diaries
يوميات منتفض وقلائد أخرى
أحمد طابور
يوميات
منتفض وقلائد أخرى
الكتاب: يوميات منتفض وقلائد أخرى (مجموعة قصصية)
تأليف: أحمد طابور
الطبعة الأولى 2004
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف
الناشر دار كيوان للطباعة والنشر والتوزيع
دمشق ـ الحلبوني ـ الجادة الرئيسية
هاتف: 2217240 ـ فاكس: 2217240
الإهداء
إليهم وحدهم الذين صرعوا ودفنوا، أو نسوا، أو صرخوا في أرض محرقة اسمها العراق.
كتبت هذه اليوميات والقلائد ما بين
1993 ـ 1999
إلا الوطن كما راني كتبت بعد سقوط
النظام العراقي
العراق ـ بيروت ـ سويسرا
حكمة اليوم:
السماء لا تزال تدمع، وصخب المطر لم يتوقف رغم توقف المناوشات، وأنا أنتظر انبلاج الخبر في صومعتي حيث أحوي عائلتي نترقب ما سوف ينتج. فالمعركة بدأت منذ الظهيرة وأخي الأصغر الذي غاب عنا طيلة اليوم لم نحسم له خبراً أو توقعات، المطر يدق الأبواب والأرض وأنشودته محلقة عالياً تضج بهسيس رؤوسنا المنحدرة أو الخاوية إلا من بقايا خوف أزلي من جارٍ يسمع همساتنا هاهي الحرية بكل انطلاقتها وعفويتها تأتي رويداً رويداً، مع خفق إطلاق البنادق والأصوات التي تخترق الآذان عنوة تجلب الموت والفرح باتجاهين متوازيين.
النهار يطارد الليل والثوار يطاردون أجهزة النظام وأجهزوا على كل قمعه الذي كان كضبع قبل ساعات قليلة يفترس الأرانب المنزوية في جحورها رغم أن الفضيحة, علقت وذبحت الأصالة والتاريخ وريح زلزل قدمت من فناء الجزيرة لتسحق نسمات متسربة من شباب جميل كجمال السماء.
هاهي المشانق والسجون الأبدية تغلق انغلاقاتها لتنفلت الحرية كضحكة أو كبسمة خفيفة تراقص الهواء العذب الممزوج برائحة المطر، المطر الذي غسل كل عرينا الخانع ليطهر أجسادنا من رجس لم نحلم ذات يوم أن يزول عنا كواهلنا, هاهي تلك الوجوه الكالحة والمعذبة ترسم العذابات حكايات أزلية والحكايات ترسم بهيئة إطلاقة أو سكينة يوغل في الوجوه القبيحة التي لحد قبل الظهيرة كانت تستمني فوق بساط مدينتنا المقدسة.
لم أميز بين وقع أصابع أخي الأصغر وهي تدق الباب أو بين نقرات المطر الذي غسل المدينة.
احتضنت أخي، رأيته بصحبة أحد أصدقائه يخفيان بين يديهما وخلفهما بعض الأشياء. ترى ماذا حملتا لنا من الانتفاضة؟ أجاب أخي وهو منحني لحمل الأثقال التي طرحها على الأرض بعد أن أبعد كمية الماء المنساب من فوق رأسه كأنبوب.. لا شيء سوى بعض ما جادته علينا دائرة المخابرات من غنائم وضحكا.
اقتحم أخي ورفيقه غرفة الجلوس حيث كان يجتمع عندما مجموعة من العوائل والتي تقطعت بها السبيل للوصول إلى مركز المدينة وهي قادمة من زيارة السجناء السياسيين في أبو غريب وقد دار حديث طويل بيننا وبينهم لنكسر زجاجية الانتظار المر لمصير مدينتنا من ناحية ولنحافظ على هدوء النساء من ناحية أخرى.
أخي وهو يجفف ملابسه المبلولة ووضع سلاحه على جنب والذي كان يحتضنه كطفل كان مزهواً بنفسه وهو يتحدث والجميع صامت وهادئ وصاغي.
المعارك انطلقت من العباسية, مجموعة من الشباب البطل مزقوا هدوء المدينة المرتقب.
أنا تركت صناديق البرتقال في الشارع وهرعت إلى القتال. كنت أعرف بأنه صادق فيما يتكلم رغم صغر سنه، لأنه متهور دائماً. حصلت على هذه البندقية من مشجب للشرطة في المدينة، كانت هناك مقاومة عنيفة في مركز المحافظة إلا أن أحد الأبطال والذي استشهد فيما بعد هو الذي كسر الحصار وانطلقنا من خارج قوسه، لكننا لم نجد المحافظ. دائرة الأمن كانت بها أيضاً مقاومة عنيفة لكنها لم تطل أكثر من ساعة وسقطت بيد الثوار وكذلك دائرة المخابرات المحاذية لها والحمد لله لم يسقط الكثير من الشهداء لحد الآن.
والهدف؟ سأله أحدهم.
كان أخي منتشياً بعدما أكد حضوره وأهميته. المهم المدينة الآن بيد المنتفضين وغداً سوف يتوجهون إلى العاصمة. علت الزغاريد منزلنا.
بادره أحدهم وكان مرتبكاً خائفاً قلقاً, البنوك والدوائر الرسمية الأخرى.
أنا كنت قريباً من البنك الذي في شارع العباس، اقتحمه المنتفضون حاولوا كسر إحدى قاصاته الكبار لم يستطيعوا. أنا أتى بين يدي كيس كبير مملوء بالنقود الحديدية وضعته في عربة دفع وذهبت إلى مرقد العباس حيث كان هناك مركز قيادة قالها بفخر وأعطيتهم إياه.
همسته وهذه الأغراض التي في برج الدجاج الآن. تبتسم هذه بعض الغنائم بعدما رأينا معظم الناس تأخذ منها أوليست من حقنا أوليست هي أموال الشعب المسروقة والتي كانت محصورة بينهم وأنا أليس واحد من هذا الشعب المقهور.
- الآن سأغادر.
_ إلى أين؟!
- الثوار بحاجتي.
- الثوار أم بقايا الغنائم لأني رصدت صديقه يستحثه للمغادرة مع علمي بأن أخي أراد أن يبقى أكثر لأنه كان منتشياً بين الحضور.
- سأذهب معكما صرت قرب الباب.
تلاقت عينانا وغمزت أخي فوعى المعنى.
- دائرة المخابرات لا تزال بها الكنوز وقليل من الناس بها هيا إذن جميعاً.
أنا كنت تائها بين أحلام الحرية والمطر الساقط بغزارة تناقشت كثيراً مع أخي بضرورة القتال فمن المشين أن نحن نغتنم الغنائم هكذا وضعنا اللغة لتداعب ضمائرنا وغيرنا يستشهد من أجلنا أو من أجل انعتاقنا من هذا الكابوس المرعب.
جاوبني بتأوه أنا أيضاً قاتلت وكنت ربما مستشهداً الآن. تراءت لي صورة أخي شهيداً, جفلت من الفكرة واستقبلت المطر بشهوانية عامرة.
سمعت أصداء قنابل وإطلاقات قريبة تربصنا في مكان قريب من مركز شرطة منطقتنا محتمين من المطر ومن الاطلاقات. هدأت الاطلاقات وسمعت صيحات الله أكبر.. الله أكبر أستسلم المركز وأظنه آخر نقطة تسقط في مدينتنا.
باركت للثوار انتصارهم. طلبت من قائدهم كما كان يبدو لي سلاح من الغنائم حتى التحق بركب الثوار.
- لا يوجد عندي
- وهذه التي على أعناقكم بكثرة.
- بامتعاظ نهرني.. وما شأنك أنت.
سجلت رد فعل أخرى مع ما سمعته من أخي تجاه بعض الثوار.
المطر لا يزال يزاول رقصته السرمدية ونحن لا نزال نمضي أبداً باتجاه المدينة.
توقفنا عند مركز المخابرات أخي وصديقه بخفة غزال دلفا المكان، وأنا وجل لا أزال أحمل في طيات نفسي الخائفة صورة مؤلمة من أطلال هذا المكان المرعب، والذي طالما أهاننا. كان مجرد النظر إلى هذا المكان جريمة ربما تنسى إلى الأبد.
المطر يشتد. أسمع وقعه وأنا أقتحم المكان من غرفة إلى غرفة، إلى دهليز السجن الفارغ فتراءت لي فرحة المساجين والذين كانت لهم تلك الحرية أشبه بضربات المستحيل.
أخي وصديقه يلملما الأشياء وأنا أقلب في صفحات المكان أبحث عن أثر لشيء ما خفي في داخلي ربما كان وثيقة أو إنسان ينزف لأحاكمه أو بندقية أو طلقة من أحدهم فقد كل شيء.
لم أجد سلاح. رأيت جهاز تلفزيون صغير وضعت يدي عليه سحب فوق رأسي مسدس. انتفضت وتهاوى إلى أذني صراخ حامله اتركه إنه لي وإلا أفرغت إطلاقاتي برأسك.
- خذه أنا لا أعبئ في شيء من هذا. أردت أن أعرف كنهه هذا الجهاز عبر هذا الظلام الدامس.
- إنه تلفزيوني أنا أجمع أغراضي في هذه الغرفة والتي كانت لمدير المخابرات في وقتها, قهقهة ونهرني أن أرحل.
انتفض الثوري الذي في داخلي هل هو هذا اليوم المنتظر منذ الألف قرون يوم الحرية الرائع لطمر الدكتاتورية في وحل الفضيحة وإلى الأبد.
ذلك المسدس الذي صوب على رأسي أشعل في موقد الثورة الراكد والحالم، وتلاقت الأزمنة والأيام والتساؤلات ولدت لماذا كل هذا؟ من منهم يستطيع أن يؤكد بقاءه في فناء الأيام. لا أبحث عن سلاح هكذا صممت.
الليل يوغل في الظلام والمطر ينسكب كمدرار مفتوح والثوار في المدينة تحتمي تحت سقوف المحلات أو بين زوايا الجدران محتمية بنار أشعلوها أعطت بصيص ضوء لترى المدينة.
المطر يسابق صوت ياسين الرميثي وهو يقرأ مرثيته والصادحة من مأذنة العباس وهي تتسرب بين أفئدة الثوار الدافئة والفرحة والقلقة من صباح الغد.
التقيت بأحد الأصدقاء والذي كان بضيافتنا في الدار وذهبنا إلى منزل العوائل التي لا تزال في دارنا لنطمئنهم.
الصباح على فوق عيوني والتي لم تنم سوى ساعتين رشفت حليباً دافئاً في منزل صديقي أعاد لي الدفء وأنا أنظر ومن خلال نافذة الغرفة إلى الشمس الرائعة وهي تحتوي على أسراب الناس المنطلقة بشهوة النصر.
إلى الدار اتجهت مسرعاً، التقيت في طريقي الكثير من المعارف أبارك لهم. يدور نقاش سريع وأمضي وصلت إلى دائرة الأمن رأيت الناس كيوم الحشر أو كمشهد لفلم أو لوحة سريالية، بنادق معلقة فوق الأكتاف عيارات نارية تطلق بانتشاء، سيارات مقلوبة أو منزوعة الدواليب ونساء بعباءتهن السوداء. رأيت امرأة تحمل جهاز تخطيط قلب.
- يمه يمكن يفيد؟
رأيت أحد معارفي يركب في سيارة باص صفراء تابعة للأمن فتراءت لي وهي تحمل سيئ الحظوظ الذين وقعوا بين براثنهم على مر هذا التاريخ المظلم والمنضوي.
صاح بي اصعد لأوصلك مع الذين أوصلهم.
- أنا كلا شكراً
- بلا نقود وأقسم بالله لا تخاف ما راح نفرغ جيبك لا تكن بخيل هيا.
- أنا للتو قدمت أريد أن أبقى قليلاً.
- أها لم تأخذ شيء بعد يا الله شوفلك سيارة وحملها بما تستطيع.
- إنشاء الله مع السلامة
أين الثورة وأين الثوار؟ أين مقدسي الحرية والدين ليوقفوا هذه المسرحية الدرامية وإنها أملاك الشعب المهدورة سوف توظف ضدنا هذه السرقات والغنائم كما يحلو لأخي تسميتها.
بدأت أهذي أو أصرخ بوجه أحد الثوار والذي ينظم عملية الدخول والخروج من المبنى، أو بالأحرى ينظم عملية السرقة وانتقلت إلى داخل البناية والتي بدأت النيران تأكلها.
ذهبت إلى زنزانتي الانفرادية، والتي كنت قبل أشهر بضيافتهم، الضيافة التي كتب لي أن أحيا بعدها كضرب من ضروب الحظ الكبير الذي يلاحقني هذه الأيام، ربما حتى أشهد مأساتهم وهم يصطادون كحيوانات برية بعيارات الأبطال.
مررت على مجموعة من الجثث المتناثرة أقلب في أوجهها علي أرى بعض سجاني. تعرفت على أحدهم، كان أحد الضباط، سحبت جثته في زنزانتي بعد أن توقفت برهة قليلة استرجعت مأساتي وأحلامي المتناثرة لنوع من اليوتوبيا التي تجمع بين الحلم والواقع.
وضعت عليه كوم من الأوراق وأشعلت به وبالزنزانة النار وخرجت مسرعاً.
على امتداد البوابة إلى النهر المحيط بالمدينة تمتد أوراق ووثائق وأضابير رأيت أحدهم يقلب بها يبحث عن إضبارته, لماذا لا أبحث عن إضبارتي، وأنا أفتش في الأوراق المرمية قرأت العجائب والغرائب في زمن ظل الله على الأرض عبد الله المؤمن.
جمعت ما استطعت من وثائق وحملتها بكيس كبير التقطته من على الشارع وكان مبللاً أسوة بالأوراق.
ركبت مع أحد الذين أعرفهم من البساتين القريبة بعربة حمار وكان يحمل مروحة.
سألته مازحاً هل هذه غنيمة.
- أجاب والله أنا محتاج لها من زمان لا أقوى على شراءها لأني لا أملك نقودها للدولة القادمة.
تتراءى لي أشباح الأسماء التي وضعتها في كيسي. يا إلهي كل هذا الكم من الأرواح! معقول أنا أحمل بين دفتي المشانق والمقاصل وأحواض حامض الأسيد والأقبية المظلمة والدهاليز المنسية إلى الأبد وصور المخبرين ونظراتهم الطحلبية الملتصقة بالناس بالحب بالحياة ومومسات يحملن القبح والمرض ورجال دين مرائين يخافون الله ويحشون السلطات بما يمن الله عليهم من أخبار وصالونات الحلاقة النسائية ونادمون من أحزاب أخرى تركوا مطية النضال وركبوا شراع المصلحة الذاتية الضيقة وكثير وكثير، حتى استغربت إن لم أكن أنا أحد الموجودين داخل هذه الأوراق وربما أبي؟
كانت شمس آذار جميلة دافئة ربما توحي بفجر جديد.
هرع الناس فزعين بعد سماع صوت انفجارات عنيفة فتمازج صوت هزيع الناس والقذائف المتتالية من سرب الدبابات الزاحف عبر الطريق الرئيسي الذي يربط المدينة بالعاصمة، والممتدة على أطرافه دائرة الأمن والمخابرات والبساتين العامرة بالنخيل وبيوت منطقتنا, وأنا أقفز من العربة هارباً صوب أحد البساتين المهجورة لقربها من دائرة المخابرات والتي كانت تحوي رغم خوفي من المكان بعض مغامرات مراهقتي.
احتدمت المعارك وكان الموت يقفز بخفة بين الصفوف وخصوصاً الجيش, أرى الثوار بين النخيل ترمي بحممها المقذوفة بحقد العمر.. العمر الذي ضاع بين خساراتٍ لحروب معطوبة وسجون ممتدة وأفواه مكممة، وبين جنود خانعة وخائفة بالأمر الصادر لهم من فوق بطرد الخونة الذين دخلوا الوطن من شرقه هكذا أخبرني أحد الأسرى من الجيش بعد حين..
كنت أتربص بدبابة تحترق وكان لمعان الرشاشة يناديني فقفزت مخاطراً وانتضيت الطريق المؤدي للدبابة واستوليت السلاح فراعني منظر الجندي المثقوب باطلاقة.
الجو المشحون بالرعب أصبح داكناً كمن يعزف في صحارى هائجة بحيث لا ترى الذي بقربك الكل صاح الله أكبر إنه المهدي أتى ليقارع معنا الظلمة.
أمطرت السماء وانقشع الغبار وغاب المهدي من جديد فرأيت سبعة دبابات منقلبة ومحروقة واقفة بعرض الطريق والباقي فتقهقر نحو العاصمة.
العاصمة التي تحمل في طياتها قائد الضرورة أو رأس الأفعى..
وأنا أجرجر أقدامي المتعبة والموحلة والتي غاصت في أكثر من وحل وأنا أهرب حتى لا أتلقى طلقة أو شظية تائهة. وصلت منطقتي والغروب بدأ يتسلل بهدوء وسكينة فوق ظلال المدينة. رأيت أحداً أعرفه حاملاً أثاث منزل وأنا أعرف منزلهم لا يوجد به مكان للأثاث من كثرة ما فيه, ساءلته لم كل هذا التعب يا صديقي؟
- قال لي حشر مع الناس عيد فتراءت لي صورته وأخوته والذين كانوا يملأون المنطقة عربدة وعنترة لكن فيما بعد وأبان أيام الانتفاضة أرى صورهم الخائفة والهاربة صوب البساتين لتحتمي أو تتفرج ومن ثم تنضم كما قال كبيرهم للطرف الفائز في لعبة الشطرنج.
حكمة اليوم:
أيتها النفس اللئيمة أينما أرسيت قواربك تطمعين في بحر أوسع وكلما خطوت خطوة بطيئة دائماً تودين الفوز بالسباق.
حكمة اليوم:
وإن فقدت عزيزاً أو وردة فلا بد للقلب أن يينع من جديد
هطل الليل علينا ثقيلاً هذه المرة، والسماء لا تزال ترسل لنا طلاً، والأرض المشبعة برائحة الخوف والدمار والقتلى تفصح لنا عن مشيمتها المفتوحة والتي تحوي كل مطبات الحياة والأرجل الراكضة أو الراقصة فوقها لتنتقل بخفة أو بخطى ثقيلة وهي تجرجر جراحها الملكومة أو المقذوفة بحمم متشظية أبداً.
