الفرق الإسلامية: تعريفات الماضي، وتنزيلات على الحاضر والمستقبل
مـأسـاة الـخـوارج
بين الماضي والحاضر
مقدمة
منهجية
حول المصطلح
بدعة الخوارج من خلال قوانين الشريعة
بدعة الخوارج وقوانين الطبع
نظرات عبر قوانين القدر
تنزيلات على الحاضر
مقدمة
ظاهرة الخوارج درسها الباحثون عبر وجهات نظر متباينة، وزوايا متعددة، وبمرجعيات مختلفة. درسها المستشرقون بمرجعية استعمارية وهدفهم إحياء ثقافتها لتدمير الأمة من الداخل... ودرسها اليساريون لربطها بالعامل الاقتصادي المحرك لتطور المجتمعات والمفسر لأحداث التاريخ حسب زعمهم. ودرسها العنصريون لنسبها لقبيلة من القبائل، وغرزها فيها بذورا وجذورا وفروعا... ودرسها علماء السلوك لسبر الأعماق النفسية لمعتقديها لعلاجها. ودرسها خبراء تسيير الحشود لاكتشاف من له استعداد طبيعي للموت في سبيلها. ودرسها علماء بني إسرائيل من أجل السيطرة على أصحابها لتسخيرهم عن بعد لخدمة دولة ممثل الدجال لكل قرن من القرون الأولى والآخرة. ودرسها فقهاء آل البيت للتذكير بمعاناة من كلفه الشرع باستحضار التنزيل لسن قوانين التعامل معها. وكذلك للتفقه في مدرسة من ناضل على التأويل لرسم طريق الهداية في التعاطي معها ميدانيا.
وكل من له همة التفكر فيها، غالبا ما يكافأ في بحثه بالعثور على جانب من الحقيقة في الإحاطة بها. وهذه ثمرة البحث العلمي الموضوعي المجرد. لكن يأتي من بعده خبراء التوظيف الأيديولوجي لتلك النتائج البحثية، فيستغلونها لنصرة مذهبهم، ويستخرجون منها " تكنولوجيا " للتخطيط المستقبلي المفيد لهم. ولتثبيت هذه الفكرة نضرب لها مثلا في دراسات المستشرقين لظاهرة الخوارج. منهم من استعمل أدوات البحث العلمي العنصري الدارويني ونظرية الصراع والبقاء للأقوى، فربطها بقبيلة من القبائل العربية. فجاء خبراء التخطيط وقالوا لجيوش الاستعمار تحالفوا مع هذه القبيلة فإن لها طبائع الخوارج ولها استعداد غريزي للخروج على وحدة الأمة. فتحالفوا ىمعها واستغلوها لكسر وحدة المسلمين.
منهجية
تتطلع هذه المساهمة في تحيين فقهنا لبدعة الخوارج، لتكوين نظرة تركيبية عنها، عبر المفاتيح المنهاجية التي دأبنا على استعمالها. والمفاتيح التي ما غفلنا عنها قط في تحاليلنا، نأمل أن نتخذها دليلا لسبر أغوار هذه الظاهرة. ننظر فيها عبر قوانين الشريعة والطبيعة والقدر. وهي سنن الله الكونية التي لا يتجاوزهن بر ولا فاجر. ولا نخفي نيتنا بداية ونهاية في التوظيف المذهبي لنتائج بحثنا، لينتفع به كل من همه الغاية الاستخلافية لأمة القرآن الناسخ لما قبله من شرائع. وكذلك من همه الغاية الإحسانية : أن يرد الحوض على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويرتقي إلى أعلى مراتب الجنة : النظر إلى وجه الله عز وجل. وهي مهمة كل من اختار أن يسير على نهج الرسل، لجلب المصالح لخلق الله أجمعين، ودفع المضار عنهم، وإنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى.
فيكون هذا البحث قائما على العناصر التالية: 1) تعريفات الخوارج؛ 2) بدعة الخوارج من خلال قوانين الشريعة؛ 3) البدعة وقوانين الطبيعة؛ 4) نظرات من زاوية قوانين القدر؛ 5) تنزيلات على أرض واقعنا.
حول المصطلح
الخوارج لغة:
الخوارج في اللغة جمع خارج، وخارجي اسم مشتق من الخروج، وقد أطلق علماء اللغة كلمة الخوارج في آخر تعريفاتهم اللغوية في مادة (خرج) على هذه الطائفة من الناس، معللين ذلك بخروجهم عن الدين أو على الإمام علي، أو لخروجهم على الناس. انظر كتب اللغة مادة (خرج) انظر (تهذيب اللغة) 7/50 و (تاج العروس) 2/30
الخوارج اصطلاحا:
اختلف العلماء في التعريف الاصطلاحي للخوارج.
قال الشهرستاني: " كل من خرج على الإمام الحق الذي اتفقت الجماعة عليه يسمى خارجياً، سواء كان الخروج في أيام الصحابة على الأئمة الراشدين أو كان بعدهم على التابعين لهم بإحسان والأئمة في كل زمان" . ( الملل والنحل 1/114).
وقال الأشعري: " والسبب الذي سُمّوا له خوارج؛ خروجهم على علي بن أبي طالب". (مقالات الإسلاميين 1/ 207 ).
والخوارج يقبلون هذا الاسم على أساس أنه مأخوذ من قول الله عز وجل: وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [سورة النساء: 100]. وهذه تسمية مدح.
وينفونه إذا أريد به أنهم خارجون عن علي رضي الله عنه؛ لأنهم يزعمون أن خروجهم على علي رضي الله عنه كان أمراً مشروعاً بل هو الخارج عليهم في نظرهم.
أما أسماء الخوارج الأخرى كالحرورية أو الأزارقة أو الإباضية وغيرها، فلا تعدو أن تكون وصفية لتطور هذه البدعة عبر الأجيال. ومعالجة أمرهم لن يجد أصوب من معالجة صاحب التأويل سيدنا علي. وكل معالجة للبدعة متنكبة عن مدينة العلم، أو ناكرة لبابه فهي ترياق عديم الجدوى. هذه خلاصة ما سندخل في صلبه لبحثنا، قبل مدارسة تنزيل نتائجه على أرض واقعنا في هذا الزمان، طمعا في مداواة كلوم العرب، نزل عليهم السيف وأشرفوا على الانهيار. وكان من علاماته الكبرى: ضياع القدس.
بدعة الخوارج حسب تصنيفنا للبدع :
بناء على العايير المنهاجية التي وضعناها لدراسة البدع الملوثة للدين الحنيف، ينطلق هذا البحث حول بدعة الخوارج بفحصها عبر تلك الأسئلة التي وضعناها في موضوع الضرار، من أجل تقييم خطورتها على واقعنا، ومقارنتها بالبدع الأخرى.
هل بدعة الخوارج هي من البدع المنقرضة، أم من البدع الحية المتجددة على مر العصور والدهور؟
وإن كانت من النوع المتجدد الذي يستحق بالتالي تجديدا لفقهها، هل هي بدعة لازمة للفرد لا تتعداه، أم هي بدعة متعدية إلى الأمة، تريد صدها عن الغاية الاستخلافية؟
فإن كانت بدعة الخوارج تضرب الأمة في صميم غايتها الاستخلافية، فهل خطرها يأتي من خارج جسد الأمة أم من داخل الحصون؟
ولسوف نحصل على خصائص بدعة الخوارج، فهي بدعة حية متجددة عبر العصور. ولكل عصر خوارجه... كما لكل قرن ممهد للمهدي المنتظر، وممثل للدجال الأعور، فصلنا ذلك في نظرية التحيز.
