6-تدبر سورة المائدة

سورة المائدة

سورة المائدة (مدنية)، ومنها ما نزل في مكة (بعد حجة الوداع).

نزلت بعد سورة الفتح، وهي في ترتيب المصحف بعد سورة النساء، وعدد آياتها 120 آية.

إنَّ سورة المائدة هي السورة الوحيدة في القرآن التي ابتدأت بـ ]يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ...[.

وتكرّر هذا النداء في القرآن كله 88 مرة، منها 16 مرة في سورة المائدة لوحدها.

يقول عبد الله بن مسعود: "إذا سمعت ]يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ[ فارعها سمعك فإنه أمر خير تؤمر به أو شر تنهى عنه". ومعنى ]يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ[ أي يا من آمنتم بالله حقاً، يا من رضيتم بالله رباً، يا من أقررتم بالله معبوداً، اسمعوا وأطيعوا.

هدفها نداؤها

أما هدف السورة فهو واضح من أول نداء جاء في السورة ]يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ[ أي أوفوا بعهودكم، لا تنقضوا الميثاق، والعقود تشمل ما عقده الإنسان، من المسؤولية عن الأرض واستخلاف الله للإنسان، إلى أمور الطاعات كالصلاة والحجاب، إلى ترك المحرمات كشرب الخمر واكل الحرام.

وكما ذكرنا فلم يتكرر نداء ]يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ[ في أي سورة كما تكرّر في سورة المائدة (16 نداء) فسورة البقرة مثلاً فيها عشرة نداءات مع أنّ

عدد آياتها أطول. هذه النداءات تشكل محاور السورة، فكلما يأتي نداء منها ترى بعده محوراً جديداً للسورة فيه تفاصيل الأوامر أو النواهي. 16 أمراً والسورة تنقلنا من أمر إلى آخر، لتأمرنا بالإيفاء بالعقود.

تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: "إنَّ سورة المائدة كانت آخر ما أنزل ما القرآن فما وجدتم فيها من حلال فأحلّوه وما وجدتم فيها من حرامٍ فحرِّموه".

ففي السورة نرى آخر آية أحكام في القرآن: ]ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلأسْلاَمَ دِيناً[ (3) من التي أنزلت في حجة الوداع.

أظن أن هدف السورة بدأ يظهر. الآن وقد تم الدين، فالتزموا بالعهد مع الله وحافظوا عليه، فأحلّوا حلاله وحرّموا حرامه. إنها سورة الحلال والحرام في الإسلام. لذلك جاء في الحديث "علّموا رجالكم سورة المائدة، وعلّموا نساءكم سورة النور".

محاور السورة

كما ذكرنا فكلما يأتي نداء ]يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ[ تنتقل بنا السورة إلى محور جديد وأحكام جديدة تفصيلية. والملفت أن كل آيات السورة تدور في فلك هذه المحاور التي تبيّن أحكاماً كثيرة في الحلال والحرام:

1. الطعام والشراب والصيد والذبائح.

2. الأسرة والزواج.

3. الإيمان والكفارات.

4. العبادات.

5. الحكم والقضاء والشهادات وإقامة العدل.

6. تنظيم علاقات المسلمين والأديان الأخرى، خاصة اليهود والنصارى.

هناك تركيز في السورة على الحلال والحرام في الطعام والشراب والصيد والذبائح. وهذا يتناسب تماماً مع اسم السورة "المائدة"، فالطعام من أهم ضروريات الحياة ومع ذلك فيجب مراعاة الحلال والحرام فيه، فما بالك بغيره من شؤون الحياة؟ أيضاً خلال هذا الكم الهائل من أحكام الحلال والحرام في السورة يأتي التأكيد دائماً على أن التشريع ملك الله وحده، من أول آية ]إِنَّ ٱلله يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ[ إلى أن تأتي ثلاث آيات تحذّر من الحكم بغير ما أنزل الله، كقوله تعالى ]وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ ٱلله فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْكَـٰفِرُونَ[.

تدرّج وترابط سور القرآن

وتنبَّه إلى علاقة سور القرآن السابقة مع سورة المائدة، فبعد أن أبلغت سورة البقرة مسؤولية الإنسان عن الأرض، جاءت سورة آل عمران لتحثّ المرء على الثبات، ثمّ سورة النساء لتبلغنا أنه حتى نثبت لا بد من أن نحقق العدل والرحمة مع الضعفاء خاصة مع النساء، ثمّ تأتي بعد ذلك سورة المائدة لتأمرنا بالإيفاء بكل ما سبق...

سورة المائدة تأمرنا إذاً بالعدل مع الزوجة والضعفاء وكل الناس وتأمرنا بالثبات والوفاء مع المنهج الذي أراده الله لنا وبيّنه في سورة البقرة...

لذلك جاءت فيها الآية (3) التي أعلنت ختام المنهج وإتمامه.

ولاحظ أيضاً تدرّج سور القرآن الكريم في خطاب أهل الكتاب:

سورة البقرة: بيان لأخطاء أهل الكتاب فقط مع الدعوة إلى التميّز عنهم.

سورة آل عمران: مناقشة هادئة مع عقائدهم وإيجاد نقاط مشتركة.

سورة النساء: انتقاد غلو أهل الكتاب واختلافهم في عيسى عليه السلام.

سورة المائدة: مواجهة شديدة ]لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ ٱلله ثَـٰلِثُ ثَلَـٰثَةٍ...[ (73).

مما يعلمنا أن الإسلام منهج متدرّج في خطابه مع الأديان الأخرى.

النداء الأول (أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ)

]يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ ٱلاْنْعَامِ[ (1).

فما علاقة الوفاء بتحليل الله تعالى لنا بهيمة الأنعام للذبح والطعام؟

إن أول ما ذكر بعد طلب الوفاء هو ما قد أحل، فلم يبدأ ربنا بما قد حُرِّم لئلا يكون منفراً فكلمة ]أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ[ توحي بأن الخطاب بعدها شديد اللهجة، فتأتي مباشرة كلمة ]أُحِلَّتْ لَكُمْ[ وهذا من رحمة الله تعالى بهذه الأمة، وهذه طريقة ينبغي على الدعاة اتباعها لكسب القلوب، فالداعية لا يجدر به أن يبدأ مع من يدعوهم بما قد حُرّم عليهم، لأن الأصل في الأشياء الإباحة فيبدأ بما أبيح أولاً، ثمّ ينبّههم إلى المحرّمات بعد ذلك.

وإلى جانب الرحمة واللطف في الخطاب، هناك معنى لطيف في النداء الأول: أوفوا بالعقود حتى لا نضيّق عليكم دائرة الحلال، كما كان الحال مع اليهود.

والملفت أن هذا المعنى أشارت إليه السور المحيطة بسورة المائدة (النساء والأنعام).

فنرى في سورة النساء قوله تعالى ]فَبِظُلْمٍ مّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيّبَـٰتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ[ (160).

وفي سورة الأنعام ]وَعَلَى ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ...[ (146).

لماذا كان هذا التحريم؟ ]... ذٰلِكَ جَزَيْنَـٰهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَـٰدِقُونَ[ (146).

فهم لم يوفوا بعهدهم مع الله فضيّق عليهم بعض الحلال عقاباً لهم، فحذار أيها المسلمون من أن يصيبكم ما أصابهم.

النداء الثاني (لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ ٱلله)

]يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ ٱلله...[ (2).

يا مؤمنين، لا تغيِّروا معالم دين الله تعالى من أوامر ونواهي.

]... وَلاَ ٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ وَلاَ ٱلْهَدْىَ وَلاَ ٱلْقَلَـٰئِدَ وَلا ءامّينَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّن رَّبّهِمْ وَرِضْوٰناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَٱصْطَـٰدُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِ وَٱلتَّقْوَىٰ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ...[ (2).

فالآية الأولى: أقرّت ضروريات الحياة (الطعام)، ثمّ الآية الثانية: بدأت بتقرير مبادئ إنسانية عظيمة:

- العدل (تأكيداً على هدف سورة النساء بإقرار العدل) ]وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ... أَن تَعْتَدُواْ[.

- التعاون (تأكيداً على إحدى رسائل سورة آل عمران (الوحدة

وعدم الاختلاف) ]وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِ وَٱلتَّقْوَىٰ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى

ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ[.

وهذه الآية تشمل آلاف الصور من العلاقات الاجتماعية التي تندرج تحت البر والتقوى والتعاون.

- التقوى ]وَٱتَّقُواْ ٱلله إِنَّ ٱلله شَدِيدُ آلْعِقَابِ[.

(لتذكرنا بأن هذا الكتاب ]هُدًى لّلْمُتَّقِينَ[ كما جاء في أول سورة البقرة).

وبعد ذلك في الآية الثالثة: ]حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلْدَّمُ...[.

فأول عقد ينبغي الوفاء به هو طيبات الطعام فلا يجوز أن يأكل المرء أكلاً فيه خبث...

وبعدها في الآية الخامسة: ]ٱلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيّبَـٰتُ وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ[.

وهنا قد أرشدت الآية إلى حلالين: الطيبات من الطعام والطيبات من النساء سواء كنّ مؤمنات أم من أهل الكتاب بشرط أن يكنّ محصنات وذوات خلق متين. وفي هذا لفتة رائعة إلى تسامح الإسلام مع أهل الكتاب، في نفس السورة ذات اللهجة الشديدة في الخطاب معهم ونقض عقائدهم. فالله تعالى أحل لنا النساء العفيفات سواء كنّ مسلمات أو من أهل الكتاب.

وفي نفس الآية يأتي قوله تعالى: ]ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإسْلاَمَ دِيناً[. هذه الآية محورية كونها ختام الأحكام في القرآن وعلاقتها مع موضوع السورة أنه لا وجود للعهود إلا بعد الإتمام. فبما أن الدين اكتمل، عاهد الله تعالى أيها المؤمن على الإيفاء بعهده والالتزام بشرعه. يا ترى هل أحسسنا يوماً بهذه النعمة، نعمة إتمام الدين وشكرنا الله تعالى عليها؟

جاء رجل من اليهود إلى سيدنا عمر بن الخطاب فقال: "يا أمير المؤمنين، إنكم تقرأون آية في كتابكم لو نزلت علينا معشر اليهود لاتخذنا ذلك اليوم عيداً". فقال عمر: "وأي آية؟" فقرأ اليهودي هذه الآية، فقال عمر: "قد علمت اليوم الذي أنزلت والمكان الذي أنزلت فيه، نزلت في يوم الجمعة ويوم عرفة وكلاهما بحمد الله تعالى لنا عيد".

وهنا ملاحظة لطيفة أخرى:

إن أكثر آيات السورة اختتمت بشدة وخاصة آيات المقدمة ]إِنَّ ٱلله شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ[ ]إِنَّ ٱلله سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ[.

إلاّ الآية الثالثة التي ذكرت حكم الاضطرار ]فَمَنِ ٱضْطُرَّ فِى مَخْمَصَةٍ...[ فقد اختتمت بسعة رحمة الله تعالى ]فَإِنَّ ٱلله غَفُورٌ رَّحِيمٌ[.

النداء الثالث (طيبات الروح)

]يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلوٰةِ فٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى ٱلْمَرَافِقِ...[ (6).

قد يتساءل البعض عن سبب ورود هذه الآية في وسط الكلام عن العقود والوفاء بها. فالواقع أن الآيات بدأت بطيبات الطعام ثمّ طيبات الزواج وكلها ملذات الدنيا وبعدها انتقلت الآيات إلى طيبات الروح وطهارة الروح التي تبدأ بالوضوء، وبهذا تكون السورة قد اشتملت على جميع اللذات: لذة العبادة بالإضافة للذائذ الطعام والزواج.

