3-تدبر الجزء الثالث (أخر البقرة و أول آل عمران)

يبدأ الجزء الثالث تقريبا بآيات الانفاق

وبمجرد ذكر آيات الانفاق تأتي آية الكرسي وبعدها مجموعة من الآيات لا علاقة لها بالانفاق

ثم العودة لآيات الانفاق مرة أخرى وبعدها آيات المعاملات المالية وتحريم الربى .

لماذا ............؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟

آية الكرسي: قدرة وعظمة الله

وهي أعظم آية في القرآن: آية الكرسي (255) وهي أروع كلام عن الله وصفاته عرفته البشرية في تاريخها.

[ٱلله لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَىُّ ٱلْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلاْرْضِ مَن ذَا ٱلَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْء مّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ ٱلْعَلِىُّ ٱلْعَظِيمُ] (255)

واللطيف أن بعد هذه الآية مباشرة يأتي قوله تعالى في الآية (256)

[لا إِكْرَاهَ فِى ٱلدّينِ...] وسبب هذا أن الحجة قد أقيمت على البشر بآية الكرسي فمن آثر الكفر بعدها فلا تكرهوه على الإيمان [قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَيّ].

وسبب ورود آية الكرسي في وسط الكلام عن المنهج هو أننا أثناء تطبيق هذا المنهج نحتاج إلى ما يثبتنا ويشعرنا بأن هذا المنهج من الله تعالى، وأن الله ولي من يطبق هذا المنهج [ٱلله وَلِيُّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ].

دلائل وبراهين

ويأتي بعد آية الكرسي ثلاث قصص تعرض نماذج حياتية لتؤكد آية الكرسي قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام مع النمرود [إِذْ قَالَ إِبْرٰهِيمُ رَبّيَ ٱلَّذِى يُحْىِ وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْىِ وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرٰهِيمُ فَإِنَّ ٱلله يَأْتِى بِٱلشَّمْسِ مِنَ ٱلْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ ٱلْمَغْرِبِ فَبُهِتَ ٱلَّذِى كَفَرَ] 258).

وقصة عزير [أَوْ كَٱلَّذِى مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِىَ خَاوِيَةٌ... ثُمَّ بَعَثَهُ...] (259).

وقصة سيدنا إبراهيم وهو يقول [رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ...] (260).

فأمره الله تعالى أن يأخذ عدداً من الطيور ويقطّعها ثم يطرقها على رؤوس الجبال ثم يدعوها، فإذا بالريش والدم يعود كما كانوا قبل تقطيعهم، [وَٱعْلَمْ أَنَّ ٱلله عَزِيزٌ حَكِيمٌ] (260).

فهذه القصص تؤكد قدرة الله على الإحياء والإماته [ٱلله لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَىُّ ٱلْقَيُّومُ] (255) جاءت بعد كل آيات المنهج لتقوية إيمان المسلم ويقينه بالله فتكون عوناً له على تحمل تبعات المنهج الثقيل.

النظام المالي والاقتصادي

وتظهر الآيات آخر ملامح المنهج وهو النظام المالي والاقتصادي في الإسلام، والذي عنوانه: الإسلام منهج تنموي وليس منهج ربوي، وتأتي الآيات لتحذر من الربا: [يَمْحَقُ ٱلله ٱلْرّبَوٰاْ وَيُرْبِى ٱلصَّدَقَـٰتِ وَٱلله لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ] (276).

[يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱلله وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ ٱلرّبَوٰاْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ & فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ ٱلله وَرَسُولِهِ وَإِن تُبتُمْ فَلَكُمْ رُءوسُ أَمْوٰلِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ](278 - 279).

حتى تأتي آية المداينة (وهي أطول آية في القرآن) لتوضح معالم المنهج فأكثر في قضايا الديون وإثباتها جاءت لتفيد التثبت في المعاملات [إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَٱكْتُبُوهُ] (282) بعد ذكر قصة إبراهيم في التثبت في العقيدة [وَإِذْ قَالَ إِبْرٰهِيمُ رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَـٰكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى] (260) لتوحي هاتان الآيتان في داخلك أن التثبت أسلوب المسلم في حياته في كل نواحيها. والملاحظ أن آيات الربا جاءت بين آيات الإنفاق والتنمية لتوضح أن الإسلام لا يحرم شيئاً إلا ويأتي بالبديل الأصلح.

سورة البقرة: إشارة الإمارة

بعد أن استعرضنا سورة البقرة وشموليتها لأحكام الإسلام نفهم لماذا كان النبي يولي على القوم من يحفظ سورة البقرة لأنه بذلك قد جمع معالم المنهج. هذا المنهج الشامل الذي هو الصراط المستقيم في سورة الفاتحة، نجده عقيدة في آية الكرسي وعبادة في أحكام الصيام والحج ومعاملات في الإنفاق وتوثيق الديون وتحريم الربا وأحكام القتال، يغلفها جميعها محاور ثلاثة الطاعة، التميز بالوسطية، التقوى.

الختام: سمعنا وأطعنا

تختم سورة البقرة بآيتين هما كنزٌ من تحت العرش يمدح الله بهما المؤمنين: [وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ] (285).

فبنو إسرائيل قالوا [سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا] (93) أما أمة الإسلام فليكن شعارنا [سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا] لنبقى مسؤولين عن الأرض. ويأتي بعدها الدعاء [لاَ يُكَلّفُ ٱلله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَٱعْفُ عَنَّا وَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَا أَنتَ مَوْلَـٰنَا فَٱنْصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَـٰفِرِينَ](286).

قد يخطئ الإنسان في حياته أثناء قيامه بهذا المنهج وقد يضعف فالصراط المستقيم هو هداية من الله، لذلك يحتاج المسلم إلى العون الرباني بأن يدعو

بالعفو والغفران والرحمة. فإذا قام المسلم بقتال من أراد محاربة المنهج وأهله فهو يسأل الله النصر على القوم الكافرين، ولقد إستجاب الله تعالى لهذه الدعوات بقوله (قد فعلت).

" لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " .- الآية 284 - .

في أواخر سورة البقرة آيات دقيقة ، وكأن هذه الآيات تلخص السورة بأكملها ، بل كأن هذه الآيات تعطينا الطريق العملي لفهم هذه السورة ، يقول الله عز وجل في الآية الرابعة والثمانين بعد المئتين :

أولاً : هذه اللام ... لله ... هذه لام الملكية .

لله ما في السموات وما في الأرض ، كلمة السموات والأرض يقابلها الكون ، والكون ما سوى الله ، والله واجب الوجود ، وما سواه ممكن الوجود ، وما سواه هو الكون ، والتعبير القرآني للكون ، السموات والأرض ، لله ما في السموات وما في الأرض ، أي الكون كله ملك لله عز وجل .