ثم إنها بدأت لازمة للفرد، زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ليبين لنا طريقة التعامل معها عبر أحداث موثوقة، اقتضت التنزيل، ثم التطبيق النبوي لذلك التنزيل لدرء فتنتها قبل أن تتعدى وتنتشر.
ثم تطورت البدعة زمن الخلفاء إلى أن وجدت لها أنصارا وأعوانا في عهد إمامة سيدنا علي كرم الله وجهه، فصارت متعدية إلى فئة شكلت عصابة محاربة تكفر ثم تقتل فتخرب وحدة المسلمين. وكان نضوجها زمن الإمام علي كرم الله وجهه من تجليات رحمة الله بالمسلمين، ومن مقتضيات تمام الدين، لأن المكلف بالتأويل سيدنا علي رسم لنا طريق الهداية لمعالجتها.
وحسب تصنيفنا، بدعة الخوارج، لما صارت حركة تعتقد كفر أهل القبلة من أجل استباحة دماء وأموال وأعراض المسلمين، بقيت دائما منحصرة في الداخل، لم يحدث لها أن استقوت على المسلمين باليهود والنصارى والقاسطين. من أجل ذلك خطرها هو دون خطر بدعة الضرار، إذ استقر تأويل سيدنا علي في إنصافهم كما سيتضح لاحقا.
بدعة الخوارج من خلال قوانين الشريعة
بدعة الخوارج زمن التنزيل:
أولها بدعة لازمة للفرد
يتفق الرواة وعلماء الفرق والتاريخ والسير، أن أول الخوارج هو ذو الخويصرة التميمي الذي بدأ الخروج بالاعتراض على النبي صلى الله عليه وسلم في قسمة الفيء واتهامه إياه بعدم العدل وقد ورد في حديث مسلم عن أبي سعيد: ((بعث علي رضي الله عنه وهو باليمن بذهبة في تربتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقسمها الرسول صلى الله عليه وسلم بين أربعة نفر؛ الأقرع بن حابس الحنظلي، وعيينة بن بدر الفزاري، وعلقمة بن علاثة العامري، ثم أحد بني كلاب، وزيد الخير الطائي، ثم أحد بني نبهان قال: فغضبت قريش فقالوا: أيعطي صناديد نجد ويدعنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني إنما فعلت ذلك لأتألفهم. فجاء رجل كث اللحية مشرف الوجنتين غائر العينين ناتئ الجبين محلوق الرأس، فقال: اتق الله يا محمد. قال: فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: فمن يطع الله إن عصيته، أيأمنني على أهل الأرض ولا تؤمنوني؟ قال: ثم أدبر الرجل فاستأذن رجل من القوم في قتله (يرون أنه خالد بن الوليد)، فقال رسول الله: إن من ضئضئ هذا قوما يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد)).
ولربما مال رأي بعض المستشرقين لربطها بقبيلة بني تميم، مستدلين بأسباب ورود آيات من سورة الحجرات: {{ إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ }}(الحجرات: 4)... لكن ذلك لا يستقيم إنما كانت لهم غاية معلومة في ذلك، حققها لهم غيرهم، من الذين يفخرون اليوم ببيعهم فلسطين ليهود.
الخوارج زمن التأويل:
البدعة صارت متعدية. لها عقيدة تكفر من خالفهم من أهل القبلة، بمن فيهم أمير المؤمنين سيدنا علي كرم الله وجهه، ويستبيحون دماءهم وأعراضهم وأموالهم، ولا تفسير ولا تأويل للدين إلا ما يرونه.
جاء في كلام عبيد الله بن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم (أن الحرورية لما خرجت وهو مع علي بن أبي طالب قالوا: لا حكم إلا لله قال علي: كلمة حق أريد بها باطل؛ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف ناسا إني لأعرف صفتهم في هؤلاء، يقولون الحق بألسنتهم لا يجوز هذا منهم (وأشار إلى حلقه)، من أبغض خلق الله إليه منهم أسود إحدى يديه طبي شاة أو حلمة ثدي، فلما قتلهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: انظروا، فنظروا فلم يجدوا شيئا فقال: ارجعوا فوالله ما كذبت ولا كذبت مرتين أو ثلاثا. ثم وجدوه في خربة فأتوا به حتى وضعوه بين يديه. قال عبيد الله: وأنا حاضر ذلك من أمرهم وقول علي فيهم: زاد يونس في روايته: قال بكير: وحدثني رجل عن أبي حنين أنه قال: رأيت ذلك الأسود ).
وقد ذهب إلى القول بأن أول الخوارج هو ذو الخويصرة كثير من العلماء منهم ابن الجوزي وذلك في قوله: أن " أول الخوارج وأقبحهم حالة ذو الخويصرة " . وقوله: " فهذا أول خارجي خرج في الإسلام وآفته أنه رضي برأي نفسه ولو وقف لعلم أنه لا رأي فوق رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأتباع هذا الرجل هم الذين قاتلوا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه".
ومنهم ابن حزم ، وهو رأي الشهرستاني أيضاً حيث يقول: "وهم الذين أولهم ذو الخويصرة وآخرهم ذو الثدية، واعتبر اعتراض ذي الخويصرة خروجا صريحا؛ إذ إن الاعتراض على الإمام الحق يسمى خروجاً فكيف بالاعتراض على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
أصحاب الأهواء الذين يريدون إدخال ما ليس من الدين في الدين، يوظفون الاصطلاح والقياس، فيطلقون وصف الخوارج على كل من خرج على الحاكم، أيا كان، سواء كان مرتدا أو ظالما أو مستوليا على الحكم بالسيف أو عبر ولاية عهد ناقضة للشورى، أو وكيلا لدولة ممثل الدجال لهذا الزمان... من هذا المنطلق يعتبرون الحسين سبط النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الخوارج لأنه خرج على حكم يزيد بن معاوية لعنة الله عليه. وكذلك يعتبرون الصحابة والمستضعفين الذين ثاروا على عثمان وقتلوه.
فإن اتبعنا نفس المنطق فسيحسب من الخوارج كذلك أصحاب حرب الجمل، وهذا لا يجوز أن ينسب إلى أم المؤمنين، ولا إلى المبشرين بالجنة طلحة والزبير... وإلا كنا من الذين يرون فوق رأي النبي... وتلك هي بالضبط زلة ذي الخويصرة... بل نقول أن أصحاب حرب الجمل اعترفوا وتابوا فكان عاقبة أمرهم خيرا. وكذلك حال الشيخين ودليلنا أن حذيفة بن اليمان برأ عمر من النفاق... فالعبرة بالخاتمة وكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون... ولكن حذاري أن يتخذوا مصدرا من مصادر التشريع، سواء في حال صوابهم أو في حال خطئهم، فما بالك بالذين يجعلونهم قدوة في زلاتهم. ومثال ذلك ما حدث للخوارج: برروا خروجهم بفعل من سبقهم بالخروج على سيدنا علي كرم الله وجهه.
ويقول سيدنا علي رضي الله عنه في نهج البلاغة عن حربه للخوارج ولغيرهم: { أمّا بعد.. أيّها الناس! أنا الذي فقأت عين الفتنة، شرقيّها وغربيّها، ومنافقها ومارقها، ولم يكن ليجترئ عليها أحد غيري، بعد أن ماج غيهبها، واشتدّ كلَبها. وأيم الله، لو لم أَكُ فيكم لَما قوتل أصحاب الجمل الناكثون، ولا أهل صِفّين القاسطون، ولا أهل النهروان المارقون...