ويمكننا أن نستشعر خلال هذه الآيات شمولية الإسلام في الأحكام، فأحكام المعاملات قد أتت في السورة جنباً إلى جنب مع أحكام العبادات.

ملاحظة جميلة في سورة المائدة: كل 10 آيات تقريباً تأتي آية لتذكرنا بعهد الله وميثاقه. لقد ذكر العهد والميثاق في السورة 11 مرة في آيات صريحة وواضحة كأنها تقول للمسلمين "الآن وقد تمّ المنهج ووضح الميثاق، فهل ستلتزمون به؟" فتأتي الآية السابعة لتقول ]وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱلله عَلَيْكُمْ وَمِيثَـٰقَهُ ٱلَّذِى وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا...[ وهنا علاقة رائعة مع سورة البقرة التي مدحت المؤمنين في ختامها ]وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ[ (البقرة 285) بينما بنو إسرائيل كان قولهم ]سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا[ (البقرة 93) أرأيت كيف تترابط سور القرآن الكريم وتتكامل في مواضيعها وأهدافها.

النداء الرابع (العدل)

ويستمر تتابع الآيات بعد ذلك إلى أن نصل إلى النداء الرابع

]يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لله شُهَدَاء بِٱلْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَٱتَّقُواْ ٱلله إِنَّ ٱلله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[ (8).

فبعد أن تناولت الآيات إيفاء العقود في الطعام والشراب والزواج والوضوء، انتقلت إلى عقد مهم جداً (العدل) ولو مع الناس الذين نبغضهم، ولو مع الناس الذين نحاربهم. إن هذه الآية قاعدة هامة من قواعد تسامح الإسلام وعدله مع الفئات الأخرى.

النداء الخامس (ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱلله)

الآية (11) تذكرنا أن الله تعالى قد حفظ المؤمنين من غدر أعدائهم، فاتقوا الله يا مؤمنين وأوفوا بعهده: ]يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱلله عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ[.

فالله تعالى يفي بعهوده معنا سبحانه، ومن هذه الوعود الربانية الرائعة ما ذكر في الآية التاسعة: ]وَعَدَ ٱلله ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ[ (9).

فهل سنفي بعهدنا أمام الله تعالى؟

بنو إسرائيل وعقودهم

وبعد ذلك تذكر لنا السورة في ربع كامل نماذج من فئات لم تفِ بعهد الله تعالى وميثاقه، ولم تنفذ ]سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا[ كما أمرها الله تعالى وهم بنو إسرائيل، ]وَلَقَدْ أَخَذَ ٱلله مِيثَـٰقَ بَنِى إِسْرٰءيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ ٱثْنَىْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ ٱلله إِنّى مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ ٱلصَّلوٰةَ وَءاتَيْتُمْ ٱلزَّكَوٰةَ وَءامَنتُمْ بِرُسُلِى وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ ٱلله قَرْضاً حَسَناً لاكَفّرَنَّ عَنْكُمْ سَيّئَـٰتِكُمْ وَلاَدْخِلَنَّكُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلاْنْهَـٰرُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذٰلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء ٱلسَّبِيلِ[ (12).

فماذا كانت النتيجة؟ ]فَبِمَا نَقْضِهِم مّيثَـٰقَهُمْ لَعنَّـٰهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً[ (13) إنها آية شديدة في التحذير من أن نكون مثلهم فيحل علينا غضب الله ولعنته.

قصة موسى عليه السلام مع قومه

وتنتقل بنا الآيات إلى قصة سيدنا موسى عليه السلام مع بني إسرائيل حين طلب منهم أن يدخلوا الأرض المقدسة (أرض فلسطين) التي كتبها الله تعالى لهم ووعدهم فيها ]يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الاْرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِى كَتَبَ الله لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَـٰرِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَـٰسِرِينَ & قَالُوا يَامُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُواْ مِنْهَا...[ (21 - 22).

رفضوا ونقضوا عهد الله تعالى، فكان العقاب الرباني ]قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِى ٱلاْرْضِ[ (26) حرّم الله عليهم دخول الأرض المقدسة أربعين سنة.

وقد أشرنا أن السورة بدأت بقوله تعالى بـ ]يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ ٱلاْنْعَامِ...[.

للحثّ على إيفاء العقود حتى لا يضيّق الله دائرة الحلال على الأمة، وهنا في القصة نرى أن الله تعالى ضيّق على بني إسرائيل لنقضهم عهودهم. فالقاعدة العامة في السورة "إذا أوفى المرء بالعهود فإن الله تعالى يوسّع عليه وإن نقضها فإنه تعالى يضيق عليه".

قصة ابني آدم عليه السلام

]وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱبْنَىْ ءادَمَ بِٱلْحَقّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَـٰناً فَتُقُبّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ ٱلاْخَرِ...[ (27).

فابن آدم قتل أخاه متهوراً بسبب الغضب والحسد والغل، وأما علاقة قصة ابني آدم عليه السلام بقصة بني إسرائيل ودخولهم الأرض المقدسة هو أنهما نموذجان لنقض العهود: بنو إسرائيل نقضوا عهد الله تعالى لجبنهم، وأما ابن آدم فلقد نقض العهد لتهوّره، فهما نموذجان معاكسان لبعضهما، وكلاهما يؤدي لنقض العهد مع الله تعالى. والإسلام يأمرنا دائماً بالوسطية في كل شؤون الحياة.

ثم تأتي الآية (32) بعد القصة مباشرة للتعقيب عليها ]مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِى إِسْرٰءيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى ٱلاْرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَـٰهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً[ (32) لما صوّر لنا القرآن الكريم بشاعة جريمة القتل في قصة آدم عليه السلام، أتت الآيات التي بعدها بأحكام شديدة للقضاء على الفساد، فبيّنت حدود الحرابة والسرقة والإفساد في الأرض.

والجدير بالذكر أن العالم لم يعرف إلا في عصرنا هذا موضوع الحق العام في الفقه القانوني، بينما نجد القرآن قد سبق هذه القوانين بـ 1400 عام، فالله تعالى يبيّن بشكل واضح ]أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى ٱلاْرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعاً[ (32) فالجريمة ليست اعتداء على فرد، وإنما هي خطر على المجتمع، وهناك حق عام لا بد أن يؤخذ.

النداء السادس (الجهاد في سبيل الله تعالى)

يقول الله تعالى ]يَـئَأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱلله وَٱبْتَغُواْ إِلَيهِ ٱلْوَسِيلَةَ وَجَـٰهِدُواْ فِى سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[.

بعد أن عرضت الآيات السابقة خطر الفساد، أتت الآية (35) لتأمر المؤمنين بالجهاد ومحاربة الفساد.

لاحظ أنه في كل مرة يأتي الأمر بالجهاد في القرآن يذكر سببه (كما في سورة النساء حين ذكر الجهاد لنصرة المستضعفين):

]وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَـٰتِلُونَ فِى سَبِيلِ ٱلله وَٱلْمُسْتَضْعَفِينَ...[ (النساء 75).

النداء 7، 8، 9: (لا للتقليد الأعمى)

وتصل بنا السورة إلى ربع جديد، وثلاثة نداءات تهدف إلى أن يكون لهذه الأمة هويتها المميزة.

]يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰ أَوْلِيَاء

بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ ٱلله لاَ يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ[ (51).

]يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى ٱلله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ[ (54).

]يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكُمْ وَٱلْكُفَّارَ أَوْلِيَاء...[ (57).

إن هذه الآيات لا تهدف إلى تحقير وتسفيه الأديان الأخرى، إنما تهدف للحفاظ على هوية المسلم. فهي دعوة إلى تحقيق الإنتماء الكامل إلى الإسلام. فسورة المائدة لا تمنع من التعامل مع أهل الكتاب بدليل ما سبق من الآيات كالآية (5) ]... وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ[ التي أباحت الزواج من المحصنات من أهل الكتاب.

فالتسامح والرحمة مع أهل الكتاب أمر مطلوب، لكنه لا ينبغي أن يؤدي إلى ضياع هوية المسلم وانتمائه. وهناك فرق بين الاحترام والتعاون الإيجابي والرحمة والتسامح وبين الذوبان في الآخر وضياع الهوية. لذلك نرى أن النداءات 7 و9 ركّزت على عدم موالاة الكفار ومحبتهم بينما النداء 8 حذر من الارتداد عن الدين لأنه من أخطر نتائج ضياع الهوية.

والملاحظ أن الآيات في الربع السابق ركزت على التحذير من الحكم بغير ما أنزل الله:

]وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ ٱلله فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْكَـٰفِرُونَ[ (44).

]وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ ٱلله فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ[ (45).

]وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ ٱلله فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْفَـٰسِقُونَ[ (47).

]أَفَحُكْمَ ٱلْجَـٰهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱلله حُكْماً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ[ (50).

وعلاقة هذه الآيات بالنداءات الثلاثة التي بين أيدينا هي أن السبب الأساسي للحكم بغير ما أنزل الله هو التقليد الأعمى للغير.

فيا أيها الشباب أوفوا بالعقود في ترك التقليد الأعمى وأوفوا بالعقود بالإنتماء الكامل لدينكم والاحتكام إلى أوامره ونواهيه.

رقة الحب

ومن لطائف القرآن في النداء الثامن:

]يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى ٱلله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ...[(54).

إن القرآن استعمل الرقة والحب في التحذير من أخطر ما يمكن أن يقع به المرء وهو الارتداد عن دين الله تعالى.

فالآية لم تقل "من يرتد منكم عن دينه فسوف نعذّبه وندخله النار".

إن التهديد في هذه الآية كان بالحب لا بالنار. وهذا النداء الرقيق له تأثير مميّز في النفوس بعد الكلام الشديد والأوامر الشديدة التي زخرت بها السورة.

النداء العاشر (لاَ تُحَرّمُواْ طَيّبَـٰتِ مَا أَحَلَّ ٱلله لَكُمْ)

]يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُحَرّمُواْ طَيّبَـٰتِ مَا أَحَلَّ ٱلله لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ ٱلله لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ[ (87).

هنا يأتي النداء أن لا يحرّم المؤمنون ما أحلّ الله لهم من الطيبات، فالتحريم والتحليل حق الله وحده، والله عندما حرّم، لم يحرّم علينا إلا الخبائث الضارة، وأحلّ لنا الطيبات المفيدة بالمقابل، فجاءت الآية التي تليها ]وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱلله حَلَـٰلاً طَيّباً وَٱتَّقُواْ ٱلله ٱلَّذِى أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ[ (88) لتؤكد على هذا المعنى.

والرابط بين هذا النداء والنداء الثاني ]لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ ٱلله[ هو أن تحريم الحلال معصية لله تعالى وتغيير لشرعه تماماً كتحليل الحرام.

وهكذا نرى أن معالم الحلال والحرام في الإسلام تتضح شيئاً فشيئاً، وكل آية تضيف مفهوماً جديداً لتكمل الأحكام عند المسلمين قبل ختام نزول الآيات.

النداء الحادي عشر (محرّمات الشراب)

بعدما تحدثت الآيات عن الطيبات تنتقل إلى الحديث عن الخبائث (بنفس الترتيب الذي بدأت فيه السورة في الآيات (1 - 2).

]يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلاْنصَابُ وَٱلاْزْلاَمُ رِجْسٌ مّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَـٰنِ فَٱجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[ (90).

فالسورة بدأت بمحرّمات الطعام فلا بد أن تذكر محرّمات الشراب (فاسمها سورة المائدة) لتحذّر المسلم من الانغماس في ملذات الحياة المحرّمة وليفي بعهده فلا يدخل فمه قطرة خمر لتوقع العداوة والبغضاء في صفوف الأمة.

