إهداء من أم كلثوم إلى محمد عفيفي
صورة فوتوغرافية بتاريخ 16 مارس 1938
دارت أحاديث كثيرة حول ألحان محمد عفيفي لأم كلثوم التي لم تنشر، وقد صرح في أكثر من حديث له بأنه قد تم الاتصال بينهما وأن الألحان قد عرضت عليها في أوائل الأربعينات، وبترشيح من صديق الطرفين زكريا أحمد. وأنها كانت ثلاثة ألحان هي: إنت جيت، حلفت لي، الدنيا غنت. لكن المسيرة لم تكتمل "لأسباب خارجة عن الإرادة"
سنحاول هنا استطلاع هذه القصة وكشف ظروف ومواقف الطرفين. وعلى أي حال فإنها لم تكن الصفقة الأولى ولا الأخيرة التي لم تكتمل مع أم كلثوم، فقد تكرر هذا السيناريو مع أكثر من ملحن كبير مثل أحمد عبد القادر، فريد الأطرش، محمد فوزي، ومحمد عبد الوهاب قبل أن يجتمعا في 1964 بوساطة من القيادة السياسية. إلى جانب ذلك فإن لأم كلثوم مواقف تسببت في إنهاء علاقات قائمة بالفعل مع ملحنيها مثل صبري النجريدي، أول ملحن لها، ومحمد القصبجي أستاذها ومعلمها ومكتشفها، والذي امتنعت عن التعامل معه منذ 1947 وحتى وفاته في 1966 وزكريا أحمد الذي توقفت عن الغناء من ألحانه عام 1947 حتى أن تصالحا في 1960، وكمال الطويل منذ آخر لحن لها عام 1956
عام 1943 كان محمد عفيفي شابا نحو الثلاثين من عمره عندما عرضت ألحانه على أم كلثوم، ومقارنة بأعمار الملحنين الآخرين لأم كلثوم كان القصبجي في الخمسين، وزكريا دون الخمسين بقليل، والسنباطي تجاوز الأربعين عاما، وكانوا في ذلك الوقت أسماء كبيرة في عالم الفن.
هل حال صغر سن محمد عفيفي في ذلك الوقت دون إتمام الاتفاق بينه وبين أم كلثوم؟ ربما .. لقد قبلت أم كلثوم عام 1959 لحنا من ملحن شاب هو بليغ حمدي وكان في مثل سن محمد عفيفي تقريبا عندما غنت له أم كلثوم، لكنها لم تلتق به وإنما قدم لحنه إليها الفنان محمد فوزي، وقبلته على أنه من ألحانه، وكان قد تجاوز الأربعين وحقق شهرة لا بأس بها، ثم فوجئت أم كلثوم باعتراف فوزي بأن اللحن ليس له وإنما من ألحان ملحن جديد. لم تستطع أم كلثوم سحب موافقتها على اللحن لمجرد علمها بأن ملحنه شاب في مقتبل العمر، وعليه فقد مضت الشوط لآخره
المهم أن أم كلثوم لم تبت في الأمر، لكن عفيفي لم ينتظر طويلا وقرر تسجيل ألحانه لها بأصوات أخرى. عام 1952 اتفق محمد عفيفي مع مطربة القطرين فتحية أحمد، منافسة أم كلثوم القوية، على 7 ألحان دفعة واحدة عندما قامت بزيارته في الإسكندرية، سجلت منها 5 ألحان، وتأكد هنا توقف المفاوضات بين أم كلثوم ومحمد عفيفي بسبب قيامه بالتلحين لمنافستها، تماما كما توقف التعامل بينها وبين محمد القصبجي بسبب تلحينه لأسمهان. لكن الأمر بالنسبة إليه كان مجرد "تحصيل حاصل" فهو لم يطق طول الانتظار وهو يرى توقفها عن التعامل مع ملحنين كبار، وربما طوى صفحة أم كلثوم قبل أن تطويها هي، على عكس ما أظهره القصبجي من صبر طويل أملا في أن تغني له أم كلثوم مرة أخرى، وهو ما لم يحدث. هذا لم ينزل من قدر أم كلثوم عند محمد عفيفي فقد كان يكن لها تقديرا كبيرا لقدرتها الفذة في الغناء، وكان يعتبر الفن بالنسبة له أهم من البيزنس والشهرة، ولذلك لم يلتفت كثيرا إلى ظروف الأعمال والاتفاقات، ومضي يقدم ألحانه دون اكتراث