فهذا تبيان لوظيفة القتال على التأويل الذي ذكرها حديث خاصف النعلين. يسمي كلا باسمه:
· الناكثون أي الذين نقضوا عهد بيعة سيدنا علي، وكان على رأس الناكثين: طلحة والزبير، وهما من أهل السابقة في الإسلام، ثم أم المؤمنين عائشة زوجة الرسول، وبنت الخليفة الأول أبي بكر، المرأة الذكية والشجاعة، والتي كانت تحظى بعناية ورعاية خاصة من قبل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، الذي يتميز بعظمة خاصة في نفوس الناس، وشاع وذاع عنه ما لا يمكن تجاهله أو إنكاره.
· القاسطون أي الزائغون عن الحق: معاوية وحزبه، وعمر هو الذي جعله على بلاد الشام، وكان يعامله معاملة متميزة، وبقي على عمله إلى أن توفي عمر، ثم طيلة خلافة عثمان، وتربى أهل تلك البلاد على أفكاره واتجاهاته، وأصبحت بلاد الشام سفيانية كما أشار إليه الأصمعي وغيره. ثم هناك الشبهات التي كان يلقيها معاوية في الناس بالنسبة لمقتل عثمان.
· المارقون: معناه: مرَق الشَّخصُ من الدِّين : خرج منه ببدعة أو ضلالة. وهم الخوارج. وكانوا معروفين بالعبادة والزهد، فالإقدام على حربهم وقتلهم لم يكن أمراً سهلاً وميسوراً لكل أحد.
ويتوب الله على من تاب. ولا يزال المرء في فسحة من دينه ما لم يقتل نفسا بغير حق... والحق ميزانه التنزيل الذي آوته دار الحكمة نبينا المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، ومفتاح دار الحكمة تأويل سيدنا علي كرم الله وجهه. ذلك ما بينه الإمام للناس في قوله : { لقد كان حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كثيراً ما يقول: يا عليّ! حبّك تقوىً وإيمانٌ، وبغضك كفرٌ ونفاقٌ، وأنا بيت الحكمة وأنت مفتاحه، كذب من زعم أنّه يحبّني ويبغضك...}.
ومن ذلك الباب دخل تلبيس إبليس على زعماء الخوارج الذين جعلوا فعل الصحابة أصلا من أصول الدين لبدعتهم. اقتدوا في خروجهم على سيدنا علي بما فعلته أمنا عائشة وطلحة والزبير. ومنهم من اقتدى بفعل معاوية وهو من الرافضة لبيعة سيدنا علي، فلا يعتبر من الخوارج لأنه لم يبايع أصلا.
ومهما يكن من أمر صاحب البدعة الفردية أو الجماعية، لا يزال في فسحة من دينه، ما لم يكفر ثم يشهر سيفه على غيره ليفرض بدعته بالقوة والإكراه، مخالفة لقانون {{ لا إكراه في الدين }}. والخوارج كانوا أشد الناس جرأة على اقتحام تلك الفسحة التي تفصلهم على خطر الخلود في النار، وهم على علم من تحذير نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم، إذ قال: { لَنْ يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِى فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ ، مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا}. " رواه البخاري".
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: { لاَ يُشِيرُ أَحَدُكُمْ عَلَى أَخِيهِ بِالسِّلاَحِ ، فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِى لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِى يَدِهِ ، فَيَقَعُ فِى حُفْرَةٍ مِنَ النَّار}." رواه البخاري".
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : { يَجِىءُ الْمَقْتُولُ بِالْقَاتِلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَاصِيَتُهُ وَرَأْسُهُ بِيَدِهِ وَأَوْدَاجُهُ تَشْخُبُ دَمًا يَقُولُ يَا رَبِّ هَذَا قَتَلَنِى حَتَّى يُدْنِيَهُ مِنَ الْعَرْشِ}. " رواه الترمذي".
من أجل تلك الجرأة على التكفير والدماء جاء أشقى خلق الله ابن ملجم ألجمه الله لجاما من نار فقتل أمير المؤمنين كرم الله وجهه، وزين له إبليس عمله فرآه قربة من أعظم القربات إلى الله.
بدعة الخوارج وقوانين الطبع
لما سوغ بعضهم أنه من الشريعة الاقتداء بالمتنازعين الأولين على السلطة، الذين ركبوا رأيهم في إبعاد وصي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليها، ومن بعده أئمة الهداية، كان ذلك أول نقض لعرى الإسلام، ركبه معاوية ثم الخوارج فرجعت العرب إلى طبائعها القديمة. وطبائعها معروفة ومن جملتها طبع الخوارج التكفيريين.
وكل الظواهر الاجتماعية المحدثة، والبدع اللازمة والمتعدية، إن لم تعالج بقوانين الشريعة، توشك أن تتحكم فيها قوانين الطبيعة. حيث يطغى قانون الصراع على البقاء، وقانون الغرائز والشهوات وقانون العصبية والقبلية، وقانون الفساد والاستبداد واحتكار الثروة والسلطة... وهي القوانين التي تجمعنا مع الدواب. وهي القوانين العلمانية التلمودية التي بها يفكر المفكرون، وينظر المنظرون، ويحلل السياسيون، ويخطط المخططون، ويتكلم الإعلاميون في هذا الزمان الذي يشهد تهويدا للمجتمع العربي لا مثيل له. ولربما كان هذا مبررا لظهور تيار تكفيري مضاد.
طبع البداوة والجفاء هو العنصر الاجتماعي والسيكولوجي المتكرر عند الخوارج:
رأينا أن بدعة الضرار تكون في الغالب في المترفين، فهم أول من يشهر راية الولاء والاحتماء بالكفار.
وبدعة النواصب تكون عند الذين يعرفون الحق، لكنهم عنه يعدلون. فهم القاسطون الذين سقطوا في جهنم ببغضهم للحق وأهله من أهل البيت. فلربما شملهم وعيده عز وجل: {{ وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا}} : (الجن : 15).
أما بدعة الخوارج فغالبا ما يكون أنصارها من الطامعين الجدد. فَتَحَت شهيتهم للسلطة والمال تلك الخروقات التي شاهدوها عند بعض الصحابة. ووجدوا من يصوب لهم رأي أخذ الشريعة عنهم... فاتبعوا بدعتهم، بل تجاوزوهم في الجرأة على انتهاك الحرمات.
فالابتعاد عن شريعة الائتلاف ومن يمثلها من قرآن وعترة هادية مهدية، فتح باب طبيعة الاختلاف، فكشرت الجاهلية عن أنيابها من جديد. وظهرت طبائع الكلاب المتهارشة، وجهل الحمر المستنفرة... والثعالب المراوغة، وغيرها من أوصاف ساكنة الغاب.
والقصة الكاملة لهذا المنعطف الخطير لا ينبغي إخفاؤها كما يريده الخوارج وأصحاب الضرار الجدد... غيرها من التحاليل خاصة مباحث المستشرقين تعتبر لغوا وتشويشا يحاول إبعادنا عن مواقف صاحب التأويل في معالجة البدع الحالقة للدين.