لاحظ أن الآية تعاملت مع قضية الخمر بشدة فقرنت بينه وبين الأنصاب والأزلام وهي من مخلّفات الشرك بالله وذلك للتشنيع من هذه العادة المهلكة للأمم.

والملاحظة الثانية أن القرآن استعمل كلمة (اجتنبوه) والتي هي أقصى درجات النهي والتحريم.

النداء الثاني عشر – الثالث عشر (احذروا الابتلاء في الحلال والحرام)

يقول الله تعالى ]يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ ٱلله بِشَىْء مّنَ ٱلصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَـٰحُكُمْ لِيَعْلَمَ ٱلله مَن يَخَافُهُ بِٱلْغَيْبِ[ (94) هذه الآية تحذر من البلاء (أي الامتحان) الذي قد يقع فيه المسلم ليختبر الله تعالى إيمانه وتطبيقه للحلال والحرام.

وقد نزلت عندما كان الصحابة محرمين واختبرهم الله تعالى بألاّ يصطادوا مهما كانت الطرائد منتشرة من حولهم. لذلك أتت الآية التي بعدها ]يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ ٱلصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ[ (95) لتؤكد على نفس المعنى. وهناك علاقة واضحة بين أول السورة وآخرها حيث نرى التركيز على أحكام الصيد.

النداء الرابع عشر (لا تضيّقوا على أنفسكم)

وتستمر النداءات إلى أن نصل إلى قوله تعالى ]يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ ٱلْقُرْءانُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا ٱلله عَنْهَا وَٱلله غَفُورٌ حَلِيمٌ[ (101).

هذه الآية ضابط من الضوابط التي وضعها الله تعالى في قضايا الحلال والحرام، يخطئ الكثير من الناس في فهمه، وهو عدم السؤال في المباحات إلى درجة تصل إلى حد التضييق على الإنسان، مما قد يؤدي إلى ترك الأمور التي ضيّق بها السائل على نفسه فيقع بما قد حرّم عليه.

فهذه الآية تدعو إلى التوازن فإذا كان الله تعالى قد أمرنا بالوفاء بالعقود لكن ذلك لا ينبغي أن يوصلنا للتضييق على أنفسنا.

وفي هذه الآيات ترابط عجيب مع سورة البقرة وقصة بقرة بني إسرائيل.

فالآية (102) تقول: ]قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَـٰفِرِينَ[.

في إشارة إلى كثرة سؤال الأمم السابقة لأنبيائهم فيضيق الحكم عليهم فلا يطيعون.

فهم في قصة البقرة ]فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ[ لأنهم أكثروا من السؤال عن طبيعة البقرة ولونها فيما لم يطلب منهم، فضاق الحكم الواسع المطلق عليهم. ولنا في رسول الله وأصحابه الأسوة الحسنة في هذا المعنى:

قال رسول الله r يوماً لأصحابه: "إن الله قد فرض عليكم الحج" فقال أحد الصحابة: "أفي كل عام يا رسول الله".

فسكت رسول الله r ثم قال: "لو قلت نعم لَوَجُبَتْ".

ففي سورة المائدة إذاً توازن بين التزام الأوامر والنواهي والوفاء بعهد الله وبين عدم التشديد على النفس فيما لم يأمر به الله تعالى.

النداء الخامس عشر (لا تكن إمعة)

وتتوالى الآيات، وتصل بنا إلى النداء 15 والذي هو ضابط آخر من ضوابط الحلال والحرام:

]يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهْتَدَيْتُمْ...[ (105).

قام أبو بكر الصديق رضي الله عنه خطيباً في الناس فقال: "إنكم تضعون هذه الآية في غير موضعها".

لأن الناس قد ظنوا أن معنى قوله تعالى ]... عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ[ أي لا تأخذوا بأيدي أحد للهداية، فمن أراد الضلال فليضل، فأدى فهمهم الخاطئ إلى ترك الدعوة إلى الله تعالى.

لكن معنى الآية: لو كل الناس من حولك غيّرت الحلال والحرام وتركت الوفاء بالعقود، فعليكم أنفسكم يا مؤمنين، فأثبتوا على الحق ولا تغيروا أحكام الدين، وهذا مصداق لحديث النبي r "لا يكن أحدكم إمعة يقول إن أحسن الناس أحسنت وإن أساء الناس أسأت، ولكن وطنوا أنفسكم فإن أحسن الناس أحسنوا وإن أساؤوا فلا تظلموا".

إذاً فالسورة ركزت في الندائين 14 و15 على ضابطين للأوامر

والنواهي:

- لا تضيّق على نفسك

- لا تتأثر بالناس من حولك.

النداء السادس عشر (الحلال والحرام في الشهادات والوصية)

تأتي الآية ]يِـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ شَهَـٰدَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ حِينَ ٱلْوَصِيَّةِ ٱثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ[ (106) لتكمل سلسلة الأحكام في السورة، ولتثبت شمولية الإسلام لكل شؤون الحياة، من أمور الطعام والشراب، إلى الزوجات والعلاقات الأسرية إلى أحكام الحدود والعلاقات الدولية إلى المعاملات والشهادات والوصية.

تأمل معي - مرة أخرى - آية تمام الدين وشموله لكل جوانب

الحياة:

]ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلأسْلاَمَ دِيناً[(3).

واحمد الله تعالى على النعمة التي أتمها عليك في هذا الدين وأحكام شريعته الغراء.

مقاصد الشريعة في السورة

ولأن سورة المائدة هي سورة الحلال والحرام في الإسلام، فهي السورة الوحيدة التي جمعت مقاصد الشريعة الإسلامية الخمسة:

1. حفظ الدين

2. حفظ النفس

3. حفظ العقل

4. حفظ العرض

5. حفظ المال

فهذه السورة التي احتوت قوله تعالى ]أَفَحُكْمَ ٱلْجَـٰهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱلله حُكْماً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ[ تريد أن ترشدنا إلى أن شرع الله تعالى هو أحسن شرع لضمان مصلحة البشرية في الدنيا والآخرة، وذلك من خلال:

1. حفظ الدين: ]يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ[ (54) فأول ما تهتمّ به الشريعة هو حفظ الدين وترك الكفر.

2. حفظ النفس: ]مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِى إِسْرٰءيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى ٱلاْرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعاً[ (32) وفيها تحريم قتل النفس.

3. حفظ العقل: ]إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلاْنصَابُ...[ (90) والغاية من تحريم الخمرة هي حفظ العقل.

4. حفظ العرض: ]مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِى أَخْدَانٍ[ (5) (في تحريم العلاقة بين الجنسين قبل الزواج).

5. حفظ المال: ]وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا[ (38).

فمقاصد الشريعة الخمسة قد ذكرت في سورة المائدة لتثبت لنا أن

الأوامر والنواهي المطلوب إيفاؤها إنما هي لضمان مصلحة الناس ضمن

المحاور الخمسة المذكورة.

مراجعة العقود يوم القيامة

متى تراجع العقود؟ يوم القيامة. ولذلك كان الختام الرائع للسورة.

]يَوْمَ يَجْمَعُ ٱلله ٱلرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلَّـٰمُ ٱلْغُيُوبِ[ (109).

لاحظ ترابط آيات السورة، ففي البداية (أوفوا بالعقود) وفي وسط السورة ]يَـٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ[ (من أحكام الحلال والحرام) لتختم السورة بـ ]يَوْمَ يَجْمَعُ ٱلله ٱلرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ[.

وفي ختام السورة تأتي قصة سيدنا عيسى عليه السلام وتبرؤه من الذين ضلوا عن سبيله من النصارى. وهذا يفيد في التبرؤ من التقليد الأعمى للآخرين، فكيف ستتبعوهم يا مسلمين وسيدنا عيسى عليه السلام نفسه سيتبرأ منهم يوم القيامة.

ولأهمية ذكر يوم القيامة في حث الناس على الإيفاء بعهودهم تأتي هنا آية رائعة: ]قَالَ ٱلله هَـٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ ٱلصَّـٰدِقِينَ صِدْقُهُمْ...[ (119).

والصادقون هم الذين يوفون بعقودهم مع الله ومع الناس.

لماذا سميت سورة المائدة بهذا الاسم

وأخيراً بقي أن نشير إلى سبب تسمية السورة بسورة المائدة وهل هذا بسبب ذكر قصة المائدة، فالسورة تتحدث عن الوفاء بالعقود، فما الذي يربط بينها وبين المائدة:

]إِذْ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مّنَ ٱلسَّمَاء قَالَ ٱتَّقُواْ ٱلله إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ & قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ ٱلشَّـٰهِدِينَ & قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ ٱللهمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مّنَ ٱلسَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً

لاِوَّلِنَا وَءاخِرِنَا وَءايَةً مّنْكَ وَٱرْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ & قَالَ ٱلله إِنّى مُنَزّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنّى أُعَذّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذّبُهُ أَحَداً مّنَ

ٱلْعَـٰلَمِينَ[ (112 - 115).

فالآية الأخيرة هي آية محورية ]قَالَ ٱلله إِنّى مُنَزّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ...[ (أي فمن ينقض العهد بعد إنزال المائدة)، فارتبطت قصة المائدة بقصة قوم طلبوا آية من الله تعالى فأعطاهم ربهم ما طلبوا وأخذ عليهم عهداً شديداً، إن نقضوه فسوف يعذّبون عذاباً شديداً.

أما بالنسبة لأمتنا، فقد أعطاها الله تعالى في هذه السورة الآية المحورية ]ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلأسْلاَمَ دِيناً[ هذه الآية منحة ربانية مشابهة للآية التي أعطيها الحواريون (المائدة)، وهم قد وفوا بعهدهم فهل سيفي المسلمون بعهدهم؟

من فضلك وأنت تقرأ سورة المائدة، استشعر عظم النعمة التي أتمها

ربنا علينا بإتمام الدين، وجاهد نفسك للإيفاء بعهد الله تعالى في كل أمور حياتك.

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .

أيها الإخوة موضوعنا اليوم الآية الثامنة من سورة المائدة ، وهي قوله تعالى :

الإنسان أيها الإخوة قد يجري اتصالاً هاتفياً ، وهو مضطجعٌ على سريره ، أما لو أنه تلقى نبأً مؤلماً لقعد ، فانتقاله من الاضطجاع إلى القعود دليل أن الأمر مهمٌ ، فإذا كان الأمر أكثر أهميةً وقف ، والإنسان يعبر عن اهتمامه بالأمر إلى أقصى درجة حينما يقف .

الله سبحانه وتعالى يقول : "يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين" .

قوَّام على وزن فعَّال ، صيغة مبالغة اسم الفاعل ، قائمٌ قوَّامٌ ، القوَّام أشد اتصافًا بالقيام من القائم ، قائم لكنه متهاون ، قائم لكنه متململ ، قائم لكنه متراخٍ ، أما قّوام فهو في أعلى درجات النشاط ، وفي أعلى درجات اليقظة ، وفي أعلى درجات الجاهزية ، قوَّام.

يقول الله عز وجل : يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله .

يعني طاقتكم ، نشاطكم ، عضلاتكم ، علمكم ، طلاقة لسانكم ، ذكاؤكم ، مكانتكم ، جاهكم ، هذا كله ينبغي أن يوظف لله عز وجل ، وأن تستنفر ، وأن تفرَّ إلى الله عز وجل .

"يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله" .

يعني أعلى درجات الاهتمام أن تقف ، وأن تكون مستعداً لبذل الغالي والرخيص ، والنفس والنفيس ، أن تقف وأن تكون في أعلى درجات الجاهزية ، أن تقف وأنت في أعلى درجات النشاط .

هذا معنى ، "ولكن كونوا ربانيين" .