وأنا أعانق صديقي الذي فارقته يوم كنا نركض بلا اتجاه في وسط المدينة. تراءت لي صورة العسكر الملقاة عرضاً وسط الطرقات، والتي كانت تكتظ بالمارة والزوار والباعة والمتسوقين هذه المرة خاوية من رائحة الناس، إلا من جثث ملقاة كل كيفما أسلمت روحه، حيث وأنا أدلف في السوق القديم لمدينتنا. السوق المغطى بطبقة من الصفائح المعدنية بزوايا مائلة مشكلة أشبه ما يكون بمثلث أو برأس خيمة، السوق الذي احتوى ذكرياتنا وأنا أقف على أطلاله بينما صديقي يأكل من أحد محلاته المفتوحة عنوة. قُذفت نحو رأسي القلق والمشبع بالخوف استراحة محارب لدقائق وجلة وتراقصت أمامي أشباح الناس وهي تنساب بضجيجها الأزلي وتراشق الباعة بكلمات مازحة وفي فسحة من الوقت تراءت لي صورة صديقي الذي كنت طالما أقف معه نتسامر ونغازل الفتيات الجميلات الموشحات بالسواد الذي يزيد من نضارة وجوههن وحيث كنت أتجول وأبيع كل الممنوعات, سكاير مفقودة من السوق، وكما هربت من أحدهم ذات ظهيرة لأني أبيع بعض المواد المفقودة وبأسعار بعيدة عن تسعيرتها هربت من رشقات النار الذي طالتني وصديقي إلى باحة إحدى الأفرع الضيقة والمحاذية للسوق. قفز كل منا باتجاه ونحن نسمع وقع أحذيتهم السوداء الثقيلة تتخافت خلفنا. دلفت إحدى الأبواب المواربة وقفزت من أعلى السطوح المتقاربة وهذه من حسنات أحياءنا الشعبية، فيما بعد وأنا أحضن صديقي حدثنني بأنه فيما يهم بالخروج من السطح رأى الباب مغلق في الوقت الذي داهم به العسكر المنزل المختفي به قال وضعت يدي على أطراف الرمانة التي بحوزتي لأنه ما إن يتسلقوا الدرج سيجدوني مقرفصاً كنمر أمامهم وفي حينها محال إن أراك ثانية لو ضبطت وأنا أحاول أن أفتح أمان الرمانة اليدوية هم يهمهمون بالأسفل وأنا أصلي وأدعو وأرى أمي بهيئة سحابة غامقة تمح بردائها عرقي المتصبب من كثرة القلق، لكنهم لم يصعدوا.
الليل أجثم على المدينة والبساتين والظلام ينثر بلونه القاتم على عيوننا ونحن نتخبط في دروبه بحثاً عن مجموعة كانت تهب الرعب بقلوبنا طوقنا المكان بعد أن هدانا إليه بصيص شمعة خافتة وأخرجنا من به وسقناهم، أمامنا كخراف لغرض المحاكمة كان من بينهم أحد العرب القادمون ليقاسموننا الخبز وليضعوا في نصف رغيفنا الذي نأكله سماً رضاء إملاء لكروشهم المهدولة, كان يُسبّح كثيراً. صفعه أحد رفاقي قال له أتعرف الله كثيراً الآن لم ينبس ببنت شفة همسني بأن نحاكمهم ونذبحهم الآن ارتجف بدني وتساءلت هل يتحول الخروف إلى جزار ذات يوم؟ فقال لي لما لا الذبح مثل الدنيا والسكين التي تذبحك في يوم ممكن أن تذبح بها غيرك والآن حان دورنا للاقتصاص وهذه عدالة الله والدنيا لا بأس سوف نرسلهم للقيادة وهي التي تبت بالأمر للقيادة ولا نحن الذين مسكنا السكين فالكلاب سابت مرة أخرى.
الصباح يتلوى كثيراً أو قليلاً على وقع القنابل المتشظية والمستبيحة للمدينة ونحن نواصل إفطارنا ونطرد إغفاءتنا ونمسح عن وجهنا حزننا المستمر وبين فسحة الحزن والقتال والدم كانت تتلوى كأفعى بعض ضحكاتنا مرة عن خوفنا ومرة عن خوفهم وأنا أتجول بصمت وخفة في المدينة، رأيت أحدهم يركض ويزعق ويشتم, استوقفته نصف وجه محروق ما الذي حدث؟ قال لي وهو لا يزال يشتم وهو يركب القاذفة لرامي القاذفة المضادة للدبابات ومن خوفه استتر خلف الرامي فاحترق وجهه من الهبة الخلفية المصاحبة للقذيفة.. وأخر رغم جرحه والبرد الذي هطل عليه كضربة أو كرشاش ونحن ندثره بكل الغطاء الذي نملكه.
كان يريد قليل من الشوكلاته والنسكافه التي كانت ممنوعة علينا إلا للحالات الضرورية فانتهزناها فرصة أن شربنا وأكلنا معه جميعاً وفي تلك الليلة لم يسرق أحدنا من درج المؤونة بعض الشوكلاته ككل ليلة.
الشمس الخائفة تبزغ وتظهر من وراء ستار, الغيمة تحاول أن تحنو على أطراف المدينة لتعجل بقدوم المساء. المساء الحامل للآهات والسكينة والأحلام قبل أن يحل الأصيل ليناوب فترته اليومية, طلب منا في المدينة عدد من المقاتلين ولأن أخي القائد في المنطقة اقتحم في كل موت قادم رغم الجرح الذي يعلو جبهتي المصابة أحدنا يوارب عن الذهاب في كل مرة عند المناداة نفتش عنه لا يوجد هذه المرة باستحياء ركب باص الموت الذاهب إلى باطن المدينة، صبي لا يتجاوز الاثنا عشر عاماً صعد معنا إلى الباص نهرناه أن ينزل أبى إلا أن يفصح عن رجولته المبكرة أو ليرى قراصنة الموت كيف تتشكل أنيابهم.
أنظر إليهما من الطرف الآخر للشارع المحترق كومضة نار وهو يتأهب للإطلاق ومن ارتباكه أخطاء الهدف مرة أخرى يضع له الصبي الإطلاقة ويخطي وفوهة الدبابة تدور نحوهما وأنا رأسي بدأ بالدوران فاختلطت اليقظة بالحلم وأنا أراهما يتهاوان أمامي إثر القذيفة التي قذفت بعتادهما عالياً عالياً.. وهاهو الصبي يتدحرج نصف رأسه كصحن فارغ لم أفقه ما الذي أصابني وإن أحلق بين القذائف ألملم أجزاء الصبي المتناثرة وأحتضنه وأنظر إلى الحسين القريب مني وأنثر دمه السائل بين كفي, إن هذا نذرك المقدس.. هذه هي صلاة الناسكين والعاكفين والطالبين الخلاص هاهي طفولتنا تتدحرج نحو الأسفل وأحلامنا تتشظى أبداً فوق المستحيل.. خذوا تلك الدماء وأسلبوا تلك الأرواح الحالمة ودعونا نغفو فوق بساط الحرية, الأخر أنا وصديقي نسحبه لننقله من إحدى الدور التي كانت كمستشفى حربي مؤقت وهو يلم أشلاء بطنه بيديه حدق بي وأوصاني أن أخبر أهلي بأني ما مت إلا من أجلهم وأن أعتذر عن كل شيء ارتكبته وآذاهم وأنا أمسح دموعه المنسابة وهو يضغط على يدي كمن يحاول أن يتشبث ببقايا حياة وأخبر فاطمة هكذا استرسل بأنني وأنا أرى الموت أراها تنظر إلي نظرتها الرائعة العذبة آه.. آه.
ومن خلال توقفاته تنفلت الكلمات كم أحببتها لأول مرة أسمعه يصرح باسم لحبيبته في الوقت الذي كنا نراه جافاً لا يمكن أن يصدر قلبه نغمات حب لفتاة. وقل لأخي حمودي أن يسمي اسم ابنه باسمي لأني وإن ذبلت روحي وهوت فأحبّ أن أعيش بينهم دائماً وأبداً باسمي بروحي والتي أراها تود التعليق الآن, أنا أموت.. الآن لا تتركوني في العراء وحيداً أريد أن أرى أهلي قبل أن أحلق مع روحي المرفرفة فوقي!.. وعدناه ولكننا أخلفنا الوعد وتركناه للمعالجة وخرجنا بعد أن داهمنا الليل نخف الخطى إلى مأوانا ونحن نتجه إلى الأمام داهمنا المطر ليمتزج مع دمعنا وهدوءنا ليغسل لنا آهاتنا ونحن بدأنا نركض احتماءً من المطر وأنا أركض أحسست بأني لي جناحين أطير بهما فوق أفق المدينة أعبئ فيهما ملء صدري الحزين الهواء والدمع والمطر ليدب في جسدي رويداً.. رويداً الانتعاش؟
حكمة اليوم:
وإن فقدت عزيزاً أو وردة فلا بد للقلب أن يينع من جديد.
حكمة اليوم:
لا تذرف دموعك مرة واحدة فاحبس دمعة تسقطها فوق جسد صديق قادم!
الصباح رائع قديم كمدينتي تتلألأ فيه أشعة الشمس والسارقة مساحاتها من الزوايا العالية والضيقة لنخيل البساتين المحيطة لمدينتنا والمكونة أشبه ما يكون بسور ظليل.
كنت أنظر ومن خلال عينين قلقتين إلى انعكاس أشعة الشمس على تلك القباب الذهبية مكونة شعلة تبعث في نفسي الرغبة في الغناء أو الابتهاج أو الانفلات نحو دروب لا مرئية بعيدة عن ضجة الناس والقنابل والموت والعويل أنا والمحبين ورغيف خبز حار أخرجه بتأنٍ من تنور أمي المحترق، وكنت أنصت من خلال الصمت المطبق والذي غلف مدينتنا إلى نشيج متقطع يأتي مع النسمات الهادئة والمنبعثة من أعلى المنارتين وتحوم فوقنا غيمة خجولة تحاول أن تحجب أشعة الشمس مكونة ظلالاً يزيد من موت المدينة كآبة كنت ورفاقي نرنو بعيونٍ متوسلة صوب الشرق ننتظر جيوشاً لن تأتي.
هكذا كنا نتأمل أو نسمع أو نوعد باستمرار الأيام ما بعد اغتصاب عذرية مدينتي التي لم تتبرج ذات يوم أو يدخل في قلبها الفرح. جفلنا عند سماعنا أصوات انفجارات متتالية كسرت سكون قلوبنا الخافقة وبأم عيني نظرت إلى السماء رأيتها تنثر مع المطر رعب أسود يخنق القبتين.
جاء والد صديقي وتكلم بوهنه اليائس, أنتم جالسون تبكون تصلون تلعنون وابني صديقكم مسجى في هذا الخندق المحاذي للبساتين القريبة من حدود المدينة تجففت ما تبقى السائل الفضي والذي شق له أخاديد كثيرة منذ أن سمعت أول إطلاقة اختزلت جوع أهلنا إلى صرخات متتالية قوية، حملت ما بجعبتي من شجاعة ودلفت المدينة.
كنا جالسين في تابوت للموت هكذا أخبرني صديقي والذي كان يقود السيارة بسرعة فائقة متخطياً زخم القنابل، والتي كانت تسقط بلا رحمة كأمطار شتاء قاس.
رأيته بخصلة شعره الأسود المنسدلة فوق عينيه الداكنتين والباعثتين ألف وألف سؤال وهو نائم يحتضن سلاحه المغطى بطبقة من التراب ويغطي جسده المعفر كمية من الطين المتناثر فآثر انفعالي أطلقت النار بلا هوادة على القطط والكلاب والتي كانت تتقافز فوق الجثث فرحة بوفرة الطعام بعد القحط, والأجساد كصور من المعركة التي كنت أشاهدها ذات يوم كل يغفو غفوته الأبدية أينما يصرع.
حملنا صديقنا وهربنا والدوي يلاحقنا أينما مررنا والمدينة تصفر بوجه الريح والرؤوس تظهر وتختفي وتأتي إلينا عبر الأثير أصوات استغاثة أو حركة هروب.
وصلنا إلى مكان آمن وفي تلك اللحظة توسعت الغيمة وتجاوزت خجلها بأن غطت ما تبقى من روح الشمس لتكمل لنا مشاعر الحزن ولتعزف لنا لحن الموت ولتنثر السماء رذاذاً طلاً ليغسل ما تبقى من آهاتنا.
كنت وأنا أحفر تلك الأمتار والتي سوف تحوي ذلك الطول الشامخ. كانت الريح الهادئة تقلع الدمع من عيوني وكأنها محاولة لتوديعه بتلك الدموع البسيطة فجرتني الذاكرة نحو مطباتها المؤلمة فخاطبته:
- إيه عبد الله
كنت للحياة غنوة عراقية حزينة وللحب أسطورة نحكيها.. كنت تمشي وتجر خطاك الواثقة أرى القلوب فرحة لبسمتك الندية وكان لنظراتك الحالمة غموض الألم.. كنا أنا وأنت نبكي الأيام الراحلة نجدد أفكارنا كلما فشلنا في مشروع للحب أو للحياة أو للأمل نضحك لليوم للناس للحرية المقيدة.
- إيه عبد الله
لم يكن في خلدي أن أحفر أمتارك بهذه العجالة.. هاأنت الآن هنا بين يدي أحملك أجرك جراً بيدي التي عانقتك بها. أرسلك نحو النسيان لتتركني أحمل عبء الذكرى والألم.. وحدي أنا المثقل بالفجائع، بالزمن المر، بالضحكة المسروقة بغفلة أعمارنا القصيرة بامتداد الأمل بهجوعنا وخنوعنا بهروبنا.
نبهني من ذكراي الحزينة صوت انفجار في قلب المدينة فرأيت الدخان المتصاعد مكوناً غيمة أخرى أشد رعباً من غيمي الخجولة.
صرخنا جميعاً من عمق الفجيعة..
إيه يا أيها أنت يا من لا ترى الجمال إلا بعيون قبيحة.. ارحم تلك القباب يا من قلبك لا يخفق إلا للخديعة ارحم تلك المنائر الشامخة والتي سوف تبقى شامخة ما دام هنالك أرواح كروح صديقنا جميلة عطرة تحلق فوق آفاق لا تراها حتى يظل يسمع ذلك الصوت الرخيم مستمراً حاوياً كل جمال المدينة.
بدأت أقرأ بصوت متهدج باكي حزين يا.. س.. ين والقر .. آن الحكيم لم أستطع أن أكمل تهاويت كورقة خريف صفراء فوق صديقي في حفرته الضيقة بكيته بكيت أيامنا.. بكيت مدينتنا ولكني وأن أودعه رأيت أشعة الشمس تسطع بوجل دافئ فرميت نظري فرأيت ذلك اللمعان الذهبي يغطي القباب فغضضت بصري من النظر صوب الشرق فغزا روحي شعور مفاجئ غمرني بالرغبة بأن أحمل سلاح صديقي المصدوء وأسير إلى قلب مدينتي النابض.
حكمة اليوم:
لا تذرف دموعك مرة واحدة فاحبس دمعة تسقطها فوق جسد صديق قادم!
حكمة اليوم:
أيها القدر لا تضحك ولا تتشامت كثيراً بحزننا، ألا تعرف بأن الحزن لعبتنا!
الشمس المتسللة من بين سعف النخيل الممتد على مدى النظر تتسلق وببطء جنائزي صدر السماء الصاخبة والمتألقة ليوم ربيعي هادئ بعدما اختفت سحابات الدخان المرعبة بعد هدنة قصيرة أو توقف غير محسوب لدوي المدافع المحيطة بالمدينة. المدينة العذراء التي اغتصبها أحفاد التاريخ المأساوي والذي يدور في حلبة متواصلة ومتلازمة منذ أن سالت دماء قانية جميلة في فجر التاريخ على مذبح الحقيقة الخجولة.. آهات الحسين وهو يذبح لا يزال يتردد صداه في أفق اللامعلوم أو في فضاءات مستباحة وهو يؤكد على دورة التاريخ الأبدية.
هاهو خليفة يزيد الأموي يذبح الحسين من جديد ليوصم التاريخ بعارٍ صارخٍ وكما قطع أجداده الماء عن الحسين وعائلته، قطع عنا الماء وكما نثر أجداده الرعب والقتل والدماء الطاهرة المنسابة والتي روت البساتين بحنوها وحمارها لتكن المدينة ولا أروع رغم الدماء، اليوم تتنافر الدماء من هنا ومن هناك، والنخيل صامد يرتوي من تلك الدماء. عجبي هل لمذاق تمرنا العذب حلاوة تلك الدماء، النخيل الباسقة والنخيل الملتفة والنخيل النشوة كونت وبتآمر مخابئ آمنة للمنتفضين فكانت العمق الاستراتيجي لانسحابنا أو استدراجهم حتى ننهال عليهم كالغضب ونرسل زفراتنا المعلنة فوق أجسادهم العفنة هذا الذي دعاهم حين رقدت المدينة عنوة تحتهم بأن يبيدوا النخيل الرمز، وهاهي تتقافز بإلحاح أمامي صورة ذلك الفلاح الذي ربط جسده بأول نخلة كان قد زرعها في بستانه العامر لكن هذا لم يبطء من حركة سائق الجرافة وهو يزيل النخلة والفلاح لتغطي مقدمة الجرافة دماء لزجة تنضح من عرق النخيل.
على مدى الضحى الهادي تصل إلى مسامعنا أصوات الناس وهي تولول وتستغيث واحسيناه واماماه من خلف البساتين لترحل إلى مكان آمن بعدما خلفوا الحسين والعباس وحيدين كما كانا ذات ظهيرة قائضة لأيادي متشابهة الجريمة والدماء تسيل لتدخل قبر الحسين ويبكيها من جديد.
إذن طوقت المدينة لا مفر من الموت ولنؤجل سقوط المتبقي من المدينة إلى أشعار أخر أو إلى دماء أخرى، ونحن نتوارى خلف رابية محاذية للنهر والفاصل عنا الجيش لبضعة أمتار.
داعبني الربيع بأطيافه فامتلأت رائحة الأرض الرطبة أنفاسي اللاهبة والخائفة من انقطاعها فتراءى لي أصدقائي كأشباح تتلوى في البساتين الهاربة والضاجة بآلاف الرغبات المكبوتة والذكريات الوردية والتي ربما ستدفن معي بعد قليل وكيف كان الفلاح بوجه والذي يشبه رائحة الأرض يركض خلفنا ونحن نحلق بالهواء لتتساقط الثمار المسروقة من بستانه ليجمعنا فيء ظليل لشجرة لقاءنا ولنتقاسم حصصنا الزائدة عن الحاجة والتي لا نأكلها أبداً.
نظرت ومن أعلى الرابية لفتى أعرفه ويعرفني، يتلفت بحركته اللولبية المعروفة وإذا بطلقات الغدر والغيلة تخترق جسده ليهوي ومن على الجسر، الجسر الذي أحتوى قفزاتنا في انتشاء الظهيرة لتغسلنا المياه الغاسلة لآهاتنا وتعبنا المضني.
هوى من ارتفاع الجسر وغطس عميقاً بعدما أطلق صرخة قوية اااخ يمة..!