ظاهرة الخوارج وعلاقتها بالعالم المتهتك والجاهل المتنسك:
قصة هذين الصنفين الذين قال عنهم أمير المؤمنين (عليه السلام): «قصم ظهري اثنان عالم متهتك، وجاهل متنسك»، ترويها لنا كتب السيرة والتاريخ في أحداث موقعة صفين. وهي الحرب التي كان معاوية يبررها بالمطالبة بقتلة سيدنا عثمان. وهي مجرد مكيدة للاستيلاء على الحكم. دحضها سيدنا علي بقوله: "بايع ثم طالب". وهي في نفس الوقت المعركة التي ظهرت فيها فرقة الخوارج كجماعة منظمة نقضت بيعتها لعلي وخرجت عليه وعلى أهل القبلة بالسيف. القصة من المصادر الشيعية والمصادر السنية، تعتمد على نفس المراجع التاريخية المعروفة. جاء في بعض المصادر الشيعية في موقع سماحة الشيرازي ، " أنه في معركة صفين، لما " اقترب الجيش العلوي من الفتح، ولاح لهم الظفر والنصر وتوجه الخطر إلى معاوية ولم يستطع المقاومة إلا عن طريق الخدعة والمكر، أمر معاوية أصحابه في جوف الليل أن يربطوا المصاحف على رؤوس الرماح، وأصبح الصباح وإذا بأهل العراق يشاهدون خمسمائة مصحف على رؤوس الرماح وأهل الشام ينادون بما تقدم من كلامهم، ويستعطفون أهل العراق ويطلبون منهم ترك الحرب، وكان آخر كلامهم: هذا كتاب الله بيننا وبينكم.
فقال الإمام: اللهم إنك تعلم أنهم ما الكتاب يريدون.
ومن هنا اختلف أصحاب علي عليه السلام، فطائفة قالت: القتال، وطائفة قالت: المحاكمة إلى الكتاب، ولا يحل لنا الحرب وقد دعينا إلى حكم الكتاب".
أقول: فظهر للنبيه أن العالم المتهتك الطالب للدنيا الذي قصم ظهر أمير المؤمنين هو معاوية، والجاهل المتنسك بفهمه السقيم للدين، الذي قصم ظهره كذلك هو زعيم الخوارج الذي ظن أن مجرد ذكر كتاب الله أو رفعه على أسنة الرماح أو رفع راية سوداء فيها خاتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مجرد هذه الأمور الشكلية تجعل صاحبها معه الحق الذي لا يناقش... وأغلب أحوال الخوارج كما سنرى هي من هذا الصنف السطحي المتنسك: { يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلاتَهُ مَعَ صَلاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ ، يَقْرَأُونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمْيَةِ }، كما أخبرنا عنهم نبينا صلى الله عليه وآله وسلم.
فلما كان عامة جيش علي من سذج العراق، الذين خدعتهم مكيدة معاوية، أو من الذين تدمروا من منع الإمام علي عليهم سبي جيش معاوية، اختلفوا عليه بين مؤيد للحرب وسائم منها. " فقال الإمام: إني أحق من أجاب إلى كتاب الله، ولكن معاوية وعمرو بن العاص وابن أبي معيط وابن أبي سرح وابن مسلمة ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، وإني أعرف بهم منكم، صحبتهم صغارا ورجالا فكانوا شر صغار وشر رجال!! ويحكم! إنها كلمة حق يراد بها الباطل، إنهم ما رفعوها أنهم يعرفونها ويعملون بها، ولكنها الخديعة والوهن والمكيدة، أعيروني سواعدكم وجماجمكم ساعة واحدة فقد بلغ الحق مقطعه، ولم يبق إلا أن يقطع دابر الذين ظلموا."
فولدت بدعة الخوارج بكامل عناصرها التي أخبرت بها النبوة، كما ورد في المصدر المذكور، يقول: " فجاء الإمام من أصحابه زهاء عشرين ألفا مقنَّعين في الحديد حاملي سيوفهم على عواتقهم، وقد اسودَّت جباههم من كثرة السجود، وهم الذين صاروا بعد ذلك خوارج، فنادوا الإمام باسمه لا بإمرة المؤمنين وقالوا: يا علي أجب القوم إلى كتاب الله إذا دعيت إليه، وإلا قتلناك كما قتلنا ابن عفان، فوالله لنفعلها إن لم تجبهم.
فقال الإمام عليه السلام: ويحكم !! أنا أول من دعا إلى كتاب الله، وأول من أجاب... ولكني قد أعلمتكم أنهم قد كادوكم، وأنهم ليس العمل بالقرآن يريدون.
كان مالك الأشتر رضي الله عنه في تلك الساعة يقاتل ويتقدم لحظة بعد لحظة، وجيش معاوية كان ينسحب وينقرض ساعة بعد ساعة ولو أمهلوا الأشتر ساعة واحدة لانتهت الحرب.
فصاح هؤلاء: يا أمير المؤمنين ابعث إلى الأشتر ليأتيك.
فبعث الإمام رجلا إلى الأشتر: أن ائتني.
فقال الأشتر: ليس هذه بالساعة التي ينبغي لك أن تزيلني عن موقفي، إني قد رجوت الفتح فلا تعجلني.
رجع الرسول فأخبر الإمام، وحمل الأشتر على أهل الشام وظهرت علامات الفتح، ولكن القوم قالوا: يا أمير المؤمنين ما نراك إلا أمرته بالقتال. فقال الإمام: أرأيتموني شاورت رسولي إليه؟ أليس إنما كلمته على رؤوسكم علانية وأنتم تسمعون؟ فقالوا: ابعث إليه، وإلا فوالله اعتزلناك!! فذهب الرسول إلى الأشتر وأخبره عن اختلاف القوم، وما كان الأشتر يحب مغادرة جبهة القتال في تلك الساعة الحرجة فقال له الرسول: أتحب أنك ظفرت ههنا، وأن أمير المؤمنين بمكانه الذي هو فيه يفرج عنه ويسلم إلى عدوه؟؟، فقال الأشتر: سبحان الله!! لا والله، لا أحب ذلك فقال الرسول: فإنهم قد حلفوا عليه لترسلن إلى الأشتر فليأتيك أو لنقتلنك بأسيافنا كما قتلنا عثمان أو لنسلمك إلى عدوك!! أقبل الأشتر مغضبا وصاح بالقوم: يا أهل الذل والوهن أحين علوتم القوم وظنوا أنكم قاهرون رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها... فلا تجيبوهم، أمهلوني فإني قد أحسست بالفتح. قالوا: لا نمهلك."
أقول: فكان هذا الاختلاف على الإمام علي الذي هو باب مدينة علم رسول الله، يذكر باختلاف الصحابة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لما أراد كتابة وصيته التي قالها مشافهة على رؤوس الأشهاد في مناسبات شتى أشهرها يوم غدير خم. فكانت الرزية كل الرزية... وهاهي الرزية تكشر عن أنيابها الجاهلية. يقول نفس المصدر عن هذا الاختلاف: " جرى كلام طويل وعتاب بين الأشتر والقوم وآل الأمر إلى السب والشتم والصياح، فصاح بهم الإمام عليه السلام، فكفوا، فصاح القوم: أن أمير المؤمنين قد رضي المحاكمة بحكم القرآن.
