سورة إبراهيم
مكيّة وآياتها ثنتان وخمسون
ولقد تضمنت السورة عدة حقائق رئيسية في العقيدة. ولكن حقيقتين كبيرتين تظللان جو السورة كلها.
حقيقة وحدة الرسالة والرسل ، ووحدة دعوتهم ، ووقفتهم أمة واحدة في مواجهة الجاهلية المكذبة بدين اللّه على اختلاف الأمكنة والأزمان. وحقيقة نعمة اللّه على البشر وزيادتها بالشكر ومقابلة أكثر الناس لها بالجحود والكفران ..
تبدأ السورة ببيان وظيفة الرسول وما أوتيه من كتاب .. فهي إخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن اللّه :
«كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ».
وتختم بهذا المعنى وبالحقيقة الكبرى التي تتضمنها الرسالة. حقيقة التوحيد :
هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ ، وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ ، وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ».
وفي أثنائها يذكر أن موسى قد أرسل بمثل ما أرسل به محمد - صلى اللّه عليه وسلم - ولمثل ما أرسل به ، حتى في ألفاظ التعبير :
«وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» ..
ويذكر كذلك أن وظيفة الرسل عامة كانت هي البيان :
«وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ» ..
وتتضمن إلى جانب وظيفة الرسول بيان حقيقته البشرية ، وهي التي تحدد وظيفته. فهو مبلّغ ومنذر وناصح ومبين. ولكنه لا يملك أن يأتي بخارقة إلا بإذن اللّه ، وحين يشاء اللّه ، لا حين يشاء هو أو قومه ولا يملك كذلك أن يهدي قومه أو يضلهم ، فالهدى والضلال متعلقان بسنة اللّه التي اقتضتها مشيئته المطلقة.
(1/4184)
ولقد كانت بشرية الرسل هي موضع الاعتراض من جميع الأقوام في جاهليتهم ، والسورة هنا تحكي قولهم مجتمعين :
«قالُوا : إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا ، فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ».
وتحكي رد رسلهم كذلك مجتمعين :
«قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ : إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ. وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ. وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ».
ويتضمن السياق كذلك أن إخراج الناس من الظلمات إلى النور إنما يتم «بِإِذْنِ رَبِّهِمْ» .. وكل رسول يبين لقومه «فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».
وبهذا وذلك تتحدد حقيقة.
كذلك تتضمن السورة تحقق وعد اللّه للرسل والمؤمنين بهم إيمانا حقا. تحقق ذلك الوعد في الدنيا بالنصر والاستخلاف ، وفي الآخرة بعذاب المكذبين ونعيم المؤمنين.
يصور السياق هذه الحقيقة الكبيرة في نهاية المعركة بين الرسل مجتمعين وقومهم مجتمعين في الدنيا :
«وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ : لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ، وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ. ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ .. وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ..».
ويصورها في مشاهد القيامة في الآخرة :
«
وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ» ..
«وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ ، سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ» ..
ويصورها في الأمثال التي يضربها لهؤلاء وهؤلاء :
«أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّت
مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ. يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ ، وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ، وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ»
..
«مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ ، لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْ ءٍ. ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ» ..
فأما الحقيقتان اللتان تظللان جو السورة ، وتتسقان مع ظل إبراهيم : أبي الأنبياء. الشكور الأواه المنيب ، وهما حقيقة وحدة الرسالة والرسل ، ووحدة دعوتهم ، ووقفتهم أمة واحدة في مواجهة الجاهلية المكذبة.
وحقيقة نعمة اللّه على البشر كافة وعلى المختارين منهم بصفة خاصة .. فنفردهما هنا بالحديث.
فأما الحقيقة الأولى فيبرزها السياق في معرض فريد في طريقة الأداء. لقد أبرزها سياق بعض السور الماضية في صورة توحيد الدعوة التي يجيء بها كل رسول ، فيقول كلمته لقومه ويمضي ، ثم يجيء رسول ورسول.