ما معنى أن يكون الله مالك للكون ؟ …

أنت قد تملك بيتاً ولا تنتفع به ، قد أجرته في الخمسينات بمبلغ زهيد ، وثمنه الآن مليونًا ، قد تملك بيتاً ولا تنتفع به ، وقد تنتفع به ولا تملكه فأنت مستأجر ، وقد تملكه وتنتفع به ، و لكن مصيره ليس إليك ، فمشروع تنظيم مِن قِبل المحافظة يأتي على البيت ، فملكية الإنسان دائماً غير كاملة .

لكن إذا كان الله مالكاً ، فالله سبحانه وتعالى يملك الشيء ، ويملك التصرف فيه ، ويملك مصيره ، أجل يملك الشيء ويملك التصرف فيه ويملك مصيره ، " له الخلق والأمر "

( سورة الأعراف : الآية : 54 )

أمره نافذ في خلقه .

هذايعني أنَّ أيَّ شيء يُملك فالله مالكه ، فأنت هل تملك ذاكرتك مثلاً ؟

هل تملك أن تعيش بعد ساعة، يقال : سكت دماغية ، أتملك مزرعتك ؟ بكون ثمنُ محصولها ذات خمسمئة ألف، "فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون"

( سورة القلم : الآية : 19 )

فماذا نملك نحن ، بناء بالقاهرة أربعة عشر طابقًا ، فيه بنوك ، وفيه مؤسسات ، وفيه بيوت فخمه ، طبعاً ؛ بيت لإنسان غني فيه الآلات الكهربائية ، والمكيفات البرادات ، آلات التسجيل ...إلخ .

خلال ثلاث وأربعين ثانية ، أصبح هذا البناء ركاماً ، خمس درجات على مقياس ريختر تصير تحت خيمة تُؤويك ، كان عندك بيت مساحته أربعمئة متر ، تزينه ديكورات ، وفرشه وفير ، بثلاث وأربعين ثانية ، غدوت تحت الخيمة ثاويًا ، هناك ناس ينزحون من بلادهم ، قد يقال : مئة ألف نازح ، فنحن لا نملك إلا رحمة الله عز وجل .

قال تعالى : " قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء ".

هناك عطاء مادي ... وهناك عطاء معنوي ... العطاء المادي ، بيت ، أرض مركبة ، تجارة ، أموال ... والعطاء المعنوي مكانة ، عزة ، كرامة ، أو إهانة ، أو فضيحة ، أو ذل ، " تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير " .

هذا تمهيد للآية الرابعة والثمانين بعد المئتين في أواخر سورة البقرة ، قال تعالى :" لله ما في السموات وما في الأرض "، وأنت على الأرض تشملك الآية الكريمة ، أنت مِن مُلك الله ، ثم قال :" وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " .

إذا كان الإنسان مثلا مصابٌ بمرض نفسي ، كأنْ يكون فيه كبر ، أو إشراك بالله ، وفيه آفةُ الاستعلاء ، وتأكيد للذات ، أو عنده غرور ، فهذه الأمراض إن أبديتها لله أو أخفيتها ، لابد من أن يحاسبك عليها .

أما الطبيب إن لم تأته إلى عيادته ، وتقول له : إنني لا أنام الليل من ألم المعدة فإنّه لا يعالجك ، الطبيب البشري إن لم تأته ، وإن لم تخبره بآلامك لا يعالجك ، لكن الله عز وجل ، لأنه يعلم ، ولأنه مالك ، ولأنه رحيم .

يعلم ، ومالك ، ورحيم ، سواء أعرضت عليه مشكلتك ، أم تجاهلتها يحاسبك بها .

لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله .

حبيبتي في الله ؛ أدق ما في الآية ، " فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء " إما أن تذهب إليه طواعيةً ، إما أن تنتبه لأمراضك النفسية طواعيةً ، وإما أن تقبل عليه مبادرةً منك ، وإما أن يرغمك على أن تأتيه قصراً .

" فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء "، يعني إنْ أصابك مرض ، فقد يقول لك الطبيب : لدينا حبوب ، أو عملية جراحية ، وإمَّا لو امتنعت عن هذه الآكلات ، وأخذت هذه المقويات تشفى ، فأنت بين خيارين ؛ إما أن تشفى بالحسنى ، وإما أن تشفى بعد مصيبة ؛ فالآية دقيقة …

يعني المرض النفسي إن أظهرته أو أخفيته ، إن عرضته أو سترته ، إن أبديته أو أسررته ، إن ذهبت إلى الطبيب أو لم تذهب إليه ، فالطبيب يعلم ، ورحيم ، وعليم وقدير ، وأنت بملكه ، لأنه رحيم ، ولأنه رب العالمين ، ولأنه جاء بك إلى الدنيا ليؤهِّلك للآخرة فلا تعصِهِ .

و المعالجة تكون بإحدى طريقين .

الطريق الأول : أن تأتيه تائباً ، وأن تقبل عليه .

بهذا الاتصال تشفى من أمراضك ، أمّا إذا أبيت أن تأتيه طائعاً ، ولم تندم على ما تفعل، فالله عنده مليون ، مليون ، مليون ، مليون وسيلة مما يرغمك أنْ تأتيَ إليه ركضًا ، مليون وسيلة ، بدءاً من صحتك ، إلى زوجتك ، إلى أولادك ، إلى عملك ، إلى تجارتك ، وأنت مسافر ، وأنت في البحر ، وأنت بالجو ، وأنت بالبر ، وأنت في بيتك ، وأنت بغرفتك ، حيثما كنت فلن تعجزه .