كان الإمام ساكتا لا يتكلم، والقوم يتكلمون، ولما سكتوا قال الإمام: أيها الناس إن أمري لم يزل معكم على ما أحب إلى أن أخذت منكم الحرب... إلا إني أمس أمير المؤمنين فأصبحت اليوم مأمورا، وكنت ناهياً فأصبحت منهياً، وقد أحببتم البقاء وليس لي أن أحملكم على ما تكرهون."
فهو نفس الموقف لما طرد النبي الصحابة المختلفين عليه يوم الرزية كل الرزية.
" اضطرب أقوال الرجال وقام الرؤساء وتكلموا بما تكلموا من الموافقة على رأي الإمام ورفض المحاكمة، ولكن المهرِّجين نشروا هذه الكلمة: إن أمير المؤمنين رضي التحكيم." يعني التحكيم إلى كتاب الله، وهو نفس قول عمر لما رفض كتابة الوصية، وقد علمها الناس مشافهة في أكثر من مناسبة. قال عمر رضي الله عنه: " إن النبي غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا". صحيح البخاري.
فماذا حدث في التحكيم إلى كتاب الله حسب فهم الخوارج السقيم، لما أعرضوا عن فهم وعن طاعة إمام الهداية ومن خصه الله بالتأويل والدراية؟
جاء في نفس المصدر المذكور: " دخل الأشعث بن قيس- رأس الفساد - واستأذن الإمام ليكون رسولا إلى معاوية فأذن له الإمام، فجاء الأشعث ودخل على معاوية وقال: لأي شيء رفعتم هذه المصاحف؟ فقال معاوية: لنرجع إلى ما أمر الله به فيها، فابعثوا رجلا منكم ترضون به، ونبعث رجلا منا، ونأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله، ولا يعدوانه، ثم نتبع ما اتفقا عليه. فرجع الأشعث.
فأقبل جماعة من أصحاب الإمام وجماعة من أصحاب معاوية واجتمعوا بين الصفين وتذاكروا حول انتخاب (الحكم) فانتخب أهل الشام عمرو بن العاص، وانتخب الأشعث ونظراؤه أبا موسى الأشعري فرفض الإمام أبا موسى ولم يرض به، وقال الأشعث وجماعة: لا نرضى إلا به، فلم يوافق الإمام وانتخب ابن عباس ليكون (حكما) فلم يرض الأشعث بابن عباس لأنه من أقارب الإمام فاختار الأشتر فلم يرضوا به.
جادل الأشعث بكل وقاحة وصلافة، ورد على الإمام جميع مقترحاته وبقي مصرا على الأشعري، فقال الإمام: فاصنعوا ما شئتم! وكان يصفق بيديه ويقول: يا عجبا! أعصى ويطاع معاوية؟!".
أرسلوا إلى أبي موسى وكان في الشام فجاء إلى معسكر الإمام، فجاء الأشتر ورشح نفسه ليكون هو الحكم، وجاء الأحنف بن قيس وحذر الإمام من الأشعري وعجزه وضعف نفسه ورشح نفسه للحكم فوافق الإمام على ذلك، ولكن الناس رفضوا وقالوا: لا يكون إلا أبا موسى.
أقول : وكان سبب رفض الخوارج لابن عباس عصبية الخوارج التي كانت أيام الجاهلية بين المضرية والقحطانية.
الخوارج وسلطان العصبية:
يروي نصر بن مزاحم المنقري أن أهل العراق الذين خرجوا على علي بزعامة الأشعث، منعهم التعصب من قبول أي مضري حكما من قبل الإمام علي، وأبوا إلا أحد اليمنيين وهو أبو موسى الأشعري؛ فيذكر نصر أن الأشعث قال لعلي: " لا والله لا يحكم فيها مضريان حتى تقوم الساعة، ولكن اجعله رجلا من أهل اليمن إذ جعلوا من مضر. فقال علي: إني أخاف أن يخدع يمنيكم؛ فإن عمرا – بن العاص - ليس من الله في شيء إذا كان له في أمر هوى. فقال الأشعث: والله لأن يحكما ببعض ما نكره وأحدهما من أهل اليمن، أحب إلينا من أن يكون بعض ما نحب في حكمهما وهما مضريان !
ولهذا امتنعوا أيضا من إرسال عبد الله بن عباس للمفاوضة حين طلب إليهم علي ذلك لأنه قرشي ومن قرابته، ولم يقبلوا إلا أبا موسى وكانت لهم الكلمة في جيش علي. فيذكر المبرد أن جيش علي كان جله من اليمنيين. ويذكر الطبري أن بين اليمانية والمضرية عصبية.
قلت : ولربما كان أبو موسى لما تحيز إلى معاوية في الشام قد حظي بكرم البلاط، وشباب الخوارج هم فيه طامعون وقد ضيق عليهم علي كرم الله وجهه في الاستحواذ على أموال أو سبي أهل القبلة.
الخوارج وقانون الغاب:
يقول نفس المصدر: "وكتبوا كتاب الموادعة وهذه صورته: هذا ما تقاضى عليه علي أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان...
فلما قرأ معاوية الكتاب قال: بئس الرجل أنا إن أقررت أنه أمير المؤمنين ثم قاتلته!! أعيد الكتاب إلى الإمام وأخبروه فأمر الإمام بمحو كلمة (أمير المؤمنين) فنهاه الأحنف عن ذلك، فقال الأشعث: أمح هذا الاسم...!! فقال الإمام: إن هذا اليوم كيوم الحديبية حين كتب الكتاب عن رسول الله صلّى الله عليه وآله: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو... فقال سهيل: لو أعلم أنك رسول الله لم أقاتلك ولم أخالفك، إني إذن لظالم لك... ولكن أكتب: محمد بن عبد الله. فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: {{ يا علي إني لرسول الله وأنا محمد بن عبد الله، ولن يمحو عني الرسالة كتابي لهم}}. إن ذلك الكتاب أنا كتبته بيننا وبين المشركين، واليوم أكتبه إلى أبنائهم كما كان رسول الله كتبه إلى آبائهم شبها ومثلا !!فقال عمرو بن العاص: سبحان الله! أتشبهنا بالكفار ونحن مسلمون؟ فقال الإمام: يا بن النابغة ومتى لم تكن للكافرين وليا وللمسلمين عدوا؟ ولما أرادوا تنظيم الكتاب سألوا الإمام: أتقر أنهم مسلمون مؤمنون؟ فقال الإمام: ما أقر لمعاوية ولا لأصحابه أنهم مؤمنون ولا مسلمون ولكن يكتب معاوية ما شاء ويقر بما شاء لنفسه ولأصحابه ويسمي نفسه بما شاء وأصحابه.
فكتبوا الكتاب، وكان في أعلى الكتاب خاتم أمير المؤمنين وفي أسفله خاتم معاوية وشهد الشهود عليها وخرج الأشعث بالكتاب وقرأه على أهل العراق فهاج الناس وظهرت الفتنة والانقسام والتفرقة وتكونت الخوارج وصاحوا: " لا حكم إلا لله.فأين قتلانا يا أشعث؟". وحمل بعضهم على الأشعث ليقتله. وأقبل الناس إلى الإمام مستنكرين للحكومة وطلبوا من الإمام نقض العهد والرجوع إلى الحرب فقال الإمام: ويحكم! أبعد الرضا والميثاق والعهد نرجع؟ أليس الله تعالى قد قال: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)؟ وقال: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) النحل: 91.
فبرأ الخوارج من الإمام وبرأ منهم، وأقبل الجيش يستأذنون الإمام بالهجوم على معاوية فقال الإمام عليه السلام: لو كان هذا قبل المعاهدة وسطر الصحيفة لأزلتهم عن عسكرهم.