أجفلت كل الطيور وهزت كل النخيل لتنحب وردة عطرة أغرقها الزناة في نهرنا المقدس، نهر يأكل أحبابه؟
فأرنو إلى السماء الصافية وكأني أرى الأرواح تحلق فوق فضاءنا التائه والممتد حتى دموعي والجنود.
إن لم يرحموا أنفسهم فأنا لا أرحمهم، دارت بندقيتي بين صفوفهم لأرسل لهم ثاراتي القديمة والحاضرة فأسمع صراخهم المتألم فتضحك النخيل ويغني النهر وتهلهل بنادق الأصدقاء لتنثر عليهم غضب البلاد المسلوبة والورد التي سقطت هكذا في فراغ الأيام.
رامي القاذفة التي بقربي رمى مرة وثانية وأخطأ في المرتين فانهالت علينا رشقات بنادق الجيش وقذائف الدبابات لتسقط فوق رؤوسنا بحمم ملعونة وقتها عرفت أن لا مجال للحفاظ على المدينة, فتراجعنا مسرعين منهم من خلف سلاحه ومنهم من خلف عتاده.. أنا الوحيد الذي خلفت حذائي.
نقطة التقاءنا كانت جامع المنطقة الكل سالم هكذا فاجأني أخي الفرح بعودتي ونحن نتناول آخر وجبات غذاء كان المكان مملوء بالمتبقي من شباب المدينة والذي لم يفر ولم يقتل وكانت آخر نقطة انسحاب هي جامعنا.
تسرب الثوار كأسراب وأصبحت المدينة كسراب صعب المنال، رؤوس مطأطأ وخطى خفيفة تدلف باستمرار الظهيرة في عمق البساتين لينتقلوا إلى مدينة قريبة لا تزال تحتفظ بشمسها والتي ستغرب بعد حين.
أنا وأخي وبضع أصدقاء أخفينا ما تبقى من آثار سلاح في مناطق نعرفها يملؤنا أمل العودة المستحيل, وعند الأصيل الأحمر كالدماء التي سكبت ارتجلنا الثلاث سيارات المتبقية وبدأت عملية الوداع بعيون ملؤها الحب والدمع واللوعة فانطلقت رغماً عني الدموع وأنا أردد سنعود لا بد أن نعود عبر الهواء.. عبر المياه.. عبر السلاح.. سنعود حاولت كبت الصراخ لكن الصدى اخترق المنازل التي تودعنا فخرجت امرأة بعباءتها السوداء لتوديعنا فنادت بأعلى صوتها رغم الحياء: تماسكوا فإن خسرنا جولة سنكسب أخرى، فلوحت ونصف جسدي ظاهراً في شباك السيارة بيدي والدمع النافر يسابق الهواء المقطوع فعلى صوتي مردداً، وإن خسرنا فذكروا الأطفال بنا.
حكمة اليوم:
أيها القدر لا تضحك ولا تتشامت كثيراً بحزننا، ألا تعرف بأن الحزن لعبتنا!
حكمة اليوم:
أيتها الروح التي لم تمت في ذلك اليوم لا تفرحي كثيراً فباب الأقدار أبداً مفتوحاً.
الرذاذ يتساقط بنشوة عارمة وتهدهدنا السيارات الناقلة لنا كهزاز للولادة عبر الأراضي المتعرجة واللزجة لا فرع ضيقة من بساتيننا السائبة وأنا لاصق بجبهتي والملفوفة بعصاب أخضر على زجاج الشباك المتناثر عليه قطرات مطر منزلقة كتأوهات أو كأحلام ماضية، أخي لا يزال يقود السيارة بحذر شديد وأنا رغم الخوف المستشري في فؤادي إلا أني كنت منشرحاً وأنا أقود ذاكرتي إلى شوارعنا المتضوعة برائحة الغبار الدافئ والمنطلق كغبار أو كضباب عذب بعد توقف انهمار المطر في مثل هذا الجو الربيعي والذي كان يغريني دائماً بذرع شوارع منطقتنا والتلصص على الشبابيك المفتوحة ضياءها و الراسمة خطوطاً ممنوعة من الاستقبال, تعلو وجهي المنغلق كقهوة مرة بسمة طافرة وأنا أتوجس يداي الحاملتان سلاحاً لا يعرفني وأنا أتحسس أصابعي والتي كانت قبل فترة تلهو وتسرح فوق الشعر الكستنائي لفتاتي ونحن نعزف لحناً للخلود معا.. أرسلت تنهيدة أثارت انتباه رفاقي والذين ربما كانوا يودعون ذكرياتهم كل بطريقته.
أحدهم تندر أين وصلت فالجيش لا يبعد كثيراً..
ـ ربما؟ كانت رحلتي هناك حيث الحب والروح المعتلية أفكاري دائماً.
ـ وكأنك تودعنا.. أدار أخي رأسه بحركة سريعة فقفزت السيارة قفزات متتالية رجت الجالسين مما أفاقني من استرسالي..
ـ ربما أنا أو أنت أوهم, إن كنت أودعكم فلما لا يكون وداعاً جميلاً بذكرى حبيبة أو أم أو وطن.
توقفت السيارات الثلاثة والتي كانت تقلنا ونحن لا نتجاوز الخمسة عشر شاباً لا يربطنا شيء في تلك اللحظات إلا الموت الجماعي.
المطر يرسل لنا تنهادته وهو يلامس وجوهنا المغبرة والتي لم ترى الاستحمام خلال تلك الأيام الثلاثة عشر المنصرمة.
الساعة تقارب الغروب والهدوء يزيد من حلاوته تساقط قطرات المطر على الأرض الترابية والمرتمية فوقها بقايا البساتين لتعزف في أذني لحناً ولا أبدع موسيقى توقظ بي بواطن الرغبة المتشبثة ببقايا حياة.
وكان الجو ساحراً. يتراقص الهواء النقي المنبعث من البساتين الخضراء الجميلة وبقربنا تنور للخبز يبعث خشخشة الحطب المحترق كمزمار راع يئن بعيداً عن الديار لا يشده سوى سماع ثغاء نعجاته المتفرقة ونغمات مزماره المنبعثة من صحراء روحه.
هكذا أحسست وأنا أتأمل كل شيء بمشاعر ممزوجة بخوف اللحظة وشجاعة الإقدام وأنا متخفياً بين أشجار الصفصاف المتراصة على حافة النهر الذي طالما نصبت شباكي في مياهه المنسابة منذ الأزل لتقع في مصيدتي سمكة مغفلة أو تائهة تبحث عن مأوى أو عن حرية كحياتي، راجعت نفسي وأنا لا أزال للتو ألفظ مراهقتي عن كاهلي وتفننت في رسم خطوط المستقبل بأصابع ماهرة وأنا الآن أتوسط مجموعة إن كانت سعيدة الحظ فسيموتون فراداً وليس كمجموعة وتأتي نسمة هواء تلاعب شعري المسدل فوق جبهتي.
وكان الربيع وكانت بداية النهاية..
في القرب منا منزل ريفي به حركة دؤوبة للتهيؤ لعمل وجبة إفطار لذلك اليوم الرمضاني.
والعائلة والفتاة التي تغازل التنور بحركة لولبية خفيفة غير مبالية بنا ونحن نتأهب للموت أو للانفجار فهم يزاولون عملهم اليومي كالمعتاد وفي الوقت الذي مررنا بعوائل منهم من حفزنا وشد من عزيمتنا ومنهم من ترجانا أن نرحل عنهم حتى لا نصب عليهم الويلات ولا تفارقني صورة ذلك الفلاح الأعور الذي حمل علينا مسحاته اغربوا عنا ألا تفكرون بعوائلنا وكأننا كنا قادمين من السماء ليس لنا انتماء أو أهل أو حتى أرض.
أتانا أمر بالتهيؤ للانقضاض وأنا أنظر إلى سلاحي القناص والذي لم أستعمله إلا مرة واحدة خلال تجريبي له ,ومهمتي هي من الصعوبة بمكان أن أرمي الذي فوق البناية الشاهقة عبر الضفة الأخرى من الطريق والذي بيده سلاح فتاك إن أخطأته سوف يكوّن وبالاً صعباً علينا.
وأنا وضعته في منظاري رأيته يتسامر مع الآخر الذي بقربه فتراءت لي صورتهما ميتان فأجفلت وحدقت باتجاههما مرة أخرى فتراءى إلي أنهما يفكران بعوائلهم أو ربما بأهوائهم.
خانتني عاطفتي هذه المرة أيضاً فتراءت لي صورة صديقي الذي دفنته قبل أيام قرب محيطهم فانتابتني نوبة غضب.
أمسكت بها وصممت على الانتقام من أجل أمي وصديقي وحريتي.
شممت رائحة تبغ محروق فالتفت فرأيت رفيقي يشعل لفافته ويسحب النفس بعمق ويغمض عينيه كمن يحاول أن يستمتع بروعة اللحظة المتلبدة كغيمة صيف.
ربما يحمل مع أنفاسه ذكريات لأهله أو لأصدقاء مهنته حيث بيع الخضار كما كنت أعرفه فتراءى لي أيضاً وجه أمي وهو يسبح بين ثنايا الدخان المتطاير من اللفائف.
أمي أيتها الحمامة التعيسة ماذا لو لم أرك بعد الآن.. أخي الذي ينتظرني في الخلف ليؤمن انسحابنا سوف يبكيني حزناً أبدياً لا يستطيع إلا أن يحبني..
مما يزيد من شجاعتي في هذا الموقف هو أنه مع مجموعتنا شاب قروي هادئ ومتدين آراءه يقفز دائماً بفرح وكأنه يمارس طقوس روحية وهو يجابه الموت يبعد عنهم ثلاثون متراً أراه الجزء القوي من نفسي التي تهاب الموت.
قطع أفكاري رفيقي وهو يطلب من الفتاة قرص خبز ويغازلها.
ـ أكيد أنه لذيذ لأنه من صنع يديك الجميلتين.
حبست ضحكة في جوفي لأن الفتاة يدها إن تدل على شيء فهي لفتاة تعمل ليل نهار وبعمل شاق.
همسته دقائق تفصلك عن موت ولا تزال تكذب وتغازل. أراد أن يجاذبني لكن جاءنا قائد المجموعة يجبرنا بالانسحاب مما أحدث جلبة ودربكة لأننا توقعنا بأن كشفنا أو كان كميناً لنا وأثر الدربكة رفيقي ترك السلاح وحمل قرص الخبز وولى هارباً، مما اضطرني إلى حمل سلاحه وسلاحي وركضت كعداء.
العائلة بدأوا إفطارهم لا يكترثون.
القروي قدم غاضباً يؤنب قائدنا لماذا لم تصدر أمر الرمي. كنت على بعد ثواني من نسفهم.
القائد: لم أكن متوقعاً أن القائد العام لعملية الجيش أتى لتفقد الموقع.
وصفقت بيدي فنادى أخي خسرنا اليوم أكبر انتصار.
حكمة اليوم أيتها الروح التي لم تمت في ذلك اليوم لا تفرحي كثيراً فباب الأقدار أبداً مفتوحاً.
خسارة آخر أمل
بين الأشجار الخضراء والنخيل المهجور كنا نحن العشرة شباب المتبقي من سقوط المدينة نتخفى ,وقد بنينا لنا سدوداً بين الدغل والعلاق وكان بالقرب منا ماعز نؤجل وليمته المنتظرة صباح كل يوم لا نزال نتنفس به هواء الحرية وكأنه أصبح جزء من عندنا.
فبعد أن عم الرهاب في المدينة كانت الأخبار المحمومة تأتي إلينا بصحبة صبي جميل وشجاع استطاع أن يموه على الجميع الذي يسأله أين يأخذ كل هذا الأكل,
كان يخترع لهم الحكايات الصادقة في منظورهم فرغم جوعنا كنا نلتهم الحروف المنقوشة في الرسائل ورغم معزة تلك الرسائل ترى مباشرة طريقها نحو النار الموقدة ونرسل مع زفيرنا الحالم بقايا الذكرى المعطرة التي شممناها بين ثنايا الكلمات.
الليالي الهادئة والنهارات المرتبكة تؤجل ما تبقى من أحلام العودة والمدينة بكل ضجيجها واعتقالاتها وإباحتها ترسم سوراً مظللاً وحذراً حول حدودها الملتهبة بالموت، بالجيش, بالخائفين.
والليل ستار والظلام أحجية، والأقدام تدق بخطى وجلة الطريق المنخورة والهاربة كفضاء مفتوح ,كنا نقتحم بيوتاً للذين باعوا أنفسهم للشيطان. كان كل شيء لهم مستباح الليل المنازل الأرواح، عندما دلفنا غرفة النوم فز هو وامرأته مرعوبان كانت الغرفة مملوءة برائحة افتقدها جميعنا، رائحة لزجة عطرة شذية دافئة منا من مسح بعينيه خارطة جسد الزوجة وهي مستلقية بعري ما قبل النشوة. أنا كنت مسدداً سلاحي صوب رأس المشخص أو المتعاون وهذه التسمية أطلقت على الذين تعاونوا مع الحكومة ليكونوا جلادين بعدما كانوا ضحايا أو بالأصل هم من أوجد الجلادين. وإثر التوسلات ورقة قلوبنا التي لا تعرف بصراحة لغة الدم والتي لم نجبل عليها مثلهم، نأخذ ما نستطيع حمله معنا والتفت دائما قبل الخروج من الدار كما رحمناك أرحم غيرك لأنك من سوف تسلمه سيصل إلى أيادي لا تعرف للقلب مكان لأناس جبلوا على الجنس والقتل والشهوة، أكثرهم كان يردد أنتم أيقظتم الجذوة التي كانت نائمة وفي سري كنت على يقين بأن تلك الجذوة نائمة في أعماق ودهاليز ليست من السهولة بمكان إيقاظها ما دام هناك نهار آخر..
الأخبار تتقاذفها الناس منهم من وصفنا بالسلابة ومنهم من أضفى علينا صورة البطولة ونحن لم يكن لنا خيار, كنا نؤجل الموت إلى إشعار آخر أو ننسى حروباً يائسة لا مفر منها لأننا خسرنا كل شيء فمن الغباء أن لا نأخذ شيء.
ذات ظهيرة ربيعية جميلة كنا متفيئين بظلال الغرفة المتبقية بها أعمدة وشباك وسقف منخور في البستان المهجور الذي أصبح مقرنا الخلفي فيما هواء عطراً يداعب وجنتي وأحد رفاقنا الذي يعرف الفرح والحكي كان يتكلم ليبدد عنا ضجر المكان والانتظار ورهبة الموت أو ليكون لنا مصالحة مع الحياة لما تبقى منها. سرح فكري مخترقاً النخيل والبساتين متوجهاً صوب المدينة حيث الجيش والحكومة والأضرحة والناس والقتلى تراءت لي صورة ذلك الفتى الشمالي بعينيه الخضراوين وبشعره الذي يشبه حقل حنطة تعتليه شمس صيفية وهو يستغيث وأنا في الضفة المعاكسة له ربما أنا من أطلق النار عليه وفي الليل انسحب الجيش فذهبت مسرعاً صوب الشخص المستغيث فرأيته ببذلته الزيتونية وحذاءه الأحمر ممدداً جميلاً هكذا رأيته. وضعته فوق ركبتي لم أقاوم دموعي التي سقطت بغزارة لأنه يحمل جزء من الذاكرة يوم كنا هناك جيران كنت كلما أدلف الدار أراه بجماله وروعته يقفز نحوي يقبلني ونتقاسم الغذاء أو اللعب أو المرح أو الدرس. كان صديقي بل كان أخي.
يا الله لماذا هذا العذاب هل أقتل أخي بيدي؟؟
لم هذه اللعبة التعيسة، كنا دائماً نلعب في طرف واحد. كان دائماً إلى جانبي لم اليوم تقف في الصف الآخر لم رصاصاتي اخترقت جسدك الرائع؟
لما الموت لا يفرق بين حبيب وعدو؟؟
الرفيق الآخر الذي كان يحلق ذقنه في الخارج والذي كان نظيفاً دائماً رغم وساختنا دلف مسرعاً ليقطع الحكي والذاكرة بموسه الحاد وهو يصرخ إنهم هنا الجيش ,لم نتزحزح من مكاننا وتذمرنا,
كفا مزح لأننا تعودنا على مثل هذا المزح يومياً لكنه بسرعة فتح الرمانة اليدوية وأطلقها صوب الأشجار المحاذية فسمعنا تأوه عالٍ وجلبة وإطلاقات كل حمل سلاحه ورمى باتجاه ما فسمعنا توجع وصراخ ورمي نحونا ونحن نرمي ونهرب بعمق البساتين ونرمي باتجاه واحد هذه المرة كنا نركض بلا اتجاه هكذا نحو المدى الآمن وبعدما تيقنا من النجاة التقطنا أنفاسنا الخائفة والمتهالكة فوصلت إلى مسامعنا إطلاقات نارية ضائعة في فناء البساتين الممتدة من الغرفة الخاوية وحتى أجسادنا المستلقية على عشب أخضر مبلل يبعث فينا الدفء أثر الرائحة التي دخلت أنفاسنا. قفز وصرخ ربما أحدهم اقتاد الماعز معهم مبتسماً واتجهت أقدامنا هذه المرة بلا اتجاه ولا قيادة نحو مظلة أو محرقة أو قفص أو معتقل أو مأوى جديد.
حكمة اليوم: لا أحد يخسر الأمل فبوابته مفتوحة أبداً.
في طريقنا للهروب
أيقظني أخي وابن عمي بإلحاح شديد مع أنني لم أنم تلك الليلة. أردت الاسترسال بالبقاء نائماً لأتشبث بأمل ضعيف جداً أن يعدلوا عن قرارهم بالرحيل أو بالأحرى الهرب خلف مجازر الوطن بعد مباحثات طويلة ونقاشات ويأس تام من المحافظة على أرواحنا داخل أجسادنا المهزومة بعد أن هدمت الجوامع وفجرت البنايات الكبيرة وقص النخيل ومسحت البساتين مسحاً مؤلماً باكياً بأيادي ليس لها أي انتماء بالأرض والحب والضمير. كان الوقت فجراً استطعت ملاحظة ذلك من صراع أشعة الشمس لإقصاء القمر لتشرق من جديد ومن رائحة الأرض المعفرة التي اخترقت أنفي لتبعث في نشوة حزن لأني ربما سأفقد كل هذه الروعة هكذا مرة واحدة، ولكن من خلال ذلك الشعور انبزغ أمل أن تشرق ابتسامتنا مرة أخرى كشروق الشمس هذا.
