم.
فجاءت نظرية الغيبة للإمام الثاني عشر لإنقاذ مذهب الإمامية من الضياع في لظى الفرقة بين إخوة المذهب الشيعي.
فلما نظر بعضهم لحديث " لا تخلو الأرض من حجة" جاءوا لمعالجة التناقض بنظرية النواب أو السفراء الذين يصلون بين الحجة الغائب وبين الناس.
"ولم يتفقوا إلا على أربعة نواب مع أخذ ورد، واشترطوا لإثبات النيابة أن يأتي مدعي النيابة بدليل أو بمعجزة وكرامة تدل على اتصاله بالمهدي (وأورد الطوسي في كتاب الغيبة أخبارهم) وينقل منه الرسائل والتواقيع إلى المؤمنين به ويأخذ إليه الأموال. وكان علي بن محمد السمري خاتم النواب، وتوفي سنة 329هـ، وكان آخر توقيع نقله عن المهدي فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم.. فإنك ميت ما بينك وبين ستة أيام فاجمع أمرك ولا توصي إلي فيقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة التامة فلا ظهور إلا بعد إذن الله –تعالى ذكره– وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلوب وامتلاء الأرض جوراً وسيأتي لشيعتي من يدعي المشاهدة، ألا فمن ادعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذاب مفتر". ولما كان اليوم السادس قيل له: من وصيك من بعدك؟ فقال: "لله أمر هو بالغه" وقضى (أي مات) فهذا آخر كلام سمع منه (انظر الرواية في الغيبة للطوسي ص 242-243).
وبانقضاء الغيبة الصغرى وبدء الغيبة الكبرى التي ما بقي فيها سفراء، دخل الاثنا عشرية في غيبوبة التقية والانتظار. وكادوا على فترة من طول الغيبة، أن يعطلوا طرفا من الشرائع قرروا أنه من اختصاص الإمام المنتظر . فخلال تلك الفترة من تعطيل جزء من الدين المحمدي ظهرت اجتهادات شتى، أحصاها الباحثون في أحكام عصر الغيبة، وأحكام الظهور.
وكاد أمرهم أن يتبدد لولا أن أتى الله بأمره عبر قوانينه القدرية المظهرة للحجة حين يأتي زمانها بعد توفر شروطها، بوجود البيئة الحاضنة التي جاء دورها في التمكين والتداول على الأيام لنصرة الرسالة الخاتمة. قوم يحبهم الله ويحبونه: يكلفون بنصرة الدين المحمدي، حين يخون العرب ويعجزون.
فكأن هذا الظهور القدري للإمام الخميني مفاجئا للشيعة . ربما أكثر مما فاجأ أهل السنة . ولا تزال بعض الاجتهادات العتيقة تمنعهم من جمع شتاتهم تحت لوائه. ولا تزال هناك نظريات تمنعهم من تصور احتمال ظهور حجج الله على فترة من بعضهم البعض.
وقرنوا مسألة ظهور الحجج مستقبلا بظهور واحد فقط: رجوع الإمام الثاني عشر من غيبته الكبرى في آخر الزمان... مما يعني أن لا أمل في زمان الغيبة الكبرى في بناء دولة توحد المسلمين وتحمي بيضتهم.
أما قولهم في ظهور الحجة بعد الغيبة الكبرى، فكأنما هو تهرب من مسؤولية النضال لتوحيد المسلمين وتعاونهم على البر والتقوى. فهو الوحيد القادر في نظرهم الذي سوف يملأ الأرض عدلا بعدما ملئت جورا... وغيرها من المهمات العظيمة التي نحن في أمس الحاجة لتحقيقها اليوم، ولا يهمنا إن كان هناك أقوام بعد ملايين السنين سيحتاجون إليها كذلك في زمانهم.