كلهم يقولون الكلمة ذاتها ، ويلقون الرد ذاته ، ويصيب المكذبين ما يصيبهم في الدنيا ، وينظر بعضهم ويمهل إلى أجل في الأرض أو إلى أجل في يوم الحساب. ولكن السياق هناك كان يعرض كل رسول في مشهد ، كالشريط المتحرك منذ الرسالات الأولى. وأقرب مثل لهذا النسق سورة الأعراف وسورة هود.
فأما سورة إبراهيم - أبي الأنبياء - فتجمع الأنبياء كلهم في صف وتجمع الجاهليين كلهم في صف. وتجري المعركة بينهم في الأرض ، ثم لا تنتهي هنا ، بل تتابع خطواتها كذلك في يوم الحساب! ونبصر فنشهد أمة الرسل ، وأمة الجاهلية ، في صعيد واحد ، على تباعد الزمان والمكان. فالزمان والمكان عرضان زائلان ، أما الحقيقة الكبرى في هذا الكون - حقيقة الإيمان والكفر - فهي أضخم وأبرز من عرضي الزمان والمكان :
«ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود. والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا اللّه. جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم ، وقالوا : إنا كفرنا بما أرسلتم به ، وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب.
قالت رسلهم : أفي اللّه شك فاطر السماوات والأرض ، يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ، ويؤخركم إلى أجل مسمى؟ قالوا : إن أنتم إلا بشر مثلنا ، تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا ، فأتونا بسلطان مبين.
قالت لهم رسلهم : إن نحن إلا بشر مثلكم ، ولكن اللّه يمن على من يشاء من عباده ، وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن اللّه ، وعلى اللّه فليتوكل المؤمنون. وما لنا ألا نتوكل على اللّه وقد هدانا سبلنا ، ولنصبرن على ما آذيتمونا. وعلى اللّه فليتوكل المتوكلون. وقال الذين كفروا لرسلهم : لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا. فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ، ولنسكننكم الأرض من بعدهم. ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد.
«
هذا في الدنيا
ثم الآخرة أيضا
وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ، مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ ، يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ ، وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ ، وَما هُوَ بِمَيِّتٍ ، وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ» ..
و أيضا
وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً ، فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا : إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً ، فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ؟ قالُوا : لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ ، سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ. وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ : إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ، وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ ، إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ، فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ، ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ ، إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ ، إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ .. وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ، تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ» ..
فها هنا تتجمع الأجيال من لدن نوح وتتجمع الرسل ويتلاشى الزمان والمكان وتبرز الحقيقة الكبرى :
حقيقة الرسالة وهي واحدة. واعتراضات الجاهليين عليها وهي واحدة. وحقيقة نصر اللّه للمؤمنين وهي واحدة. وحقيقة استخلاف اللّه للصالحين وهي واحدة. وحقيقة الخيبة والخذلان للمتجبرين وهي واحدة.
وحقيقة العذاب الذي ينتظرهم هناك وهي واحدة ..
وأما الحقيقة الثانية المتعلقة بالنعمة والشكر والبطر فتطبع جو السورة كله ، وتتناثر في سياقها.
يعدد اللّه نعمه على البشر كافة ، مؤمنهم وكافرهم ، صالحهم وطالحهم ، برهم وفاجرهم ، طائعهم وعاصيهم. وإنها لرحمة من اللّه وسماحة وفضل أن يتيح للكافر والفاجر والعاصي نعمه في هذه الأرض ، كالمؤمن والبار والطائع : لعلهم يشكرون. ويعرض هذه النعمة في أضخم مجالي الكون وأبرزها ، ويضعها داخل اطار من مشاهد الوجود العظيمة :
«اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ، وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ. وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ ، وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ. وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ ، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها. إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ» ..
وفي إرسال الرسل للناس نعمة تعدل تلك أو تربو عليها :
«كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» ..
وفي قول الرسل مجتمعين :
«يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ» ..
والدعوة لأجل الغفران نعمة تعدل نعمة النور ، وهي منه قريب ..
وفي جو الحديث عن النعمة يذكّر موسى قومه بأنعم اللّه عليهم :
«وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ : اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ».
وفي هذا الجو يذكر وعد اللّه للرسل :
«فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ. ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ» ..