قفزت من فراشي الأرضي المكون من بساط خفيف بلا وسادة وغطاء مهترئ لا يستر كل جسدي ولا يتميز عن ملابسي وكان أثر الرطوبة بأن على قميصي المنقول من تربة البستان الندية في مثل هذه الصباحات رغم كل ذلك، كنت أشعر بالدفء أو ربما بحنو الأرض وهي تمسد على جسدي بأوجاعها الحارة على مدى السنين. رشقت وجهي برشقات متتالية من مياه النهر العكرة والتي لا تخلو من الروعة الأزلية التي أراد كلكامش الخلود من أجلها، فاستطعت أن أتحسس بقايا حبيبات طينية على وجهي بعد أن نشف الماء، أتناول فطوري الزهيد بتأني، وأنا أمضغ لقمتي بينما بصري يجول ليمسح الحياة المتجذرة في هذا البستان بينما جدتي تتحرك بخفة لتزودنا بمتاع الرحلة فمازحتها من يراك يظن بأننا جاثمين على صدرك وستشعرين بالسعادة لو رحلنا، هل ستتزوجين؟
التفت إلي ومسحت بقايا دمع طفر عنوة من عينيها الصغيرتين ولم تتكلم سوى أنها ابتسمت ابتسامة حزن وأحسست في حينها أنها لو تكلمت لأجهشت بالبكاء وأثنت عزائمنا عن الرحيل.
قبلنا يدها جميعاً، ضمتنا إلى صدرها ضمات أبدية أن ادخلوا في قلبي ولا تبرحوا عن ذاكرتي وحزني فلم أتمالك نفسي فبكيت على حنوها وبكى ابن عمي إلا أخي الكبير ابتعد أمتار على بداية الطريق وقال بصوت آمر كعادته هيا عجلوا لم يبقى من الوقت اليسير وهي حاملة القرآن لننحني بأجسادنا من تحته وهي تتمتم بآيات قرآنية لتحفظنا من سوء الطريق. أحسست بخفقان قلبها الراجف ونحن نهم بخطى مثقلة لاستلام الطريق المستقيم، أجهشت بالبكاء فوصل لمسامعنا صوتها المملوء حرقة وألم وغضب اذهبوا وابتعدوا بعيدين لكن أحرار أفضل من أن تقبعوا بقربي أيام ربما ساعات وبعدها أنساكم إلى الأبد.. اذهبوا ولكن إياكم أن تنسوا جدتكم وأرضكم وهذا البستان والنهر والذكريات فتوقفنا قليلاً وأصدرت صوتاً يشبه الحشرجة إن نسينا الوطن والذكريات والحب فأي مجرم يستطيع أن ينساك وإن لم تتوقفي عن البكاء سوف لا نرحل أرجوك حافظي على صحتك من أجلنا.. من أجل عودتنا ذات يوم لنغفو على حكاياتك ونتدفأ بطرف عباءتك. فجأة تغير صوتها وقالت متوسلة: اسمعوني وقهقهت بعلو سوف أضحك وأقهقه دائماً.. أضحك على وجودي في لعبة الحياة اللعينة وسأضحك عندما تصلون إلى الضفة الآمنة وسأضحك على الأوغاد وعندما يأتون ولا يجدونكم وسأظل أضحك وأبدل هذا وأشارت إلى ثوبها الأسود الموشح بالحزن كحياتها بثوب زفاف عندما تعودون لزرع نخيل جديد فلم نقاوم أنفسنا لنذرف دموع غزيرة انسابت صوب التربة الجافة إثر سد النهر الراوي لها عقاباً.
وأنا أمسح آثار دموعي تتراءى لي صورة جدتي وكيف أنها ودعت عنوة ثلاثة من أبنائها الشباب بين أيدي المغتصبين إلى الأبد, فأطلقت آه من صدري فزع لها أخي وابن عمي رج صداها أجواء المنطقة الخالية والتي حوت أجسادنا الهاربة.
دلفنا دروب لم نألفها من قبل بين فسحات النخيل أراضي معشبة كلها تفوح منها رائحة الأرض استلقينا قليلاً بين مروج العشب المخضر على ظهورنا بينما عيوننا ساهمة بنظرات متسلقة الشمس ,نهضنا وأبدلنا ملابسنا بثياب نظيفة وأنيقة لتتناسب مع ما نحمله من أوراق كضباط أمن عبر سلسلة كثيفة من التفتيش ومع كل نقطة تفتيش أقرأ الشهادة وأذكر جدتي لأن يدي دائماً تكون قرب المسدس الذي بحوزتي فإما الوصول أو الموت. هكذا كان قرارنا لا مجال للنقطة الوسط، ومن العاصمة بزي جنود للالتحاق بالسرايا المرابطة للشمال، وقلوبنا تخفق نحو الشرق.
استطعنا الوصول إلى منزل المهرب والذي ينتمي إلى تلك البيئة الشمالية، وفي الليل حزمنا أمتعتنا من جديد لتسير أقدامنا دائماًَ نحو الشرق حيث الحرية، كانت تلك المنطقة تمتاز بوعورة طرقها وكثرة جبالها الصخرية القاسية والتي لم يستطع حتى النظام بجبروته وقسوته أن يسيطر على حركة الصخور ويقضي على المناضلين وناشدي الحرية والكرامة والمعانقين لتلك الجبال والصخور.
كان الليل هادئاً وخائفاً وتتزاحم دوائر الرعب من الماضي والقلق من المستقبل المجهول والحاضر المشحون بالقتل والعنف. فقد سيطر على شعورنا اللامبالاة ومن مبدأ أهلاً بكل شيء ومهما كان حجم رهابة. السماء لم تبخل علينا بضيائها لتنير لنا عتمة الطرق ووحشتها، والنجوم تتلألأ كالبريق المنبثق من عيني جدتي وهي تودعنا وأنا أتعثر بين الصخور وأنظر إلى الهوة العميقة في الوادي الملازم للجبل. نزلت ذاكرتي باتجاه الوطن يوم كنت أقرأ لزميلتي في الجامعة بعض الخواطر لأستميل قلبها والتي كانت بوصلته تشير نحو قلبي وأذكر كيف سرقت منها قبلة بريئة لها طعم الورد وغبطة الأمل، كيف نأينا بعيدين عن أعين الآخرين في الليل الهادئ كهذا الليل وأنا أميزها بشذرات النجوم التي تغطي رأسينا العاريين وهول الوادي وهي تتشبث بي خوفاً من الزلل وأنا أشعر بقوة يدها وهي تلمسني فأضغطها نحوي لأحتويها فأقبلها لننسى في لحظة الشبق الوادي والجبل والعيون.
كانت لي أحلام بحجم المساء وآمال بقوة الشروق, اغتصب كل شيء الحلم الأول والحلم الأخير الأمل المستضيئ بروحي المتفانية.
هل الليل ستار؟ هل الظلام أحجية؟ هل الحرية هكذا صعبة المنال دائماً؟
تنبهت من تفكيري وأن أعثر بصخرة كبيرة ما أدت إلى أن أسقط أرضاً متندر علي رفاق الرحلة؟
وما إن كسرنا باب الحدود المقفلة بصرامة واقتحمنا ضفة الأمل الجديد لفحتنا نسمة هواء باردة لم تكن بالحسبان مما اضطرنا للتوقف برهة لنعيد النظر بحساباتنا. اجتاحنا موجات عاصفة من الصراعات الأيديولوجية والعقائدية والاتهامات والسجون والنفاق والمخابراتية مما اضطرنا أن نتسلق وبنفس الشجاعة والتصميم قمة جبل من جديد فبستان الجدة مستحيل وحرية الشرق كئيبة وبلا وعي بدأت أرقص وابن عمي يغني موال حزين وأخي يقرأ القرآن وتلاقت نظراتنا المتوازية عبر الغرب البعيد.
حكمة اليوم: الهروب وإن كان صعباً، فالعودة أصعب.
مذكرات منسي
هاأنا هنا وبين الأسقف المتقاربة،يغطي مسائي لوناً قانياً كحناء الألم، اعبث في ذاكرتي لا أرغم جسداً منهك بالبقاء حياً لأيام متجذرة في وحل المستنقع الذي سقطت به,
فجأة دون وعي أو دون حساب، فكرت كثيراً قبل بدئي بتخطيط ذاكرتي المنسية في أزمنة البؤس والموت رغم كل حرف يورق جسدي بجلد مبرح ومن هذا الجو المشحون بالرعب والمضغوط كصداع والمملوء بالانتظار والرغبة في الموت والمترشح من بقايا الندى لهواء متعفن من رائحة جسد السجان وقلق الموت، سأرسل لكم ذاكرتي بسطور مشطوبة من ساعات بقائي، ربما سأل أحدكم كيف لبائس منسي مثلي لم ينعم برطوبة الحديث مع جنس بشري لأن وكما هو معروف إن السجان من فصيلة أخرى ترتبط بالبشر، وإن كان الحديث فهو عبارة عن شتائم وقحة قبيحة كهيأته التي يطل بها علي كقضاء يومياً، وعلى مدى السنين المنصرمة والتي فشلت في تعداد أيامها الموحلة والمشبعة بالعمر المفقود بين دفات الجدران الرطبة والأحلام المستفيضة لكني وبحكمة المتشبث بضوء نهار أرسلت لكم تلك المذكرات مع هلوستي المقذوفة كحمم مطمورة ومع أحلامي المكبوتة والتي لا أحلم بها أبداً، في جزئي الذي يئن مني يتصدر ذاكرتي عطب الأمل وفي الجزء الذي ينام مني يملاء ذاكرتي رائحة للكون المغلوق والمندلق من سقف الزمن كهراء.
ذاكرتي هذه أرسلها لكم لتشاركوني ألمي وغيابي لا ترضوا عني أو تمجدوني بعدما أبقى ذكرى تمر على ضمائركم وقلوبكم والتي ستعيش الكارثة بعدي أو لتواسوني في ظلمتي المكانية لأن هناك مثلي الكثيرون الذين عانوا مشكلاتكم لوحدهم، وحدنا كنا نضطجع يومياً في شقوق الحظ السيئ فأدون لكم احتجاجي واحتجاج المشانق المنصوبة في أجسادكم لتحرق أعوادها لتنير ظلمة الأمكنة لمشاريع موت مستمر.
أبني جدار الذاكرة من موقف قرب مراكز تجمعنا يوم تركنا مدينتنا مصلوبة فوق أعمدة من نار وحطام.
ـ وهاب أتذكر حلمنا الذي طالما تحدثنا به وطالما ركبنا موج عواطفه وتمشينا في دروب منفانا أو حلمنا, اتركهم هذه المرة ولنذهب قدماً وأشرت بأصابعي نحو الحدود فيما الشمس بهدوء تودع النهار راسمة لوحة حمراء بلون غرفتي هذه فوضعت يدي الصلبتين على كتفه وهمسته بأني لا أجد فرصة أخرى للحصول على المدينة.
ـ والأرواح والشهداء والوطن هكذا نتخلى عنه. ردد بصورة أفقية وهي يحدق مثلي نحو الغروب فيما قطع عنا التواصل أحد شباب المدينة المعروفين وهو سألنا عن أحوال المدينة لأنه هرب من أول إطلاقة جدية من قبل الحكومة مع علمه التام بأننا آخر من هرب منها.
ـ المدينة تموت وتحترق وتتلظى والشهداء والأرواح التي علت إلى السماء والنساء المختبئات خلف عباءتهن السوداء يلومون أمثالك لأن الحرية لا تأتي بدماء بسيطة هي كالنار تلتهم كل شيء فبهروبك وهروب أمثالك جعلنا مثل الذي يحفر حفرة عميقة ويسقط روحه فيها على أمل أن يشرب ماءاً لكن لا يرى في القاع إلا الظلمة والدماء. هكذا جاوبه وهاب مركز عينيه الغاضبتين في عيني محدثنا.
أراد الدفاع عن نفسه لكن وهاب لم يعطه الفرصة بأن أعطاه علكة كانت في يده وأشار إليه نحو تجمع للأطفال.
ـ وهاب لا تكن بهذه الحدية ولتحمل الآخرين ما لا طاقة لهم. ليس كل الناس مثلنا مجانين أو لا تعطي الناس حقهم بأن يبقوا أحياء.
ـ وهل الحياة في ظل ذلك الخنوع تعتبرها حياة أنا أفضل أن أموت آلاف المرات ولا أعطي بيدي إعطاء الذليل هذه تعاليم ثائرنا الأبدي.
ـ نعم لكن لا مناص من الوقوع في فخهم إنهم أكثر منا وأقسى قلباً وأنا أعني لو تسمع كلامي مرة واحدة، هذه المرة ولا تذهب معهم، وأنا أستدل من حسابي المنطقي للأشياء وللحوادث وللقوة المعادية فإني جربت مراراً خلال تلك الأيام المنصرمة من عمر رجولتنا أن أذهب مع المجاهدين فمنهم مجاهد بصدق ومجاهد برياء ومجاهد بغباء، ومجاهد بعمالة فما إن نصل لننطلق بمهمتنا حتى يأتي أمر بانسحابنا من حيث أتينا وكأننا كنا في عمل استعراضي أو كشفي، هذا إن لم نتعرض لمطاردة ليموت أحدنا وهذا ما يحصل تكراراً.
ـ يا حيدر نحن لنا الحق أن نعيش ولكن بكرامة فإن لم يكن من أجلنا فمن أجل الآخرين فما أسعدني إذا استطعت أن أجعل البسمة تغزو وجوه الأطفال فمن أجلهم أو من أجل هذا الوطن المطعون بسيف مسموم سأذهب حتى لا أترك في نفسي الحجة ذات يوم بأني تقاعست أو لم ألبي نداءاً دعيت له إن كنت في حينها لا أزال أحمل في جسدي بقايا روح.
كان شجاعاً صديقي هذا وأنا على يقين بأنه سيموت لأن مثله لا يستطيع أن يعيش في مستنقع الحياة الموبوء.
وفيما نحن جالسون ننتظر الرحيل على ضفة النهر القاسم للمدينة تذكرنا جلساتنا سوية على ضفة نهرنا الصغير الممتد حتى إهانتنا المستمرة يوم كنا نجمع أحلامنا المشتتة في قلوبنا الصغيرة ونطلقها بهيئة طيور هاربة أو محلقة في فضاءات مترامية تخدش حركة النخيل فيما نحن نضطجع تحت شجرة رمان لبستان مهجور كان مأوانا، كنت أتلو عليه بعض مغامراتي ويقصني بعض حكايته وكيف كنا إذا أغوينا فتاة أو صبية جميلة ونسرق قلبها وقبلتها لنعيش لأيام نتنشق طعم القبل مع الرمان المسروق من البساتين المحيطة وكنا كل ما أوجعنا التعب وهزمتنا شمس الظهيرة نحلق من فوق الجسر الخشبي لنحتوي وحل النهر والذي ينام في أجسادنا، وما بين ذكرى ماضٍ جميل بحزنه ومستقبل مجهول متميز على صدره وبكى وكأنه كان يعلم بأننا من الممكن أن لا نلتقي مجدداً فبكينا وفيما أنا أحدق في خديه المعشوقتين من الشجى العميق والحياة المرهقة وثب كعمود منصوب وبعزم، قال سأرحل. رجوته أن أبقى وسنرحل مع حلول الضياء إلى أرض نعيش بها سوية بعيداً عن هذه الأرض الغارقة في العتمة.
ولكنه جاوبني بإيماءات وكلام مبعثر وساهماً في وجهي كمبهور ليس الآن لا أستطيع القرار وترك التربة بلا دماء، فالزرع يموت، فالزرع يموت، فالزرع يموت وما زال صدى الكلمات يفر من ذاكرتي وخصوصاً وأنا أدندنه كل مساء كموال ريفي حزين ـ وقبلني بين عيني ورحل دون أن يستدير إلى الوراء.
وسارت القافلة الجنائزية مستهدية بضوء القمر والنفوس اللاهبة لشباب مائت لا محالة ليقطعوا دروباً موحشة ليصلوا بأيمانهم المفرط حدود المدينة فيما أنا أبكي قليلاً قليلاً ولو أني ذهب معهم لسوف كان لي مصير غير الذي أنا فيه.
في الصباح التالي قدمت الأخبار وكانت حسب توقعاتي لم يهاجموا والقائد الذي انتزع الولاء بالحلف المقدس كان أول من تراجع، أما صديقي وقلة معهم قرروا البقاء في البساتين القريبة عسى أن يجدوا لهم حل وأنا بدوري عزمت أن أخرج خارج هذا البلد فبدأت مسيرتي وأنا أجرر خطاي كعجوز مهزوم.
والدروب تقطعني وأقطعها وأسير صوب الحدود لمدة يومان من التعب المضني والجوع والعطش فمدت أمامي شبابك الذكرى فوقعت في حبالها وأنا أرى صورة والدتي وهي تنادي حيدر ـ حيدر أترحل ويعتقلني الآخرين. أتهرب لتعيش حياة المنفى وتبكي الوطن وأمك معتقلة فكان هذا الطنين المؤلم يثقل حركتي بل أوقفها فأدرت بلا شعور بوصلة حياتي نحو الهلاك حين قررت أن أعود.
فكانت العاصمة وكانت مدينة حياة الذي يراها لا يلاحظ أي شيء يدل على أنها للتو أفاقت من حرب مدمرة وعندما قارنت ما بين جميع المدن التي مررت بها ومن ضمنها مدينتي والتي كانت كأن زلزال قد ضربهن أو نزل بها غضب من الله والعاصمة بكل حياتها وضجيجها عرفت بأننا وقعنا تحت سلسلة من الأخطاء بدءاً بالشهادة وانتهاء بالوطن فتبادرت صورة وهاب المؤمنة بهيئته الشجاعة وأنا أقوده بين المارة, فالشرهون بالأسواق يجمعون الأموال بشبق والنساء المتبرجات والمعطرات يمشين في الأسواق كالأيام الخوالي للحصول على نظرة من هذا أو ذاك والمزاح والحياة بكل فورانها,فتبادر إلى ذهني صديقي الذي لفظ أنفاسه في أحد المعارك في مدينتي فحين بكيته مسح دموعي بكفيه الدافئتين وقال لي لا تبكي يا صديقي إنما من أجل الشعب المظلوم ولا تنحب ولا تسأل لماذا إنه الوطن..؟
فلو كان هنا لدقيقة واحدة لمات من الحنق والغضب وفي هذه الأثناء بادرت قريبي بسؤال وأنا في سورة الغضب لماذا تركتونا نذبح لوحدنا فقال لي كانت العاصمة تنتظر قدومكم إليها ليهب الشباب لنصرتكم لكنكم لم تأتوا وكان نقاش طويل بضرورة الوثوب لوحدكم.
قال إن العاصمة مدججة بالجنود والعتاد.