( سورة آل عمران : 79 )

يعني يجب أن تَهَبَ كلَّ ما تملك لله عز وجل .

"يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط " .

أحد أصحاب رسول الله ، وكان حِبَّ رسول الله ، أراد أن يشفع عند النبي في امرأةٍ سرقت ، فغضب النبي أشد الغضب ، وكما ورد في الأثر : إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها " ، هذا هو الإسلام .

يروى أن سيدنا عمر جاءه ملِك من ملوك الغساسنة مسلماً ، رحب به أشد الترحيب.

كان الموسم موسمَ حج ، وفي أثناء طواف الملك حول الكعبة ، بدوي من فزارة داس طرف ردائه ، فالمِلك لم يحتمل هذا ، فالتفت نحوه وضربه ضربة هشمتْ أنفه .

هذا البدوي ليس له إلا عمر ، ذهب إليه ليشكو هذا الملك الغساني جبلةَ ابن الأيهم ، فاستدعى عمر جبله ، وقال : أصحيحٌ ما ادَّعى هذا الفزاري الجريح ، قال : لست ممن ينكر شيئاً ، أنا أدبت الفتى ، أدركت حقي بيدي ، قال عمر أَرضِ الفتى ، لا بد من إرضائه ، فمازال ظفرك عالقاً بدمائه ، قال له : وإن لم أفعل ؟ قال له يُهشمن الآن أنفك، وتنال ما فعلت كفك .

قال له كيف ذاك يا أمير المؤمنين ـ ما هذا الكلام ـ هو سوقة ، وأنا عرش وتاج ، كيف ترضى أن يخرَّ النجم أرضاً ؟ قال له : نزوات الجاهلية ، ورياح العنجهية قد دفناها ، وأقمنا فوقها صرحاً جديداً ، وتساوى الناس أحراراً لدينا وعبيدا ، فقال جبله : كان وهماً ما جرى في خلدي أنني عندك أقوى وأعز ، أنا مرتد إذا أكرهتني ، فقال عمر : عنق المرتد بالسيف تحز ، عالَمٌ نبنيه ، كلُّ صدع فيه بشبا السيف يداوى ، وأعز الناس بالعبد بالصعلوك تساوى .

"يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ".

لذلك ورد أنَّ عدْلَ ساعة أفضل عند الله من أن تعبد الله ثمانين عاماً ، ورد أن حجراً ضج بالشكوى إلى الله ، قال : يا رب ، قصة رمزية ، عبدتك خمسين عاماً وتضعني في كنيف ـ المرحاض ـ قال تأدب يا حجر ، إذْ لم أجعلك في مجلس قاض ظالم ، يعني مكانك في الكنيف أشرف لك من أن تكون في مجلس قاض ظالم .

إذاً : "يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ".

أما الشيء الدقيق في الآية ، قوله تعالى : "ولا يجرمنكم" ، معنى لا يجرمنَّكم أي لا يحملنَّكم ، شنآن قوم ، الشنآن البغض ، على ألا تعدلوا .

الله يخاطب من ؟ يخاطب المؤمنين ، من هم أعداء المؤمنين التقليدين الكفارُ ، الفجارُ ، الملاحدةُ ، المنافقون .

كأن الله عز وجل يقول : يا عبادي ، إذا توهمتم أنني أرضى عنكم ، إذا لم تعدلوا مع خصومكم الكفار فأنتم واهمون ، لا يرضيني إلا أن تعدلوا معهم ، ولا يقربكم إليَ إلا أن تنصفوهم ، ولا تقرِّبوهم إليَّ إلا إذا أنصفتموهم ، إن لم تنصفوهم فأنتم متوهمون أني أرضى عنكم ، إذا أكلتم أموالهم واعتديتم على أعراضهم بدعوى أنهم كفار ، فهذا هو عين الخطأ " ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا "، لا يحملنكم بغض قومٍ على أن تظلموهم ، "اعدلوا هو أقرب للتقوى ".

أنتم إذا عدلتم مع هؤلاء الأعداء أنتم أقرب إليّ ، وإن عدلتم مع هؤلاء الأعداء قرّبتموهم إليّ ، فقد عرفوا عظمة الدين ، لذلك الإنسان المتوهم إذا رأى شخصًا غير مسلم يقول في نفسه : الطُشْهُ بالسعر ولا حرج ، خذ ماله ولا تهتم ، فهذا غير مسلم ، هذا هو عين الخطأ ، وأعود وأكرِّر الآية : "ولا يجرمنكم شنآن قومٍ على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ".

يعني إذا عدلتم مع أعدائكم قربتموهم من الله ، قال : يا أمير المؤمنين أتحبني ، يبدو أنّ شخصًا فاجرًا قالها لسيدنا عمر ، قال له : والله لا أحبك ، قال : وهل يمنعك بغضك لي من أن تعطيني حقي ، قال له : لا والله ، حقك واصلٌ إليك ، أحببتك أم كرهتك ، هذا هو الإسلام .

"ولا يجرمنكم شنآن قومٍ على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى".

يعني إذا عدلتم معهم قرَّبتموهم إليّ ، وعرفوا أحقِّيّة هذا الدين ، و إن عدلتم معهم تقرَّبتم أنتم إليّ ، فأنا لا أرضى عنكم إذا ظلمتم هؤلاء ، لأنكم إذا ظلمتموهم ، فإنكم إذاً مثلهم ، وأين الإسلام عندئذٍ ؟ وأين عظمة هذا الدين ؟ وأين أحقّيّة هذا الشرع ؟

لذلك يبدو أن الذي يخطئ مع مسلم ، فالخطأ صغير حجمه ، أما الذي يخطئ مع غير المسلم فالخطأ كبير حجمه ، لأنك إذا أخطأت مع مسلم يقول : فلان آذاني ، أما إذا أخطأت مع غير مسلم يقول : المسلمون فعلوا معي كذا ، وكذا ، ينتقل من ذمك إلى ذمِّ دينك .

ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام : أنت على ثغرةٍ من ثغر الإسلام فلا يؤتين من قبلك .

كل مسلم يمثل هذا الدين ، فعليه أن يكون في أعلى درجات الكمال ، أعلى درجات الإنصاف ، أعلى درجات القسط .

" يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله " .

استنفِرْ، فِرَّ إلى الله ، شمروا فإن الأمر جِد ، " شهداء بالقسط " ، في آية أخرى قال : " ولو على أنفسكم ".

( سورة النساء : 135 )

" ولا يجرمنكم شنآن قومٍ على ألا تعدلوا "، لا يحملنكم بغض قومٍ على ألا تعدلوا ، اعدلوا هو أقرب للتقوى .

يعني أنتم أقرب إليّ ، وأعداؤكم الذين عدلتم معهم ، يصبحون أقرب إليَّ ، "واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون " ، سبحانه وتعالى خبير بعملك ، يعرف حجم عملك ، ويعرف الأهداف البعيدة من عملك ، ويعرف البواعث الحقيقية من عملك ، ويعرف المضايقات التي تعترض عملك ، ويعرف كل ما بذلتَ من أجل هذا العمل من غال ورخيص ، ونفس ونفيس ، "والله يقدر الليل والنهار والله خبير بما تعملون " .

أيها الإخوة ؛ هذه الآية لو طبقت فلن تجدوا عداوات ساحقة بين المسلمين وغير المسلمين ، يعني إذا ظلَمَ المسلم ، فقد سمعت مرة كلمة ، أن الأجانب ينظرون إلى الإسلام نظرة سيئة ، لأنهم شاهدوا إساءات مِن قِبَل مَن فَتَحَ بلادهم ، بعد ما استقر الفتوح في أوربا مسافات طويلة ، ظهر أناس أساءوا إساءات بالغة ، فالأجانب حملوا هذه الصور القاتلة ونظروا إلى الإسلام نظرة قاسية ، فلذلك المسلم أحيانًا يسيء إلى دينه كله .

طالب ذهب إلى أوربا ودرس ، واقترن بفتاة ألمانية ، أحبها وأحبته ، درسا الطب طبعاً ، بعد سبع سنوات ، بعد أن نال الشهادة ، اختفى !! .

عاشت معه وأعانته ، وقدمت له كل ما تستطيع ، وأخلصت له ، فلما نال الشهادة في الطب اختفى !! تبعته إلى بلده ، فإذا هو في بلد آخر ، أجرى عقداً مع دولة من دول الخليج ، إحدى دول النفط ، فوصلت إلى وزير الداخلية هناك ، والوزير رفع الأمر إلى الملك ، والملك أصدر أمراً بطرد هذا الطبيب ، لأنه أساء إلى ألف مليون مسلم .

تقول هذه الفتاة : ماذا فعلت له حتى تركني ؟ لقد أحسنتْ إليه ، واللهِ .

أحيانًا إنسان واحد قد يسيء لأمة ، لمَ لمْ تخبرها بأنك ستطلقها إذا انتهت دراستك ، وليعلم كل واحد أنّ الزواج على التأبيد ، أخلصت لك كل الإخلاص ، وأنا ما أردت من هذه القصة أن نناقشها ، لكن أردت من هذه القصة أن الإنسان أحياناً يسيء لأمته كلها إذا أساء التصرف .

" ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا ، اعدلوا هو أقرب للتقوى ".

فالمسلم ليدقق بمعاملته المسلَم مرة ، وليدقق مليون مرة في معاملته غير المسلم ، لأنه لو عامله معاملة طيبة ربما جلبه إلى الدين ، رجل معروف يمثل الحزب اليساري في فرنسا ، أسلم ، فكان يروي منذ أيام سبب إسلامه ، قال : قبل ثلاثين سنة ، كنتُ جنديًا ورفض مسلم أنْ يقتلني ، في الحرب العالمية الثانية ، لقد رفض أنْ يقتله لأسباب دينيه ، فبقيت هذه الفكرة في ذهنه ثلاثين عاماً ، وحملته بعدها على أن يسلم .

فالعمل الطيب ربما جرَّ أمة ، والعمل السيِّئ ربما نفَّر أمة .

لذلك : "ولا يجرمنكم شنأن قوم على ألا تعدلوا ، اعدلوا هو أقرب للتقوى".

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين :

أيها الإخوة الكرام ؛ قال تعالى :

أيها الإخوة الكرام ؛ ما منا واحدٌ إلا ويتمنّى أن يكون الله معه ، لأنه إذا كان الله معك فمن عليك ؟ من يستطيع في الأرض أن ينال منك ، وإذا كان الله عليك فمن معك ؟ ما معك أحد ، أمّا إذا كان الله معك ، فلو أن الأمة بأكملها اجتمعت على أن يضروك بشيءٍ لم يستطيعوا ، وإذا تخلى الله عنك ، ولم يكن الله معك ، فأقرب الناس إليك ، ابنك الذي من صلبك ، زوجتك التي عشت معها أربعين عاما ، تتخلى عنك ، إذا كان الله معك فمن عليك وإذا كان الله عليك فمن معك ؟.

إذا كان الله معك ألقى حبك في قلوب العباد ، وإذا كان الله عليك ألقى بغضك في قلوب العباد .

يا أيها الإخوة ؛ الأقوياء يملكون القوالب ، لكن الأنبياء يملكون القلوب ، والبطولة الحقيقية في أن تملك قلوب الناس ، لا أن تملك أجسامهم ، القوي يخاف الناس منه ، لكن النبي يحبه الناس .

لذلك ما منا واحد إلا ويتمنى أن يكون الله معه ، ولكن هذه المعية قال عنها العلماء : إنها معيتان ؟

معيةٌ خاصة ... ومعيةٌ عامة ...

فما المعية العامة ؟ المعية العامة أن الله مع كل عباده ، مع الكفار ، مع الفجار ، مع الملحدين ، مع المنافقين ، مع العصاة ، مع المتجاوزين .