إنت جيت
مقام راحة أرواح - إيقاع فالس
كلمات عبد الرحمن عمر - ألحان محمد عفيفي
حلفت لي
مقام راحة أرواح
كلمات محمد الحسيني - ألحان محمد عفيفي
تسجيل ألحان محمد عفيفي لأم كلثوم - وفد إذاعة الشرق الأوسط - برنامج سهرة مع فنان - قصر ثقافة الحرية بالإسكندرية فبراير 1968
الإعلاميون: محمد أنور، حسن شمس، حسن حامد، والكاتب محمود دياب مدير ثقافة الإسكندرية
عام 1968 جاء إلى الإسكندرية وفد إذاعي من إذاعة الشرق الأوسط برئاسة كبير المذيعين "محمد أنور" للقاء محمد عفيفي في قصر ثقافة الحرية، مركز الإبداع حاليا. كان بصحبة محمد أنور الإعلاميان الكبيران حسن شمس، وحسن حامد الذي تولى رئاسة اتحاد الإذاعة والتليفزيون فيما بعد.
كانت الزيارة لاستطلاع أعمال الفنان السكندري الذي لا يرغب في العمل بالقاهرة، وتسجيلها في حلقة خاصة من برنامج "سهرة مع فنان". وكان الكنز الثمين الذي ظفر به ذلك الوفد هو تسجيلات لألحان محمد عفيفي لأم كلثوم. وبالفعل سجل الفريق أغنيتين هما "إنت جيت" و "حلفت لي". وعندما سئل عفيفي في البرنامج لماذا لم تر هذه الألحان النور ولم تقم أم كلثوم بتسجيلها قال "أسباب خارجة عن الإرادة"
كانت أم كلثوم على قيد الحياة وفي عز نشاطها، وتنتبه إلى كل صغيرة وكبيرة في الوسط الإعلامي تذكر اسمها، بدليل موقفها من الإذاعية الكبيرة آمال فهمي بسبب كلمة في برنامجها، وإصرارها على أن تترك الإذاعة تماما، وهو ما حدث بالفعل. أذيع برنامج "سهرة مع فنان" وأعيدت إذاعته وسمعه الكثيرون، ولم تنف أم كلثوم اتفاقها مع محمد عفيفي كما أذيع، وربما اعتبر الطرفان أن تلك الاتفاقات قد عبرها الزمن ولا ضير من تذكرها
عرض لحن "إنت جيت" على أم كلثوم في 1943، وسجل لإذاعة القاهرة عام 1944، واقتبس منها صديقه الشيخ زكريا أحمد اللحن المميز لأغنية "الورد جميل" لأم كلثوم عام 1947، وكذلك القفلة الغنائية
سنستمع هنا إلى لحن "إنت جيت" بصوت ملحنها، وربما لا نحتاج إلى الاستماع إلى نظيرتها "الورد جميل" نظرا لشهرتها من ناحية، ومن ناحية أخرى لأن الاقتباس من الوضوح بحيث لا يحتاج لشرح أو إيضاح في أوجه الشبه بين اللحنين، وعلى أي حال فقد أوردنا تحليلا فنيا يوضح ذلك مرفقا بلحن "إنت جيت"