خوارق الظهور:
يقولون عن مؤشرات ظهور الحجة الغائب:
من مؤشّرات آخر الزمان سيطرة الحكم الطاغوتي على العالم، وضياع الإسلام في البلاد الإسلامية وقلب مفاهيمه، وتفسير احكامه تبعاً للهوى والمصالح السياسية، حتى يعود الدين غريباً كما بدأ غريباً، فحدوده معطّلة وسننه لايعمل بها، والقرآن لايبقى إلاّ رسمه، ومؤدّى هذه الظواهر أنّ المناخ الجاهلي هو المنتشر بالآفاق، وأنّ رياح الردّة عن الإسلام بواقعه الحقيقي هي التي تعصف بالأجواء، وحين ذاك تكون ثورة الإمام المهدي عليه السلام على العرف السائد حدثاً غريباً في المبادئ المتوارثة عند الشعوب، إذ ينادي بقيم ومثل جديدة، تقلب فيها الموازين المتناحرة في الاتّجاهات والمبادئ، وتتأكد بقوة مفاهيم أخرى لاعهد لهم بها في ذلك العصر، فيدعو إلى الإسلام كما دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويبعث الإسلام حياً نابضاً بعد أنْ رثّت معالمه، وينادي به شريعة ومنهاجاً حين اندرست آثاره، فعن الإمام محمد الباقر عليه السلام أنّه قال: "إنّ قائمنا إذا قام دعا الناس إلى أمر جديد كما دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإنّ الإسلام بدأ غريباً وسيعود غربياً فطوبى للغرباء".
فهل هذه الفتن التي يشهدها عصرنا لا تشملها هذه الأوصاف؟ ألا نحتاج في عصرنا لحجة ظاهر يقوم بنفس مهمة الإمام المهدي؟
ولربما كان من الفقهاء من نسب له خوارق للعادات تجعل من المستحيل تصور منقذ غيره. ولربما منهم من عطل جانبا من الشريعة وجعلها من مهمات المهدي المنتظر خاصة. كمهمة جهاد الطلب. وغيرها مما سنذكره.
لقد حفلت أحاديث الإمامية بتفاصيل أخبار الظهور، وما بعد الظهور، جُمعت بعضها في تصانيف مستقلة، من ذلك كتاب عصر الظهور للشيخ علي الكوراني، وتاريخ ما بعد الظهور للشهيد السيد محمد باقر الصدر.
النداء
جاء في روايات أهل البيت أنّ أول ما ينطق به المهدي آية: {{ بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ}} (هود:86) فيقول وهو يستند إلى الكعبة: أنا بقيّة الله في أرضه وخليفته وحجّته عليكم ... محاجّاً بأولويته بالله والأنبياء والقرآن، ومسمّياً الأنبياء ورسول الله وخلفائه من أهل بيته معتبراً نفسه نفسهم .ثم يصرخ بثأر جدّه قائلاً: ألا يا أهل العالم إن جدّي الحسين قتلوه عطشاناً ... اللهم إني أسألك بحق [الحسين] ... المعوَّض مِن قتْله أنّ الأئمة مِن نسله والشفاء في تُربته والفوز معه في أوْبته والأوصياء مِن عترته بعد قائمهم وغيبته حتى يُدركوا الأوتار ويثأروا الثار ويُرضوا الجبّار ويكونوا خير أنصار ...
قال الإمام الباقر عليه السلام وقد سُئل عن علة تسمية القائم قائماً: لمّا قُتِل جدّي الحسين صلى الله عليه، ضجت الملائكة إلى الله عز وجلّ بالبكاء والنحيب، وقالوا: إلهنا وسيدنا، أتغفل عمّن قتل صَفوتك وابن صفوتك، وخيرتك من خلقك؟ فأوحى الله عز وجل إليهم: قَرّوا ملائكتي، فوعزتي وجلالي لأنتقمن منهم ولو بعد حين. ثم كشف الله عز وجل عن الأئمة من وُلد الحسين عليه السلام للملائكة، فسرّت الملائكة بذلك، فإذا أحدهم قائم يصلي، فقال الله عز وجل: بذلك القائم أنتقم منهم.
علامات الظهور:
كما ذكر علماء الإمامية علامات لظهور المهدي: "لخروج المهدي علامات كثيرة أوردتها المصادر بالإجمال والتفصيل، من أهمها الصيحة السماوية، وخروج عدو له ولشيعة آل محمد يُدعى بالسفياني.