يقول الدكتور راتب النابلسي : حدّثني أحدُهم ؛ قال لي : أنا أستاذ كنت في أوربا ، ليس مِن معصية إلاّ اقترفتها ،عدا القتل ، فما قتلت أحداً ، قال : ثم جئت إلى الشام ، ونقلت باريس إلى دمشق ، فكل المعاصي ؛ السهرات في النوادي ، والخمور ، و النساء ، لا زلتُ أقترفها، وفجأةً ، أنا في مقتبل الحياة ، وأحمل شهادة دكتوراه بالكمبيوتر ، وفجأةً صار كلُّ شيء يتحرك أمامي مضطربًا ، أعوذ بالله ، فهو يمشي ويقع ، واللهِ عشر محاولات لأمسك الكأسَ فما أقدر ، يعني أصابه مرضُ اسمُه فقدُ التوافق الحركي ، وأصبح لديه خلل في كهرباء الدماغ ، انعكاس واضطراب بالرؤية ، واختلال بالمشي ، وعُرضتُ هنا على ستة وثلاثين طبيبًا بالشام ، فما استفدت ، فذهب إلى فرنسا حيث تعلَّم وتخرَّج ، وأُدخِل إلى أعظم مستشفى ، وجاء الطبيب بالطائرة ، وبحثوا عن مرضي ، وطبعاً سرتُ على بساط إلكتروني ، وانطبعتْ حركاتي على شاشة ، فأول كلمة قالها لي الطبيب : مرضك مرض يندر وجوده بالعالم ، نسبته واحد من ثلاثة عشر مليون إنسان ، كل ثلاثة عشر مليون إنسان يصاب به واحد ، وبلغته إدارة المستشفى أنّ إقامته في فرنسا ، وذهابه و إيّابه كل ستة أشهر نفقةً على حساب فرنسا ، لا لأنه مكرم بل ، لأنهم جعلوا منه حقل تجارب ، إنه مرض نادر ، ولأجل أنْ يتعلموا فيه اعتبروه ضيفًا ، ذهاباً ، وإياباً ، وإقامةً ، وبعد ستة أشهر قال لي الطبيب المعالِج بالحرف ما يلي : أنا أعلمُ طبيبٍ بمرضك في العالم كله ، ولا فخر ، وللأسف ليس لك عندنا دواء ، ارجع إلى بلدك وانتظر أجلك ، فرجع إلى الشام .

جاء إلى الجامع يومًا وحضر درسًا ، فقال يا رب : إذا شفيتني سأصلي ، فهو ما صلى في حياته ثمّ حضر درسًا ثانيًا ، ولعلّ الله ألهمني كلمة فقلت : أتشترط على الله ؟ أتجرِّب الله عز وجل ؟ فلا شرط ، و لا تجربة مع الله ، ولا تجرب الله عز وجل ، لا تشارط ولا تجرب .

سبحان الله ، ثم قال : يا ربي مِن الآن أبدأ الصلاة ، وفي البيت صلى أول ركعتين في حياته .

وفي ثالثِ يومٍ ، ثبتت الصورة ، وقام وصرخ راح فرحًا بالشفاء .

إنّ الصورة ثبتت ، وما بقي لديه ارتجاج ، وأمسك الكأس من أول محاولة ، وبعد ثلاثة أيام عاد صحيحا معافى ، وكان الصلح مع الله ، ولزم دروس العلم ، وتاب إلى الله توبة نصوحًا .

إخواننا الكرام ؛ إمّا أن تأتي طائعًا ، وإمّا أنْ يأتي بك ركضًا ، وعنده مليون دواء ، أحد الأدوية يجعلك لا تنام الليل خوفاً ، وأحد الأدوية يوحي إليك أنْ تقول : مستعد لأنْ أبيع أملاكي على أنْ أُشفى .

إخواننا الكرام ؛" لله ما في السموات وما في الأرض "، أنت ملكه ، وهو رحيم ، وهو رب كريم ، وحكيم ، وخلقك للجنة ، فإذاً أنت بين خيارين .

"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه "، فالأمر سيان .

في الجسم أمراض إنْ أظهرتها أو أخفيتها ، إن أبديتها أو أسررتها ،" يحاسبكم به الله".

أنت بين طريقين ؛ إما طريق الحمية والحبوب ، أو عملية جراحية ، وكلاهما على الله سهل ، "فيغفر لمن يشاء" ، للإقبال عليه ، "ويعذب من يشاء" ، للإعراض عنه ، يبعث له مشكلة ، "والله على كل شيءٍ قدير" ، على هذه قدير ، وعلى تلك قدير .

الطريق الأول : أولى وأجمل ؛ أن تأتيه طائعاً ، والأمر في متناولك ، صحتك طيبة سليمة ، وبيتك منتظم ، ودخلك جيد ، زوجتك كاملة ، أولادك ملاح ، وأنت بهذه الحالة الطيبة صلِّ وتُبْ وغض بصرك ، وحرر دخلك واضبط جوارحك ، واضبط سمعك وبصرك ، وأنت سليم صحيح الجسم ، وإلاّ إذا انحرفت فالله عز وجل يعرف كيف يداويك ، هذه الآية دقيقة ، هذه ملخص سورة البقرة كلها .

" لله ما في السموات وما في الأرض وأن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء "، الطريق السلمي أولاً ، بأنْ تأتيه طائعاً : أنا يا رب تبتُ إليك ، وأريد رضاك ، " ويعذب من يشاء " إذا غفلت عنه ، فعنده أساليب ترجعك قهرًا .

فاحذروا يا أولي الألباب .

في آية الدين قوله تعالى :

إنّ أعداء المسلمين يأخذون على الإسلام مأخذاً هو أن المرأة في الإسلام ليست مساوية للرجل في الشهادة ، فشهادتها نصف شهادة الرجل .

والحقيقة أن الله سبحانه وتعالى في آياتٍ قرآنيةٍ كثيرة بين وأكد أن المرأة مساوية للرجل تماماً في التكليف وفي التشريف وفي المسؤولية ، في التكليف مكلفةٌ بأركان الإيمان ، ومكلفة بأركان الإسلام ، ومسؤولة عمن استرعاها الله عز وجل ، عن رعاية بيت زوجها وأولادها ، وفي الآخرة تدخل الجنة كالرجل.

لكن الله سبحانه وتعالى خلق الرجل ببنية جسميةٍ وبنيةٍ نفسيةٍ وبنية عقليةٍ تختلف عما خلق المرأة ، وهذا يؤكده : " وليس الذكر كالأنثى "

(سورة : آل عمران : الآية : 36 )

ويؤكد المعنى الأول : "هو الذي خلقكم من نفسٍ واحدة وجعل منها زوجها ".

( سورة النساء : الآية : 1 )

فإذا فهم بعض المسلمين ، أن المرأة أقل من الرجل في عقلها أو في دينها فهذا فهم جاهلي ، لأن الله سبحانه وتعالى حينما - دققوا في هذا الكلام - حينما زاد في قوة إدراك الرجل وأنقص من انفعاله وعاطفته فهذا كمالٌ في حقه ، وحينما أنقص من قوة إدراك المرأة ، وزاد في انفعالها ومشاعرها الرقيقة فهذا كمالٌ فيها ، والمجموع واحد في كلا الطرفين ، إذا أعطينا قوة الإدراك مع شدة الانفعال مئة درجة ، فالمرأة لها مئة درجة في قوة الإدراك وفي قوة الانفعال ، والرجل له مئة درجة في إدراكه وفي انفعاله ، لكن إدراك الرجل زاد ليحقق رسالته في الحياة ، وإدراك المرأة واهتمامها بالقضايا العامة قَلَّ ، ولكن زاد بالمقابل في اهتمامها بأولادها ، وانفعالها الشديد وعاطفتها الرقيقة.