في قوله تعالى : "هو معكم أينما كنتم " .

( سورة الحديد : 4 )

مؤمن ، كافر ، مطيع ، عاصٍ ، هو معك ، بل قيامك به أبلغ من أنه معك .

الآن دققوا ، معية الله الخاصة ، تعني التوفيق والحفظ ، تعني التأييد والنصر ، إذا كان الله معك نصرك على أعدائك ، وإذا كان الله معك وكنت في عملٍ وفقك فيه ، إذا كان الله معك حفظك من كل شر .

إذا كنت في كل حالٍ معي فعن حمل زادي أنا في غنى .

فأنتم هو الحق لا غيركـم فيا ليت شعري أنا مـن أنا .

العلماء قالوا : المعية معيتان ؛ معيةٌ عامة ، ومعيةٌ خاصة ، المعية العامة تشير إلى الآية الكريمة : "وهو معكم أينما كنتم " .

لكن المعية الخاصة معية التأييد ، معية التوفيق ، معية الحفظ ، معية النصر ، معية السكينة ، يُلقي الله في قلبك السكينة ، تكون كالجبل الأشم لا تتزعزع ، هذه المعية الخاصة ، ممكن الحصول عليها ولكن بدفع ثمنها ، الآن بدأ الدرس.

المعية الخاصة التي نبحث عنها جميعاً متاحةٌ لكل إنسان ، بشرط أن تدفع ثمنها، يا رب أين ثمنها ؟ أو يا رب من يملك ثمنها ؟ يقول الله : أنت أيها العبد تملك ثمنها ، ابدأ بهذه الآية : "وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضاً حسناً " .

هذه العناصر التي اشتملت عليها الآية هي ثمن المعية الخاصة ، هذه ثمن المعية التي هي من أينع ثمار الدين ، وأجمل ما في الدين أنْ تشعر أن الله معك ، أعظم ما في الدين أن تشعر أنك مقربٌ إلى الله ، أعظم ما في الدين أن يتجلى الله على قلبك بالسكينة ، إن الله يعطي الصحة والذكاء والمال والجمال للكثيرين من خلقه ، ولكنه يعطي السكينة بقدرٍ لأصفيائه المؤمنين ، حينما يتيه الناس أنت لا تتيه ، حينما يخاف الناس أنت لا تخاف ، حينما تنهار أعصاب الناس أنت لا تنهار ، حينما يشعر الناس بالحرمان أنت تشعر بالفوز والغنيمة ، حينما يخضع الناس أنت لا تخضع ، هذه معية الله الخاصة ، وثمنها تملكه أنت ، وهذه مفردات ثمنها .

" وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة "، الصلاة عماد الدين فمن أقامها فقد أقام الدين ، ومن هدمها فقد هدم الدين .

ولكن يا أيها الإخوة ؛ الله قال : أقمتم الصلاة ، لمْ يقل الله عز وجل : إني معكم لئن صليتم ، فإذا قلنا : لئن صليتم ، يعني واحد دخل للمسجد توضأ وصلى ، هذه الصلاة ، أما " لئن أقمتم الصلاة "، فانتبه لكلمة أقام البناء ، تحصل على رخصة أولا ، وبعد مضي سنتين من الملاحقة تحصل عليها ، ثم حفرت الأساسات ، وبُني أول طابق، والثاني ، والثالث ، ثم كسوتَه وفرشتَه ، فشغله سنوات حتى تم إنجازه ، من هنا نعلم أنّ إقامة الصلاة تبدأ قبل الصلاة ، إقامة الصلاة تبدأ بغض البصر ، إقامة الصلاة تبدأ بتحرير الدخل ، إقامة الصلاة تبدأ بأن يكون بيتك إسلامياً ، بأن تربي أولادك التربية الصحيحة ، يعني أنت تعمل عملاً تستقيم معه على أمر الله ، تصطلح معه ، تتوب إليه، تنفق من مالك ، من أجل أنّك تصلي حقًّا إذا دخلت إلى المسجد ، ففرقٌ كبير بين أن يقول الله عز وجل : إني معكم لئن صليتم ، وبين أنْ يقول :" لئن أقمتم الصلاة " .

أحياناً إنسان يقدم امتحانًا في ثلاث ساعات ، يمنح دكتوراه ، إذْ تجري مناقشة أطروحته أمام لجنة من العلماء ، وبعد ثلاث ساعات مِن قراءة ملخص الأطروحة قال الدكتور المشرف رأيه في الموضوع ، واجتمعت اللجنة ، واتخذت قراراً بمنحه الدكتوراه بتقدير امتياز ، العملية تمت في ثلاث ساعات ، أما عملية تأليف الكتاب الذي تقدّم به الطالب لنيل الدكتوراه فتمّتْ في عشر سنوات ، فالدكتوراه لا تأتي في ساعات ثلاث .

وإذا دخل شخصٌ المسجدَ وقام يصلي ، فهذه ليست صلاة ، قبل الصلاة لا بد من استقامة ، قبل الصلاة لا بد من توبة ، قبل الصلاة لا بد من صلح مع الله ، قبل الصلاة لا بدّ مِن إنابةٍ إلى الله ، قبل الصلاة تكون الأعمال الصالحة ، مِن إنفاق ونحوه، فالآن إذا دخلتَ لتصلي فهذه إقامة الصلاة ، " وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة ".

إما أن نفهم أنّ إيتاء الزكاة دفعُ جزءٍ من المال كما هم معروف ، أو أن هذه الآية تعني مطلق العمل الصالح ، وهناك للعلماء استنباط ، سيدنا المسيح قال : "وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا " .

( سورة مريم : 31 )

بعضهم قال : هاتان الكلمتان جمعتا جوهر الدين ، الدين اتصال بالله الخالق ، وإحسانٌ إلى المخلوق ، هذا الدين .

في حركة أفقية وحركة شاقولية ، الأفقية إحسان للخلق ، والشاقولية اتصال بالحق ، " وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة " .

أقمتم الصلاة ، هذه الساعات في مناقشة الأطروحة ، ثم منح على إثرها الطالب دكتوراه بامتياز ، هذه سبقها عشر سنوات تحضير ، عشر سنوات تأليف ، فلما يغضُّ الإنسان بصرَه في الطريق ، والطريق فيه كاسيات عاريات مائلات مميلات ، ويضبط لسانه ، يضبط أذنه ، يضبط بيته ، يضبط دخله وإنفاقه .

فإذا دخل ليصلي ، فإنّ هذا قد أقام الصلاة ، لكن إذا دخل فتوضأ وصلى ، وهو غارق في المعاصي والشبهات ، هذا نقول عنه : إنه صلى ، لا نقول : أقام الصلاة ، انتبه : أقام البناء يعني عمل طويل ، شراء الأرض ، والحصول على رخصة ، وحفر الأساسات ، وبناء الهيكل ، ثم إكساء الهيكل ، ثم تزيين الهيكل ، ثم إكساء خارجي ، ثم فرش البيت ، فمثل ذلك إقامة الصلاة ، "وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي " ، يعني آمنتم بأحقِّية هذا الشرع ، هذا هو النظام الأكمل ، هذا الذي فيه حل لمشكلاتنا ، أمّا أنْ تقول : الدين نغمة قديمة ، معنى ذلك أنك لا تعرف عن الدين شيئاً .

الدين منهج خالق الكون ، دستور الإنسان ، " لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم " ، أنت لما تصلي ، كأنْ تكون في نزهة وتقوم لتصلي ، فأنت نصرت دين الله عز وجل ، لما تمتنع عن دخل مال حرام ، وغيرك لا يمتنع ، فقد نصرت دين الله عز وجل ، الله عز وجل لا يحتاج إلى أن تنصره ، ولا نبيُّه يحتاج إلى أن تنصره ، إلا أنك أقمت شعائر الدين ، ونفذت أمر الله عز وجل ، وسَّعت دائرة المؤمنين ، أمّا إذا كان الناس في نزهة ، وواحد قام فصلى وحده فلعله يستحيي بنفسه ، لكنْ إذا قام ثلاثة أو أربعة وصلوا ، فمَن الذي يستحيي ؟ الذي لم يقم ليصلي .

فإذا كان كل التجار يتعاملون بطريقة ربوية ، وأحبَّ تاجرٌ أنْ يستقيم فضحوه ، أمجنون أنت ؟ أما إذا كان الكلُّ مستقيمين أعطوا غطاء للمستقيم ، أنت لما تطبق شرع الله عز وجل فإنك تدعم الدين ، وتنصر ، " إن تنصروا الله ينصركم " .

( سورة محمد : 7 )

فإذا كانت الأسرة كل بناتها كاسيات عاريات ، فإذا أحببتَ أنت أن تحجب ابنتك، أُقيم عليك النفير ، وشعرتَ بصعوبة بالغة .

أما إذا كان كل من حولك بناتهم محجبات ، صار الطريق لابنتك سهلاً ، انظري إلى ابنة خالتك ، وانظري إلى ابنة خالتك الثانية ، وإلى ابنة عمك أيضًا ، انظري إليهن جميعهن ، فكلهن محجبات .

أنت لما تطبق الدين ، وترسخ دعائمه ، يصير تطبيق سهلاً ، إذا كل الناس تخلوا عن الدين ، صار المؤمن غريبًا ، والغريب يواجه صعوبات ، يواجه عقبات ، يواجه اعتراضات ، هذا معنى قوله تعالى : " لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم " ، يعني أيَّدتَ الرسول وطبقت أمر الله .

" وأقرضتم الله قرضاً حسناً " ، والله ما من كلمة تهز مشاعر المؤمن كهذه الكلمة ، خالق الأكوان ، الغني الحميد ، يقول لعبده : هل تقرضني قرضاً حسناً ، على أن أوفيك إياه بغير حساب يوم القيامة ، وأي عمل صالح تجاه أي مخلوق هو قرض حسن ، حقًّا أيّ عمل صالح تجاه أي مخلوق ، حتى ولو كان حيوانًا ، كما لو أنك سقيت كلباً ، أو أطعمت هرة ، أو أنقذت نملة في حوض الغسيل ، فيه نملة ، وأنت تريد أنْ تتوضأ ، فتوقّفتَ إلى أن خرجت ، إذًا بعملك هذا أنقذت مخلوقاً ، وهذا قرض لله ، أقرضتَ الله قرضاً حسناً .

وهذه آية أخرى :" من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة " .

( سورة البقرة : 245 ) .

إذا خدمتَ إنسانًا ، أو دللْتَه ، أو أعنتَه ، أو خفَّفْتَ عنه ، أو شفعت بين زوجين ، دللت على خير ، طلبت العلم ، أو علَّمته ، توسَطتَ في حل مشكلة ، كله قرض حسن ، فمعية الله التي لا تقدر بثمن ، ثمنها بيدنا جميعاً .

" وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضاً حسناً ".

إن دفعتم هذا الثمن ، " لأكفرن عنكم سيئاتكم "، كل شيء كان يسوؤكم سوف تنسونه ، وتُفتح لكم صفحة جديدة ، " لأكفرن عنكم سيئاتكم ، ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل " ، أنت تتمنى معية الله عز وجل، يعني التوفيق ، النصر ، التأييد ، الحياة الطيبة ، السعادة ، التجلي ، السكينة ، الوقار ، المكانة الاجتماعية ، أن يدافع الله عنك ، أن ينصرك على عدوك ، أن يؤيدك ، أن يقربك ، فما عليك إلاّ أنْ تلتزم بنص الآية مع التنفيذ ، " وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة " ، فعندنا معية عامة ، ومعية خاصة .

المعية العامة ... الله مع كل مخلوق ، حتى الكافر ، هذه المعية لا تقدم ولا تؤخر ، بل تعني أنْ يرى ويسمع ويعلم كل ما يفعلون ، فهم تحت رقابته ، ليحاسبهم يوم القيامة .