الصيحة السماوية
يخرج المهدي على رأسه غمامة، فيها مناد ينادي (بصوت فصيح): هذا المهدي خليفة الله فاتبعوه.
الأربعون حديثاً في المهدي لأبي نعيم الإصفهاني، تاريخ ابن الخشاب.
قال الإمام الصادق عليه السلام في كلامه عن المهدي مستشهداً بآية: أفمن يَهدي إلى الحق أحقّ أن يُتَّبَع أمَّن لا يَهِدّي إلا أن يُهدى: ينادي مناد باسم القائم عليهالسلام، قلت: خاصٌّ أو عام؟ قال: عام يسمع كلُّ قوم بلسانهم، قلت: فمن يخالف القائم عليه السلام وقد نودي باسمه؟ قال: لايدعهم إبليس حتّى ينادي ويشكّك الناس."
خروج السفياني
ما ذكر ه الشيخ المفيد: صرّحت روايات أهل البيت في حدوث صيحتين عند خروج المهدي: صيحة باسمه وصيحة باسم بني أمية وآل أبي سفيان.
ومما ادّخرته كتب الفريقين في تفسير الآيات القرآنية، كلام حول آية: {{ ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأُخِذوا مِن مكان قريب}}، أنها في السفياني، يخرج من الشام لقتال المهدي في الروايات الشيعية.أو لقتال مَن وُصِف في روايات أهل السنة بـ"راية هُدى تخرج من الكوفة. فيخسف جبريل بكامل جيشه بين مكة ومدينة.
وعن الباقر: إذ فزعوا من الصوت وذلك الصوت من السماء وأخِذوا من تحت أقدامهم خسفٌ بهم، وقالوا آمنا به يعني بالقائم من آل محمد عليهم السلام، وأنّى لهم التناوش من مكان بعيد قال إنهم طلبوا الهُدى من حيث لا يُنال وقد كان لهم مبذولاً من حيث يُنال.
أقول : إن قمنا بتنقية هذه الروايات من عناصرها الخارقة لسنن الله، ألا نتعظ اليوم بتطابق في المهمات المنوطة بالحجة الأول سيدنا علي والمنوطة بالحجة الأخير : المهدي ، والتي يقوم بها اليوم قائد القومة الحسينية في إيران من إحياء لجهاد بغاة الناكثين والقاسطين والمارقين؟
فإن كنا معرضين عن هذه الآيات: آيات ظهور حجة هذا الزمان، فلربما كنا سنصرف عن شكر نعمة ظهور الحجة الأول و الأخير. وهذا الصرف عن توسم آيات الظهور نلاحظه اليوم ساريا عند أهل سنة معاوية وحتى عند بعض طوائف الشيعة، وقد بحثوا في كيفية التعرف عن الحجة. وخلطوا فيها بين باطل طلب المعجزات والخوارق، وبين حق الاعتبار بآيات سنن الله التي لن تجد لها تبديلا. قالوا:
" إن المنهج الصحيح في معرفة الإمام عليه السلام هو نفس المنهج المتبع في معرفة الأنبياء عليهم السلام، فكما أن الأنبياء والرسل يعرفون بالآيات والبينات والمعاجز والكرامات، كذلك يعرف الإمام عليه السلام.
فمعرفة صدق مدّعي النبوة من كذبه، هو مدى قدرته على الإتيان بالدليل القاطع من المعاجز والآيات للدلالة على ارتباطه بالسماء، وكذلك مدّعي الإمامة، فالذي يدعي أنه الإمام من قبل الله عز وجل لابد وأن يأتي بالبرهان على صحة مقالته، كالمعاجز والقدرات الخارقة للطبيعة، التي يعجز عنها غيره، ليدل على ارتباطه بخالق الكون وأنه الإمام الموصى به من قبل الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله.. فإذا أتى بذلك كان هو الإمام الحق كإحياء الموتى وشفاء المرضى الذين يئس الأطباء من معالجتهم، وإذا لم يستطع القيام بذلك فهو مدعٍ كاذب ولا دليل عنده يقطع بصدق مدّعاه.