لكن الرجل والمرأة مع التفاوت الشديد بينهما فهما متكاملان ، وصفات كلٍ منهما شرط لازم كافٍ لنجاح العلاقة الزوجية .

وقد قال أحد علماء النفس : المرأة حينما نافست الرجل في الحياة العامة ، خسرت مرتين ؛ خسرت المنافسة وخسرت أنوثتها ، وأجمل ما في المرأة أنوثتها وحياؤُها ، فإذا انطلقت للحياة العامة وخالطت الرجال ، خسرت السباق مع الرجال وخسرت أنوثتها .

إذا قلنا للطيار : اجلس في كبين الطائرة مكان القيادة ، وقال : هذا تقيد لحريتي ، هذا مكان ضيق ، وهو يعلم أنَّ أرواح الركاب كلهم برقبته ، وهذا مكان القيادة ، فلا بد أن يجلس في مكان القيادة .

" وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفةٍ إذا تمنى "

( سورة النجم : الآية: 45-46 )

تماماً : "من عمل صالحاً من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة" وفي آية أخرى : "وليس الذكر كالأنثى " .

إذاً المرأة لها مهمةٌ خطيرةٌ أنيطت بها ، والرجل له مهمةٌ خطيرةٌ أنيط بها ، وليس في الإمكان أبدع مما كان ، وهذا خلق الرحمن ، أما حينما نبدِّل ونحوِّر ونضع المرأة مكان الرجل ، يقول عليه الصلاة والسلام : " لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً "

(رواه البخاري عن أبي بكرة)

لأنّ إمكانياتها الانفعالية الرقيقة لا تسمح لها أن تحكم بالإعدام على مجرم ، واللهُ عز وجل قال : "ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله " .

( سورة النور : الآية : 2)

انفعالها ورقتها وأنوثتها ، لا تسمح لها أن تصدر هذه الأحكام ، وهذا يحتاج إلى رجل ، كما أن الرجل لا يستطيع أن يرعى الأطفال ، يحتاج إلى عطف ، وإلى بال طويل ، ورحمة ومحبة ، لذلك كمال الرجل صفاته التي فُطر عليها ، وكمال المرأة صفاتها التي فُطرت عليها ، فأي فريةٍ يفتري بها أعداء المسلمين من أن المرأة شهادتها نصف شهادة الرجل هذا كمالٌ فيها ، كما أن الأمية في النبي كمال فيه ، والأمية فينا نقص ، أما عند النبي لماذا هي كمال ، لأنه يوحى إليه ، حتى لا يسأله أصحابه كل يوم وكل ساعة ، هذا الحديث يا رسول الله من عندك ؟ من ثقافتك أم من الوحي ؟ لذلك مُنع النبي عن ثقافة الأرض ، وعن كل معلومات الأرض ، وكان كلامه كله وحيًا من السماء ، فلذلك موضوع الإدراك الدقيق لدور المرأة والرجل شيء مهم ، والأحاديث كثيرة في هذا الموضوع ، نسوق إليكم بعضها .

"اعلمي أيتها المرأة وأعلمي من دونك من النساء أن حسن تبعل المرأة زوجها يعدل الجهاد في سبيل الله " ، فهي إذًا مجاهدة ، ويتوجه النبيُّ إلى الرجال فيقول: أكرموا النساء فوالله ما أكرمهن إلا كريم ، ولا أهانهن إلا لئيم ، يغلبن كل كريم ويغلبهنَّ لئيم ، وأنا أحب أن أكون كريماً مغلوباً من أن أكون لئيماً غالباً .

قوله تعالى: " ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف "

( سورة البقرة : الآية : 228 )

أما حينما قال الله عز وجل الرجال قوامون على النساء

( سورة النساء : الآية : 34 )

هذه قوامة إدارة وتنظيم ، لا قوامة سيطرة واستفزاز ، بينك وبينها درجة واحدة ، لا ما بينك وبينها كما بين قائد الجيش والمجند ، لا، ولكن بين رتبتين فقط ، رتبة واحدة بينك وبينها ، " وللرجال عليهن درجة "

( سورة البقرة : الآية : 228 )

هي درجة القوامة ، لأنه هو المنفق .

فأن ينطلق المسلم من فهمه لحقيقة دور الرجل والمرأة خيرٌ له و أصحّ ،وأنْ يعلم أيضًا أنَّ المرأة لها مكان لا ينبغي أن تتجاوزه : " وقَرْنَ في بيوتكن" إذا قلنا : "وقرن في بيوتكن "

( سورة الأحزاب: الآية : 33 )

تذكروا أن يقال للطيار وهو في غرفته الصغيرة ، وأمامه الأجهزة المعقدة ، اثبُت في هذا المكان ، يقول لك هذا مكان صغير ضيِّق ، وهذا تضييق لحريتي ، نقول له ، أرْواح الركاب كلها في رقبتك ، هذا مكانك الطبيعي ، فالمرأة حينما تخرج من البيت ، من دون سبب قاهر وتضيع أولادها ، تخلت عن مهمتها الأساسية التي أناطها الله بها ، فلذلك أعظم عمل يقوم به الإنسان ، أن يربي عناصر طيبة يدفعها إلى المجتمع ، لذلك فشهادة المرأة ليست هذه الورقة التي تعلقها في البيت ، تقول لك : أنا مهندسة ، شهادتها أولادها ، حسن تربيتهم ، أخلاقهم ، عاداتهم تقاليدهم ، ثقافتهم ، خبرتهم ، هذه شهادتها، فلذلك إذا قال أحدهم : إن الإسلام ما أنصف المرأة ، وأنّه أعطاها دون ما تستحق ، والدليل شهادتها نصف شهادة الرجُل ، نرد عليه ونقول : إن هذا كمالٌ فيها ، وهي والرجل متكاملان ، وأن هذه الزيادة محض كمال ، وأن ذلك النقص محض كمال ، وهذا العضو الذي في الصدور ، في الأضلاع ، كمالها بأنها منحنية ، ولو أنها مستقيمة لخرجت من البطن وكانت كالأعواد ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ*

(رواه البخاري)

سورة آل عمران

سورة آل عمران (مدنية) نزلت بعد الأنفال وعدد آياتها 200 آية وهي بعد سورة البقرة في ترتيب المصحف.

علاقتها مع سورة البقرة

سورة آل عمران هي شقيقة سورة البقرة بنص أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وتسميان (بالزهراوين). وهناك تشابه كبير بينهما، فكلتهما بدأتا بـ [ألم]،ثم الحديث عن القرآن , واختتمتا بدعاء، ومن لطائف القرآن أن أول 3 سور من القرآن قد اختتمت بدعاء:

الفاتحة [ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ...] (4).