ولكن المقصود المعية الخاصة ... وهي أن يتجلى الله عليك بالحفظ ، والتأييد ، والنصر ، والتوفيق ، وهذه أبرز الأشياء أنواع المعية .

الحفظ ، والتأييد ، والنصر ، والتوفيق ، وثمنها إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والإيمان بالمنهج ، وتأييد الرسل بتطبيق تعليماتهم ، عندئذ الماضي الحالك كله يشطب ، وتفتح صفحة جديدة ، والمستقبل : الجنة وما فيها من نعيم مقيم .

والحمد لله رب العالمين

أيها الإخوة الكرام ؛ يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم :

موضوع اليوم حول كلمة الوسيلة !!! .

يعني إذا أردت أن تصل إلى مكان ما ، فلا بد من وسيلة تنقلك إلى هذا المكان ، إذا أردت الماء ، فلا بد أن تحفر بئرًا ، إذا أردت أن تأكل فلا بد أن تشتري الطعام ، إذا أردت أن تستنبت فلا بد أن تزرع البذر .

فالإنسان له هدف ، وله أن يتخذ وسيلةً إلى هذا الهدف ، فمن أراد الله فلا بد أن يبتغي إليه الوسيلة .

" يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة " .

من أوسع التفاسير لهذه الكلمة ، وأَوجه معنى من معاني الوسيلة طلبُ العلم ، فهو وسيلة ، والعلم طريقٌ إلى الله عز وجل .

" يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة ".

يجب أن تعرف أنه موجود ، يجب أن تعرف أنه واحد في ذاته ، وفي أفعاله ، وفي صفاته ، يجب أن تعرف أنه كامل ، أسماؤه كلها حُسْنَى ، وصفاته كلها فُضْلَى .

إذاً ينبغي أن تعرفه ، ينبغي أن تعرف ما عنده من إكرام من أجل أن تقبل عليه ، وينبغي أن تعرف ما عنده من عذابٍ أليم إذا أعرضت عنه .

إذاً إذا أردت الله عز وجل فابتغِ إليه الوسيلة عن طريق العلم ، لقول الله عز وجل :

"إنما يخشى الله من عباده العلماء ".

( سورة فاطر : 28 )

لو أن هناك طريقاً إلى الله ، غير طريق العلم لذكرَه الله عز وجل ، لا بد أنْ تتعرف إلى الله ، لأنك كلما عرفت الله عز وجل ازدادت خشيتك له ، فالخشية مترافقة مع حجم العلم ، حجمُ خشيتك بحجم علمك ، رأس الحكمة مخافة الله ، أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً .

وبعد ؛ فإن عرفته أقبلت عليه ، فمعرفته وسيلة ، وإنْ عرفت أمره ونهيه طبقتَ أمره وابتعدت عن نهيه ، إذاً معرفةُ منهجِه وسيلة .

لا ينبغي أن تكتفي بمعرفته من خلال الكون ، لا بد من أن تعرف منهجه من خلال الكتاب والسنة ، يجب أن تعرفه ، وأن تعرف منهجه ، الكون يدلك عليــه ، والكتاب والسنة يعرفانك بأمره ونهيه ، بالكون تعرفه وبالشرع تعبده .

إذاً لا بد من جانب من جوانب هذه الوسيلة ، أن تفكر في خلق السموات والأرض .

" إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآياتٍ لأولي الألباب ، الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار " .

( سورة آل عمران : 190 - 191 )

ومن أجل أن تعبده ، لا بد أن تعرف أمره ونهيه ، ماذا تعمل أنت ؟ في التجارة مثلاً: لا بد أن تعرف أحكام الشراء والبيع لئلا تقع في الحرام ، فمن دخل الأسواق من دون فقهٍ ، وقع في الربا شاء أم أبى ، تعمل في الطب لا بد أن تعرف أحكام الجُعالة ، لأنك أجرك أيها الطبيب ليس مِن نوع عقود التراضي ، ولا المعوضات ، ولكن من نوع الجُعالة ، أنت مقبلٌ على الزواج ، فلا بد أن تعرف أحكام الزواج ، كيف تعامل الزوجة ؟ كيف يتم هذا العقد ؟ ما شروط هذا العقد ؟

إذاً إذا أردت أن تعبده فلا بد أن تعرف أمره ، لذلك ورد في الأثر : أن طلب الفقه حتمٌ واجبٌ على كل مسلم ، ليس هذا خياراً لك ، لا بد أن تقتطع من وقتك لتتعرف فيه إلى أمر الله ونهيه ، إن أردت أن تعرفه ، إن أردت أن تعبده ، إن أردت أن تتقرب إليه .

إذاً معرفة ذاته ، وأسمائه ، وصفاته ، من خلال الكون وسيلة ، ومعرفة منهجه من خلال الكتاب والسنة وأحكام الفقه وسيلة .

من أجل أن ترى نفسَك للإسلامِ مطبِّقاً ، لا بد أن تقرأ سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي جعله مثلاً أعلى وقدوة يقتدي به .

إذاً معرفة السيرة فرض عين ، لأن الله سبحانه وتعالى يقول : " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة " .

( سورة الأحزاب : 21 ) .

طيب ، إن جلست مع أهل الدنيا ، صَدِئ قلبك ، وشعرت بالضيق ، لابد إذًا أنْ تجلس مع المؤمنين ، قال الله تعالى : يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين"

( سورة التوبة : 119 )

أن تجلس مع الصادقين وسيلة ، أن تجلس مع المؤمنين ، أن تلتقي معهم ، أن تأخذ عنهم ، من علمهم ، من أخلاقهم ، من قيمهم ، فكل هذه وسيلة ، انظُر فالمطلق على إطلاقه .

الوسيلة أن تعرف الله من خلال الكون ، والوسيلة أن تعرف أمره ونهيه من خلال الكتاب والسنة ، والوسيلة أن تجتمع مع المسلمين ، لتأخذ من علمهم ومن أخلاقهم ومن قيمهم ، وأن تقتدي بهم والدليل : "يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ". ( سورة التوبة : 119 )

هذه وسيلة ، والوسيلة الرابعة ؛ أن تتقرب إليه بالعمل الصالح ، "فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً " .

( سورة الأحزاب : 21 ) .

فمعرفة الله من خلال الكون وسيلة ، ومعرفة منهجه وسيلة ، وصحبة المؤمنين وسيلة ، والأعمال الصالحة التي تقربك إلى الله وسيلة ، المطلق في القرآن على إطلاقه، فأي شيءٍ يقربك من الله عز وجل هو وسيلة ، لكن أكثر شيء يقربك من الله عز وجل أن تتأمل في خلق السموات والأرض ، فأنت أمام عظمة الله عز وجل وجهاً لوجه ، هذا أكبر شيء نظري ، وأكبر شيء عملي يقربك إلى الله عز وجل الإنفاقُ ، مطلق الإنفاق، " ومما رزقناهم ينفقون " .

( سورة البقرة : 3 )

لأن الله سبحانه وتعالى جاء بك إلى الدنيا من أجل أن تعدَّ نفسك إلى حياة أبدية ، فلا بد من عملٍ صالحٍ ترقى به ، " يا بشر لا صدقة ولا جهاد ، فبِمَ تلقى الله إذاً ؟ " ، لا بد من شيء تلقى الله به ، إنها الوسيلة .

لذلك إنسان يدّعي أنه مؤمن ولا يتحرك دعواه باطلة ، دعواه كاذبة ، لأن الإنسان من طبيعته الحركة ، ترجمةً لديناميكي ، وليس سكونياً "استاتيك" ، "ديناميك" يعني حركي ، فأنت تؤمن بالله وتظلّ واقفًا في محلك ، فلا يليق ذلك بالمؤمن .

أنت لا بد لك مِن بيت تسكنه ، مقدم على زواج ، تسمع أنّ بيتًا ثمنه نصف قيمته الحقيقية ، ثمنه خمسمئة ألف بدمشق وعلى الطابو فورًا ، وأنت معك المبلغ وتظل نائمًا ، لا أظن ، بل تذهب في نصف الليل مشيًا ولو آخر مكان ، أنت بحاجة ماسّة إلى بيت ، والبيت بنصف قيمته ، وطابوا فورًا ، وليس فيه مشكلة ، والدلال فلان ، وتظل ساكنًا ، ولا حركة ، فهذا غير معقول أبدًا !!!.

تسمع أنّ على كتفك عقربًا - لا سمح الله - إذ قال لك شخص : على كتفك عقرب ، هل تلتفتَّ نحوه بهدوء ، وتقول له : أشكرك على هذه الملاحظة ، وأتمنى أن أقابلك بخير منها ، معنى ذلك أنك لم تفهم قولَه ، ولو علمت ماذا قال لقفزت وخرجت من جلدك خوفاً من هذه الحشرة .

أتسمع الحق ولا تتحرك ، لا تغض بصرك ، ولا تنفق من مالك ، لا تلازم المسجد ، ولا تصلي ، معنى هذا أنك ما فهمت شيئًا إطلاقاً ، فعلامة الفهم الحركة ، "فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً " ، أنتَ عرفت الله وبيتك غير إسلامي ، يعني أنك ما عرفته ، ولو عرفته ، وعرفت ما عنده من إكرام ، وعرفت ما عنده من عقاب ، وعرفت تفاهة الدنيا ، وعرفت أبدية الآخرة ، وعرفت أن الجنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، إذًا فلا بدّ أن تتحرك .

ذات مرة ضربت مثلاً مضحكًا ؛ لما كان عندنا أزمات تموينية ، قلت : لو أن واحدًا تلزمه صفيحة زيت ، وقد خرج من وظيفته توًّا وهو مُتعَب ، وقد خلع ثيابه وارتدى ثياب البيت ، وجلس على أريكةٍ مريحةٍ ، فقال له ابنه عدّةَ كلمات ؛ قال له : في المؤسسة زيت ، والصفيحة بـ 800 ل س وثمنها لدى السمّان 1600 ل س ، وليس في المؤسسة ازدحام ، ولا يوجد عندنا زيت ، وقد قبضتَ راتبك منذ يومين ، أيبقى قاعدًا ؟ لا شكّ أنه يسارع إلى المؤسسة مهرولاً ناسيًا تعبه كله .

فإذا كان الدين واضحًا ، والأفكار صحيحة ، والعقل يقظًا ، والعاطفة جياشة ، وسمعت الحق ، فلا بد أنْ تتحرك ، أما يبقى على ما هو عليه من المعاصي والآثام والتقصير ، ويدّعي أنه مؤمن ، وأنا مسلم ، ويقول : اللهم اجعلنا من أهل الجنة ، فنحن عبيد إحسان ، ولسنا عبيد امتحان ، هذا كلام لا يقدم ولا يؤخر ، وربما يكون حجة على قائله ، " فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ، ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ".

"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة ".

أي شيءٍ من علمٍ ، أو عملٍ ، أو تضحيةٍ ، أو شيءٍ آخر يقربك إلى الله عز وجل فهو وسيلة ، التفكر في خلق السموات والأرض وسيلة ، معرفة المنهج الأمر ؛ والنهي وسيلة ، صحبة المؤمنين وسيلة ، البذل والعطاء وسيلة ، وأي شيءٍ آخر ترى أنه يقرب إلى الله عز وجل فهو وسيلة ، ونسيت أن أقول لكم : إنّ ذكرَ الله وسيلةٌ ، ذكره باسمه المفرد ، والاستغفار ، والتسبيح ، والتهليل ، والتكبير ، والحمد ، والدعاء ، وتلاوة القرآن هذه وسيلة ، وأعود لأكرِّر : التفكر وسيلة ، الذكر وسيلة ، الطاعة وسيلة ، البذل وسيلة ، صحبة المؤمنين وسيلة ، الإطلاع على سيرة رسول الله وأصحابه الكرام وسيلة ، والآية واسعة جداً ، وأي شيء يقربك من الله هو وسيلة ، درسنا اليوم كان حول : " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة " ، واستمع لقوله تعالى: "ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها " .

( سورة الإسراء : 19 )

علامة الإرادة السعي ، وعلامة التمني القعود ، المتمني يقعد ، والساعي يتحرك ، فأنت امتحن نفسك ، إذا بقي الإسلام معلومات تتلقاها وأنت مرتاح لها ، ولديك مشاعر إسلامية وليس لديك حركة إطلاقاً ،ف القضية صعبة ، أما إذا أيقنت بأحقية هذا الدين ، وعظمة هذا الخالق العظيم ، فلا بد أن تتحرك نحوه ، ابن آدم اطلبني تجدني ، فإذا وجدتني وجدت كل شيء ، وإن فُتُّكَ فاتك كل شيء ، وأنا أحب إليك من كل شيء .

والحمد لله رب العالمين

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .

أيها الإخوة الكرام ؛ يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم ، الآية الأولى :

( سورة المائدة : 66 )

هذه الآية تؤكدها آية أخرى ، وهي الآية الثانية :

( سورة الجن : 16 )

وأمّا الآية الثالثة :

( سورة الأعراف : 96 )

العلماء استنبطوا من الكتاب والسنة الوسائلَ التي تزيد في الرزق .

فأول وسيلة الاستغفار ، قال تعالى :

" فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا ، يرسل السماء عليكم مدرارا ، ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا " .

( سورة نوح : 10 ـ 11 ـ 12 ) .

الذي يستغفر الله من ذنوبه يجلب له ولأهله الرزق بالاستغفار ، هذه واحدة ، فمن شكا من ضيق الرزق فعليه بالاستغفار ، هذا قرآن ، وهو كلام خالق الكون .

أمّا العامل الثاني ، فقال تعالى : " وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك "

( سورة طه : 132 ) .

فالبيت الذي تقام فيه الصلوات ، يتلى فيه القرآن ، تقام فيه حدود الله عز وجل ، فهذا بيت مرزوق ، فالرزق بيد الله عز وجل ، إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين .

العامل الأول ... هو الاستغفار .

العامل الثاني ... إقامة الصلوات وشعائر الله في البيت .

العامل الثالث ... مستنبط من الحديث الشريف ، يقول عليه الصلاة والسلام : " الأمانة غنى " الأمين موثوق ، فإذاً أنت أثمن شيءٍ تملكه ثقة الناس ، وإذا ملكت ثقة الناس فأنت أغنى الناس ، وأكبر خسارة تحيط بك أن تفقد ثقة الناس ، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول : "الأمانة غنى " ، إذًا وسائل الرزق هي : الاستغفار أوّلاً ، وإقامة الصلوات والشعائر الدينية في البيوت ثانياً ، والأمانة ثالثاً .

قال عليه الصلاة والسلام : " صلة الرحم تزيد في الرزق " ، إذاً أنْ تصل رحمك ، وصلة الرحم تعني أشياء ثلاثة ؛ أن تزورهم أولاً ، وأن تتفقد أحوالهم تمهيداً لمساعدتهم ثانياً ، وأن تدلهم على الله ثالثاً ، هذا ما تعنيه صلة الرحم ، وهو العاملُ الرابع .

الاستغفار وإقامة الصلاة والأمانة وصلة الرحم .

الإتقان .. إتقان العمل جزء من الدين ، إن الله يحب من العبد إذا عمل عملاً أن يتقنه ، وهذه حقيقة ، فالشركات المصنعة المتقنة ، بضاعتها محجوزة لسنوات ، وصاحب الحرفة المتقن محجوز لسنوات ، وإذا كسدت البضائع وبارت الأعمال فالمتقنون لا يتعطلون أبداً .

فالإتقان عامل ، وصلة الرحم عامل ، والاستغفار عامل ، وإقامة الصلوات والأمر بها عامل ، وإقامة القرآن الكريم عامل .

" ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ".

وهناك عامل سادس وهو قول النبي عليه الصلاة والسلام : استمطروا الرزق بالصدقة ، صدقة السر تطفئ غضب الرب ، بادروا بالصدقة فإن البلاء لا يتخطاها ، فالإنسان المستقيم على أمر الله .

" وألَّو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا ".

المستقيم على أمر الله ، والمقيم للصلوات ، وهو يأمر بها أهله ومن يلوذ به ، والمستغفر ، والواصل لرحمه ، والمتقن لعمله ، والأمين ، هؤلاء جمعياً أرزاقهم وفيرة، وهي قوانين ربنا عز وجل .

فلما يكون الإنسان راكبًا مركبة في سفر ، وفجأة تتوقف المركبة ! ويطالعك هنا سلوكان ؛ فأيهما السلوك الذكي ؟

أول سلوك ، يصيح المسافر ويبكي ويزعبر ، والسلوك الثاني ، يفتح غطاء المحرك ، ويبحث لماذا وقفت المركبة ، هذا هو السلوك العلمي .

فإذا شعر الإنسان أن رزقه ضيق ، فإنّه يتساءل : يا ترى هل مِن سبب ؟ عدم إتقان ، أو عدم أمانة ، أو تفريط في أوامر الله عز وجل ، أم مِن قلَّة الاستغفار ، أم من في قطيعة رحم مثلاً ، إذًا هناك أسباب .

لذلك فالإنسان حينما يشعر أن رزقه أقل مما ينبغي ، فليبحث عن السبب ، وربنا عز وجل قال : "ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ، منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون "، وبعد هذا يقول الله عز وجل : "قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم ".

ونحن كمسلمين ، واللهِ الذي لا إله إلا هو لسنا على شيء حتى نقيم القرآن الكريم في بيوتنا ، لذلك قال تعالى :" وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم "

( سورة الأنفال : 33 )

قال علماء التفسير : أنت فيهم ، أي سنتك قائمة في بيوتهم ، وفي أعمالهم ، ما دامت سنة النبي علية الصلاة والسلام فينا ، وفي علاقاتنا ، وفي كسبنا للمال ، وفي إنفاقنا للمال ، وفي نشاطاتنا ، وفي بيوتنا ، فالله لا يعذبنا ، "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون" ، وإذا عرفنا أغلاطنا ، وتبنا منها أيضاً فنحن في بحبوحة ، فنحن في بحبوحة مرتين ، إذا أذنبنا واستغفرنا ، أو إذا تبنا واصطلحنا ، فإذا كنا في أحد هذين الحالين ، فنحن في بحبوحة ، ونحن في سلام ، وفي أمْنٍ من الله عز وجل .

أيها الإخوة الكرام ؛ هاتان الآيتان مع أنهما موجهتان لأهل الكتاب إلا أن الله سبحانه وتعالى خاطبنا بأسلوب تربوي .

فأحياناً الإنسان يخاطب شخصًا ، وهو يعني شخصاً آخر ، فالشخص الآخر لا يأتيه الكلام مباشراً ، قال تعالى : "ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم "، هذا كلام خالق الكون ، ولا شيء يمنع أن تكون هذه الآية قانوناً ،" قل يا أهل الكتاب لستم على شئ حتى تقيموا التوراة والإنجيل"، لذلك أداء الصلوات والصيام والحج ،

أو أداء العبادات الشعائرية ، إذا لم يرافقه التزام بإنفاق المال وكسبه ، و لم يرافقه التزام بالجوراح ، وتطبيق للشرع الإلهي في بيوتنا وأعمالنا ، فهذه الشعائر لا تقدم ولا تؤخر ، وسأسمعكم بسرعة ، "إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون " .

(سورة العنكبوت : 45 )

فإن لم تنهَهُ فصلاته لا قيمة لها ، ومَن لم يدع قولَ الزور والعملَ به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ، هذا مع الصيام ، أمّا الحج فإذا حج الإنسان بمال حرام ، وقال : لبيك اللهم لبيك ، يقول الله عز وجل : لا لبيك ولا سعديك ، وحجك مردود عليك ، وإذا أنفق من مال حرام ، أو لم يكن مستقيمًا ، قال تعالى :" قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين "

( سورة التوبة : 53)

هذه آيات قرآنية ، فالصلاة والصوم والحج والزكاة ، إذا لم رافقها استقامة تامة فلا تُقبَل ، وحتى لا يضيع وقته ، وحتى لا يتوهم أنه يصلي كما قلت سابقًا ، بل أقم الصلاة ، فإقامةُ الصلاة التزامٌ بقواعد الشرع الذي يسبق الصلاة ، حتى إذا دخلت في الصلاة شعرتَ بهذه الصلة التي بينك وبين الله عز وجل .

والحمد لله رب العالمين

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .

أيها الإخوة الكرام ؛ الآية الخامسة بعد المئة من سورة المائدة ، وهي قوله تعالى :

قبل أن نمضي في شرح هذه الآية الكريمة لا بد من مقدمة تلقي ضواءً على هذه الآية .

أيها الإخوة ؛ الإنسان مؤلف من نفس وروح وجسد …

نفسه هي ذاته ، هي حقيقته ، نفسه هي التي تؤمن أو تكفر ، هي التي تسعد أو تشقى ، هي التي ترضى أو تغضب ، هي التي تذوق الموت ولا تموت ، " كل نفس ذائقة الموت " .

( سورة آل عمران : 185 )

هي التي تخلد في جنةٍ يدوم نعيمها ، أو في نارٍ لا ينفذُ عذابها .

لكن الجسد ما هو إلاّ قالبٌ لهذه النفس ، وعاءٌ يحتويها ، ثيابٌ ترتديها فالنفس من خلال الجسد ترى ، والنفس من خلال الجسد تسمع ، والنفس من خلال الجسد تتحرك ، وقد تبطش ، وقد تحسن ، فما الجسد إلا وعاءٌ أو قالبٌ لهذه النفس .

والروح هي القوة المحركة ، فلولا الروح لما رأى الإنسان بعينه ، ولا سمع بأذنه ، ولا تقلصت عضلاته ، ولا عملت أجهزته .

إذاً من باب التقريب والتوضيح ، القوة المحركة للأجهزة الكهربائية هي الكهرباء ، فإذا قطعت الكهرباء عن هذا الجهاز توقف .

فصار الآن واضحًا أنّ النفس هي الأصل ، هي ذات الإنسان ، هي التي تسعد ، هي التي تشقى ، هي التي ترقى ، هي التي تسمو ، هي التي تخلد ، هي الباقية ، هي الخالدة ، تذوق الموت ولا تموت .

والجسد بمثابة ثيابٍ خلعتها .

والروح قوةٌ محركةٌ لهذا الجسد ، فإذا انتهى أجل الإنسان ، توقف الإمداد الروحي ، فتعطل الجسد فخلعته النفس ، فصعدت النفس إلى باريها .

ربنا عز وجل يقول : "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم " ، يعني إذا اعتنيت بالجسد ، فالجسد فانٍ ، اعتنيت ، أكلت أطيب الأكل ، وتمتعت بأجمل المناظر ، وسكنت في أجمل البيوت ، واقترنت بأجمل النساء ، هذا الجسد مؤدَّاه إلى التراب ، فكل عنايتك وكل طاقتك ، وكل رعايتك لهذا الجسد خسارة ، لأنه سينتهي إلى القبر ، وإلى الفناء .

الله سبحانه تعالى يقول : "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم " اعتنِ بنفسك لأنها باقية ، لأنها خالدة ، لأنها في جنةٍ ، أو في نار ، لذلك يقول الله عز وجل: "يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم "

( سورة الشعراء : 88 ـ 89 )

يقول سيدنا عمر رضي الله عنه : "تعَاهَدْ قلبك ".