وهي نعمة من نعم اللّه الكثار الكبار.
ويبرز السياق حقيقة زيادة النعمة بالشكر :
«وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ، وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ» ..
مع بيان أن اللّه غني عن الشكر وعن الشاكرين :
«إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ».
ويقرر السياق أن الإنسان في عمومه لا يشكر النعمة حق الشكر :
«وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ» ..
ولكن الذين يتدبرون آيات اللّه ، وتتفتح لها بصائرهم يصبرون على البأساء ويشكرون على النعماء :
«إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ».
ويمثل الصبر والشكر في شخص إبراهيم في موقف خاشع ، وفي دعاء واجف ، عند بيت اللّه الحرام ، كله حمد وشكر وصبر ودعاء.
«
سورة إبراهيم
نعمة الإيمان ونقمة الكفر
كثير من الناس إذا سئل: ما هي أعظم نعم الله عليك؟ سيجيب بالأمور المادية (الزوجة أو الأولاد أو البيت أو المال)، وإذا سئل بالمقابل عن أعظم مصيبة، سيذكر المشاكل الدنيوية وخسارة المال وضياع التجارة... فتأتي سورة إبراهيم لتصحّح هذا المفهوم وتوضح أن أعظم نعمة في الوجود هي نعمة الإيمان وأن أسوأ نعمة هي نعمة الكفر والبعد عن الله تعالى...
هل تستوي الظلمات والنور...
لذلك فإن السورة هي عبارة عن مقابلة مستمرة بين الحق والباطل، بين أهل الإيمان وأهل الكفر، بين النور والظلمات.. وبدايتها واضحة في هذا المعنى: ]الر كِتَابٌ أَنزَلْنَـٰهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذْنِ رَبّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ[ (1) وكأن المعنى: أيّها الإنسان أنظر إلى الظلمات والنور، وتأمّل نعمة الله تعالى واختر بينهما..
وجهان ليوم واحد
وتؤكد الآية الخامسة على نفس المعنى في قصة موسى عليه السلام: ]وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِـئَايَـٰتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ ٱلله إِنَّ فِى ذٰلِكَ لآيَـٰتٍ لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ[ (5) فما علاقة أيام الله بالصبر والشكر؟ إن أيام الله هي الأيام التي أهلك الله فيها الظالمين في كل قوم من الأقوام ونجّى فيها الصالحين، فكانت نعمة على المؤمنين ونقمةً على
الكافرين. والمؤمن يتخذ من تلك الأيام عبرة تعينه على الصبر وتحمل الأذى كما تحثّه على الشكر على نعمة الإيمان ]إِنَّ فِى ذٰلِكَ لآيَـٰتٍ لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ[.
فمضى سيدنا موسى ليبلغ رسالة ربه كما أمر وليذكّرهم بأعظم نعم الله عليهم:
]وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱلله عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوء ٱلْعَذَابِ وَيُذَبّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِى ذٰلِكُمْ بَلاء مّن رَّبّكُمْ عَظِيمٌ[ (6).
طريق الله نعمة وعزة، والبديل لا يكون إلا صغاراً وذلاً في الدنيا، كما بينت الآية على لسان سيدنا موسى.
(لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ)
ثم تأتي قاعدة عامة ووعد رباني لكل من يشكر نعم الله ]وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ[ (7).
ومع أن الآية تنطبق على كل نعم الله، لكن ورودها في وسط الآيات التي تتحدث عن نعمة الإيمان، يشير إلى أهمية شكر نعمة الإيمان بشكل خاص، حتى يزيدنا الله من هذه النعمة، وإلا فإن الله غني عن العالمين: ]وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِى ٱلاْرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ ٱلله لَغَنِىٌّ حَمِيدٌ[ (8).
رسالة الأنبياء
وتبدأ الآيات بعد ذلك في الكلام على المواجهة بين أهل الإيمان وأهل الكفر، ولأن موضوع السورة هو نعمة الإيمان ونقمة الكفر، فإنها لا تتكلم عن كل نبي لوحده، وهذا يخالف منهج السور السابقة التي كانت تتحدث عن كل نبي مع قومه، أما هذه السورة فإنها تصوّر كل الأنبياء مع كل الكفّار، كما في قوله تعالى: ]قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ[، ]وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ[. ]قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِى ٱلله شَكٌّ فَاطِرِ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلاْرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ[ (10).