وفي هذا الصدد بين القرآن الكريم كيفية التعرف على الإمام قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(٢٣٦) فالبينات هي المعاجز، والزبر هي الكتب السماوية والعلوم الرّبانية، فإذا أتى بالآيات والمعاجز دلّ على كونه مرتبطاً بالله عز وجل، وأنه حقاً المهدي المعني من قبل السماء، وإذا أتى بما في الكتب السماوية من أحكام الله وبيناته دل على ارتباطه بالأنبياء والمرسلين منهجاً وسلوكاً، وقد جاء في الحديث الشريف على ضرورة مطالبة مدّعي الإمامة بالآيات والمعاجز.. عن المفضل بن عمر عن الإمام الصادق عليه السلام: (إن لصاحب هذا الأمر غيبتين يرجع في إحداهما إلى أهله، والأخرى يقال: هلك في أي واد سلك، قلت: كيف نصنع إذا كان ذلك؟ قال: إن ادّعى مدّعٍ فاسألوه عن تلك العظائم التي يجيب فيها مثله)(٢٣٧).. فإذا أتى بها فهو الإمام حقاً وصدقاً بما لا يترك بعدها لأحدٍ مجالاً للإنكار.
ويبقى السؤال: ماهي معجزة الإمام المهدي عليه السلام؟.. لاشك أن لكل نبي وإمام معجزة للدلالة على مدعاه بأنه مرسل من قبل الله، فما هي معجزة الإمام المهدي عليه السلام بأنه هو الإمام حقاً؟.. إن للإمام معاجز كثيرة بل جاء في أحاديث عديدة أنه يأتي بمعاجز الأنبياء كلها لتثبيت إمامته ورسالته وأنه الإمام المنتظر حقاً في محاولة واضحة لدحض أكاذيب الأعداء والمنافقين.
أما الأدلة والمعاجز التي عنده عليه السلام والتي لاتدع لأحد من الناس أي مجال للطعن والتشكيك في إمامته عليه السلام فهي عديدة، أشارت إليها أحاديث أهل البيت عليهم السلام.. عن الإمام الصادق عليه السلام: (ما من معجزة من معجزات الأنبياء والأوصياء إلا ويظهر الله تبارك وتعالى مثلها في يد قائمنا لإتمام الحجة على الأعداء).
ولعل أهم معجزة هي معجزة النداء باسم القائم عليه السلام ولكون هذه العلامة من المعاجز الواضحة التي تشخص بوضوح أن القائم عجل الله فرجه الشريف هو الإمام المنتظر حقاً بشخصه الكريم، لا غيره من الناس أو المدّعين لهذا الأمر بحيث يكون النداء حجة دامغة على المعاندين المنحرفين وعلى الناس أجمعين.. عن أبي بصير عن الإمام الصادق عليه السلام: (.. إن قدام هذا الأمر خمس علامات أولهن النداء في شهر رمضان.. ولا يخرج القائم حتى ينادى باسمه في جوف السماء في ليلة ثلاث وعشرين في شهر رمضان ليلة جمعة، قلت: بما ينادى؟ قال: باسمه واسم أبيه.. ألا إن فلان بن فلان قائم آل محمد فاسمعوا له وأطيعوه، فلا يبقى شيء من خلق الله فيه الروح إلا سمع الصيحة فتوقظ النائم ويخرج إلى صحن داره، وتخرج العذراء من خدرها، ويخرج القائم مما يسمع وهي صيحة جبرائيل عليه السلام).
إذن المعاجز والآيات التي تكون للإمام المهدي عليه السلام عديدة وكثيرة وواضحة وبها تتم الحجة على الأعداء، وعلى جميع الناس، فمع آية النداء باسمه الشريف، وإتيانه بالكتب المقدسة التي أنزلها الله تعالى على الأنبياء والرسل، وعلمه الراسخ بها وبأحكامها، وحمله لمواريث الأنبياء والرسل وخاصة رسالة جده المصطفى صلى الله عليه وآله، بل والمعاجز التي كانت للأنبياء والأوصياء من قبل الله تعالى.. كل هذا وغيره تجعل من القدرات والمؤهلات والعلوم التي يحملها الإمام عجل الله فرجه الشريف شيئاً معجزاً وخارقاً لا يمكن أن يحملها إنسان غيره.