البقرة [رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا] (255).

وآل عمران [...رَبَّنَا فَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفّرْ عَنَّا سَيّئَـٰتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ ٱلاْبْرَارِ] (193).

وهذه إشارة إلى أهمية الدعاء عند المسلم ليلجأ إليه دائماً.

الثبات على المبدأ

إن الهدف الذي تدور حوله السورة وثيق الصلة بهدف سورة البقرة التي كانت تخبر المسلمين بأنهم مسؤولون عن الأرض، والتي عرضت منهج الاستخلاف. فسورة آل عمران تؤكد الثبات على هذا المنهج، والكثير من الأشخاص - بعد أن يقرأوا المنهج ويتحملوا المسؤولية - يزيغون ويسقطون، ويبتعدون عن المنهج القويم، كالذي يتعبد في شهر رمضان ثم يغلق أبواب الطاعة والعبادة بعده. فالسورة تخاطب المتدينين منذ أكثر من 20 سنة وتثبتهم على الدين، كما تخاطب الشباب الذين تديّنوا بالأمس وتقول لهم أثبتوا على دينكم ومنهجكم لتحقيق استخلاف المسلم في الأرض.

كيف نثبت على الحق؟

للإجابة على هذا السؤال يجب أن نعرف كيف يزيغ الناس، فالناس يضللون إما بالأفكار التي تشوش عقائدهم، أو يتيهون وسط مشاغل الحياة فتضعف عزائمهم. وبالتالي فأسباب الهلاك فكرية (داخلية) أو عملية (خارجية)، والسورة تحث المؤمن على الثبات في المجالين وتحذره مما قد يكون سبباً في زلته.

لذلك تقسم السورة إلى قسمين:

1. القسم الأول: الآيات (1 - 120)

الثبات على الحق فكرياً أمام المؤثرات الخارجية، من خلال الحديث عن أهل الكتاب والحوار معهم، وهو أول حوار بين العقائد في القرآن.

2. القسم الثاني: الآيات (120 - 200)

تتحدث عن الثبات على الحق عملياً أمام المؤثرات الداخلية من خلال الحديث عن غزوة أحد، كنموذج للأخطاء التي قد تقع وكيفية تفاديها.

الثبات واضح في السورة من البداية للنهاية

بدأت السورة بما يساعد المسلم على الثبات، وختمت أيضاً بما يثبته على الحق.

اقرأ في بداية السورة: [الم & ٱلله لا إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَىُّ ٱلْقَيُّومُ & نَزَّلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ بِٱلْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيه] (1-3).

فإلهك إله واحد وهو المعين على الثبات، والكتاب حقّ، وهو طريقك إلى الثبات على هذا الدين.

والآية الأخيرة تقول للمؤمنين [يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَٱتَّقُواْ ٱلله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] (200).

اصبروا أي اصبر نفسك، أما صابروا فمعناها أن تساعد غيرك على الصبر، وأما رابطوا فمعناها أن يبقى المسلم مستعداً لمواجهة أي خطر يأتي من الخارج. والرباط يكون على الثغور لدفع وصد العدو الخارجي سواء كان هذا العدو جيشاً أو فكرة وشبهة.

وذكر القرآن كعامل من عوامل الثبات قد تكرر كثيراً في السورة.

فتأتي الآية (7) لتوضح [هُوَ ٱلَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ مِنْهُ آيَـٰتٌ مُّحْكَمَـٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَـٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَـٰبِهَـٰتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَـٰبَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَاء ٱلْفِتْنَةِ وَٱبْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱلله وَٱلرسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلالْبَـٰبِ].

الفهم الصحيح للقرآن من أهم عوامل الثبات الفكري والكثير من الناس قد يزيغون ويقعون في الباطل عن طريق اتباع المتشابه من القرآن. فالسورة تحذرنا من هذا الضلال وتحثنا على أن نكون من الراسخين في العلم، وان ندعو بدعاء الثبات: [رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ ٱلْوَهَّابُ] (8).

عقبات الثبات: (اتباع الشهوات والمعاصي)

في أوائل السورة نقرأ الآية [زُيّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوٰتِ مِنَ ٱلنّسَاء وَٱلْبَنِينَ وَٱلْقَنَـٰطِيرِ ٱلْمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ وَٱلانْعَـٰمِ وَٱلْحَرْثِ ذٰلِكَ مَتَـٰعُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَٱلله عِندَهُ حُسْنُ ٱلْمَأَبِ] (14).

فالتعلق بمتاع الدنيا الزائل وشهوتها الفانية عامل خطير ضد ثبات الأمة.

ويقول تعالى: [إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ إِنَّمَا ٱسْتَزَلَّهُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ] (155).

فهذه الآية تقول بأن الذين تولوا من الصحابة يوم غزوة أحد كان عندهم ذنوب في الماضي، فاستزلّهم بها الشيطان فلم يثبتوا.

ونرى آية أخرى في نفس المعنى:

[أَوَ لَمَّا أَصَـٰبَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَـٰذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ] (165).

الحل: (التوبة)

لذلك تتكرّر الآيات التي تدعو إلى التوبة والمسارعة فيها.

فيقول تعالى: [ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا ءامَنَّا فَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ] (16).

[إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ ٱلله غَفُورٌ رَّحِيمٌ] (89).

وتأتي الآية [وَسَارِعُواْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ٱلسَّمَـٰوٰتُ وَٱلاْرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ] (133).

فلتكن هذه الآية شعاراً لنا ، المسارعة بالاستغفار والتوبة لنثبت على الحق ونضمن جنة عرضها السماوات والأرض.

يساعدك على الثبات :

خمسة عوامل: أتت بها السورة وركّزت عليها:

1. اللجوء إلى الله: فالثبات من الله تعالى وهو القادر على تثبيتنا على منهجه.

لذلك فالسورة تحثّ على الدعاء كثيراً من أولها:

[رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ ٱلْوَهَّابُ] (8).

[ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ] (192 )

رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ{193}

رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ{194}

مرورا بنماذج مضيئة وكيف كانت تلجأ إلى الله.

فهذه زوجة عمران تدعو الله قائلة: [رَبّ إِنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا] (35).

وزكريا[هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرّيَّةً طَيّبَةً] (38).

2. العبادة: وتقرأ في ذلك قوله تعالى: [كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا] (37) فكانت السيدة مريم عاكفة على المحراب، فتعلم منها سيدنا زكريا لذلك عندما نادته الملائكة لتبشره بيحيى: [فَنَادَتْهُ ٱلْمَلَـئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّى فِى ٱلْمِحْرَابِ] (39).

