بعض المناسبات كما بعض الأسماء لاينساها التاريخ ، تبقى حاضرة في الأذهان لأنها شكلت نقلة نوعية في حياة البشر عبرت عن مايختلج في نفوسهم وجسدت أحلامهم وعبدت طريق الخلاص أمامهم .
لكن وصول تلك الرسالات وإنتشارها لم يكن بالشئ الهين بل أخبرنا التاريخ بصدام ومواجهة وتعنت مكابرة من قبل أعداء الحياة لكل الرسالات الخالدة ورسلها والمبشرين بها . لأنها تقطع الطريق أمام سيادة الشر وطغيانه .
فمنذ خلق آدم وهبوطه وزوجه الأرض ، وطرد إبليس من الجنة ووعيده بدأ الصراع بين الحق والشر كسنة من سنن الحياة التي لم تعرف سيرا منتظما بل كرسم بياني تزدهر حضارات وتخفت أضواء أخرى ، وتشهد إستقرار حينا لتتبعها حرب طاحنة لاتبقي ولاتذر . وظل الإنسان في بحث دائم لحل المعظلات التي تواجهه وتسخير كل مافي الكون لخدمته ، بينما يصر أصحاب عقد التسلط والطغيان للسيطرة على مقدرات الناس وجعل الجموع عبيد لهم حتى وصل ببعضهم إلى إعتبار نفسه إله للكون .
وأستمر الصراع من خلال الرسالات السماوية التي جاءت لتصحيح أنحراف البشر ، وتطور الفكر البشري الذى أدى لسقوط وهم الألهة البشرية ، ثم الملوك الذين أبتدعوا بأنهم ظل الله في الأرض ، ثم مجئ عصر الجمهوريات الذي وصلت فيه البشرية إلى إختيار من يحكمها . وظل هذا النموذج ساريا رغم أنه بمرور الزمن أتضحت عيوبه للعيان بعدم تلبيته طموح الجموع ، فلا أحد يستطيع أن ينوب عن أخر في تطلعاته وأحلامه ومتطلباته . ليستمر العقل البشري في البحث والتفكير حتى كانت البشرية مع مناسبة وحدث أخر شكل منعطف جديد في التاريخ الأنساني ببزوغ النظرية الجماهيرية لترسم طريق تسقط فيه النيابة والوصاية والتمثيل ويصل الجميع ليكون شريكا في كل جوانب حياته ومستقبله من العمل مرورا بالدفاع والأمن ونهاية بالسلطة .
حدث أخر سجله التاريخ في 2 مارس 1977 بإعلان قيام سلطة الشعب . جاء في وقت مهم للغاية . وكالعادة كانت دوائر الشر بالمرصاد كما حاربت أصحاب الرسالات السماوية والمفكرين والفلاسفة ، وقتلت بعضهم وسجنت بعضهم ونفت أخرين ، فأعلنت الحرب على هذا الفكر وصاحبه وأنصاره وبلده . فلم تألوا جهدا عبر عقود لشن حملات التشويه وحبك المؤامرات من محاولات الإغتيال المباشر إلى إعلان الحرب والحصار والأحتلال .
هي سنة الحياة . لكن حتى وإن أختفى أو مات أصحاب الأفكار فإن رسالاتهم ستظل خالدة تتناقلها الأجيال ويتدارسها طلبة العلم والباحثين عن الخلاص وستنتشر لأنها رسالة خير تحرض الجموع المستضعفة والمقهورة والمغلوبة نحو ثورة التغيير ونبذ كل الحلول التلفيقية والتجارب التقليدية التي كانت في خدمة السادة واللوردات وأرباب العمل والحداق ورؤوس الأموال لينتهي الصراع بوصول الجماهير لإمتلاك زمام أمورها حيث هي السيد والحاكم من خلال مؤتمرات شعبية تقرر ولجان شعبية تنفذ . ، والسلطة والثروة والسلاح في يد الشعب . وتسقط الأحزاب التي شكلت عبئا ثقيلا على البشرية حينا من الزمن بتغولها وفرض رؤيتها وتسلطها ومتاجرتها بهموم الناس وأحلامهم .
وهذا مانراه اليوم في عواصم العالم .. حيث في فرنسا يحتج ملايين الفقراء للمطالبة بالديمقراطية الشعبية ، وفي إيطاليا وأسبانيا وألمانيا وحتى بريطانيا تضع الأحزاب العتيدة أيديها على قلوبها خوفا من أنفجار الملايين التي قتلت أحلامها خلف الألة الإعلامية الخادعة ، وفي أمريكا يتاجر حكامها بتهدئة الشارع حيث قال ترامب في حملته الأنتخابية أنه يريد نقل السلطة من البيت الأبيض للناس ..
كانت التجربة الوليدة في مجتمع شرقي بدوي خرج للتو من حقب إستعمارية متلاحقة عبر قرون من الزمن بمثابة صدمة كبيرة . لكن المعلم أستطاع أن يجذب أليه الكثير بأسلوبه وثقافته ومواقفه وشخصيته الفذة ليرسي قواعد تلك النظرية الوليدة ، وبين صعوبة إستيعاب الفكر المتقدم لمجتمع متخلف عطفا على مراحل إستعماره وبين حملات التشويه والملاحقة والتأمر والحصار من قبل دوائر الغرب الحاقد ، مرت التجربة بكثير من العقبات من سلبية أحيانا ، وسوء ممارسة أحيانا ، وعدم وعي في أحيانا أخرى ، أوصلت المجتمع بعد عقود لإنتكاسة مردها التأثير الإعلامي الخارجي والتخلف الداخلي ليعود المجتمع لممارسة تلك الأنظمة التقليدية المثمثلة في أحزاب يقودها رؤوس المال وتجارالحروب وصناديق التزوير والإنتخابات الخادعة التي سرعان ماأكتشف المجتمع زيفها فأحرق في 2014 مقرات الأحزاب وطارد قادتها وأقتحم قاعات النواب والممثلين وعبث بها وسخر من كل الذين تصدروا المشهد . ربما المشهد المنظور معقد ، لكنه كشف الزيف والخداع في التجربة الرأسمالية الجشعة ليصل المجتمع اليوم بوعي ونضج لفهم النظرية الجماهيرية ورغبته في ممارستها بتصحيح بعض الإنحرافات التي صاحبتها سابقا . والتي ستكون نقطة تحول وإنطلاق لتشع لكل الكون لتتحرر الشعوب من الأنظمة التقليدية التي كبلتها وسرقت عرقها ونصبت نفسها وكيلا على أمورها .
يقول الكتاب الأخضر ( إن عصر الجماهير و هو يزحف حثيثاً نحونا بعد عصر الجمهوريات يلهب المشاعر .. و يبهر الأبصار ) ... الفارس الليبي