وبالمهدي من آل محمد والقائم من أهل بيت الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، وبالمعاجز التي يجريها الله عز وجل على يديه تتم الحجة على الناس، فمن آمن كان من الآمنين، ومن كفر كان من الهالكين، فلا يبقى لأحدٍ حجة بعد هذه الأدلة والمعاجز." اهـ
ويذكرون كذلك خوارق أخرى يستدلون عليها بأحاديث من تراث أئمة أهل البيت:
ورد عن أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قول الله عزَّ وجلَّ: (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ) قال عليه السلام: "المهديّ وأصحابه يملّكهم الله مشارق الأرض ومغاربها، ويظهر الدِّين. ويميت الله عزَّ وجلَّ به وبأصحابه البدع والباطل كما أمات السفهةُ الحقّ، لا يُرى أثر من الظلم، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ولله عاقبة الأمور".
وتشير بعض الأحاديث إلى أنّ دولة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف الّتي سيقيمها ستكون أعظم من الدولة الّتي أقامها النبيّ سليمان وذو القرنين. عن الإمام عليّ عليه السلام:"إنّ ملكنا أعظم من مُلْك سليمان بن داود، وسُلطاننا أعظم من سلطانه".
وتضافرت الأحاديث عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأوصيائه عليهم السلام أنّ الإمام المنتظرعجل الله تعالى فرجه الشريف يملك الدنيا بأسرها وتدين لإمامته جميع شعوب العالَم وأمم الأرض.
6- التأييد الإلهيّ المطلق والدعم الكامل لها، لأنّ الله سبحانه وتعالى وعد في كتابه الكريم بالوقوف إلى جانب الحقّ والعدل أينما وجد، وفي كلّ زمان ومكان، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ).
وعن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: "إنّ الملائكة الّذين نصروا محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر في الأرض ما صعدوا بعد، ولا يصعدون حتّى ينصروا صاحب هذا الأمر، وهم خمسة آلاف".
ودولة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف الّتي ستقوم في آخر الزمان هي واحدة من أبرز مصاديق العدل ونصرة الدِّين الإلهيّ، فلا شكّ بأنّها ستحظى بتأييد الله ودعمه.
7- تكامل الوعي البشريّ، فلا يعود هناك مجال لقوى الاستكبار في أن تتحكّم في عقول البشر وتسير بهم وفق إرادتها وتسخيرهم لمصالحها. فمن خلال دولة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف ينتشر الوعي وتتفتّح الأذهان والعقول، وتتوحّد الرؤية والنظرة إلى القضايا بمجملها.
روي عن الإمام الباقر عليه السلام قال: "إذا قام قائمُنا وضع الله يده على رؤوس العباد، فجمع بها عقولهم، وكَمُلت به أحلامهم".
8- تطوّر الحياة في عصره، فإنّ وسائل الحياة الاجتماعيّة الّتي يستخدمها البشر في عصرنا الحاضر قد تتغيّر وتختلف في دولة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف الّتي سخّر الله لها ولقائدها وأصحابه الدنيا بما فيه، بحيث تُسهَّل لهم إدارة شؤون الدولة ولو بوساطة القضايا الإعجازية الّتي يوفّرها الله لهم. والتطوّر في الدولة المهدويّة يشمل جميع العلوم في شتّى الميادين العلميّة والتكنولوجيّة، ولعلّ الدليل الأهمّ على ذلك هو مقدار العلم الّذي يُخرجه الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف.
فعن مقدار العلم يروي أبان عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "العلم سبعة وعشرون جزءاً، فجميع ما جاءت به الرسل جُزءان، فلم يعرف الناس حتّى اليوم غير الجزءين، فإذا قام القائم أخرج الخمسة والعشرين جزءاً، فبثَّها في الناس وضمّ إليها الجزءين، حتّى يبثّها سبعة وعشرين جزءاً".