ضجيج فارغة، ضجيج فارغة، صرخت بوجهه حين تذكرت الدماء فاندثرت قضية الأبطال بغبار الإعلام وغشاوة الخوف وحمولة الاتكال وفي غمرة الحديث قال لي كيف أنه الآن منبوذ من قبل أصدقائه وأقربائه لأنه في ذروة الانتظار كان يوزع أدوار الجهاد عليهم وما إن انتصرت الحكومة قدموا إليه بنصائحه أقلها الرحيل من هنا لأنه تكلم كثيراً عن الحكومة والقائد في حينها فصرخت بلا إرادة أسمعت يا وهاب وأنت تقول الوطن في أي تربة موحلة يتمدد جسدك الآن؟
وفي ذلك الحين عشنا أيام صعبة لا نستطيع التنقل لأن العاصمة مزروعة بالشياطين أو ما يطلق عليهم المشخصين وهم من أبناء جلدتنا تكفي إشارة من عيونهم الملثمة بأن تسقط ورقة موتك قبل قطافها.
فانتظرت بالدار أنتظر من يلفظ جسدي الخائف والمنهك خارج هذه الأرض المحرقة..
كنت دائماً أنتظر منتصف الليل ليأتي من يسعفني وينقلني لأشم هواء نقياً بدل عفونة هذا الهواء وإذا بالباب يدق هاأنا أحس برجفة الدقة لأنها لا تبرح الذاكرة ففتحته ملهوفاً من أول طرقة فانهالت علي اللكمات والشتائم بقوة الكبت الصحراوي ولم أقف إلا وأنا بين حشر من الناس من كل الفئات العمرية تجمعنا زنزانة سمراء يحضنني عجوزاً بعمر أبي.. فتفرست بالوجوه لأكتشفها لكن هي التي اكتشفتني وكأنني نزلت للتو من عند الله أو كأنني ملاك هارب أو منقذ وتقاذف إلي الأسئلة من كان من الناس عن كيفية اعتقالي وأنا أتمتم وأتوجع من الألم وأجاوب وأحايد وكنت خائفاً ضعيفاً هزيلاً كقصبة فارغة كنا هناك كيوم الحشر كل صباح يجمعوننا ليمارسوا فوقنا شهوانيتهم المريضة ليزاولوا رجولتهم المبتورة ليحتقروا أنفسهم في دواخلنا وكان المشخصين الملثمين يجولون بأبصارهم فوق قلوبنا الخافقة فتتساقط الأرواح كثمار ناضجة ويضج الألم بين الصالات الكثيفة وكل مساء يأتي القائد المخمور ليقضي ليلة فرح حين يعبئ النفوس المقيدة بالبنزين ويطلق مع قهقهاته طلقة بكبر الخنوع ليتطاير الجسد كريش منثور فيما هو يكمل كأسه الأخير بمزة للدم.
كنت في إحدى الزوايا أتفرس بأحدهم كان مثالاً لكل قادم جديد لم يعترف، لم يشخص، لم يهادن لكن رغم جسده الطويل والقوي كما كنت أعرفه سابقاً، رأيته كخرقة بالية مهشمة مكسرة جربوا به كل الأوضاع حرقوه ببرميل علقوه كمروحة ضربوه بكل قواهم زرعوا في أسته زجاج خمرتهم قطفوا فيه الرجولة لكن رغم ذلك لم يضعف, يبتسم لك بكبرياء الرجال حين تسأله أو حين يسبهم عندما ينادوه، وعلى ما أوصاني ونصحني به الجميع بضرورة الاعتراف بأني خرجت مع الذين خرجوا ضد الحكومة حتى أتجنب التعذيب ومن الممكن أخرج بالعفو الذي سمعت به ولا يزال أعيش على أمله، رغم أني كنت أرى شاحنات تملأ بمن يرغمونهم بالهتاف بحياة القائد المنتصر وترحل الشاحنات.
وذات يوم فيما نزعت مني الاعترافات عنوة خرجت بقميصي الممزق وبين الصالات وأنا أقتاد رأيت والدي بعكازه الأزلي ضمني إلى صدره وبكينا فطرحتني اللكمات فيما هو يمسح دماءه التي علت جبينه من تلقي ضربة بقوة من أحدهم.
أبي وهو يهتف مع حشد كبير بحياة القائد، رحل ولا أعرف عن أبي في أي حياة أو مقبرة أو قضبان يقبع الآن لأني هتفت في الوقت الذي سمعت إطلاقات اخترقت أجساد الكثيرين من الذين حملتهم نفس الحافلة التي هتفنا بها في الوقت الذي أنا مرمي في هذه الزنزانة الضيقة أحسب أحلامي بعد يوم الهتاف.
يا ليتني لم أهتف لكنت لا أزال أزاول رجولتي المستمرة من يوم الانتفاضة. لماذا ضعفت أي روح ملعونة أغوتني، وأي حياة لئيمة كنت أطمح أن أعيشها وأنا أسقط في وحل الكلمات، رغم ذلك أعدمت الأنفس الميتة بلا تميز حتى المشخصين صعدوا إلى المشانق لم يتشفع لهم ذلهم وخنوعهم ونفاقهم وقتلهم للآخرين.
أنا لا أعرف لماذا أنتظر ولا أي زمن ولا أي مساومة سأدفع بها أنا منسي في الليالي الصديقة والبعيدة منسي في النهارات المضيئة والباردة والممطرة مرمي كوحش ضار في قفص بارد أمارس عادة المشي لخطوات بسيطة بعدما لم تحتويني مساحات المدن وأنا أذرعها كل يوم أو أغني بألحان مللتها بكيتها مراراً ومراراً، أضفت إليها,لكن لا أستطيع حتى تدوينها لأني لم أملك قلماً ولا حتى ورقة المنع يبدأ من النظر إلى السجان.. إلى النحنحة فراشي صديقي الوحيد الذي يسمعني أو يناغيني ويبكيني حين يضيء المساء ولو أن كل النهارات مساء؟ الزوار الذين يقذفون إلي هنا كمجرات ساقطة متفجرة نكون حينها صداقات متقاطعة تلفظ أنفاسها حين يجر الصديق ذات ساعة نحو المجهول لا أستطيع أن أجمع الخطوط والفواصل حين أسأل عن الآخرين مع كل قادم جديد إلى خطوتي المفروضة لأن وببساطة لا أحد يعرف أحد الذي نلتقي به اليوم لا نراه أبداً ولا يمكن أن يلتقي بأحد ممكن أن يكون قد رآك في يوم ما. اللعبة محكمة بتكتيك مستورد لأنني استكبره على مثل هؤلاء الرعاع هل سيأتي اليوم الذي أولد به مجدداً أو يولد الوطن من جديد، وطن مملوء بالحب، لا تجد سجون إلا سجن القلوب للعشاق والمحبين..
هل يأتي الوطن والحرية كسحابة أو كغيمة خصبة لا تعرى في وجودها وأبتهل تحت نثار المطر ولأغني مطر ومطر حرية ووطن.. ولأحضن وهاب بسمرته المعطوبة ونغني أغنيتنا القديمة عراق يا عراق..
هاهي رنة المفاتيح القبيحة تكسر ضوء ذاكرتي لا لكم وأشتم من جديد..
رسالة من الخجل إلى المنسي
هاهي المواجع هيجت وأفقت من سباتي الموغل بالخدر..
لماذا أجفلت القشعريرة النائمة بهجوع الناسك في أوصالي لتحرق ما تبقى من أعواد للذكرى المعطرة برائحة الرجال.. رائحتك.. رائحتهم وحدهم لهم الحق بأن يركلوا أزمنتنا المتوقفة والمتأنية كزحف سلحفاة.. وحدهم من سيلقي نحونا التساؤلات إنهم المنسيون في ظلام الأقبية المموهون بعتمة الأوطان وحدك من يملك انعتاقي من خور الندم، ألا تزال تتذكرني رغم انكشاف الغسق لأنك تقعي في مؤخرة ذاكرتي المغلوقة منذ زمن لأنني أو أننا طوينا ورقة أحزانك في مكتبة مهجورة ربما ذات يوم يقلبها المؤرخون وربما تنسبل دمعة فوق أسطرها من أحدهم؟
إذاً ما التهمته الجرذ كجسدك النائي في تلك الحجرة لماذا أصريت إلا أن تفتح ثقب الذاكرة وجعلتني أقلب في الأوراق الحزينة لأني وبتواطؤ دنيء محيت كل الخطوط المنحنية والمستقيمة والأزلية في ساحة الذاكرة هاأنت تقذف نحوي كثلج وافر، ألمك المطعم بذاكرة مملوءة بالوحشة والحنين والعزلة لتنزل وبقوة دموع من عيوني المطفأة لتغسل وجهي المجبول بالعار وتطهره من كل آثامه إن عذرتني؟
لن أجعل جسدي يرتعش ليخط الأوراق إلا لك ولن أكتب لغيرك كما أوصلت رعشات أصابعك المدفونة في نفق الله إلى قلوبنا.. فإليك أدق جرس الكلمات لتدخل قلبك الزاكي عبر روحينا الممزوجة بالذكرى بالألم.. بالروعة بالضحكات المختزلة..
هاأنت تجدد أملاً منسياً كأحلامك, بالالتقاء بك على ناحية طريق أو حلم ليلي أو أمام بوابة كبيرة لسجن يشبه الوطن!
أياماً.. أعواماً تبددت وأنا أنهيك شيئاً فشيئاً. غاب عني بأن النبتة الأولى والبذرة الأولى تشق طريقها عبر صخرة أو عبر فتحة منسية حتى وإن كانت زنزانة معتمة متوحدة.
إذن أعدت إلي الماضي.. أعدت إلي الحنين وإن أقلبك عبر ضميري المطمور في ثلج المنفى الذي صورته بطلا كان أول الغادرين بك سأعترف أمام محراب أنفاسك لأنك كبير كبير، ستسامحني.. سأعترف كيف أغويت أختك والتي كانت بعمر الحب والتي كانت تراك بي وأنا غارق في حبها تركتها تلثم رياح الخديعة وحدها وخلفتها هناك تفترسها ذئاب لا تشبع.
وسرقت أحلامك بحجة الخوف ورميت أشرعة رحيلي إلى الأمكنة التي طالما كنت تحلم بها في الوقت الذي كنت أنعتك بالجبان.. بالهارب.. فأول من تبنى فكرتك التي تركتك وحيدا مقيدا من أجلها وبحجة أن أواصل ثورتي في الخارج لنكمل ما خسرناه في حروبنا الكثيرة وبعدما لم نحقق غايتنا المنشودة في صحوتنا، الأولى التي في حينها جسدنا رجولتنا المبتورة بحصاة حادة كسكين لامع لكني وأنا أبرح سابحاً في منفاي عبر خطوط رسمتها أنت تقاطعت رؤاي المظللة برؤى ثعلبية تسرق آهاتك وحريتك الملكومة بجرح غائر لينثروا في ظلاماتنا نوراً يبهج حياتهم في أكواخهم المغلقة بعفن الوقت فكثير منهم كما صورتني أبطال لكن من ورق مائع ضجيجهم دبيبهم اجتماعاتهم لا منتهية وانشقاقهم وانقسامهم كل يشطر نفسه كشظايا حرب ليبنوا أوطاناً خارج الوطن!!
وأنا المملوء بالخطايا كجرة فائضة ساحت مياهي المكبوسة فامتلأت نشوة بالمنفى فصفق يا وطن!
هل ثارك بطلك وهو ينزل من صهوة جواده الجريح لاستراحة مفتوحة كانغلاقك، من كان منا على حق أنت حين تدرك أن الحياة في الوطن موت معلن، أما أنا الذي أدركت أخيراً أن الوطن محرقة أو مهزلة. أتعرف يا صديقي المنسي بأن ليس هناك حدود بين قضبانك والبحر وليس هنالك فروق بين سجانك والمدى فكل المديات دماء. فشمسك الآفلة متى تضيء فشموسنا هباء لا تلمني إن أضعت طريقي فطريقي كانت وعرة مرسومة بلوحة فجر فالجزئيات التي رسمناها ذات ظهيرة لم تكن كما أردنا تائهة في فضاء مفتوح لكل الاحتمالات فجهادنا المقدس حفلات شواء على نهر زلال لا يشبه أنهارنا وثاراتنا الوطنية أراجيح مبلولة بتفاهات الغيبة، والمال المحشد كجنود الحكومة يكبل نفوسنا بإيماضات القسوة ويشرذم جذورنا بترب رملية.
هاأنذا بطلك المقوى والمقوس كدائرة فارغة أو جبل منخور أدور حول نفسي وأشرب كأسك ثملاً.. هاأنت ملأتني ذكرى فلأسهر في هذا الليل الكابوسي كمحارب تائب يعد القتلى والجرحى والمفقودين والمرمين في طرقات مجهولة، ليشرأب اسمك كديباج ليعلو ويزهو ويرتقي سلم التاريخ المبطوح والموغل بالعري، العري الفاضح لزمانات مترهلة وفي الوقت الذي ينبثق اسمك عالياً لتنطمر انتصارات المبحوحة في منافٍ مستلقية فوق بساطات باردة وتذوي أسماءنا فيما نحن نتشبث بخيوط ملعونة رخوة تتقطع باستمرار الحياة.
ساعة حب
وهو بين سعف نخلة فارعة الطول يرنو إلى الديار المجتمعة والمنارة بشموع نارية قديمة رغم حداثة البيوت ويستنشق رائحة الأرض المغبرة بعد توقف انهطال المطر الذي فاجأهم، كان مبتلاً بالماء ورفاقه بعد أن فاض ملجأهم الذي حفروه قرب النهر والمغطى بالشوك والذي طالما داسه العسكر بأرجلهم الثقيلة وهم تحت مقبوضة أنفاسهم وجامدة دمائهم في اللحظة المنتظرة أو لأن فوق رؤوسهم يتمشى الموت بكل جلجلته.
فلم يجدوا مأوى هذه الليلة ألا تحت النخيل والبرد المنساق نحوهم كهم أو كخوف يدق عظامهم, حتى النار بخلت بدفئها خوفاً من أن تفضحهم, فيما هو يتأرجح فوقهم اجتاحه حنين ملح لرؤيتها. إنها هناك خلف النهر ببضع مئات من الأمتار تفصلها عنه. استطاع أن يشم رائحتها العبقة عبر الهواء المتشظي والقادم من هناك، المنطقة مخدرة ونائمة يغزوها شبح الخوف والسكون إلا أن تجوال بعض الكلاب والقطط والزبانية يكسر روعة الصمت الهادئ ويبث رعب الموت في القلوب، القلوب المكلومة والمجروحة والتي تتظاهر بالنوم أو يأتي النوم بهيئة حلم، حلم كأي حلم يأتي كابوساً أو أملاً. فصمم إلا أن يذهب فقفز في منتصف النخلة إلى الأرض الرخوة فانغمس قدماه في الأرض الموحلة، قفزته كانت من التصميم أن لا يثنيه شيء عن تحقيق هدفه الحلم، الاجتماع بها فحمل بصمت سلاحه فمانعه أصدقاءه بشدة:
ـ أتعرف بأنك ذاهب للهلاك.
ـ والآخر يشده من يده با الله عليك اصبر كلنا نملك او ربما أكثر منك مشاعر.
ـ لم نكن نعرف بأنك ضعيف.. عهدناك بطلاً مغواراً وفيما هو يتجه نحو الأضواء الخافتة استدار بصمت نحوهم وتأملهم عبر الظلام المضاء بضوء القمر. الكل يقف حيث هو كمشهد سينمائي وموسيقى الريح تعبئ الصمت بلغة أخرى لا أحد يفهمها غيرهم.
ضم خطاه مسرعاً متأبط الظلام ستار ويتنقل بخفة بين جدار وجدار، ما أن تراءى له منزلها أحس في قلبه خفقة افتقدها منذ فترة، خفقة القبلة الأولى أو الخطيئة الأولى، أو النظرة الأولى. قفز إلى حديقة منزلها بلا ضوضاء، قفزت لص ومن خلال فتحة مألوفة لكليهما رآها بكل نضارتها جالسة هي وأمها وأخوتها الصغار من حولها نائمون مشكلين قوس منحني يتوسطه مدفأ قديم أراد أن يباغتهم لكنه أرجأ الفكرة خوفاً من أن ينتابهم رعب المفاجأة فتكتك بأصابع راجفة مستعجلة على الشباك. انتفض قلبها لأنها موسيقى وإشارة تعرفها هي.
جفلت الأم فقال بصوت يكاد لا يسمع لا تخافا هذا أنا.
إنها مفاجأة غير متوقعة فتحت أمها الباب وقالت له:
ـ أأنت مجنون تجازف بهذا الشباب الجميل وتقتحم جحيمهم في مثل هذه الليلة البائسة؟
جاوبها مسهماً بوجه حبيبته المشع ضياءً أكثر من شمعتهم والمتقد حرارة أحرّ من موقدهم.
ـ جمالي وشبابي وقوتي وروحي الآفلة إن لم تكن لها فداء، فلمن هكذا تحدث بدون استحياء رغم ظروفهم القبلية واسترسل:
هي الوطن الذي أناضل من أجله. هي الحرية التي طالما حلمت بها، فليسلبوني كل شيء إلا هي.. فاملأت حمرة الخجل وجنتها وتداركت سأعمل لكم شاياً وبتواطؤ نهضت الأم مسرعة بل أنا من سوف يحضر الشاي فاختليا بحضن الموقد وهو يرتعش من البرد ومما زاد في ارتعاشه وخلجه أنها بكل عنفوانها وعبقها وجسدها وعيناها المبحرتين أبداً صوب الحب بقربه بعدما ولفترة كان مجرد التفكير في الولوج إلى داخل حدود المدينة انتحاراً! فبادرته:
خذ هذا الغطاء تدثر به لأنك سوف تموت برداً. فقال كمن يلقي قصيدة:
المسيني بأي شيء من جسدك اللاهب فأنت الدفء اللامنتهي أنام عرياناً وسط الحقول شتاءً لا أحس إلا بروحك الدافئة. إنها كقهوة أمي في الصباح فمسح دموعها المتساقطة بأصابعه المرتعشة ليرسم خطوطاً مخدرة وليسرق قبلة من شفتيها وهي مستسلمة حالمة وترجته بأن حافظ على سلامة روحك من أجلي ومن أجل أحلامنا الصغيرة المنهكة فأنا بدونك كطير حب أسير, رائحتك تملؤني أملاً كلماتك تسحرني عبر الجنائن وجهك يرسم لي طريقاً للخلود، وصدرك حين يحتويني أحس بالأمان المفقود وأحرس في ذكراك وطن مهزوم.
حضر الشاي الذي تستحقه أفواهنا هكذا قطعت عليهما أمها دقائق حب أبدية فارتشف كوباً من الشاي وعيناه لا ترى إلا عيناها فأحس بالانتعاش ونهض مودعاً وقبل رأس الأم وشكرها وقال لها هذه وأشار بيده نحو ابنتها التي لا تزال مصدومة بهول اللحظة المسروقة من بين ثنايا الموت وديعتي عندك وكما بالأمانة حق الوفاء فهي أمانتي عندكم. بقت الأم باركة تمتمت بدعاء للحفظ فشيعته الابنة إلى الباب حيث رائحة قداح البرتقال وفوج الأشجار وحفيف الريح. ضمها إلى صدره وودعها بابتسامة حزن.