ظهور الطبيعة المراوغة روغان الثعالب
توجه الأشعري للاجتماع بابن العاص للمحاكمة، فحذره الناس عن ابن العاص وغدره ومكيدته وسوء سوابقه حتى يتخذ التدابير اللازمة ويكون على بصيرة من أمره، ولكن كان كل هذا بلا جدوى بلى كانت النتيجة معكوسة.
اجتمع الحكمان في المكان المعد لهما فقال عمرو: تكلم يا أبا موسى فقال الأشعري: بل أنت تكلم.
فقال عمرو: ما كنت لأفعل وأقدم نفسي قبلك، ولك حقوق كلها واجبة...
فتكلم أبو موسى فقال عمرو: إن للكلام أولاً وآخراً ومتى تنازعنا الكلام لم نبلغ آخره حتى ننسى أوله، فاجعل ما كان من كلام بيننا في كتاب يصير إليه أمرنا؟ فقال أبو موسى: اكتب، دعى عمرو بصحيفة وكاتب.
وبعد سؤال وجواب وخداع وتزوير قال الأشعري: قد علمت أن أهل العراق لا يحبون معاوية أبدا، وأن أهل الشام لا يحبون عليا أبدا، فهلم نخلعهما ونستخلف عبد الله بن عمر بن الخطاب.
فقال عمرو: أيفعل ابن عمر؟ قال: نعم، إذا حمله الناس على فعل ذلك فعل.
فقال عمرو: فهل لك في سعد بن أبي وقاص؟ قال: لا.
فذكر ابن العاص جماعة والأشعري لا يرضى بهم.
فقال عمرو: قم واخطب.
فقال الأشعري: قم أنت واخطب فامتنع ابن العاص وقام الأشعري وخرج من الخيمة وقد اجتمع أربعمائة رجل من أصحاب الإمام ومثلهم من أصحاب معاوية.
ظهور طبائع الكلب الذي يلهث، والحمار الذي يحمل أسفارا.
فقام الأشعري وخطب خطبة وقال: أيها الناس إنا نظرنا في أمرنا فرأينا أقرب ما يحضرنا من الأمن والصلاح ولم الشعث وحقن الدماء وجمع الألفة خلعنا عليا ومعاوية، وقد خلعت عليا كما خلعت عمامتي هذه، وخلع عمامته...
وقام عمرو وقال: أيها الناس إن أبا موسى عبد الله بن قيس قد خلع عليا وأخرجه من هذا الأمر الذي يطلب، وهو أعلم به، ألا وأني خلعت عليا وأثبت معاوية علي وعليكم...
فقال الأشعري: كذب عمرو ولم نستخلف معاوية ولكنا خلعنا معاوية وعليا! فقال عمرو بل كذب عبد الله بن قيس قد خلع عليا ولم أخلع معاوية.
فقال الأشعري: ما لك؟ لا وفقك الله غدرت وفجرت، إنما مثلك كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث.
فقال عمرو: بل إياك يلعن الله، كذبت وغدرت إنما مثلك كمثل الحمار يحمل أسفارا.
فضرب عمرو أبا موسى فسقط وضرب شريح عمراً بالسوط، فركب الأشعري راحلته وتوجه إلى مكة وحلف أن لا ينظر في وجه علي.
انتهى المقتطف بتصرف من موقع سماحة الشيرازي.
هدنة على مضض:
وتذكر كتب التاريخ أنه لم يكن الإمام علي الوحيد الذي رفض نتيجة التحكيم ولكن الفرقة الي أجبرته على ذلك رفضت النتيجة أيضاً واتهمت الإمام كرم الله وجهه بتسببه لذلك ليكونوا ما سمي بفرقة الخوارج. ولما رجع الإمام علي بجيشه إلى الكوفة انشق عنه هؤلاء ولم يدخلوا معه وتحصنوا في منطقة تسمى حروراء. وكان عداد فرقة الخوارج ما يقارب 12000 مقاتل. وكان الرجوع من معركة صفين في 13 صفر سنة 37 هجرية. واعتبر الخوارج التحكيم الذي أجبروا عليه الإمام علي ذنباً وطالبوا الإمام علي بالرجوع عن عهد الهدنة الذي أبرمه لمدة سنة في صفين بسببهم. ولكن الإمام علي أجابهم: "ويحكم، بعد الرضا والعهد والميثاق أرجع؟"
لم يكتفِ الخوارج بذلك بل رفعوا شعار أن "لا حُكمَ إلاَّ لله ، ونحن لا نرضى بأن تحكم الرجال في دين الله" وبذلك رفضوا أن يحكم الإمام علي كرم الله وجهه، أو معاوية وأعلنوا العداء والبغضاء لأمير المؤمنين علي ابن أبي طالب وصاروا يحثون الناس على استباحة دماء الإمام علي ومن معه ورغم ذلك لم يتعرض لهم الإمام علي لعلهم يرجعوا عن غيهم.
وكان ممن أرسل إليهم الإمام علي، صعصعة ابن صوحان وابن عباس للنقاش معهم لعلهم يردوهما عن غيهم حيث ذكراهم بأنهم هم الذيم منعوا الإمام علي من إرسال مالك الأشتر إلى التحكيم الذي أجبروه عليه. وأنهم هم الذين أصروا على إرسال الأشعري نائباً عن معسكر أمير المؤمنين إلى التحكيم. أقر الخوارج بخطئهم وذنبهم وطالبوا الإمام علي مجدداً بالرجوع عن عهده والذي بدوره رفض ذلك لأنه ليس من شيم الصادقين و صفات حاكم المسلمين مخالفة العهود.
لم يقبل الخوارج بجواب الإمام علي وأعلنوا الحرب عليه واحتلوا مدينة النهروان وقتلوا والي الإمام علي عليها عبد الله ابن خباب مع زوجته وابنه. ولما أرسل الإمام علي كرم الله وجهه الصحابي الجليل الحارث ابن مرة ليستطلع حقيقة الأمر قتلوه أيضاً. عندها لم يجد الإمام بداً من الاتجاه إلى النهروان بجيشه لاقتلاع بذور الفتنة. ولما وصل إليهم طالبهم بتسليم القاتل ولكنهم رفضوا ذلك مدعين مسؤوليتهم الجماعية عن القتل.
وألقى الإمام علي كرم الله وجهه رغم ذلك الحجة عليهم وحاول مرات عدة ردهم عن غيهم. وجاء في تاريخ الطبري فيما خاطبهم فيه الإمام علي : "عن زيد بن وهب أن علياً أتى أهل النهر، فوقف عليهم فقال: أيتها العصابة التي أخرجها عداوة المراء واللجاجة ، وصدها عن الحق الهوى وطمح بها النزق ، وأصبحت في اللبس والخطب العظيم ، إني نذيرٌ لكم أن تصبحوا تُلفيكم الأمة غداً صرعى بأثناء هذا النهر، وبأهضام هذا الغائط، بغير بينة من ربكم، ولا برهان بيِّن! ألم تعلموا أني نهيتكم عن الحكومة، وأخبرتكم أن طلب القوم إياها منكم دهن ومكيدة لكم، ونبأتكم أن القوم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، وأني أعرف بهم منكم، عرفتهم أطفالاً ورجالاً، فهم أهل المكر والغدر، وأنكم إن فارقتم رأيي جانبتم الحزم، فعصيتموني، حتى إذا أقررتُ بأن حكَّمت، فلما فعلت شرطت واستوثقت، فأخذت على الحكمين أن يحييا ما أحيا القرآن، وأن يميتا ما أمات القرآن، فاختلفا وخالفا حكم الكتاب والسنة، فنبذنا أمرهما ونحن على أمرنا الأول، فما الذي بكم ومن أين أتيتم؟!