ومن أسرار ذلك اللحن أن الشيخ زكريا استمع إليه مباشرة من الملحن، حيث كانت تربطه به صداقة كبيرة، وكان عفيفي يستضيفه في منزله كلما قدم زكريا إلى الإسكندرية. ولم يقتصر الأمر على إعجاب عفيفي بألحان الشيخ زكريا الأصيلة، فقد كان زكريا أيضا يطلب منه أن يسمعه ألحانه كلما اجتمعا في سهرة فنية. وصداقات عفيفي مع كبار الملحنين ليست أمرا غير معروف، فقد كانت تربطه صداقة بمحمد عبد الوهاب، وكانا يلتقيان في الإسكندرية وفي القاهرة أيضا منذ أن تعارفا عام 1929 في حفل على مسرح زيزنيا، وكان عبد الوهاب يتوسط أحيانا لحل بعض القضايا بين محمد عفيفي والإذاعة، كما كان على صلة بالموسيقار العظيم محمد القصبجي والتقى به كثيرا
هل اكتشفت أم كلثوم اقتباس زكريا للحن الورد جميل؟ لا أحد يدري متى تم لأم كلثوم ذلك، لكنها قاطعت زكريا أحمد مباشرة بعد تسجيل اللحن وعرض فيلم "فاطمة" لمدة 13 عاما وإلى قبل وفاته بعام واحد. كانت هناك مسائل أخرى عالقة بين أم كلثوم وزكريا وصلت إلى ساحات المحاكم، لكن هذه المسألة حسمها عفيفي الذي لم يشأ إحراج صديقه بأي شكل، فلم يكترث باقتباس زكريا للحنه ولم يتوقف عنده كثيرا، واعتبره مجرد تأثر بلحن علق في ذهنه وظهر في لحن له دون قصد. كان عفيفي يحمل إعجابا كبيرا للشيخ زكريا وقال عنه ذات مرة واصفا تمكنه من التلحين "الشيخ زكريا عندما يلحن يخيف الملحنين الآخرين". كما ظل عفيفي على إخلاصه لزكريا بعد رحيله وقام بإرساء تقليد إحياء ذكرى الشيخ زكريا كل عام على مسارح الإسكندرية، وكان يقدم بنفسه ألحانا غير معروفة لزكريا في العروض الحية والندوات، وقرن بينها وبين ذكرى بيرم التونسي، وهو التقليد الذي انتقل للقاهرة فيما بعد، وكان يردد دائما أن زكريا أحمد ملحن كبير وقدير. ولم يلتفت إلى نصائح من علم بالأمر بمقاضاته بل كان رده "أنا اقاضي الشيخ زكريا؟ لا يمكن"
وما يهمنا من قصة "إنت جيت" واقتباس زكريا أمر أهم من الحقوق المادية والأدبية، وهو تأكيد أن ألحان محمد عفيفي كانت في مستوى زكريا أحمد وأم كلثوم، وأن ما حققته أغنية "الورد جميل" من نجاح وشهرة يرجع الفضل فيه إلى محمد عفيفي. وربما تدعونا هذه النظرة إلى اكتشاف "إنت جيت" باعتبارها الأصل الذي أوحى للشيخ زكريا لحن الورد جميل. ولهذا ندعو كل النقاد والمؤرخين والإعلاميين إلى إعادة اكتشاف أعمال الرواد الذين لم تكتب لهم الشهرة مثل غيرهم، وعلى رأسهم الفنان محمد عفيفي، وأيضا لاكتشاف المواهب الجديدة في عالم الفن وعدم الاكتفاء بالأسماء المعروفة، والتي قد يصنع الكثير منها الإعلام أكثر مما يصنعه الفن
لنستمع إلى ألحان محمد عفيفي التي أعدها لأم كلثوم بصوت الملحن "إنت جيت"، و"حلفت لي"، المسجلتين بصوت فوزية أحمد في ديسمبر 1943 ويناير 1944 على التوالي، والتي سجلت أيضا الأغنية الثالثة "الدنيا غنت" في سبتمبر 1944 حسب سجلات أرشيف إذاعة القاهرة، كما أعيد تسجيل "الدنيا غنت" بصوت المطرب سعيد حسن في أكتوبر 1954 لإذاعة الإسكندرية