ـ سنلتقي
ـ وأنا سأكون بانتظارك كميناء مهجور
فأقفل راجعاً منتعشاً لا يبالي بالكلاب والقطط والزناة. لا يتنقل بخفة من جدار لجدار كأنه محلقاً في الهواء سابحاً بذكرى تلك الساعة الرائعة بحجم جنونه منتهكاً كل قوانين الحذر ناسياً رفاقه بالضفة المظلمة، فسمع صوتاً بشعاً من خلفه قف.. قف.
فاستدار مسرعاً وأفاق من حلمه وسقط من تحليقة فتدارك أولاد.. ورشقهم رشقة من سلاحه فتتالت عليه الإطلاقات فاختبأ خلف أحد الجدران ورمى ثانياً باتجاه ضياءهم فسمع صرخات بعضهم وقذف برمانة يدوية كانت بحوزته نحوهم فسمع أنين آخرين ولم يبقى سوى أمتار قليلة تفصله عن النهر فأصابته طلقة ثم ثانية فسقط وبدأ يزحف وانهارت قواه عند حافة النهر.
سال دمه صوب النهر فرفع عينه إلى السماء فرآها صافية جميلة نجومها متألقة.. قمرها باسم فصرخ بأعلى صوته اللهم لا تجعل في قلوبهم الحب أبداً وابتليهم بالموت حباً بمن لا يحبونهم فسقط في النهر إثر ركلة أحدهم بحذائه الثقيل المضمخ بالجرم فسقط في النهر وجرفته المياه..
فيما هي تطل من فتحة الباب الممنوعة يصل إلى مسامعها عذاباته فيغشى عليها بعد أن تطلق من فمها صرخة بحجم المدينة.
رائحة القصب أو أبو جاسم
كنت أتأمل وبانسراح فكري أشعة الشمس الخيطية المغبرة والمخترقة للثقوب الثلاثة عشر والساقطة على وجه قد ضاق ذرعاً فبدأ يتقلب يميناً ويساراً بتناغم مع خفوت وانبثاق الأشعة، كان للوجه المتعب والذي أشبه بلون الأرض الموحلة خطوط متعرجة، تقسم سطح الوجه إلى أخاديد متوازية ومتقاطعة الصغيرة منها تنتهي لبداية شارب أسود كث تتخلله بعض نقاط بيض كندف ثلجية يعلو الشفة العليا للفم الكبير والمضغوطة من قبل صف مبعثر من أسنان موجعة والكبيرة منها تنتهي أسفل ذقن مخطوط عليه أو ملصوق به بعض شعيرات فضية وسوداء مائلة للحمرة وكان للذقن قاعدة كأعلى مخروط ينتهي بزاوية مفلطحة وله عينان ثاقبتان تنامان وسط جحرين عميقين أشبه ما يكون عيني منظار ليلي يعلوهما خطان سوداوان متصلان في مساحة متماهية يمتد أسفلهما بانحدار بسيط أنف طيب.
كان منبطحاً على بساط من صنع أياد غير متقنة لا يميز سمكة عن الأرض إلا بلونه المتمازج والمتكون من مجمع ألوان صارخة والتي تمتاز بها تلك المناطق، كان يتلوى وهو نصف يقظ مع قناعتي التامة بأن ردة فعله وهو في مثل هذه الحالة تجاه أي حركة أسرع من ردة فعلي وأنا بكامل صحوي، مط جسده باتجاهين متعاكسين، فبرزت قدميه الصلبتان المكدمتان مخترقتان خط الظل المتكون من تعليق ملابسه المبلولة فاستطعت إثر أشعة الشمس الساقطة بكثافة أن أرى ثغرة دائرية ملتحمة لرصاصة مخترقة أسفل رسغه.
فشدني النظر مرة أخرى حول طنين ذبابة بدأت تدور ماسحة هذا الحجم المستلقي بدوائر سريعة مطنطنة متقطعة ترتاح كل هنيئة على إحدى زوايا وجهه وهو يكشها في يده اليمنى فيما اليسرى قابعة فوق عينيه مكونة شعوراً بالظلام الليلي الدامس ومغطية نصف الوجه الضئيل وباحتيال استطاعت الذبابة أن تجد لها مأوى في الفم المفتوح بهدوء والذي يتنفس منه مراراً إثر انسداد أنفه المعطوب.
في الفم رائحة للجوع؟
انتفض من نومه كمن مسه تيار كهربائي وبدأ يبصق على الأرض الرطبة ويسعل إلا أن الذبابة كانت أسرع من سعاله وهي تنزل منزلقة كعربة الموت إلى مرئيه فالتفت إلي فرآني راسلاً بصري نحوه، فتبسم كعادته نفس الابتسامة التي تغزو وجه في أشد الحالات هلعاً وقال هو يداعبني كما يفعل كل مرة، الكل يريد رقبتي وما بداخلها مع أنها لا تحتوي إلا الجفاف؟ هزني رعش خفي كمن يشعر بالبرودة وأنا أحول بصري نحو الحائط الطيني للجانب الآخر لأنني وبحدس المتوجس أحسست بأنه يقصدني أنا أيضاً والذي تحوم حولي الشبهات منذ أن قدمت إليهم من ما وراء القصب المتراكم كيفما اتفق والمكون غابات موحشة يفصل فيما بينهما ماء أزرق تحوم فوقه آلاف الطيور الملونة وتنبع من دواخله الأسماك المختلفة. أتيت إليهم ولا أحمل معي إلا ما تبقى في دواخلي المهزومة والمضطربة من شجاعة أو قوة خفية تحاول الانطلاق أو الانتقام؟ كنت نادراً ما يضحكني مزاحهم الكثير وكثيراً ما تبكيني الأيام أحزانهم. كنت أنزوي بعيداً قليلاً وأتقرب قليلاً. لم أملك من التعريف المتبع ألا لسان قليل الثمر وصلابة موقف رغم الاستفزازات الكثيرة والتي وضعت كقانون مع الزمن الفاشل الذي اعتراهم فأكثرهم تعريفاً أكثرهم خيانة, هكذا يحدث أحياناً!!
تمتمت بكلمات مرتبكة إنه الذباب أليس كذلك يا أبا جاسم. رد علي باسماً فتبينت العطب الحاصل في جوفه لكنه أهون من الذباب البشري الذي يدخل في جوفك، ينام غرير العين في قلبك بعد أن تغمره أشعة حبك فتغفو برداناً مطمئناً لتدفئه فتغزوه الحرارة فيمد زعنفه السام نحوك فتشعر بلسعته البعيدة فتمد يدك ملوحاً بدعسه.
وفي هذه الأثناء أمسك الذبابة وفركها بين أصابعه والذي أشبه بنبات الخروب البري المتيبس وصرخ هكذا لكنك تسمع قهقهاته اللعينة مستتراً بعباءاتهم الآثمة فعاد إلى بسمته ملتفتاً نحوي وربت على كتفي لكنهم لم يفلتوا من قدرنا إلى الأبد.. كرر إلى الأبد مع تكرار تربيته على كتفي هذا ما زادني يقين بأنه يقصدني.
انتابني شعور الانفجار لشكه بي لكني لا أقاوم محبتي له وإعجابي بأفعاله المنتصرة، لهم العذر فمنذ قدومي من المدينة وعبوري تلك الدروب المائية المظلمة عبر قارب بالٍ كدت في حينها أسقط عدة مرات وكان وجهي يشبه ازرقاق الماء، وكنت بإصرار عنيد أقاوم خوف الطريق المتشعب بأزقته المائية المتعرجة والمنسية والموغلة في القدم القِدْم السومري حين أصابت كلكامش مس الخلود كنت وأنا أنزلق في عمق الهور كانت كل أجزائي لا ترى إلى الهدف الذي قدمت من أجله، فجاوبته بحنو واحترام وأنا أنظر في الأفق المستحيل:
أبو جاسم أنا أعرفك بأنك لا تحب المدح مع أني على يقين راسخ بأن في دواخل كل إنسان ديكتاتور صغير يرتوي بماء المدح ليخلد في الليل الهاجع طرباً وثملاً، أراد أن يقاطعني بتغيير الحديث لكني ليس كعادتي كنت أسرع منه بتكملة حديثي..
أنت بالنسبة لي روح شجاعة متفانية في فضاء الله. تركب فرساً عديمة اللون تميزها من صهيلها المستمر، ولتلك الروح شظايا تصيب القلوب الحرة لتنعمها بسعادة لتشعر بالأجساد الخائفة والخانعة بزهد الدنيا وتفاهة العطايا الرخيصة أمام المبدأ الصلد الذي لا تنخره لسعة ذباب خائن أو دوي لقنابل غادرة، وعندما يخفت العطاء تنبثق تلك الروح من جديد ملوحة بسيفها المصقول نوراً أبيض صاخباً بصخب الحقيقة المطلقة والمحتوية فضاء العالم لتشع الحرارة من جديد وهكذا نخاف وننام وتنهضنا أنت يا أبا جاسم تلك الروح السخية التي تكبلنا بقيود شفافة بعمر الخديعة.
أنت تلك هي الروح التي تهب ما تحتاجها هي وأي شيء أغلى من الحياة، وأنت مع هذه النسمات تزفرها لنا وأنت تعلم بأن جسدك سوف تأكله عقبان الفطائس وجسدك سيكون جسراً للعبور للضفة الآمنة عبر صوبي القصب.
لا أعرف ما الذي دفعني بأن أرتمي بحضنه وأنا أبكيه كما بكيت أبي ساعة شنقه، أحسست بالفيض العاطفي كقوة ممغنطة يخرج من ثنايا صدره وهو يتنفس ببطء وأمسد خلف كتفي براحة هدأت بعدها قال لي بصوت هادئ أبوي أزلي أشبه بصوت قصيدة حب رائعة لا عليك إن كنت منهم فسأكون كبش فدائك وإن كنت عليهم فسأكون هديتك نحو الانعتاق نحو هواء طلق يملأ رئتيك لتتورد وجناتك وتعود ابن مدينة أصيل وأقسمت إليه بأني عليهم.. بأني عليهم وابتعدت في زاوية الموقع وحيداً أراقب هيجان الطيور الخائفة أثر رنات صوتي العالية وحركتي السريعة.
كنت في الليل المتروك والمقذوف كبركان ساكن أجلس مواجهة للماء وظهري للموقع المتكون من سبع غرف منفصلة، مبنية بنسق هندسي أبيض لا يخلو من لمسة فنية رغم بعثرته الواضحة.
كان لصياد بنى حلمه الأبيض بعدما دفن أسسه عميقاً بالتراب وكانت لقببه أوطاناً مغرية لطيور تائهة.
كنا ننام من غير ما ترتيب وكانت للبعوض المتكاثر يسرق ما ينتظر من دماءنا النازفة باستمرار وكان لكل يوم قصة وقصة الأمس استمرار لقصة اليوم واليوم لا تعرف إن كان سيكون هنالك حكاية قادمة.
ففي اليوم الذي حللت به هنا كنا عشرون مقاتل. اليوم ما تبقى اثنا عشر، سبعة منهم علقت أجسادهم على مقربة منا فوق مساند حديدية أشبه بأعواد ثقاب كبيرة ودقت في أجسادهم مسامير المسيح النازف, أما الثامن فكان هو من دق تلك المسامير.
في المساء كنا نجتمع حول موقد متكون من أربعة أحجار مكونة محيط لدائرة محفورة وسطها وكان وجه أبو جاسم يتلوى في اللهب الهارب كأفعى في كيس هندي وكانت حكايتنا يصهرها الجمر المتقد وكنت أختلس النظرات بحركة دائرية خفيفة فتساءلت بيني وبين نفسي ما الذي دفع أبو جاسم بحلق ذقنه ويرتب شاربيه هذا المساء هل له علاقة بزيارته لامرأته أم أنه يحاول كسر القواعد الثابتة ككل مرة مع مرؤسيه وهذا ما يحلو له دائماً.
وكأن السامر قرأ تساؤلاتي فألح على أبو جاسم أن يحكي قصة الحلاقة الجديدة. كنت أتلظى لسماع حكاياته لكني لم أسأل أبداً فصببت كمية من الزيت على الجمر لأطرد البرد القادم مع أحدهم إثر انفتاح الباب لتبدل واجبات الليل الطويل ولا أحافظ على حرارة الجلسة، فبدأ أبا جاسم بأن يحرك شفتيه العريضتين فانبثق الكلام حداً أسطورياً أو كرؤيا غير منتهية كنت وهو يتحدث ويصوغ العبارات ألبس قميصه المهترئ القديم وأتسلل عبر شخصه حتى أتماها معه فيبلغ بي المدى بأن لا أميز هل أنا أنا؟ أم أنا المتحدث؟.
كانت أكواب الشاي حاضرة للارتشاف فأكمل أبو جاسم عند المقهى وصلنا لإصلاح السيارة المستعارة عنوة.
كان لهيئتنا العسكرية والسيارة المدنية القديمة أثر في الفضول القادم عبر الأسواق فأحاطت بنا دورية عسكرية فتقدم قائدها مخلفاً خلفه ومن حوالينا سيارتان معبأتان بأفراد مهيئين لقتلنا، فبادرني:
ـ سيدي هل أستطيع أن أتعرف على سيادتكم. قالها باحترام ماكر.
أعطيته جميع أوراقنا مع أي كنت متوجساً من أن صورتي ليس في موضعها الصحيح عندما زورتها بنفسي. فالتفت إلى الذين معي فرأيت كل واحد بقربه ثلاثة مصوبين أسلحتهم صوب أجسادنا المتحفزة والمستفزة فتمشيت بخطى واثقة نحو السيارة وأحاوره بغضب:
ما الذي تفعلونه ألا تعرف من أنا سأعطيك ما تبقى من إثباتات لأريحك من بعدها، رمقت رفيقي بنظرة يعرفانها ودلفت بنصف جسدي إلى داخل السيارة سحبت بندقيتي بسرعة وأطلقت بنصف استدارة فتناثر الدم البدوي القادم من صحرائهم فأطلق صديقي فسمعت فرحة الرصاص المتطاير ليمتزج مع صيحات الاستغاثة لنكون مسرحاً أوبرالياً بحجم المكان أحسست في وقتها بروز جناحي للطيران.
ضحك وتوقف متأسفاً لكن كان هناك فرد يرمي وأنا أرمي. الوحيد الذي لم يهرب كم تمنيت أن يكون معنا الآن لكن ما بال آخر رصاصة نفذت صدره فشتمني..
أدليت كمية أخرى من الزيت لأزيد من مدى الحكي، وهنا تجرأت وكففت عن انزوائي للتصنت فترجيت أبي جاسم أن يروي لنا حكاية الثقوب الثلاثة عشر إطلاقة المخترقة لسترته والتي لا يزال يستعملها للظل أثناء القيلولة نظرني بذكاء متقد فحولت نظري نحو الموقد وحركت يدي بفتح فجوات داخل الجمرات وقلبت التي لم يلسعها النار وأخفضت صوت الراديو والذي كان يصرخ بالأخبار لأؤكد على استمرارية الحديث قال أبو جاسم: لا بأس وإنها آخر حكاية لهذا المساء، كنت ذاهباً لأؤدب أحد الخونة الذي أرضعناه من حليباً نقياً من أثدائنا ودفأناه بأصوافنا ولكن وكأن الحليب كان خمراً وأن الصوف محض غطاء جنسي كان وهو يتكلم يصك أسنانه منفعلاً فعرفت مدى دناءة الفعل الذي اقترفه الخائن ليجعل أبي جاسم بذكره بكل هذا الغضب وكان وجه أبو جاسم يشع احمراراً رغم سمرته الملحة تبينته بين الفراغات المنفصلة من اللهب الصاعد نحو الأعلى مكوناً أبخرة ما إن نستنشقها حتى نبدأ جميعاً بالسعال.
كرر أبو جاسم الغبي أو السيئ الحظ أصر أن يفتشنا بعد أن وقفت سيارة الأجرة في نقطة التفتيش أثر نظرات الذي كان يجلس بالقرب مني. كنت الوحيد المرصود رغم الثمانية عشر راكباً يختلس نظرات مواربة وفي خطاً مستعجلة ومتلفتة أسرع إلى غرفة التفتيش لا أعرف بأي همسات شيطانية وشوش في آذانهم المفتوحة والتي من خلالها أصر الضابط المسؤول أن يفتشني لكن يدي كانت على قبضة المسدس أسرع مما هي وأنا أفتش عن وثائقي فأطلقت إطلاقتان اخترقت صدره أثر سحبي المسدس المعلق كتميمة تحت إبطي فشممت رائحة للأسف. فأطلقت على الآخرين وبسرعة نمر وثبت إلى داخل نقطة التفتيش الحجرية والمتبقية من بناء قديم صامد رغم كل الدمار الذي حل بالمنطقة، وجدت في داخله كل ما تشتهي من بضائع فرأيت الراكب مختبئاً كجرذ خائف, صرخت بوجه بسرعة الحدث لماذا جاوبني بصوت رعديد إن لي عائلة وقلت له أأنا هابط من السماء أو مقذوف من جوف الأرض. فأطلقت رصاصة اخترقت خيشة الرز المختبئ خلفها فسمعت أنينه الدامي وركضت مسرعاً عكس اتجاه الريح فسبقتني الإطلاقات، كانت ثلاثة عشر رصاصة خارقة وهي كل ما يملك أحدهم فتلقاها عني ذلك الثوب المسكين ومن حينها وهذا الثوب ملاصق بي كقدر لأنه حظي الحسن.
قاطعت صمت الحديث فقلت: أنت مثلك يجب أن لا يموت فأنت بالنسبة لنا إحساساً لا ينضب في الشجاعة الفانية في نفوسنا فكيف يخفت بريقك فيما أنا أراه ظلاً هادئاً من خلال ضوء الشمع الذاب فردد إني لأخاف أن أنسى أنفاسي في إحدى اللحظات الحارة لكني أخشى أن تلك الأنفاس لا تذر هواء نقياً تستنشقه النباتات المخنوقة في الصباحات المسروقة.
في الصباح كنت مستلقياً أراقب أسراب الطيور المهاجرة مخترقة سماءنا المحرمة كانت تدور حولنا دوائر متناسقة فارشة أجنحتها الطلقة فوق رؤوسنا وكأنها تاهت عن مدارها فوجهت أصابعي نحو الغرب، هناك حيث المياه السلسة والناس الطيبين فتغير اتجاههم، وكأنهم سمعوا نصيحتي، استلقيت ثانياً ووجهي مقابلاً للشمس فارتسمت أمامي أحلاماً مظللة واخترقت أنفي بقوة سائلة رائحة الأرض الرطبة إثر هبوب ريح باردة تحمل في طياتها بقايا صور لذكرى مستمرة. نهضت مواجهاً للريح أحاول أن أحتوي كل عطاءها فدغدت رأسي، فتطاير شعري الفحمي إلى الوراء وغزتني الحبيبات الرملية المتناهية في الصغر مكونة غبار لم أنفضه عن جسدي لأني معه أشعر بالدفء الهارب من هناك حيث كان بصري المطبق يتسلق أسوار القصب المتكاثف ليسافر عكس الريح نحو المدينة النائمة في العراء رغم البرد.