قالوا: إنا حكَّمنا فلما حكمنا وأثمنا وكنا بذلك كافرين، وقد تُبنا فإن تُبت كما تبنا فنحن منك ومعك، وإن أبيت فاعتزلنا فإنا منابذوك على سواء، إن الله لا يحب الخائنين! فقال عليٌّ: أصابكم حاصب، ولا بقيَ منكم وابر، أبعد إيماني برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهجرتي معه وجهادي في سبيل الله، أشهد على نفسي بالكفر، لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين. ثم انصرف عنهم".
وبدل الرجوع عن غيهم تنادوا: لا تخاطبوهم ولا تكلموهم ، وتهيؤا للقاء الرب ! الرواح الرواح إلى الجنة!!!
وبعد الوعظ وإلقاء الحجج وإرسال الرسل المخلفين إليهم من الصحابة أراد الإمام علي إلقاء الحجة الأخيرة ودمغ الشك باليقين أنه بذك كل ما بوسعه لحقن دماء أكبر عدد ممكن من المقالين فأعلن العفو عن كل من يرجع منهم إلى صوابه ويترك محاربته فترك الكثيرون معسكر الخوارج ولم يبق إلا ما يقارب 1800 مقاتل وفي رواية أُخرى ما يقارب 4000 مع عبد الله ابن وهب ممن أصروا على مقاتلة الإمام علي كرم الله وجهه .
الفاجعة الكبرى:
لم يرد الإمام علي أن يبدأ الخوارج بالقتال، بل انتظر حتى هاجموه وجيشه في التاسع من صفر سنة 40 للهجرة فهزموا هزيمة نكراء وأبيدوا عن آخرهم ولم بيق منهم إلا تسعة أشخاص هربوا ليابعوا سيرتهم في نشر الكره والبغضاء للإمام علي كرم الله وجهه . أما في معسكر خليفة المسلمين الإمام علي استشهد في تلك المعركة ثمانية مقاتلين.
أرسل الفارون من الخوارج من معركة النهروان ثلاثة من القتلة لقتل كل من الإمام علي كرم الله وجهه ومعاوية ابن أبي سفيان وعمرو ابن العاص حيث نجا الأخيران من القتل وتمكن ابن ملجم من قتل الإمام علي كرم الله وجهه في محرابه أثناء الصلاة.
نظرات عبر قوانين القدر
فكانت محنة سيدنا علي كرم الله وجهه قدرا مقدورا. انتهت بمأساة، وأي مأساة... توجع القلوب، وتبعث الأسى الحارق للأكباد، والحزن العميق. ليس على اغتيال الإمام، فإنه نال وسام الشهادة التي لا شك فيها. أضافها إلى درجة الصديقية الكبرى، وإلى مرتبة سيدنا هارون التي بشره بها نبي الرحمة المهداة للعالمين. ولكن الإشفاق العميق والحزن المؤلم، على الخوارج الذين زين لهم الشيطان قتل أهل البيت، وأئمة الهداية منهم، وأشياعهم وأتباعهم وأنصارهم... في ذلك الزمان... وفي كل زمان. استخفافا بوصية القرآن: {{ ... قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ...}} (الشورى: 23)، وبوصايا النبي التي وردت في حديث موالاة علي، وحديث الثقلين الخليفتين.
ومما لا ريب فيه أن كل معتد صائل على دولتهم الظاهرة في العجم بالسلطان والقرآن في هذا الزمان، لا يعدو أن
أن يكون واحد من ثلاثة:
· متلبسا ببدعة الضرار، إن كان محاربا بتوجيه من اليهود والنصارى المعتدين، لتكريس واقع الفرقة والتنازع والفشل في الأمة؛
· قاسطا ناصبيا يعرف الحق وينكره حسدا، وطلبا للدنيا والعلو في الأرض بغير حق؛
· مارقا عن الدين، يعتبر أعلى القربات قتل النفس التي حرم الله، بعد أن نصب نفسه خصما وحكما، يكفر أهل القبلة الذين لم يوافقوه، أو بسبب نصرتهم لأئمة الهداية من العترة الموصى بهم في حديث الثقلين الخليفتين.
وبخصوص هذه الفرقة التي أحيت بدعة الخوارج، ينسب إلى الإمام علي، أنه فسر قوله تعالى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف: 103-104] بأنهم الحرورية." كتاب الاعتصام للشاطبي".
وما يعارض القدر إلا مطعون في إيمانه... {{ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}} (يونس: 99). لكن نعمل فكل ميسر لما خلق له. وندفع القدر بالقدر. والعمل، والتدافع هنا: الحذر الشديد من أي فعل أو شبهة توشك أن تحشرنا مع الخوارج دنيا وآخرة. ثم نعتبر ونتفكر في مراد الله وحكمته في تنوع تراكيب أسماع وأبصار وأفئدة خلقه... وننظر في قصص الأولين، لاستشراف حاضر ومستقبل المسلمين.
ألم تكن ظاهرة الخوارج تحديا مزعجا للمسلمين أيقظهم من سباتهم، ومحص إيمانهم، وسدد مسيرتهم الاستخلافية، وشحد قدراتهم القتالية لحماية بيضتهم بين أعدائهم الحقيقيين الذين يتربصون بهم الدوائر؟ ألا يتكرر تحت أعيننا ما حدث للمهلب بن أبي صفرة: " أحد فرسان علي بن أبي طالب، قاتل الخوارج من بعده تسعة عشر سنة حتى قضى على شوكتهم. ومهد لوصول هدي الإسلام وقيمه المحررة للشعوب من جور الأديان، إلى مناطق شاسعة من آسيا من العراق إلى تخوم الصين"؟
ذكرت كتب السنن " عن أبي غالب قال : كنت بالشام ، فبعث المهلب ستين رأسا من الخوارج فنصبوا على درج دمشق ، وكنت على ظهر بيت لي إذ مر أبو أمامة فنزلت فاتبعته ، فلما وقف عليهم دمعت عيناه ، وقال : سبحان الله ، ما يصنع الشيطان ببني آدم ؟ ثلاثا . كلاب جهنم ، كلاب جهنم ، شر قتلى تحت ظل السماء . ثلاث مرات ، خير قتلى من قتلوه ، طوبى لمن قتلهم ، أو قتلوه ، ثم التفت إلي فقال : يا أبا غالب ، أعاذك الله منهم . قلت : رأيتك بكيت حين رأيتهم . قال : بكيت رحمة ؛ رأيتهم كانوا من أهل الإسلام . هل تقرأ سورة آل عمران ؟ قلت : نعم . فقرأ : ( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب ) حتى بلغ ( وما يعلم تأويله إلا الله ) ، وإن هؤلاء كان في قلوبهم زيغ ، وزيغ بهم ، ثم قرأ : ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا ) إلى قوله ( ففي رحمة الله هم فيها خالدون ) ، قلت : هم هؤلاء يا أبا أمامة ، قال : نعم . قلت : من قِبَلِك تقول أو شيء سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : إني إذا لجريء . بل سمعته لا مرة، ولا مرتين ، حتى عد سبعا ، ثم قال : " إن بني إسرائيل تفرقوا على إحدى وسبعين فرقة ، وإن هذه الأمة، تزيد عليهم فرقة ، كلها في النار إلا السواد الأعظم . قلت : يا أبا أمامة ، ألا ترى ما يفعلون ؟ قال : عليهم ما حملوا ، وعليكم ما حملتم " .." رواه البيهقي في السنن الكبرى".