3. الدعوة إلى الله: فالدعوة إلى الله من أهم عوامل الثبات لأن الداعي حين يأخذ بيد الناس فإنه سيكون أول من يثبت على ما يدعو الناس إليه. لذا فإن السورة تحتوي على الكثير من الآيات التي تحثّ المؤمن على الدعوة إلى الله:

[وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ٱلْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ] (104).

4. وضوح الهدف: ومن عوامل الثبات أن يكون لك هدف واضح في حياتك.

يقول تعالى: [ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱلله قِيَـٰماً... رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَـٰطِلاً سُبْحَـٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ](191).

فلا بدّ أن نفهم أن هذا الكون قد أنشئ لهدف ولم ينشأ عبثاً، والهدف هو عبادة الله ومعرفته وأن نكون مسؤولين عن الأرض (كما وضحت سورة البقرة).

5. الأخوة في الله ( الصحبة الصالحة ): [وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱلله جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ] (103).

فالأخوة في الله تؤمن للمسلم الصحبة الصالحة وهي من أهم نعم الله على الإنسان [فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً] (103).

لذلك تحذّرنا السورة من تضييع الأخوة والتفرق [وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَٱخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ ٱلْبَيّنَـٰتُ] (105).

لماذا سميت السورة بآل عمران؟

ما علاقة كل ما قيل عن الثبات بآل عمران؟ إن الله تعالى قد اختار في هذه السورة رمزين من رموز الثبات، امرأة آل عمران، ومريم بنت عمران،

وسرد لنا قصتهما في ربعين كاملين من السورة. فالسيدة مريم ثبتت على طاعة الله تعالى وعبادته وثبتت على العفة حتى استحقت أن تذكر بهذه الصفة في القرآن [ٱلَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا] فمن أخطر الأمور التي تضيّع الأفراد وتضيّع المجتمعات الفشل في الثبات على الطاعة وعلى العفة. فكانت السيدة مريم عليها السلام رمزاً للثبات عليهما.

وأما زوجة عمران فقد كان همها الأول أن يكون الجنين الذي تحمله ناصراً لدين الله تعالى: [رَبّ إِنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنّي] (53).

محرّراً أي خالصاً لك فكانت تريده أن يحرر المسجد الأقصى من يد الرومان المعتدين وبذلك كانت رمزاً للثبات على فكرتها حتى بعد أن علمت أن وليدها كان أنثى. [فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبّ إِنّى وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ وَٱلله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلأُنْثَىٰ وَإِنّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ...] (36)

فتقبّل الله تعالى من امرأة عمران صدق نيتها [فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا...](37).

وهناك ملاحظة هامة :

أن الله تعالى ذكر هذين الرمزين في السورة التي تناقش أهل الكتاب وهذه طريقة مميّزة للقرآن في تقريب الناس , فمع أنه ينكر على ما يعتقده أهل الكتاب لكنه يثني على شخصيات عظيمة يؤمنون بها كزوجة عمران والسيدة مريم.

والآن لنتوقف عند بعض الآيات في السورة .

يقول الله سبحانه وتعالى فيهما :

زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ{14} قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ{15}

رُكب في كيان الإنسان هذه الشهوات ، وقد يَفهم البعض أن هذه الشهوات أساس فساد العالم ، والحقيقة عكس ذلك ، فلولا هذه الشهوات التي ركبت فينا لما دخلنا الجنة ، ثمّ إن هذه الشهوات حيادية ، إنها سُلَّم ترقى بها إلى الجنة أو دركات تهوي بها إلى النار ،

إذاً الشهوات ليست سبب فساد العالم ، بل إن سوء استخدامها هو سبب فساد العالم .

إنّ الشهوات التي أودعها الله فينا ، قيَّدها في الوقت نفسه بمنهج رسمه لنا ، فما من شهوة أودعها الله في الإنسان إلا ولها قناة نظيفة ، لو سارت هذه الشهوة في خلال القناة لآتت أكلها ضعفين ،

فإياك أن تتهم الشهوات ، فلولاها لما ارتقيت إلى رب الأرض والسماوات ، إن هذه الشهوات ترقى بها إلى الله مرتين ، ترقى بها مرة صابراً ومرة شاكراً، فإذا نظرت إلى ما يحل لك ترقى شاكراً ، وإذا غضضت عما لا يحل لك ترقى صابراً ، إذا كسبت المال من وجوهه المشروعة وأنفقته فيما هو مشروع ، فإنّك ترقى إلى الله شاكراً ، فإذا امتنعتَ عن أخذ مالٍ حرام ، فيه شبهة ، وأنت في أشد الحاجة إليه ، وقد أودع اللهُ في كيانك حبَّ المال ، ترقى إلى الله صابراً ،الوجه الذي حرمه الله عليك ترقى إلى الله صابراً ،

هذا معنى قول الله تعالى : "زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث" أما الشيء الدقيق في هذه الآية ، "ذلك متاع الحياة الدنيا" ، وكأن المتاع كلَّه في كلمة "ذلك" ، هذه التي بين يديك ، "متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب" .

فإذا اتقى الإنسانُ اللهَ في هذه الشهوات ، وجاءه ملك الموت ليقبض روحه ، وقد مات على الإيمان ، وعلى طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فله عودةٌ إلى الله لا توصف من شدة السعادة ، "والله عنده حسن المآب" ، فحينما تؤوب إلى الله ، وقد اتقيت الله في هذه الشهوات ، فلك عودة لله عز وجل ، وأنتَ في أسعد الحالات .

لذلك قالوا : الموت عرس المؤمن ، والشيء الثابت أنَّ أسعد لحظات المؤمن حين يلقى ربه ، وا كربتاه يا أبي ‍! قال : لا كرب على أبيك بعد اليوم ، غداً نلقى الأحبه محمداً وصحبه .

.

لكن دققوا في الآية التالية ، فكل واحد منا ذاق هذه الشهوات مارِسْها وعرفها ، ثم إنّ ربنا عز وجل يقول لكم :" قل أؤنبئكم بخير من ذلكم "، هل أنت مصدق لله عز وجل : "قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة "، وأثمن من كل ذالك ، "ورضوان من الله والله بصير بالعباد" .

لذلك قال صلى الله عليه وسلم : "ما أخذت الدنيا من الآخرة إلا كما يأخذ المخيط إذا غمس في مياه البحر " إبرة اغمسها في مياه البحر ، ثم اسحبها ، واحسُب النسبة ، كم نقص البحر من مائه ؟

.