جاءني أبو جاسم بخفته المعهودة وأخبرني أن أجهز نفسي هذه الليلة للإبحار معهم صوب المدينة، كان خوفي وسعادتي يسيران بخطين متوازيين نحو رأسي مما جعلني أحتاج إلى خلوة مع نفسي. عجت الأفكار في رأسي تتدحرج، تتقافز، تتشظى. هاأنذا أكون على المحك كحد سكين بين الخيانة والشرف ناداني أبو جاسم: سنغادر بعد ساعة عند المغيب كن جاهزاً.
قفزت في القارب المكون من خشب مجوف مطلي بطلاء أبيض مرتبط بمؤخرته جسم كهربائي يحركه بهدير مزعج إلا أننا بدأنا التجديف بأيدينا بهدوء متناسق، كان للقصب هدهدة متمايلة ساكنة رغم الرعب الذي يحيطه وكان لشجاعة أبو جاسم وهو يخترق الموت بجسده النحيل من اللامعقول تتزاحم برأسي كل الأبجديات الموروثة وهو يكون أمامي قوياً كبيراً كبيراً، كنا ستة سابعنا أبو جاسم.
ما إن وصلنا ضفاف المدينة قفزنا بصمت حابسين أنفاسنا مشينا قليلاً. سمعنا بقايا لضحكات مسترسلة فزرعنا أبو جاسم كل في مكان وكنت حين يجتاحني الخوف كإعصار أنظر إلى أبي جاسم وهو يقفز ويتحرك ويتكلم كأنه في حفلة للأصدقاء رغم حذره الشديد، لا يسمع أو يشد انتباه العدو، كان هجوماً مباغتاً كنت إلى الخلف منهم كان سلاحي مصوب نحو الهارب منهم وكنت أتمنى أن لا يهرب أحد، قتل جميع من كان في الربيّة وكانوا كثيرون رأيت الدماء تتمازج مكونة برك متفرقة كدت أتقيأ لكن بلا شعور أطلقت رصاصة على أحدهم لأنه كان به بقايا حياة. الجميع تركوا كيفما اتفق إلا قائدهم، أخذناه معنا لأن أبا جاسم كان يريد أن يجعله طعم للآخرين فوضعه بوسط الطريق ما بين المدينة والقرية وكان للمطر المستمر الهطول وقع سيئ لمخططنا كنا مستترين خلف ستار عندما أكمل أبو جاسم بوضع الجثة في وسط الطريق تبينت وجه الجسد الملقى على الأرض الموحلة إثر الضوء الساقط بكثافة من السيارة القادمة نحونا ترجل منها ثلاثة رجال مسلحين.
صدى صوت أبو جاسم اخترق أذناي المتحفزة وهو ينهرهم بالابتعاد من هنا لأنهم ليسوا من نقصدهم فأنزل سلاحه إلى الأرض ليطمئنوا وفي اللحظة أصابته إطلاقة بكبر الدناءة اخترقت قلبه.
عج أرجاء المكان صراخ أبو جاسم وهو ينزف ألماً، خونة، أنذال، غدارة، تهاوينا من خلف الأسترة وأنزلنا غضبنا بحزن اللحظة نحو رجال القرية. هرب القائد باتجاه الأضواء الكثيفة القادمة نحونا مخلفاً خلفه ثلاثة أجسام خالية من الروح: أبو جاسم واثنين من القرية اللذين كانا ساعة الغدر.
بعدما دلفت بين العسكر بزيهم الرمادي استطعت أن أتبين وجه القاتل.
في الليل المظلم الحزين كنت أدعس بحذاء العسكر الثقيل دمعي المتساقط والممزوج بحبات المطر الساقطة بشدة وأنا قاطعاً المسافة نحو المدينة. كنت أبكي أبي جاسم ورفاقي الخمسة.
الأوباش كان يهزجون فرحين بفعلتهم النكراء كما فعل أجدادهم بالثائر الأزلي الحسين بن علي.
فكففت دموعي وتمتمت بثقل الوجع انتهت تلك الحكايات الليلة التي كنا نطرد بها الزمن المتعفن لكن حكايتك سوف تظل خالدة فأومأت برأسي هل كان احتراماً للأبي جاسم أم مقاوماً للمطر الساقط بقوة فوقي وأنا أوجه بوصلة قلبي نحو الغرب.
سمعت بعدها عدة حكايات عن أبي جاسم منهم من أخبرني بأنه عندما مثلوا بجسده وقطعوه نثروه بعدة أمكنة فأنبتت مكانها شجراً أخضراً عملاقاً يذرف أشواكاً حادة قاتلة في كل سنة من آذار يوم مصرعه سبحان الله لا تصيب إلا النجس، ومنهم من قال إنه صار بستاناً للنخيل العملاق لا يثمر إلا تموراً سامة في آذار من كل سنة، وكلما قصوا هذا البستان زادت نخيله حتى أحاطته الحكومة بسياج محكم، لكن الناس تزورهن بعد, وهذا بعهده من أخبرني، والرواية المؤكدة لي بأن أصبح طيوراً ضالة تنفث نعيقها حول البلد وفي كل آذار تحوم حول نفس المكان الذي غدر فيه تكون دورات أبدية فيحتشد الناس فتلقي بأرواحها فتجمعها الناس لتكون لهم غذاء يتخموا به بعد الجوع لكن سبحان الله ما إن يأكلها نجس يموت بالحال.
وأنا أستمع للمحاضرة التي دعيت إليها في أحد مراكز تجمعنا بعدما بدلت القصب بالغابات والهور بالبحيرات فأصبت بصدمة كما ضربة رعد أو زلزال ما إن ترامى لي وجه القاتل وهو متصدر للديوان ليحاضر بأعلى صوته من أجل الحرية وضرورة معاقبة الخونة؟
دراجة بصرية أو لازم
كيف ليدي الآثمتين اللتين أطبقتا على جسده المفتول كيف لي أن ارقد في هجع الليالي وأنا أراه بجماله الأسمر كرماد الفجر وأنا اقلب بكفي الفراغ والزمن المدلوق كزيت حار والمنساب على صدري كلما قدم الليل بصخبه الصامت كلما تتراءى لي عينيه الواثقتين وهو يحدق في عيني الراجفتين وأنا احتويه كقدر موهوم او كصيد ثمين ما الذي دعاني أن ارتمي بحضنه لآسره واترك كل هذا الجسد العظيم بين أيديهم الدبقة والتي انقضت عليه كفريسة وحيدة في وسط فاء مكشوف كصحراء نفسي الظامئة إلى التوق والانفكاك من هذا الكابوس الذي يعتريني ما أن أضع رأسي على وسادتي المهجورة , أراه بهيئته النمرية وهو يهز رأسه بإيماءات كمن يعاتب حبيب عجز عن الكلام أو تاهت منه الكلمات بزحمة الحدث .
- دكتور كنت ماشيا وسط الطريق سمعت دوي اطلاقات وتأوهات أحدهم فأمسكته لم يفعل شيء صرخ في وجهي المرتبك بصوت واثق أن اتركني وإلا.. وضع مسدسه على رأسي لكنه لم يفعلها وهمس في أذني والتي كانت كسيل جارف أن سوف تندم لأنك أهديتهم وردة بوسع المدينة .
وهم يقتادوه كخيال موثوق بصق في وجه أحدهم عندما صفعه فكمموا فمه فالتفت إلي بنظرته الأخيرة, لا أعرف ما لذي دفعني أن اقذف برأسي اسفلا لأتلافى تلك النضرات لكنها يا دكتور لا تبرح الذاكرة إنها كالألم أرجوك إنها كموقد لاهب تعوي في فضاء نفسي وكذئب مبحوح تحلت عني البراري الخضراء والمراعي المفتوحة, حتى أسراري المعزولة في لاوعي الذاكرة بدأت تتكشف للمارة.. للناس.. للذين يقهقهون عاليا وأنا أصرح بالذاكرة في وضح النهار في الوقت الذي اضرب من أحدهم وأنا أذكر اسماً مخيفاً بالسب في ظلام أيامهم, هكذا هي الأيام تتوالى في الوقت الذي توقف فيه زمني منذ أن سلمته بأياديهم الوسخة, لم أكن اعرف بان ذلك الفتى الذي امتطى الموج الهائج كبحار شجاع متمرس رغم خبرته القليلة. كان كل الذي قصة لي الحادثة يوشوش في جسدي المضني بكلمات متقطعة ومتصلة بأنه كان يملك محلا" متواضعا لتصليح الدراجات الهوائية, وهو يتجول باستمرار الليالي العتمة بإحداهن.
عندما أخذوه ركضت باتجاه السابح بدمه والملقى على حافة الطريق رأيته بقامته القصيرة والتي أشبه بقنينة فارغة فضربت على صدغي فتقاطعت خطوط الذاكرة والاستنباط فعرفت حينها ماذا جنت يداي القويتين وبشاعة فعلي وحينها عرفت مغزى همساته ونظراته الهادئة ولماذا لم يطلق على أعزل رغم الدناءة.
كان كبيرا رغم عمره العشريني, كان يجسد بطولة منسية في أقبية الوقت وهو يتجول في دراجته ليملأ فناء الحرية برائحة عبقة وليرغم الذين استباحوا البلاد عند مغيب الشمس بأن يدلفوا البيوت المحصنة ورغم الوجع المتوزع كغبار كان كنخلة أو كعمود ضياء يشرأب بسلاحه المخفي ودراجته القديمة ليقف وبلا ارتباك أو رعشة يد ليضرب الأول ثم الثاني ثم الثالث ثم الرابع ثم الخامس ثم السادس ثم الأخير لأسلمه كطير جريح في قبضتهم المحكمة..
- دكتور دموعي ليست سهل المنال وأنا اذكر تلك اللحظة والتي أشبه بشهاب متناثر لا.. كنهم اقتادوه بعيدا وكذلك أخوه في السادسة من عمره وكل عائلته بسبي يا دكتور كان بإيماضاته اليومية يضرب ويختفي بالزحام المثقل بالهم لكن ما بال تلك المرة المظللة كعيون داكنة, والتي قلبتني هكذا.. هل لك يا دكتور أن تمنحني النوم وتمنح للازم الحياة.
شموس على ضفاف رصيف
الشارع المكتظ بالزوار أراد إثنائه عما كان بصدد فعله فعلى جانبي الطريق المارة المتأنقون والعطور التي تشذه بشذاها اللامنتهي اقرب إلى ذكر حبيبة أو ساعة احتراق قرب قلب محب كان يترصدها يوميا وهو يمارس واجبه المعتاد وكانت تأتى بصحبة أحدهم.
وللفتتها التي ترمقه بها وهو ينادي على المارة للتبضع تجعله يشق صمته المتأزم بين خلايا القصب ومعاودة الواجب كانت بالعمد تتوقف عند بسطته تأخذ علبة سجائر وقلبه.. وكالعادة يدفع الذي يصحبها فينظره بشاربه المزموم حول شفتيه ونظرته البدوية التي تبعث في نفسه الاشمئزاز كل يوم بدوي جديد!! ذات مرة دست له مع النقود رقم لهاتفها. عندما حاول أن يدير قرص الهاتف بأياد مرتعشة تراءت له صورة سيد علي وهادي وقاسم بصوته المبحوح وهو يحاول أن يوزع كل قدراته الممكنة فوق رؤوسهم والهدف أين يمكن أن يكون لو رن الهاتف على السماعة بالطرف الآخر ربما هي من تجاوب ربما أحدهم ولماذا يداه ترتجفان وقلبه تركض خيوله مسرعة هكذا, أهو بهذا المقدار من الجبن لو حلت ساعة الانقضاض يا ترى ماذا ستفعل رجلاه هل ستنطلقان عكس اتجاه الريح أم سوف تستحم بدم الفريسة؟ لا لا هذا الخوف فقط لأنها امرأة وأي امرأة من إياهم؟ وبدون إرادته ضغط على قرص الهاتف مرة أخرى وما أن أدار الرقم خمسة, إنها خمسة أيام قضيتها هنا والوقت طويل أتسقط بهذه العجالة !! ولم لا ألا يستحق أمثالنا أن يتدفئوا بأحضان امرأة ياألل....آه كم احتاج إلى شفتين تعلمني بداية النطق, كم احتاج إلى جسد يحتوي كل هذياني ويغرقني برطوبته حتى أنسى القصب والبعوض. فترك سماعة الهاتف وانضوى يقلب بين جنبات الفراغ عن سلوى فانغمرت عيناه في سطور لكتاب متاع الحياة.
الساعات الصباحية المنسابة كسيل فارغ تعبّئ حياته بضجيج اللحظة وهو يتفقد ذخائره بمكانها المنسي.
–علبة سجائر مع قداحة.. تفضل.
البلدية البلدية..
حمل مكونات بسطته من السجائر والقداحات وعلب غاز القداحات وقناني البيبسى المهرب وبعض علب الشامبو الأوربي كان يركض وهو يتحسس روحه المحلقة بأجنحة من خوف.. إنها البلدية وهم رجال بسطاء استمدوا نفوذهم وقوتهم الفارغة من بقايا الطريق.. لما كل هذا الرعب؟ ما الذي يمكن أن ينتابني في تلك الساعة ؟ وبالهدوء مجددا انهمرت مجاميع الناس كشلال ملون وانهمك في عرض بضاعته ولإكمال التضليل تشاجر مرة مع صادق الذي بقربه لأنه سرق زبونه ومرة مع تحسين والذي يبعد عنه بعدة أمتار لأنه يعد عليه زبائنه ليتدخل أبو احمد ويفض النزاع وهكذا الأربعة زوبعة من المعارك يوميا.
سجائر سو مر.. دخن سكارة تركض وراءك كل بنات الحارة.
اشرب بيبسي مستورد وخدودك بالحال تتورد.
هكذا كانوا يتناوبون المناداة وبعيون صقرية يرصدون المارة، وبإحساس خفاشي يلتقطون الأحداث، وبشهوة ذئبية ينتظرون ساعة الانقضاض, كانت كلما تلتقي عيونهم القلقة يهدئها أمل إنجاز مهمتهم والتي تركوا من اجلها اخضرار القصب وعذوبة المياه وحكايات الأصدقاء الليلية وفراش الدفء الزوجي وخطورة غياهب السجون واعتقال النسوة, خلفوا كل هذا على ضفاف الأمل أبحروا بشراع الشجاعة, بنفس متلهفة لتروي التاريخ ظمأ بطولة، كان لجعفر وهو يتلوا عليهم من صفاء نسماته العذبة وينبوع تضحياته المتواصلة الأثر لان يرتقوا سلم السماء محلقين بفضائها الأزلي ولتسقط كل إرهاصات الخوف في قاع بعيدة بعيدة..
لماذا لم تتصل بي بالأمس انتظرتك بطول المساء..! هكذا همست وبتغنج الغواني مع أحد المارة قرب بسطته وهي ترمقه بطرف عينيها الواسعتين والمرسومتين كسمكتين فارتين, وعى اللغز أنها تقصده نعم وبالتأكيد زم شفتيه بشهوة الجائع وعينيه متسمرة على أقدامها وهي تدق أرضية الرصيف مبتعدة رويدا رويدا......
مرت أمامهم سيارة فارهة يداعب سائقها بتفاهته المعهودة وعنجهيته السوداوية الفتاة التي بقربه وفي المؤخرة قرد بهيئة إنسان يتربص المارة على ضفتي الطريق ويحصد الأجساد كعداد آلي ما إن يشير على إحداهن حتى يرمي السيارة التي خلفهم بإشارات عبر جهاز لاسلكي فيترجل اثنان جسيمان لهما قامة الوحوش وشبق القرود ويحملان فوق شفاههما نفس الشوارب المزمومة ولنظراتهم رؤى بدوية يحاصران الفريسة تركب معهم مضطرة خائفة تارة وفرحة تارة أخرى, يتكرر هذا المشهد اليومي أمام الجميع كل يوم قبل أن يحل الأصيل وينثر حمرته الدموية عليهم وليبدأ الليل سمره الحزين ولتدب الضباع المريضة رقصتها النارية لتنهش بقايا حياة........
للظلام الليلي حلم طفولة ولرائحة الحطب المحترق وهو يخترق الأنفاس ساعات خدرية وللشاي ما أن تدق كعوبه أوقات قدسية، ولهدهدت الماء المتمايل كرقصة غربية ولكثافة القصب المتفرع كآلهة أسطورية، كل هذه اللوحات تنغل وبقوة وتطفو ملحة فوق براكين الأفكار المحطمة للنوم الليلي, كم كان يحلم بضوضاء المدينة هاأنت هنا وأمامك كل الضجيج وبقبضتك كل الأنوار ولروحك كل الانفلات !! لكن ما بال جعفر بصوته النبوي يكبل أحاسيس الانفجار ويجعل عيونه لا ترى إلا ساعة الانطلاق, هكذا يتقلب ببطء مسرحا عيناه بين صورة لجعفر وجهاز الهاتف وخياله يمرح بين القصب بزورقه الأثرى وبين الجسد اللاهب للأقدام المنفلتة على رصيفه الضيق.
الأيام تمر متخبطة والأدوار تلعب على مسرح الرصيف بإتقان والمعلومات تتراكم وانقذفت كالنيازك من قصبهم حان وقت عودتهم فقد اشتاق البردي إلى أحضانهم واشتاقت الأسماك لأفواههم واشتاقت الحكايات الليلية لمسامعهم .
الأربعة هناك يصلون حتى الصباح ناموا بهدوء المطمأن فوق أفرشتهم الخشنة اعتلت الشمس منتصف النهار لذلك اليوم الشتائي المشمس فأنهوا صلاة الظهيرة كل دقق على سلاحه ارتدوا البذلات الرياضية الملونة, وضعوا أسلحتهم وعتادهم في الحقائب الرياضية والممدة فوق ظهورهم, ما أن تراءت لهم السيارة الغالية الثمن بلونها الخمري المظلل وما أن هم بأن يقفز وسط الطريق حتى رآها وهي تدق بأقدامها الرصيف مسمرة عينيها على امتداد الباعة وفي اللحظة المنقضة كوثبة نمر رؤي بجنبه فقرأ توسلاته الحياتية تطفو على ذقنه المرتب وأحس بشعاعه الشاذ يغزو أعصابه مما زاد في شبقه بأن يقتل كل إحساس التسلط والوقاحة والشذوذ فتطايرت منه أشواك الموت وهو يصرخ :
اضرب لأنتقم لراءنا العربية من ثغائك ......
