Sabri Al Nagridi  صبري النجريدي

أحمد صبري النجريدي - فترة الظهور 1924 - 1928

بحث وتحرير د.أسامة عفيفي

أول ملحن لأم كلثوم وأول من وضع لها ألحانا خاصة بها بعد أن كانت تغني القصائد القديمة المتداولة. سجل عام 2019 مرور 95 عاما على أول لحن لأم كلثوم عام 1924 ولا يزال صوتها يملأ الأرجاء العربية، ليس كمجرد صوت وإنما علامة كبرى في مسيرة الشرق الفنية ساهم في تألقها كوكبة من كبار الفنانين بألحان خالدة ..

ترى كيف كانت البداية؟ وهل كانت تنبئ بالمنزلة العالية التي وصلت إليها كوكب الشرق محاطة بحب الجماهير الكبير عبر عدة أجيال حتى الآن؟ كانت البداية مع الفنان الذي صنع أول خطوة في طريق أم كلثوم الطويل .. أحمد صبري النجريدي

خايف يكون حبك ليّ.wmv

اختلفت إحصاءات ألحان النجريدي لأم كلثوم حسب مصادرها ولكنها تقع جميعا بين 13 و 17 لحنا ما بين القصائد والطقطوقة والمونولوج. وأهم ما في رحلته مع أم كلثوم في بداية حياتها الفنية 1924 - 1927 أنها منحتها جرأة أكبر للتعامل مع الملحنين الآخرين واحتراف الغناء بصفة عامة

كان "الدكتور" أحمد صبري موسيقيا إلى جانب مهنته كطبيب أسنان، تعرف إلى أم كلثوم في بداية استقرارها بالقاهرة ووجد في صوت أم كلثوم ما شجعه على التلحين لها

خايف يكون حبك ليّ

تساءل الزميل والصديق العزيز الدكتور عصمت النمر عن سبب ذكر أم كلثوم له بالموسيقي "الهاوي"، وكذلك وصفه القصبجي، رغم جودة ألحانه وحداثتها، والسر أنه كان الوحيد بين الفنانين الذي لم يكن يرتاد الأفراح والليالي يتكسب من الغناء أو العزف مثل أم كلثوم وسائر الفنانين الآخرين، الكبار منهم والصغار، أي لم يكن يعتمد على الفن كمصدر عيشه لأن لديه مهنة أخرى تكفيه ذلك

ولا يمكن أن يكون هذا الوصف بقصد أنه لم يصل فنيا إلى مستوى الاحتراف وإلا لما قبلت أن تغني من ألحانه كل هذا الكم، ولما تذكر القصبجي ألحان النجريدي بالمرة وهو الذي تطوع بذكر قائمة طويلة لأعمال النجريدي في حديث صحفي رغم أنه لم يسأل عنها

الفل والياسمين.wmv

الفل والياسمين

في ذلك الوقت كانت "سلطانة الطرب" منيرة المهدية تتربع على عرش الغناء في مصر وخلفها تاريخ فني قوي ليس بصوتها فقط بل أيضا بفرقتها التي حملت اسمها وبتقديمها أوبريتات النابغة سيد درويش على المسرح. وأحاطت ذلك كله بشبكة علاقات قوية مع أصحاب النفوذ والباشوات. كان من الصعب على أم كلثوم منافسة منيرة التي امتدت نفوذها إلى كل شيء، لكنها وجدت طريقا غير المسرح وغير الجمهور، فقد بدأت تغني للعائلات في حفلاتها الخاصة، وشيئا فشيئا اتسعت دائرة أخبارها وأعمالها

من بين ألحان النجريدي لأم كلثوم قصائد مثل "كم بعثنا مع النسيم سلاما"، و"مالي فتنت بلحظك الفتاك" وهي ألحان عرفت بجودتها العالية ونسب تلحينها أحيانا بالخطأ إلى الشيخ أبو العلا محمد