في سورة آل عمران أيها الإخوة ، آية تعد مقياساً لكل مؤمن ؛ هذه الآية هي الآية الواحدة والثلاثون وهي قوله تعالى :

قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ{31}

قال العلماء: لما كثر مدَّعو المحبة لله عز وجل جعل الله سبحانه دليلاً على صدق المحبة أو عدمه ، آية في كتابه الكريم .

استنبط الإمام الشافعي حقيقةً ثابتة ، وهي أن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحبابه ، بل يبتليهم ويمتحنهم ، ولكن لا تستقر حياتهم إلا على الإكرام .

وهنا محل الإشارة إلى أن حياة المؤمن تمر بأطوار ثلاثة ؛ فتمر في طورٍ يعالجه الله ، ويؤدِّبه إلى أن يحمله على طاعته ، وهذا الطور الأول ، يعالجه ويضيق عليه ويشدد عليه ويؤدبه بشتى الوسائل النفسية والمادية إلى أن يحمله على طاعته .

إذًا هذا طور التأديب، فإذا حمله على طاعته دخل في طورٍ آخر ؛ طور الابتلاء "ونبلونكم بالشر والخير فتنة "

( سورة الأنبياء : 35 )

فإذا نجح في الابتلاء دخل في طورٍ ثالث ؛ وهو التكريم

فإذا رأيت أن المسلمين ليسوا على ما يتمنون ، وحالهم لا ترضي ، وليسوا كما قال الله عز وجل ، فلم يُستخلَفوا في الأرض ، ولم يمكِّن الله لهم دينهم الذي ارتض لهم ، ولم يبدلهم بعد خوفهم أمناً ، هذه وعود الله عز وجل : "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً " .

(سورة النور : 55 )

أي وعد في القرآن الكريم ، إنْ رأيته غير محقق ، ينبغي أن تشك في الطرف الثاني ، لأن الله سبحانه وتعالى قال : "ومن أصدق من الله حديثاً " .

( سورة النور : 87 )

وقال :" ومن أوف بعهده من الله " .

( سورة التوبة : 111)

إنّ الله وعد المؤمنين بالنصر فقال : " إن تنصروا الله ينصركم " .

( سورة محمد : 7 )

وقال: "إن ينصركم الله فلا غالب لكم" .

( سورة آل عمران : 160 )

وعد المؤمنين أن يدافع عنهم فقال الله تعالى :"إن الله يدافع عن الذين آمنوا"

( سورة الحج : 38 )

ووَعَد المؤمنين أن لن يجعل للكافرين عليهم سلطانا : "ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً "

( سورة النساء : 141 )

هذه وعود خالق الكون ، فإن رأيت وعود الله ليست محققه في عالم المسلمين ، فماذا تظهر ؟ أتقول : إنَّ الله سبحانه وتعالى لا يفي بوعده ؟ هذا كلام فيه كفر ، حاشا لله عز وجل ، يجب أن نشك في إيماننا ، وفي طاعتنا لله ، وفي استقامتنا ، إن الله سبحانه وتعالى يقول في آيةٍ أخرى :" ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم"

على كلٍ هناك نقطة دقيقة ، الإنسان يحيا ضمن مجتمع ، والمجتمع فاسد منحرف ، يأكل الربا ، يقلد الغربيين ، كما قال صلى الله عليه وسلم : ( ولو دخلوا حجر ضبٍ خَرِبٍ لدخلتموه ) ، في مجتمع الدنيا كلها همُّه ومبلغ علمه ، في مجتمعٍ لا يبالي أأكل حراماً أم حلالاً ، مجتمع لا يبالي أكان على منهج الله أم على منهج الشيطان ، فإذا كان المؤمن في هذا المجتمع ، واصطلح مع الله وحده ، واستقام إلى الله استقامةً تامة ، فهل تظن أن الله يعذبه مع المجموع .

قال تعالى : "وكذلك ننجي المؤمنين"

( سورة يونس : 103 ) .

لا تنسوا هذه القصة التي أوردها القرآن الكريم ، سيدنا يونس حينما كان في بطن الحوت ، ما من مصيبةٍ أشد على الإنسان من أن يجد نفسه فجأةً في ظلمة بطن الحوت ، وفي ظلمة البحر ، وفي ظلمة الليل ، في ظلماتٍ ثلاث ، الأمل في النجاة ضئيل ، في بطن حوت وزنه مئة وخمسون طنًا ، والإنسان كله لقمة صغيرة ، فالتقمه الحوت لقمة واحدة ، الوجبة المعتدلة وهي تسكيت لجوعه أربعة أطنان ، "فنادى في الظلمات" ، في ثلاث ظلمات ، "أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، فاستجبنا له ونجيناه من الغم"

( سورة الأنبياء : 87 )

القصة انتهت ، استمع إلى القانون بعدها ، إنّه القانون الإلهي الثابت أبدًا ، قال :" وكذلك ننجي المؤمنين " .

يعني أي مؤمن ، وفي أي مكان ، وزمان ،، " وكذلك ننجي المؤمنين" ، وكل إنسان يُحاسب عن عمله ، فإذا تبتَ توبة عامة ، فالفرج عام ، وإذا تبتَ توبة خاصة فالفرج خاص ، والمؤمن له معاملة خاصة ...

قال : "ما خطبكم أيها المرسلون قالوا إنا أرسلنا إلى قومٍ مجرمين لنرسل عليهم حجارة من طين مسومة عند ربك للمسرفين "

( سورة الذاريات : 31 - 32-33-34 )

ثم الآية التالية تقول : "فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين "

( سورة الذاريات : 35-36 )

يعني أنّ الله عز وجل قَبْلَ أن يدمِّر هذه البلدة ، أخرج منها المؤمنين ، فالمؤمن إذا صار في هدى جماعي ، فهذا أنعم وأكرم ، فيصير في فرج جماعي ، وإذا لقيت الناس حولك غير مستقيمين فلا تقل : أنا مثل هؤلاء الناس ، هذا الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال : لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً تَقُولُونَ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا*

(رواه الترمذي عن حذيفة)

تعامل مع الله مباشرةً ، تعامل مع الله بصدق وإخلاص ، وأقم أمر الله ، يعزك الله :

إذا أقمت الإسلام في كيانك، وفي بيتك ، وفي عملك ، غيَّر الله نمط حياتك ، فالله عز وجل قال : "من عمل صالحاً من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياةً طيبة" .

الآية الخامسة والثلاثون وهي قوله تعالى :

إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ{35}

الحقيقة أنّ دخول الجنة بالعمل مبدئياً ، لقوله تعالى: "ادخُلوا الجنة بما كنتم تعملون " .