تنزيلات على الحاضر
ومَنْ مِنْ أمهات التكفيريين، لا تبكي رحمة وإشفاقا وحزنا عميقا على أبنائها المغرر بهم، تتوقع كل حين أن تفجع برؤية أشلائهم ضمن شر قتلى تحت ظل السماء... ومن قتلوهم سجدا ركعا في بيوت الله يرتقون شهداء فائزين... والمنتحر يوشك أن يبعث كلبا من كلاب جهنم...؟
ولقد اعترفت الفرق كلها أن الحق مع سيدنا علي، ما عدا النواصب.
والخوارج الذين يعنيهم هذا البحث، كانوا يشكون في صحة وسلامة موقفهم منه، حتى إذا جاء العهد الأموي قالوا: قد جاء الآن ما لا شك فيه. ثم أخذوا على عاتقهم مهمة قتال الأمويين بكل ضراوة وعنف. وكانت سياسة الأمويين الظالمة تجاه الناس، قد ساهمت في إقبال الناس على الانخراط في سلك الخوارج لمحاربتهم حتى ليبلغ عدد جيش الضحاك الخارجي مئة وعشرين ألفاً كما يقولون.
لكن آالآن يا خوارج وقد دمرتم دولة الثقلين الخليفتين الموصى بها، وأعنتم دولة النواصب الأموية عليها من حيث تدرون أو لا تدرون، وسفكتم دم أمير المؤمنين؟ ما أغنى عنكم جهادكم لبني أمية، ولا ما تدعون من نسك وصلاة وصيام... بعد أن أقحمتم أنفسكم في سجل القاتلين لأوصياء الرسل كما فعلت بنو إسرائيل...
وأقصى تقديراتنا بعد الذي تكرر من فعلهم في هذا الزمان تجاه دولة العترة، احتمال أن تتعظ فرقة منهم وتتوب إلى الله متابا، كما حدث لطائفة منهم لما حاججهم ابن عباس، ثم علي وأعطاهم الأمان... ذلك أصل توقعاتنا في محور التنزيلات والتطبيقات على فتنة العصر. أن فتنة "القاعدة" وبناتها التي أسست ضرارا وخروجا على أهل القبلة، ثم استغلت ونفخ فيها لمضاهاة ومحاربة دولة العترة الظاهرة في إيران، يوشك أن تزول بعض ظلماتها عن قريب إن شاء الله، بعد تصويب رمي شبابها نحو الجهة التي تمثل ناصبة القرن، ونحو أهل الضرار الموالين لليهود والنصارى في هذا العصر. وحجتنا في ذلك بسيطة: من يحب لنفسه أو لغيره أن يُبعث كلبا من كلاب جهنم؟
وفي المقابل، أئمة الهداية الممهدون للمهدي، وحلفهم من المذاهب السنية الذين لا يكفرون أهل القبلة، سوف يعملون بأمر صاحب التأويل إذ قال كرم الله وجهه: { لا تقتلوا الخوارج بعدي}. فسرت لنا المصادر الشيعية ذلك التأويل، فقالوا: "... فإنا نجد علياً الذي يحارب الخوارج ويستأصل شأفتهم يوصى الناس وشيعته بأن لا يقاتلوا الخوارج بعده، ويعلل ذلك بأنه ليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه. وأيضاً.. فقد ذُكِرت الحرورية عنده - وهي فرقة من الخوارج - ، فقال: إن خرجوا على إمام عادل... فقاتلوهم، وإن خرجوا على إمام جائر فلا تقاتلوهم، فإن لهم في ذلك مقالاً ".
ويروي ابن أبي الحديد عن علي رضي الله عنه روايات تفيد أنه كان لا يرى كفر الخوارج، ولا استباحة دمائهم، ومنها قوله: (لا تقاتلوا الخوارج بعدي، فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه).
نفس التأويل أخرجه الطبري بسند صحيح عن عبد الله ابن الحارث عن رجل من بني نضر عن علي وذكر الخوارج، فقال: { إن خالفوا إماما عدلا فقاتلوهم، وإن خالفوا إماما جائرا، فلا تقاتلوهم، فإن لهم مقالا} ( فتح الباري: 315/12، وقال ابن حجر حديث صحيح) .
والإمام العادل يكون واحدا فردا جامعا للمسلمين، ومن جاء بعده منازعا، أو معتديا، فهو مقتول بحكم الشرع الثابت في السنة الصحيحة.
والتوبة ضمنها لهم ربهم من فوق سبع سماوات، فهو أعلم بأحولهم ونياتهم: {{ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (الأنعام: 117)؛ وشروط التوبة بينتها آيات محكمات: تسليم أنفسهم للإمام العادل قبل أن يقدر عليهم: أي أن يهزمهم في الحروب التي أوقدوا نارها. والتكفير عن ذنوبهم بابتغاء وسيلة مجاهدة أئمة النصب والضرار، وحكام العلمانية التلمودية الذين تحالفوا مع اليهود والنصارى لشن عدوانهم على دولة العترة. والقرآن جاء للتطبيق لا للتحنيط، وإلا صدق علينا وصف الخوارج: { يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ}. ذلك حكم الله الوارد في قوله عز وجل: {{ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (34) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36)}}. " سورة المائدة".
فهي حالات معقدة مستعصية على كل مراوغ لم يتخذ منهاجا صارما في التأصيل والتقعيد لها انطلاقا من التنزيل، ومن سنة صاحب التنزيل صلى الله عليه وآله وسلم، ومن هدي صاحب التأويل الإمام علي كرم الله وجهه. لا نمل من تكرار هذا ليستقر في الأفهام.
وذلك هو التفسير لما نراه ساريا في كيفية استغلال الحلف الصهيوتكفيري والصهيوإنجيلي للقاعدة وبناتها: مرة يضربون الشباب الساذج بالطائرات ويحرقونهم حرقا، ومرة يسلحونهم بالصفقات المليارية، ومرة يوجهونهم للقتال في الصحراء الخالية من أي شجر أو حجر يحميهم، ومرة يوجهونهم للاقتراب من حدود إيران ولبنان واليمن، ومرة يقربونهم من حدود إسرائيل لتضميد جراحهم، وقس على ذلك من المكائد الصهيونية التي تذكرنا بمكائد عمرو بن العاص، الذي استحمر زعيمهم أبا موسى الأشعري، فقضى عليه، وقضى على دولة الثقلين الخليفتين الموصى بها، تحت قيادة أمير المؤمنين كرم الله وجهه.
اللهم أجرنا من النار برحمتك وعفوك وهدايتك يا أرحم الراحمين. اللهم احفظنا واحفظ أبناءنا وأبناء المسلمين من فتنة المسيح الدجال، ومن يمثله في هذا الزمان. اللهم إنا نعوذ بك أن نكون من {{ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}}. "(الكهف: 104)".
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ... اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.
رباط الفتح
ليلة الجمعة 18 شعبان 1436هـ
موافق 5 يونيو 2015 م
محمد المهدي الحسني