هل تفكّرت يوماً في أهمية هذه النعمة؟ ان الله تعالى بعزته وجبروته يناديك ويدعوك ليغفر لك ذنوبك وهو الغني عنك؟
واسمع إلى تأكيد الرسل مرة ثانية على أن ما هم فيه من إيمان
ومعرفة بالله تعالى هو أعظم النعم ]... وَلَـٰكِنَّ ٱلله يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ...[ (11).
نعم... ونقم
وتتوالى أنواع النعم والنقم في السورة:
فيأتي قوله تعالى: ]وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ ٱلاْرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذٰلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى وَخَافَ وَعِيدِ[ (14).
وتأتي مقابلها آيات شديدة في التحذير من نقمة الله:
]مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَىٰ مِن مَّاء صَدِيدٍ & يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ ٱلْمَوْتُ مِن كُلّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيّتٍ وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ & مَّثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ ٱشْتَدَّتْ بِهِ ٱلرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ...[ (16-18).
آيات كثيرة تتواصل، إلى أن تصل بنا إلى خطبة إبليس في جهنم، والتي هي بمثابة قمة نقمة الكفر على أصحابه.
خطبة إبليس
]وَقَالَ ٱلشَّيْطَـٰنُ لَمَّا قُضِىَ ٱلاْمْرُ إِنَّ ٱلله وَعَدَكُمْ وَعْدَ ٱلْحَقّ
وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَـٰنٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِى[ (22).
تخيّل حسرة من سيسمع هذا الكلام! كيف تستجيب له وهو سيتبرأ منك بهذه الكلمات...
]فَلاَ تَلُومُونِى وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِىَّ إِنّى كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ ٱلظَّـٰلِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[ (22)... فهل هنالك نقمة أشدّ من ذلك؟!..
الكلمة الطيبة..
وتصل الآيات إلى آية محورية تشير إلى أن أعظم نعمة هي نعمة الإيمان، يضرب الله لنا فيها مثلاً: ]مَثَلاً كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ[ ولقد ضرب الله هذا المثال لأن الناس يظنون أن نعم الله إنما هي مادية، فيعلمنا الله تعالى بأن كلمة واحدة، نعمة واحدة، هي أعظم من كل النعم الماديّة التي يراها الإنسان... ]أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ ٱلله مَثَلاً كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِى ٱلسَّمَاء & تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبّهَا وَيَضْرِبُ ٱلله ٱلامْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ[ (24 – 25) فكما أنّ الشجر يثمر ثماراً طيبة، فكذلك شجرة لا إله إلاّ الله، الراسخة الجذور، العالية الفروع، تثمر أشخاصاً مؤمنين (كأهل القرآن والدعاة إلى الله والإيجابيين وغيرهم من أهل الخير المؤمنين..). وتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، حسنات وأعمالاً صالحة، تبقى لصاحبها صدقة جارية بعد موته.
وبالمقابل فإن كلمة الكفر هشّة، خبيثة، لا جذع لها ولا أصل: ]وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ٱجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ ٱلاْرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ[ (26).
لا تبدّل نعمة الله
وتمضي آيات السورة لتصب في نفس المحور: نعمة الإيمان ونقمة الكفر. فتأتي آية واضحة:
]أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ ٱلله كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ
ٱلْبَوَارِ[ (28).
فماذا يكون جزاؤهم؟ ]جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ ٱلْقَرَارُ[ (29).
فإياك أخي المسلم أن تفرط في نعمة الإيمان التي أعطاك الله إياها، وتجحد بها... إياك أن تكون من الذين ]وَجَعَلُواْ لله أَندَادًا لّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ...[(30).
فكيف نشكر نعمة الله علينا بالإيمان؟
]قُل لّعِبَادِىَ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ يُقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّا وَعَلانِيَةً...[ (31).
(وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱلله لاَ تُحْصُوهَا)
وتعدد السورة نماذج أخرى من نعم الله:
]ٱلله ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلاْرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاء مَاء...[ و]وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلْفُلْكَ[ (32).
]وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلانْهَـٰرَ & وَسَخَّر لَكُمُ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ دَائِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ...[ (33).
كل هذه النعم مسخّرة تحت أيدينا، لماذا؟ حتى نعرف الله تعالى ونستشعر فضله ونسلك منهجه.
واللطيف أن الآية (34) تقول: ]وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱلله لاَ تُحْصُوهَا[. فلم تقل الآية وإن تعدوا نعم الله، بل أننا لو حاولنا أن نعدّد خصائص نعمة واحدة فقط (كنعمة الشمس مثلاً) لما قدرنا على إحصائها، فما بالك بأعظم نعمة؟ نعمة الإيمان بالله ومعرفة منهجه؟...
نموذج إبراهيم
ويأتي ختام السورة، وهو مقارنة بين نموذجين، نموذج لإنسان عاش في نعمة الله (سيدنا إبراهيم عليه السلام) واستشعر نعمة الإيمان، وبالمقابل نموذج لأشخاص عاشوا بعيدين عن الله وهم ظالمين لأنفسهم ومجتمعاتهم التي حولهم...
فسيدنا إبراهيم كان شكره واضحاً على النعمة: ]ٱلْحَمْدُ لله ٱلَّذِى وَهَبَ لِى عَلَى ٱلْكِبَرِ إِسْمَـٰعِيلَ وَإِسْحَـٰقَ إِنَّ رَبّى لَسَمِيعُ ٱلدُّعَاء[ (39).
فكان دعاؤه الرائع ورجاؤه إلى الله أن يتم عليه نعمة الولد بنعمة أعظم منها وأجل: أن يحفظ الله دينه ودين ذريته بالصلاة:
]رَبّ ٱجْعَلْنِى مُقِيمَ ٱلصَّلوٰةِ وَمِن ذُرّيَتِى رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء & رَبَّنَا ٱغْفِرْ لِى وَلِوَالِدَىَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ ٱلْحِسَابُ[ (40 – 41).
وانظر لهذا الحنان من أبينا إبراهيم، وهو يدعو لنا ولأولادنا أن يثبتوا على الصلاة.
(وَأَنذِرِ ٱلنَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ ٱلْعَذَابُ)
وبعد ذلك تختتم السورة بأشد آيات القرآن على الظالمين والبعيدين عن الله ]وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلله غَـٰفِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّـٰلِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ ٱلابْصَـٰرُ & مُهْطِعِينَ مُقْنِعِى رُءوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء & وَأَنذِرِ ٱلنَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ ٱلْعَذَابُ فَيَقُولُ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخّرْنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ ٱلرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مّن زَوَالٍ[ (42-44).
هل بعد هذا من نقمة ومهانة وذل؟
إن أعظم نعمة في الوجود هي أن تنجو من هذا الموقف، وأسوأ نقمة في الوجود أن تكون مع من قال الله فيهم: ]وَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِى ٱلاْصْفَادِ & سَرَابِيلُهُم مّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَىٰ وُجُوهَهُمْ ٱلنَّارُ[ (49 – 50)...