اضرب لأثكل كل سرقات أمك الشقراء ......
اضرب لأسكت قهقهات أبيك العصابية .......
اضرب فأحطم القيود المنشورة على شرف نسائنا .......
اضرب فانتقم لكل زنبقة حمراء بريئة....... اضرب لأطمس شذوذك في قعر ظلامنا ......
اضرب لأزف بشرى رحيلك من خيامنا...
فقطع صراخه الهرج الذي عم الأرجاء فقفز كطير فتعثر بجسدها المسجى والذي لا تزال تحتفظ عيناها دهشت الحدث وغنج المومسات فتناثرت على ضفتي الرصيف وفوق مكان الباعة دماء الهزيمة فانطلقوا بسرعة الفرح فامتلأت خياشيمهم برائحة الحطب المحترق ورنت في آذانهم كعوب أقداح الشاي وهي تدق واحتواهم القصب بكل كثافته.
الوطن كما رآني
لا مفر من العراق إذن ولأني لا أزال أحمل في ذاكرتي المؤلمة صورة الأحجار السبعة أو الألف وأنا أرميها حين سرقت نفسي ذات مساء وأطلقت عجلات قيادتي بخطىً مرتبكة معاكساً لاتجاه تربتي ذاكرتي..
وكما كانت رحلتي إلى منفاي الاختياري أو القسري لا فرق بلفظ المفردة عبر محطات وذكريات كانت عودتي كذلك واسمحوا لي أن أتوقف وإياكم عبر هذه المحطات فما يكتب اليوم يصبح ذكرى منسية أو ملحة لكنها سوف تحمل عبقها حين تنفض عنها غبار الأيام وكيف لا وهي التي احتضنت مشاعر عودتي إلى الوطن.
المساء ليس ككل المساءات مملوء بالترقب الجميل الذي يستبق الساعات ونحن نسبح في ضوء للفجر في موسوعة أحلامنا ونحن نتلوى منحدرين بين سفوح الجبال أو سعة ذكرياتنا، امرأة بقربي تعج بذكراها عن الأحباب والجبال، تسابقها وهي تسابقهن، لا يمكن لحنيني القادم أن يسلب قدرتي في البكاء أو في الطيران أو في ركضي المتوازي حول نفسي الهائمة عشق بامرأة أو وطن لم يكن له لعبة غير إيذائي. الشوارع تلاحقنا كأيام سابلة أو كلوحة تنتظر من يضع ألوانها القرمزية أو القمرية أو شيئا أشبه بوجه أمي في ليل بلا ضوء بلا قمر، هل يتراءى لي العراق ضوءً قمرياً أم شحنة عاطفية تقفز بين العين والقلب؟..
سوف يحين دوركم أو دورنا لنقتحم الحب ونضيء عتمتنا بأوجه لؤلؤية أو بقصائد حبلى بحب أبدي..
هل تجرأون على تقبيل حبيبتكم في منتصف النهار مثلي؟
نتوقف في المحطات وتتوقف محطات الذاكرة صديقي الذي تركته بصحبة بندقية في بساتيننا الهاربة أراه أمامي محطم الأجزاء ذاك الذي كان يبعث فينا موجة الكفاح منحني الظهر ينظر إلي نظرة ساهمة هل تراه يسترجع ذاكرته بي أم تراه يلفظ أنفاسه الأخيرة فوق أوجاعي الامنتهية وأنا البس رداءا غير بال، زميل ذاكرتي هل تقاسمني الحزن.. الحنين.. اللوعة، أم تراك تحدث الناس بمأساتك كانت حياتنا رهن إشارتك أتذكر تسكعنا الليلي ونحن نقفز بخفة خوفنا فوق أسوار بطولاتنا لنحطم حلمهم الظالم ونعود وبأيدينا غنائم لم تكن تعنيني إلا أنها لا تزال تثري ذاكرتي وأنا أودع حلما أبديا، وأنا سوف أطرق أبواب أسألهم عن ذاكرة فقدتها ذات فجر، اسأل عن ملامحها في العشرين ترسم البسمة فوق القلوب الحرة، أمهات سيحضنني ويهمسن في أذني هنا ذاكرتك ووطنك ويشرن على صدرهن النابض.
تساور نفسي عدة هواجس وأنا أنظر إلى السائق الإيراني الذي لم يأخذ كفايته من الترياق والذي بين الفينة والأخرى يغفو بحضن الموقد مما اضطر صهري مرافق رحلتي أن ينوب عنه السياقة، الهواجس التي كانت تنتابني نفسها وأنا أضرب موعد في الطريق العام مع إحدى جاراتنا. بعد أن تعدل المزاج تسلل الجمال في وسع المنطقة التي نمر بها أو هي التي اخترقتنا إلى مشاعري دفعة واحدة، كسيل هائل فصابني ذهول هل تلك المناطق الحدودية بهذه الروعة أم هكذا خيل لي؟ هل حقيقة هي بذلك الجمال أم أنا أنظرها بمنظور الجمال النسبي؟ حيث كما يقال كيف تكون نفسيتك يكون انطباعك. هل هذا الذي دفع بأهوجنا أن يزج بشبابنا الجميل بتلك المحرقة لينال جمالا ليس له؟ وكنت أتساءل لو تم الاستيلاء على هذه الأراضي الكبيرة وهي في قاموس المستحيلات ترى ما سيفعله بها؟ أيبني قصورا ويحرم النظر إلى روعة الطبيعة ربما؟..
تنحدر بنا السيارة بعدما تسلقنا الجبال أثناء تسلق الشمس جوف السماء فزاد من لهفتي للغناء.
لقطة: توقفنا عند نقطة تفتيش إيرانية عندما عرف أننا عراقيين ردد بعربية مكسرة إمام رزا زيارت مقبولة، التماس دعاء وفم يبتسم، وإشارة احترام بالانطلاق هنا تذكرت لماذا حاول مجنوننا اجتياز الحدود بتصفيق عربي. تنبسط الأرض وتنبسط ذاكرتي أو ربما ذاكرتكم أو ذاكرة وطن لم يحترف الفرح..
مهران: بضعة دور بدائية تحيطها صحراء كيف أتت على الخريطة؟ وهي تبحث عن أجوبة وأشباح ملأوا ذاكرتها الموجوعة فاحتضنت أذرعها مئات من شباب مثلي كانوا يحلمون بطفل يتسلق أكتافهم بعد فراغ الظهيرة أو امرأة تعطر أجسادهم المنهكة أو ارتياد لمقاهي يكثر فيها اللغو وشرب الشاي وكسر أوقات زجاجية.. لكن ما بال عجلة القيادة السفلى لفتهم برداء اسود لتلفظهم في خلاء يشبه صحرائهم لكنه لا يشبههم.
خالي هل صحيح أنت مدفون هناك؟ هل تراني اسمع صدى أنفاسه المرحة، وأنا انتظر دوري لتجاوز الحدود؟ الحدود التي كان مجرد التفكير بها تنزل بلاء داكناً وترسم خطوطا قانية لدماء النظرة وإن كانت خاطفة هاأنا أنتظر وأغرد بأعلى صوتي لأني لا أخاف الوجوه البدوية بعد الآن، لكن مهران لم تسلم من العراقيين في حربها وفي سلمها، من تواجدهم وبأصواتهم العالية والشاتمة وتذمرهم المتواصل والشتائم تسري بين الناس المنتظرة العبور إلى الضفة الأخرى، أحدهم أنا هنا خمسة ساعات لا نستطيع الذهاب إلى العراق يصرخون ويشتمون وتناسوا بأن هناك دولة وعلم وحدود وأكثرهم قدموا إلى إيران للزيارة بلا أوراق وبلا جوازات سفر. فقلت هذا أول الغيث عدت يا وطن.
الوطن: حشود محشوة بمئات المتجمهرين الراغبين في الدخول إلى إيران لغرض الزيارة التي منعت عليهم منذ أمد طويل. أما الإيرانيين فتراهم أسرابا متخفية من أعين الشرطة الإيرانية حتى يخيم الليل ليستتروا بظلامه ويكونوا صباحا عند رأس الحسين (ع) وحدود غاضضة النظر للعراقيين لكني لم أرى إيراني متذمر رغم مصرع الكثير منهم. لم أعِ ماذا افعل اركض من هنا وهناك. هل كنت أتخبط في حلم من أحلامي التي طالما راودتني.. حلم العودة التي لم تكون كما تخيلتها في ذات يوم عبر ارض جميلة تدعى المطار.
العودة: حدود مرصوفة متربة وشمس حارقة زادت سمرتي فرحا استنشقت تراب الوطن ولسعتني أشعته، فتقافزت حولي واخترقتني نفسي القديمة تلك النفس المملوءة بآلاف الأحقاد وآلاف العقد المركبة، وآلاف الأحلام. فبعد هدوئي المطمئن حتى مهران تشاجرت مع أحد السواق الذي أراد أن يقلنا إلى كربلاء لقاء مبلغ باهظ بعد أن تركناه وذهبنا مع أحدهم بلا نقود ابتغاء مراضاة الله لزوار كربلاء. فاستشاط السائق الآخر غضبا لأنه لم يصدق في عصر المصالح، في عصر المادة، في جيل الموت المشؤوم.. أهناك من يرفض الربح وبأي وسيلة. فبعدما خلصني والحمد لله مجموعة من الناس من أيادي السواق سمعت أحدهم يزعق الإنسان يموت من اجل وطنه وماله وعرضه فرسمت علامة استفهام وأنا المجروح بتلك المفردات لعهد ما يزال متخفيا بين ثنايا الوطن؟ الوطن الذي رأيته حرا يسابق الصحراء والشمس رغم قساوتها تبدو حانية متلألئة فوق جسد الأرض الممتدة من شوقي إلى اللانهاية حيث الآمال المرتقبة تنتظرني لأحترق بلظاها المتشظي فوق رؤوسنا المصدومة بهول الفرح. الوطن يتدحرج أمامي كقرص فارغ والجبال تتهاوى خلفي وأنا أسير بعمق الوطن. في القرب مني امرأة لم تسعها فرحتها لكن هناك غصة عالقة لها بذرة خوف مترعرعة في مجهول مصقول بهوة تاريخية تمتد لخمسة وثلاثون سنة، تجرجر خطى قلبها والمتبقي به فسحة للفرح بين تربة عزيزة ضمت غربتها وابن ينتظر حضن والدته رغم انحناء الظهر.
هناك بقايا ظلال عميقة تبلي الذاكرة وبقايا قصص معلقة على أغصان للريح، تلهث بنا العجلات تتقافز مسرعة لتقذف بالهواء خلفها لتقترب رويدا نحو دقات قلبي المسرعة بخطى الحزن المتراكم عندما خلفت أشعة الشمس الحارقة فوق أجسادهم الناحلة وحملت معطفي الأسود على كتفيّ المنبسطتين ورأيت الجبال سهلة المنال.
كربلاء: مدينة تسري بالعروق.. بالدماء.. بالبكاء.. بالهم.. بالقنابل المفجورة والمتحفزة للانفجار.
الصباح: الخامسة فجرا تتهادى إلى سمعي رؤى دينية افتقدها شغاف القلب، ولي موعد روح وعشق متناهٍ مع الطيور في سطحنا الأعلى لا تزال تنتظر قدومي أومأت لها أن حلقي بحرية العائد حلقي وامطري ذكرياتي بوهج مشتعل من بقايا حنين لم ينته.
البساتين: هل هي تلك النخيل التي افتقدتها؟ أراها صفراء موحشة أين مني ذلك الحلم الحزين الذي كان يوقظ بي مفاجع الغربة.. الغربة التي لم تترك لقلبي فسحة من الفرح، لم فقدت البساتين روعتها؟! بستاني الذي طالما حوى كل جنوني ومغامراتي ودهشتي وهروبي محرم علي دخوله متحصن به أحد المطلوبين لأنه بحكم الفتوى الدينة لا أحد يود أن يناله، لكني عزيت الأمر لشيء آخر هو أن الخراف لا يمكن أن تصبح ذئاباً هكذا مرة واحدة.
النهر: عميق ومغرٍ وشبقي ووافر ولي بين كل زاوية منه ذكرى يوم كنا هناك صبية تقفز بانتشاء الظهيرة القائظة لكني لم أرَ حيدر مقابر جماعية، وهاب شهيد، شامل تاجر، علي مجنون، جاسم مجهول، أحمد لاجئ، لكنه قفز من فوق الجسر مرة ثانية.
المدينة: صاخبة بالناس.. بالزوار.. بالتجار.. بالأحزاب.. برداءات متغيرة في منطقتي حيث كنت أبيع الخضار سألت أحدهم ضمني إلى صدره طويلا ما الفرق بين اليوم وأمس قال كلاهما سيان لأني لا أفرق بين الدينار العراقي والدولار لكني سعيد جدا بأن الظلم ولّى من غير ما رجعة.
فلول النظام: منتشرين كزئبق في المدينة وأنا أتنقل بدورة دينية معهودة في كربلاء رغم حزني لوفاة مؤسسها الحاج عباس لأنه جزء من الذاكرة الدورة التي كانت تصحب فيها كل المأكولات والحسنات والحسناوات والنساء الكبيرات وأمي. هذه المرة حين ذهبت لا تزال على عهدها السابق لكن بإضافة المرتزقة السابقين، حين رأيتهم يطيلون الوقوف أمام الله؟
الاضرحة: نسمات روحية تفجر آلاف العبرات وتضج بها آلاف الدعوات والشبابيك احتضنتها واحتضنتني بكيتها وبكتني في داخل الأضرحة مصلحتان متضادتان خدمة الأضرحة وإحساسهم المر هذه المرة بفقد وظائفهم المربحة والتي بنو منها قصورهم وبذخهم بعد تواجد وبقوة جماعة الصدر كما يحب الآخرين تسميتهم واللذين يضعون حدودا صارمة لذلك ولهم عيون حادة تترقب خادم الأضرحة ناهرة إياه. وقد حارب خدام الأضرحة الفكرة الجديدة بفصل النساء عن الرجال داخل الحضرة، فسألت أحدهم لماذا قال الزائر والزائرة لا يعطون ما تجود أياديهم إلا حين يكملون الدوران يعني سيكون هناك نصف دائرة لكلا الجنسين.
الناس: كم هائل من التعب المضني يحنو على ظهورهم المحدودبة والرحمة المترامية الأطراف تضيق أبداً نحو السماء العالقة فيها أذيال الله.
الأمن: فوضى مرتبة لم أسمع إلا طلقات متهاوية تضيء البساتين من بعيد مرة لفرح ومرة لسكارى أثقلتهم الخمرة ومرة لثأر كان نائم أوقظه الانفلات ،في داخل إحدى الأضرحة صديق مدرستي مسؤول الأمن رأيته رغم مفاجأتي له لم استطع استبيان الفرحة التي كانت مخزونة في داخله، فمرة يضمني إلى صدره ومرة يغضب على أحد اللذين يعمل معه لأنه ضرب سارقاً. وسألته لماذا قال تعليمات الأمريكان بأن لا نضرب أحد وإلا العواقب وخيمة رد الآخر الذي عرفته من دقته الخضراء على أنفه: لكن هذا القانون ولد استهتار بالأمن والنظام لأننا شعب تعود منذ الأزل على أن لانساق إلا بالعصا.
الرياضة: أجساد منهكة لعضلات مفتولة زميل لعبتي بطل العالم يوم كنا أبطال يسكن في بيت للصفيح ويبكي فراقي، وآخر حمل وساما عوضا عني يسكن في غرفة جنب قاعة التمرين لينظف ما يوسخه أبطال اليوم، الصورة الأخرى أشباه الرياضيين اللذين لا يحترفون أي شيء إلا الصعود في سلم التملق يملكون ويستملكون الكلمة والجاه والمنصب. تجشأ عدي ليفرز من قيه طحالب لا تزال تنظر إلى المسؤولية الرياضية كأيام زمان.. زمان الاستعلاء على ما هم من دون باستثناء أولاد العوجة نفس الوجوه القميئة رأيتها تنافس في الحلبة بنفس النشاط لكن برداء آخر مع وجود بعض الاستثناءات تصارع الهواء بحثا عن نفسا نقيا.
الأمل: رأيته يسطو بوجه المملوح على سماء المدينة ينزل نحوها بحذر طير والألسن تتقاذفه بقوة ليرسم خطا مائلا نحو الأعلى والبسمات لا تفارق الوجوه المصدومة بهول الفرح مثلي بزوال النظام.
التجارة: تزحف بأذرع أخطبوطية، تقذف بكل شيء ممكن في وسط المدينة والناس مسرعة تبني أعشاشها المفرغة بعد استلامهم لرواتب متأخرة بالدولار.
الذكريات: أطياف ملحة.. أطياف خاطفة لا اذكر لبعدها هل أنا عشتها أم كانت مجرد؟! أحلام هكذا مرت على فرحي وحزني الذكريات. أصدقاء اعتزلوا الطيران بوجوههم الكالحة يفتشون عن خبز الغفلة، أصدقاء احترفوا الطيران يفتشون أبدا عن حمام للانقضاض، حبيبات يجرجرن بأيديهن حطب مستقبل قادم ربما لكن قلوبهن لا تزال تثمر حباً.
العودة: هاأنذا الملم أشلائي الأخيرة من رحلة طالما انتظرتها لوطن يسكنني لأعود لوطن أسكنه فاقفز في رحلة اسمع سائقها يردد مهران.. مهران، فتهزني الحافلة لأصارع ساعات الرحيل فتسري في جسدي موجة حزن أزلية لماذا هذا الاغتراب ولأجل أي شي؟
8.الفهرس يكون كالتالي
1. حين سرقنا الانتفاضة
2. انصارات وخسارات
3. حين دفنا الاصدقاء
4. عندما خسرنا العودة
5. حين خسرنا النهر
6. خسارة اخر امل
7. في طريقنا للهروب
8. اوراق منسي
9. رسالة من الخجل الى المنسي
10. ساعة حب
11. شموس على ضفاف رصيف
12. رائحة القصب او ابو جاسم
13. دراجة بصرية او لازم
14. الوطن كما راني
الإهداء
إليهم وحدهم الذين صرعوا ودفنوا، أو نسوا، أو صرخوا في أرض محرقة اسمها العراق.
كتبت هذه اليوميات والقلائد ما بين 1993 ـ 1999
الا الوطن كما راني كتبت بعد سقوط النظام العراقي
العراق ـ بيروت ـ سويسرا
Click here to enter your page's footer (optional).
أيتها النفس اللئيمة أينما أرسيت قواربك تطمعين في بحر أوسع وكلما خطوت خطوة بطيئة دائماً تودين الفوز بالسباق.