( سورة النحل : 32 )

لا بد للإنسان من عمل يلقى الله به ، فكل إنسان أكرمه الله عز وجل بعمل ، فهذا يتقن الطب ، وهذا يتقن المحاماة ، وهذا مهندس ، فعملك الذي تتقنه يمكن أن يكون عملاً يدخلك الجنة ، ، فامرأة عمران ماذا تملك ؟ لا تملك شيئًا ، إلا أنها حامل ، قال تعالى : "إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محرراً " .

خالصاً لك يا رب ، فكان الذي جاءت به ليس ذكراً لكنه أنثى ، ولدت السيدة مريم ، والسيدة مريم جاءت بنبيٍّ عظيم ، وهو سيدنا عيسى ، والأمر الدقيق أن كل مسلمٍ وكل مؤمنٍ لا بد له من عمل يلقى الله به ، من هم أسعد الناس ، هم الذين جعلوا من مهنهم ومن شرفهم ومن دَوْرهم الاجتماعي ، أب ، أم ، زوجة ، أبنة ، من مهنهم وحرفهم ومن دورهم الاجتماعي ، جعلوا أعمالاً تؤهِّلهم للعرض على الله عز وجل ، فكان السلف الصالح إذا فتح أحدُهم دكانه ، نوي خدمة المسلمين ، فالمحامي المؤمن لا يتسلم قضية إلا فيها رضي الله عز وجل ، يقسم أن يدافع عن الحق وعن المظلومين ، فأصبحت حرفة هذا المحامي عملاً يدخل به الجنة ، فمَن نفَّس عن مؤمن كربة مِن كُرَب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، والطبيب إذا نوى أن يستخدم علمه في تخفيف آلام الناس ، فكان علمه واختصاصه وحرفته عملاً يدخل به الجنة ، فما مِن عمل في الأرض يستعصي على أن يكون في سبيل الله ، إذا كان في الأصل مشروعاً ، فمَن هو السعيد ؟ هو الذي يوظف أعماله كلها ؛ اختصاصه ، خبرته ، ماله، مكانته الاجتماعية في سبيل الله ، وهذا معنى قوله تعالى : "قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين " .

( سورة الأنعام : 162 )

فلما ترعى الأمُّ أولادَها تقرباً إلى الله ، فإنّ دورها الاجتماعي عملاً يصبح يدخلها الجنة ، والابن إذا برَّ والديه فدوره الاجتماعي صار عملاً يدخله الجنة ، وكذلك الخياط ، والمدرس ، فلو ابتغى بالعمل خدمة نفسه وأهله ، وابتغى به خدمة المسلمين ، ولم يشغله عن فريضة ، ولا عن واجب ، ولا عن طاعة ، و لاعن طلب علم فقد انقلب عملك إلى عملٍ صالحٍ تلقى الله به ، وهذا معنى الآية الكريمة : "إذ قالت امرأت عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محرراً فتقبل مني " .

مثــــــــــــــــال، بضع نسوة من المؤمنات الصالحات التقيات ، بدأن يطبخن طبخات نفيسة ، ويبعنها لأسر غنية ، وخصصن ريع هذا العمل أجرًا للعمليات الجراحية ، أو أيّ أعمال صالحة ، فماذا تملك امرأة عادية ، تملك أن تتقن طبخة جيدا ، إذاً يطبخن الطبخات المناسبة لبعض الأسر توصية ، ويأخذن ريع هذا العمل ، ويعملن به أعمالاً صالحة ، كأنْ يسددن نفقات عمليات جراحية لبعض المرضى .

إنّ أبواب الأعمال الصالحة مفتحة على مصاريعها ، فإذا كنتَ تملك أنْ تخدم الناس خدمة ، فافعل ولا تقصِّر ، بلِّغْ ولو آية ،أما تملك إذا كنت طبيبًا تعالج مريضًا من دون مقابل ؟ أما تملك إذا كنت صيدليًّا أنْ تقدِّم الدواءَ مجانًا لإنسان فقير إذا تأكدت من فقره ؟ .

من هو الشقي ؟ الذي حرم نفسه الأعمال الصالحة ، ما من واحد له حرفة إلا وتقدر أنْ تجعل جزءًا منها لله ، لوجه الله ، وقلبنا ينبض ، نحن في فرصة لا تعوض أبداً ، ولا بد من اقتناصها .

من هم أسعد الناس ؟ الذين وظفوا أعمالهم الدنيوية من أجل الآخرة ، فكل أخ كريم له اختصاص ،

هذه امرأة عمران قدوة لنا ،" إذ قالت امرأة عمران ربِّ إني نذرت لك ما في بطني محرراً فتقبل مني إنك أنت السميع العليم فلما وضعتها قالت ربِّ إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت "ـ مَنْ خَيرٌ ـ "وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم" ـ اسمعوا الجواب ـ " فتقبلها ربها بقبولٍ حسن وأنبتها نباتًا حسنًا وكفلها زكريا" .

أيُّ إنسان صاحب حرفة ، إذا وضع المادة هدفه سقط وافتقر ، وإذا وضع مصلحة المسلمين غايته وهمَّه والمادة وراء ظهره ، اغتنى ، وجاءته الدنيا والآخرة ، فلا تكن ماديًا ، كن في خدمة الخلق ، وتأتيك الدنيا وهي راغمة ، كما قال صلى الله عليه وسلم : ( من أصبح وأكبر همه الدنيا جعل الله فقره بين عينيه وشتت عليه شمله ولم يأتِه من الدنيا إلا ما قدر له ، ومن أصبح وأكبر همه الآخرة جعل الله غناه في قلبه ، وجمع عليه شمله ، وأتته الدنيا وهي راغمة . )

لكن العبرة أن تؤمن أولاً ، فإذا آمنت انقلبت المباحات إلى عبادات ، وإن لم تؤمن كانت العبادات نفاقاً ، يا رب علَّمتُ القرآن في سبيلك ، فيقول : علَّمتَ القرآن ليقال عنك عالم، وقد قيل خذوه إلى النار ، يقول : يا رب قاتلت في سبيلك ، فيقول : كذبت قاتلت ليقال عنك شجاع ، وقد قيل خذوه إلى النار .

من هم إذاً أشقى الناس ؟ الذين عملوا أعمالاً تبدو أنها أعمال الآخرة ، لكنهم عملوها للدنيا .

اللهم إني أعوذ بك أن أقول قولاً فيه رضاك ألتمس به أحدًا سواك ، وأعوذ بك أن أتزين للناس بشيء يشينني عندك ، أعوذ بك أن يكون أحدٌ أسعد بما علمتني مني ، أعوذ بك أن أكون عبرة لأحد من خلقك .