الآية الكريمة الثانية والأربعون من سورة إبراهيم عليه السلام، وهي قوله تعالى:
﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)﴾
[سورة إبراهيم]
فالآية فيها نهَي وهي لا، وهذه اللام هي لام النَّهي، فلعلَّ بعض الناس يتوهَّم خطأً أنّ الله غافلٌ عمَّا يعمل الظالمون، حتَّى أنَّ أحدهم يقول لك: أين الله ؟ ولِحِكْمَةٍ أرادها الله، يُمِدُّ الله الظالم بطَريقةٍ تحسب أنَّه لن يضعف، وأحيانًا ترى وُجود الله وعدالتَهُ ظاهِرَةً للعَيان ربُّنا سبحانه وتعالى يَمْتَحِنُ العباد مرَّةً بِإظهار وَحْدانِيَّتِه، ومرَّةً بإمداد الكفار الظالمين، فالمؤمن القويّ وهو في أشَدِّ حالات الضِّيق، ويرى أنَّ الأقوياء الطُّغاة يسيحون ويَمرحون فإيمانُهُ لا يتزَعْزَع، فمثلاً النبي عليه الصلاة والسلام ؛ نَبِيٌّ مُرْسَل، وسيِّد الخلق،وحبيب الحق، ودعا إلى الله هاجَر من مَكّة إلى المدينة، وهو في أعلى درجات القرب، ومعه صحابة كِرام مُخلصون عابِدون وتائِبون وساجِدون، ومع ذلك في معركة الأحزاب جاءَت جُموع الكفرة إلى المدينة وأحاطوا بها، وبقيّ الإسلام مُجَرَّد ساعات، فَمَعْركة الخندق جاءَت لا لِتَنْتَصِر على المسلمين بل لِتُبيدَهم وتستأصِل شأفتَهم ؛ حتَّى أنَّ بعضهم قال: أَيَعِدُنا صاحبكم أن تفتح علينا بلاد قيصر وكِسرى، وأحدُنا لا يأمَن أن يقضي حاجته، قال تعالى:
﴿هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا(11)﴾
[سورة الأحزاب]
فالله قد يمُدّ القوي بالطغيان والتجبُّر، كما نرى أحيانًا دُوَل عُظْمى يظنّ الناس أنَّها تمْلك رقاب الشُّعوب كلها، فالإنسان بِساعات ضَعف الإيمان يقول: أين الله ؟ فربنا عز وجل قال:
﴿هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا(11)﴾
[سورة الأحزاب]
ولكنَّ الله كذلك قال:
﴿مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا(23)﴾
[سورة الأحزاب]
فالله تعالى لما يمُدُّ القوي هو تعالى بِهذا يَمْتَحِن المؤمنين، فالضعيف يسقط والقوي يثبت ولا تضعف ثِقَتُه، وهذه الآية دقيقة جدًا:
﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)﴾
[سورة إبراهيم]
فلولا أنَّ بعضًا من الناس ظنَّ هذا لما نزل هذا الوحي الإلهي ! وهؤلاء لِضَعْف إيمانِهم يظنُّون أنّ الله تعالى غافل عنهم ؛ يقول لك: صُهْيونِيَّة عالمِيَّة، وماسونيَّة، وكأنَّ هذه الحركات بِيَدِها مصير الشُّعوب وهذا كلام فيه ضَعْف إيمان والله تعالى لا يتخلَّى عن دينِهِ والمؤمنين ولكن لِحِكْمَة يُريدُها.
قال تعالى:
﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ(4)﴾
[سورة القصص]
إذا عصاني من يعرفني سلَّطتُ عليه من لا يعرفُني ؛ إذًا قال تعالى:
﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)﴾
[سورة إبراهيم]
أوْضَح مثل لهذه الآية ؛ صاحب محل تِجاري عنده مُوَظَّف، ويفتح المحل صاحِبُه، ويجلس أمام صندوق المال، ويُغلق المحلّ بِيَدِهِ ؛ فهل المُوَظَّف الذي معك أمين أم خائِن ؟! لن يظهر معك صِدْق الموظّف أو خِيانتهُ، متى يظهر ؟ إذا خرج صاحب المحل وترك الموظَّف لِوَحْدِه فأمانة المُوظَّف لن تظهر إلا إذا تغافل عنه، فبرُّنا عز وجل حتَّى يمْتَحِن العِباد يرْخي لهم الحبل، فتجِدُه أنت يشرب الخمر ويزني ويسرق ودخله حرام وليس به شيء ! هنا الله تعالى يمُدّ الإنسان ويرخي الحَبل، لكن بأيّ لحظة هذا الإنسان قد يُحاسب حِسابًا عسيرًا، وكذلك المؤمن يغضّ بصرهُ ويستقيم ويُصلي، ويُعاني مِن مَشاكِل كثيرة ؛ كلّ هذا من أجل أن يُرَى هل هذا إخلاصًا أم يريدُ المَنْفَعَة مَن أحَبَّنا أحْبَبْناه، ومَن طلبَ مِنَّا أعْطَيْناه ومَن اكْتَفى بِنا عمَّا لنا كنَّا له وما لنا، فالمؤمن يُمْتَحن فقد تُحْجَب عنه الدنيا وهو مُستقيم، وقد يُعْطيها الكافر وهو مُنْحَرف، لكنَّ الله تعالى كما قال:
﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)﴾
[سورة إبراهيم]
فالعِبْرة بالنِّهايَة، ومَن يضحَك آخرًا، قال تعالى:
﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ(83)﴾
[ سورة القصص ]
الإنسان المَحْدود التَّفْكير يعيشُ وَقْتَهُ ؛ يأكل المال الحرام ويعتدي على الناس وعلى أموالهم وأعراضِهم، ويتحرَّك حركة عَشْوائِيَّة، لكنَّه في قَبْضة واحِدة يكون عند الله، إما بِمَرض عُضال أو قَسْمٍ أو حادِث، وينقلب إلى شرّ عمله، لذلك هذه الآية مُهِمَّة لكلّ إنسان، فلو وَجَدْتَ إنسانًا قوِيًّا ومُلْحِدًا وكافِرًا، فلا تعْبأ فإنَّه في امْتِحان والعِبْرة بالنِّهايَة، قال تعالى:
﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)﴾
[سورة إبراهيم]
والإنسان إذا أيْقَنَ أنَّ الله يُعْطي كلِّ ذي حقٍّ حقَّه يرْتاح، ففي الدنيا هناك فقير وغني وقوي وضعيف ومُعتدي وغير معتدي والأوراق مُخْتلِطَة ويتفَلْسَف ولكن يوم القِيامة هو يوم الفَصْل والجزاء والعَدل والحِساب، ومالك يوم الدِّين، فالبُطولة ان تنْجو من ذاك اليوم، ولذا قال سيدنا عليّ رضي الله عنه: الغِنَى والفقْر بعد العرض على الله، قال تعالى:
﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)﴾
[سورة إبراهيم]
أراد أحد المُتَفَلِّتين أن يقطع يد كلب صغير في يوم شَتْويّ كي يُبرْهِنَ مهارتَهُ بالسِّياقَة، فَمَرَّ عليه وقَطَعَ يَدَيْه، وضحِكَ ! فهذا الحادث حصل بالسَّبت، وبالسبْت القادِم أصاب العجلة خلل فخرَج هذا السائق لِيُصْحها وأثناء تصْليحه العجلة انحل الكريك وسقطت الدولاب عليه فأُصيبَت يَدَيْه إلى حدِّ الرسْغَين، وإلى حين أخْذِهِ إلى المستشفى اسْوَدَّتْ يداه واضْطرّ الأطباء إلى قَطْع يدَيْه ! قال تعالى:
﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)﴾
[سورة إبراهيم]
لكن أيها الإخوة هناك نقطة دقيقة، ربنا عز وجل قال:
﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ(69)﴾
[ سورة النمل ]
وفي آية أخرى فانظروا، وفي أخرى ثمّ انظروا ! آيتين مُتَشابِهَتين، إحداهما بالفاء والأخرى بِثُمَّ، فالفاء تُفيد الترتيب على التعقيب، ولكن حرف ثمّ تفيد الترتيب على التراخي، والله تعالى يُمْهِل ولا يُهْمِل، فالله تعالى يُعطي العبْد فرصة التوبة، وأحيانًا لِعِلْم الله بِعَبْدِهِ يتركُهُ يرتكب معْصِيَة كبيرة يقْصِمُهُ بعدها قَصْمًا، فإذا قُصِمَ بعْدَها سريعًا فالفاء، وإذا قُصِم بعد عَشْر سَنَوات على ثُمَّ فَكِلاهما صحيح، فإما أن يأتي انتقام الله بسرعة فالفاء، وإما أن يأتي انتِقام الله على التراخي، قال تعالى:
﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ(11)﴾
[ سورة الأنعام ]
وكلَّما كبُر عقلك كبر خوفك من الله شديد, ولذلك رأس الحِكْمة مَخافة الله، وأشَدُّكم لله معرفةً أشدُّكم خوْفًا منه.