وممّا يُشير إلى انتشار الثقافة والمعرفة، ما روي عن الباقر عليه السلام: "وتؤتون الحكمة في زمانه حتّى أنّ المرأة لتقضي في بيتها بكتاب الله تعالى وسنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم".
9- تسخير قوى الطبيعية للدولة المهدويّة وقياداتها، وهذا أيضاً نوع من التأييد الإلهيّ لها، ومظهر من مظاهر تجلّياته، ونتاج طبيعيّ له، وذلك من أجل توفير كلّ العوامل الّتي تساعد هذه الدولة على تثبيت أركانها وتقوية دعائمها وبسط نفوذها وسيطرتها على المقدّرات الطبيعيّة.
عن الإمام الصادق عليه السلام قال:"إذا تناهت الأمور إلى صاحب هذا الأمر، رفع الله تبارك وتعالى له كلّ منخفض من الأرض، وخفض له كلّ مرتفع، حتّى تكون الدنيا عنده بمنزلة راحته، فأيُّكم لو كانت في راحته شعرةٌ لم يُبصرها.
10- إحياء الدِّين وبعث الإسلام من جديد وتعميمه على العالَم، لذلك نقرأ في دعاء الندبة: "أين محيي معالم الدِّين وأهله"، فالإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف سيُحيي هذا الدِّين بعد أن مات في قلوب العباد، دينُ ( الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ)، دينُفَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ، دينُ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم، دينُ المستضعفين والمظلومين الّذين وعدهم الله بوراثة هذه الأرض، يقول تعالى: (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ).
وهذا المعنى هو ما أشارت إليه الآية الكريمة هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ).
حيث ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام في تفسيرها: "أَظْهَرَ ذلك بعدُ؟ كلّا والّذي نفسي بيده، حتّى لا تبقى قرية إلّا ونودي فيها بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله بُكْرةً وعشيّا".
فالهدف الإلهيّ من إقامة مشروع الدولة العادلة على يد الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف هو كما روي عن الصادق:عليه السلام "... ويَبْلُغَنَّ دينُ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ما بلغ الليلُ حتّى لا يكون شركٌ على وجه الأرض.".
أقول: هذا الكلام من باب علم الفتن المقبلة يروي مثله أو قريبا منه أهل السنة. يحدثنا عن غيب المستقبل البعيد الذي بيننا وبينه ربما ملايين السنين، على الأقل إلى حين تغير مناخ الصحراء فترجع إليها الوديان والبحيرات والغابات والمروج الخصبة كما ورد في الحديث... وما يهمنا اليوم هو الاعتراف بظهور آيات بينات لحجة زماننا، من لم يعرفه مات ميتة جاهلية. أو قل إن كنت من أهل التشمير : ما يهمنا هو صناعة المنقذ للأمة، بعد هذا الهوان الذي أصابها ، رمزه الكبير ضياع القدس.
ولا يحتاج المرء أن يكون من أهل الفراسة أو المكاشفة لتنسم حجة الله الظاهر في هذا الزمان.
وعوض تجاهله أو معاداته ربما كان الأجدر بنا أن نكثر من الدعاء الصالح له في دعاء الرابطة الذي يجمعه مع جميع حجج الله على خلقه، كالدعاء الذي يخص به إخواننا الشيعة الحجة الأخير: ما ورد في كتاب الكافي 4/162 : (محمد بن عيسى بإسناده عن الصالحين (عليه السلام) قال : تكرر في ليلة ثلاث وعشرين من شهر رمضان هذا الدعاء ساجدا وقائما وقاعدا وعلى كل حال وفي الشهر كله و كيف أمكنك ومتى حضرك من دهرك تقول بعد تحميد الله تبارك وتعالى والصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله) : " اللهم كن لوليك فلان بن فلان في هذه الساعة، وفي كل ساعة وليا وحافظا وناصرا ودليلا وقائدا وعونا ( وعينا ) حتى تسكنه أرضك طوعا وتمتعه فيها طويلا " .