أمراض الجسد أيها الإخوة مهما تفاقمت تنتهي عند الموت ، لكن أمراض النفس تبدأ بعد الموت ، أمراض الجسد مهما كانت عضالة أو خطيرة ، مرض خبيث فإذا مات الجسد انتهى أثرُ المرض ، والموت يُنهي قوة القوي ، وضعف الضعيف ، وصحة الصحيح ، ومرض المريض ، وغنى الغني ، وفقر الفقير ، الموت ينهي كل شيءٍ ، فأي عناية وأي جهدٍ منصَبٍّ على هذا الجسد فهو خسارة .

يعني مثلاً إنسان ساكن في بيت أجرة ، ومالكُ البيت بأية لحظة - حسب الأنظمة - بإمكانه أن يطرد المستأجر إلى خارج البيت ، وهذا المستأجر له دخل كبير ، هل من الحكمة أن ينفق هذا الدخل الكبير في تزيين هذا البيت ، والعناية به ، وطلائه ، وتزيين سقفه ، وبأي لحظة يخسر البيت ، لكن العقل أن تزيِّن بيتك الأبدي ، البيت النهائي .

فربنا عز وجل يقول : "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم" .

يعني هذه النفس ، هناك أربع آيات في القرآن ، " قد أفلح من زكاها "

(سورة الشمس : 9 )

" قد أفلح المؤمنون "

( سورة المؤمنون : 1 )

الفلاح كل الفلاح ، والتفوق كل التفوق ، والفوز كل الفوز والنجاح كل النجاح ، والذكاء كل الذكاء ، والعقل كل العقل ، بأن تعتني بنفسك ، أن تُعرفها بربك ، أن تحملها على طاعة الله ، لأنه إذا جاء الموت ، وأصبح الجسد جثة هامدة ، بعد حين تتفسخ ، والروح انقطع إمدادها ، بقيت هذه النفس التي هي أنت ، إما أن تسعد لتزكيتها ، وإما أن تشقى لفسادها .

فالآية الكريمة ، "يا آيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم "، "عليكم أنفسكم " ، يعني الزموا أنفسكم ، طهروا أنفسكم ، زكُّوا أنفسكم ، عِّرفوا أنفسكم بربها ، احملوها على طاعته ، عرِّفوها كتاب الله ، عرِّفوها سنة رسوله ، احملوها على العمل الصالح ، لتعرف حقيقتها جوهرها ، موقعها ، أين كانت ؟ ماذا تفعل هنا ؟ ماذا بعد الموت ؟ "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم" ، عليكم اسم فعل أمر بمعنى الزم ، يعني انتبه لنفسك ، هي الأصل ، يعني المرض بالجسم ينتهي عند الموت ، لكن مرض النفس يبدأ عند الموت ، "يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم "، تتمة الآية : "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ".

من إعجاز القرآن الكريم ، أن بعض آياته لها عدة معانٍ في وقت واحد ، "لا يضركم من ضل إذا اهتديتم "، لا تقل : يا أخي الناس هكذا يفعلون ، أنا مع الناس ، هذا هو الإمعة ، الذي يقول : أنا مع الناس ، إن أحسن الناس أحسنت ، وإن أساءوا أسأت ، وكل إنسان يحتجُّ بالتيار العام ، يحتجُّ بقوله : الناس كلهم هكذا ، هكذا يكون كسب المال، والتجارة هكذا كما يتاجر الناس ، إذا ما غششنا لا نعيش ، عندنا أولاد ، هذا الذي يقول : أنا مع الناس ، إن أحسن الناس أحسنت ، وإن أساءوا أسأت ، هذا إمعة ، وطِّنْ نفسك على أن الناس لو أساءوا جميعاً ، عليك أن تحسن .

" لا يضركم من ضل إذا اهتديتم" .

يعني إذا اهتدى إنسان إلى الله ، وعرف الحق ينبغي ألاّ يقلد الناس ، الناس في ضلال ، في بُعد ، في غفلة ، في جهل .

" وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله ".

( سورة الأنعام : 116 )

"وقليل من عبادي الشكور " .

( سورة سبأ: 13 )

هكذا الآيات : "لا يضركم من ضل إذا اهتديتم "، إذا عرفت الحق ، لو أن الأكثرية كانت مع الباطل ، الأكثرية مع أكلِ الربا ، الأكثرية مع الاختلاط ، الأكثرية مع إطلاق البصر الأكثرية مع كسب المال الحرام ، الأكثرية مع التفلت من الدين ، الأكثرية مع الانغماس في الشهوات ، أنت عليك نفسك ، لا يضرك من ضل إذا اهتديت ، وهناك معنى آخر للآية ، يعني أنت إذا لزمت نفسك وزكيتها ، وطهرتها وحملتها على طاعة الله ، عندئذٍ لا تستحق المعالجة من الله ، عندئذٍ هؤلاء الذين ضلوا

لا يستطيعون أن يصلوا إليك ، "لا يضركم من ضل "، إذا عُرِف عن الإنسان أنّه مقصر، ومرتكب معاصٍ ، وآكل حقوق ، معتدٍ على أعراض ، مقصّر في واجبات ، هؤلاء الضلال أقوياء غالباً ، فسيصلون إليه ويؤدبونه ، وينالون منه ، أما أنت ؛ إذا عرفت الله، وحملت نفسك على طاعته فلا يستطيع هذا الضال أن يضرك ، "عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ".

لذلك ورد في أحد الأحاديث الصحيحة ، أن إذا رأيت شُحاً مُطاعاً ، وهوى متبعاً، وإعجاب كل ذي رأيٍ برأيه ، فالزم بيتك ، وامسك لسانك ، وخذ ما تعرف ، و دع ما تنكر ، وعليك بخاصة نفسك ، ودع عنك أمر العامة .

ففي القرآن الكريم إعجاز ، يتماشى مع كل العصور ، ففي عصر النفاق ، والفجور ، والضلال ، في عصر الفتن ، في عصر الضلالات ، "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم "، عليك مِن نفسك ، لا يضرك من ضل إذا اهتديت ، أو عليك نفسك ، يعني الزم نفسك ، عرفها بربها ، عرفها بمنهج ربها ، احملها على طاعته ، زكِّها كي تسمو بها ، إن كنت كذلك فلا يستطيع الضال أن يصل إليك ، ولا أن ينال منك ، ولا أن يؤذيك .

فصارت الآية ، إذا كنت في زمنٍ صعبٍ ، في زمن القابض على دينه كالقابض على جمر ، في زمن يصبح المعروف منكراً ، والمنكر معروفًا ، في زمن يُؤمر فيهُ بالمنكر وينهى عن المعروف ، في زمن يُكَذَّب الصادق ، ويُصَدَّق الكاذب ، يُؤتمن الخائن ويُؤمَّن الخائن .

في هذا الزمن الصعب ، "عليكم أنفسكم" ، يعني لا تحمل همَّ الناس ، أنت في زمن صعب فعليك مِن نفسك ، عِّرف نفسك بربها ، واحملها على طاعته ، لا يضرك من ضل ، لو أن الناس جميعاً ضلوا ، لهم رب يحاسبهم ، هذا معنى .

المعنى الثاني عليك نفسك ، يعني الزمها ، اعتنِ بها ، عرفها ، احرص على إيمانها ، احرص على طاعتها ، فإذا سمت نفسك وزكت ، عندئذٍ لا يستطيع الضال أن يصل إليك، ولا أن يتسلط عليك ، ولا أن ينال منك ، ولا أن يضيق عليك ، أو أن يفعل معك شيئاً يضرك ، لقوله تعالى : "ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا " .

( سورة النساء : 141 ) .

مستحيل .

فهذه الآية أيها الإخوة لك أن تفهمها على أي وجه ، وكلا الوجهين صحيح ، وكما قال سيدنا علي كرم الله وجهه : القرآن حمال أوجه ، "عليكم أنفسكم "، أي انتبه لنفسك ، وعليك من نفسك ، ودع عنك أمر العامة ، إذا كنت في زمن الفساد والضلال والفتن والانحراف والفجور والمعصية .

والمعنى الثاني ، عليك نفسك أي الزمها ، واعتنِ بها ، عرِّفها ، زكِّها ، ارقَ بها ، فإذا كانت في هذا المستوى الرفيع عندئذٍ لا يستطيع أحد أن يصل إليك ، فأنت في حفظ الله.

إذا كان الله معك فمن عليك وإذا كان عليك فمن معك

أيها الإخوة الأكارم ؛ الإنسان ليس بحكيم إذا لم يدارِ مَن لا بد مِن مدراته ، فهو مخطئٌ إذًا ، يعني لك أخ ، لك جار مخلص ، لك ابن ، لك صهر ، هذه خاصة نفسك ، لكن أنْ تمسك امرأة سافرة في الطريق ، ثم تقول : أنتِ فاسقة ، أنتِ فاجرة ، فلا تقل ذلك ، فيكفيك الإنكارُ بقلبك ، وهذا معنى الآية ، "لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ".

يعني إذا كان الإنسان بإمكانه أن ينكر المنكر بقلبه ، فلينكره بقلبه ، طبعاً إذا كان لا يستطيع أن ينكره بلسانه .

الله سبحانه وتعالى لا يقبل أن تنكر المنكر بقلبك إذا كنت قادرًا على أن تنكره بلسانك ، كما أنه لا يقبل منك أن تنكره بلسانك إذا كنت قادرًا على أن تنكره بيدك ، فإذا رأى الإنسان منكرًا ، وليس بإمكانه أن يصلحه فليقل : اللهم هذا منكر لا أرضى به ، ولا أقوى على تغييره .

إذاً الآية الكريمة : "عليكم أنفسكم "، الزموا أنفسكم .

فلماذا إنْ شعَر الواحدُ بذبابةٍ أمام عينه تمشي مع حركة عينه فلا ينام الليل ، ثم يراجع طبيب عيون ، فحدَّد بله موعدًا بعد ستة أشهر ، يقول : أنتظر فهذه عين ليس معها لعب ، فلماذا أنت حريص حرصاً لا حدود له على عينك ؟ ولست حريصاً على قلبك .

لذلك ورد في بعض الآثار القدسية : أن يا عبدي طهَّرتَ منظرَ الخلق سنين أفلا طهرت منظري ساعة ؟

تريد مدخل البناية أنيقًا ، أخي المدخل غير لائق ، ولعله يصادفنا فرح تريد مدخلاً أنيقًا ، بيتًا مرتبًا ، غرفة ضيوف ، غرفة صالون ، غرفة طعام ، دهان جديد ، ورق أحياناً ، جبصين .

طهرت منظر الخلق ، بيتك ، ومركبتك ، ولبسك ، وأناقتك هذا منظر الخلق ، عبدي طهرت الخلق سنين أفلا طهرت منظري ساعة .

ما هو منظر الله ؟ القلب لأن الله ينظر إلى قلوبكم ، إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ، و لكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ، فصار القلب منظر الرب.

فيا عبدي ، عتاب ، طهرت منظر الخلق سنين ، أفلا طهرت منظري ساعة ، أتستحيي من ضيف يدخل بيتك غرفة الضيوف ، عندما تكون الغرفة غير منتظمة ، أو فيها حاجات مبعثرة ، أتستحيي من ضيف أن يرى الغرفة على هذا الشكل ؟ ولا تستحيي من الله أن يرى في قلبك غلاً للمؤمنين ، أو حسداً ، أو كبراً ، أمراضًا وبيلة .

إذاً : عبدي طهرت منظر الخلق سنين ، أفلا طهرت منظري ساعة

والحمد لله رب العالمين