قال تعالى:
﴿مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) ﴾
[ سورة إبراهيم ]
مُهطعين خاضِعين، ومُقْنعي رؤوسِهم أي مُطَأطِئي رؤوسِهم، فهم في الخوف والهَلَع والجزع والخُضوع قال تعالى:
﴿وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44)﴾
[ سورة إبراهيم ]
كل خِطَط الكفار عند الله، ويعلمها، فإذا نسَجُوا منها شيئًا لم تقع، ولأنَّ خطَّة الله تَسْتوْعِب خِطَّة الكافر، ولا يقع شيء في كون الله إلا إذا أراد الله، فلو بدى لك أنَّ الكافر قال لك: سأفْعَل وأفعَل، إذا فعَلَ شيئًا فَفِعْلُه من خُطَّة الله عز وجل، الظالم سوط الله ينتقِمُ به ثمَّ ينتقِمُ منه، قال تعالى:
﴿ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(129)﴾
[ سورة الأنعام ]
قال تعالى:
﴿وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)﴾
[ سورة إبراهيم ]
تسمع أنت أعداء الدِّين والكفار والمُلْحِدين يُخَطِّطون لِتَدْمير الإسلام وإطفاء نور الله لكن هذه نواياهم والله يفعل ما يريد، أنت تريد وأنا أريد فإذا سلَّمْتَ لي فيما أريد أعْطَيْتُكَ ما تُريد، وإذا لم تُسلِّم لي فيما أريد أتْعبتُكَ فيما تُريد قال تعالى:
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ(36)﴾
[ سورة الأنفال ]
فإذا خطَّط هؤلاء فخُطَّتُهم هاوِيَة وإن كانت تهدّ الجبال، قال تعالى:
﴿فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47)﴾
[ سورة إبراهيم ]
وعَدَ الله المؤمن بالجنَّة والحياة الطَّيِّبَة، قال تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47)﴾
[ سورة إبراهيم ]
هنيئًا لِمَن كان مع الله وعلى منهج الله ولِمَن خافهُ تعالى، إنِّي والإنس والجنّ في نبأ عظيم أخلقُ ويُعبَدُ غيري، وأرزق ويُشْكَر سِوَاي، وخيري إلى العباد نازِل وشرُّهم إليَّ صاعِد، أتَحَبَّبُ إليهم بِنِعَمي وأنا الغني عنهم، ويتبغَّضون إلي بالمعاصي وهم أفقَر شيء إليّ، مَن أقبل إليَّ منهم تلقَّيْتُهُ من بعيد، ومن أعرض عنِّي منهم نادَيْتُهُ من قريب، أهل شُكري أهل زِيادتي، وأهل ذِكري أهل مودَّتي، وأهل معصِيَتي لا أُقَنِّطُهم من رحمتي، إن تابوا فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا حبيبهم، أبْتَليهم بالمصائِب لأُطهِّرهم مِن الذُّنوب والمعايِب، الحسنَةُ عندي بِعشرة أمْثالها وأزيد، والسيِّئة بِمِثْلها وأعْفو، وأنا أرأف بِعَبدي من الأم بِوَلَدِها، قال تعالى:
﴿قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(53)﴾
[ سورة الزمر ]
وإذا رَجَعَ العبد إلى الله نادى مُنادٍ بالسماء أن هنئوا فلانًا فقد اصْطَلَحَ مع الله.
والحمد لله رب العالمين
هذه سورة إبراهيم، سورة نعمة الإيمان ونقمة الكفر، سميت باسم سيدنا إبراهيم كنموذج لمن استشعر نعمة الله الكاملة وأدّى حق شكرها. من فضلك اقرأ هذه السورة واشكر ربنا على هذه النعمة العظيمة، لأن شكرك له سيرقيك في مراتب الإيمان ]لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ[ (7).