أشكي منك.wmv

أشكي منك - فتحية أحمد

روت بعض المصادر حكايات عن علاقة عاطفية جمعت بين أم كلثوم والطبيب الملحن، وأن هذه العلاقة التي لم تتوج بالزواج كانت سببا في ظهوره وكذلك اختفائه. لكن هناك أدلة قوية تفيد بأنه كان ملحنا محترفا لا يعتمد على مطربة بعينها لأنه لحن لمطربة القطرين فتحية أحمد 7 ألحان منها 6 قصائد، ولحّن للمطربة نادرة، وهي من أشهر مطربات عصرها وكانت تشتغل بالتلحين أيضا، وذكرت المطربة نجاة علي أنها تلقت دروسا في الموسيقى والغناء على يد كل من داود حسني، د.صبري النجريدي، صفر علي، ومحمد القصبجي بتوصية من شركة أوديون التي تبنت صوتها (سماعي/ آخر ساعة)

وقبل هذا وذاك لا يمكن لشخص ما أن يتصدى لمهمة التلحين، ويبرع فيه، دون أن يكون قد درس وتدرب لسنوات طوال وعاش حياته فنانا يهوى الفن والإبداع. الخلاصة أنه لا أم كلثوم هي التي صنعت النجريدي، ولا كان هو أول من توقفت عن التعامل معه، فقد فعلت ذلك مع رواد كبار مثل محمد القصبجي وزكريا أحمد

والآن لندع هذا جانبا ونتأمل ماذا صنع النجريدي وماذا قدم من فن، ولنبدأ بالاستماع إلى ألحانه قبل أي حديث، فهي ألحان رفيعة المستوى تستحق الاستماع والتقدير، على الأقل بمقاييس عصرها، ويسرنا بعد ذلك تقبل آراء المستمعين جمهورا أو نقادا

نقد ألحان النجريدي

1. المسجل من ألحان النجريدي

المسجل والمدون والواصل إلينا من ألحان أحمد صبري النجريدي لأم كلثوم يظهر في هذه القوائم الثلاث لأم كلثوم وفتحية أحمد ونادرة. لكنا نود الإشارة إلى أن اختلاف العدد تسبب فيه تعدد تسمية نفس العمل بأكثر من اسم، ومن ثم تم بالخطأ جمع أسماء مختلفة لنفس الأعمال على أنها أعمال أخرى، وبجدول أم كلثوم 4 أغاني من هذا النوع فيكون العدد 13 أغنية فقط لأم كلثوم معظمها من كلمات أحمد رامي. إلى هذا يحتمل وجود أعمال أخرى لدى هواة الفن القديم، لكن من غير المحتمل وجود أعمال غير مسجلة على اسطوانات حيث كانت الاسطوانات الوسيلة الوحيدة لتسجيل الصوت في ذلك الوقت.

2. أسلوب النجريدي بين الأساليب السابقة واللاحقة

أضفنا إلى جدول الألحان خانة خاصة بالأسلوب، والمقصود بها تشابه الأسلوب، وليس الألحان، مع فنانين آخرين، خاصة أن من بعض من أوردنا أسماءهم هنا من الفنانين الكبار كانوا مازالوا يتحسسون طريقهم إلى الريادة والأستاذية في العام 1924، هذا باستثناء بعض الاقتباسات من سيد درويش سنذكرها لاحقا. وربما العكس أصح وهو أن ألحان النجريدي التي سجلت على اسطوانات بأصوات رائعة مثل أم كلثوم وفتحية أحمد ونادرة قبل ظهور أعمال ذات شأن أو اسطوانات مسجلة لهؤلاء الكبار تعني أنه سابقهم فنيا كما كان سابقهم زمنيا، وقد استمعوا لألحانه قبل أن يستمع إلى ألحانهم، ومن هؤلاء محمد عبد الوهاب، محمد القصبجي وزكريا أحمد

3. آثار فن التجريدي في الأعمال اللاحقة

يمكن بالاستماع إلى ألحان النجريدي تتبع آثار ألحانه في ألحان الأساتذة اللاحقين. على سبيل المثال أسلوب جديد تماما يستخدمه النجريدي في لحنه لفتحية أحمد "أشكي منك"، مقام عجم، 1924، يتبناه القصبجي في مونولوج إن كنت اسامح لأم كلثوم من مقام قريب عام 1928، وليس واضحا تماما لماذا اشتهر مونولوج القصبجي وتوارى مونولوج النجريدي. ونسمع مقطعا في "الفل والياسمين" لأم كلثوم، مقام نهاوند، 1925، يستخدمه عبد الوهاب في أغنية " حسدوني" من نفس المقام عام 1928. أما زكريا أحمد فنجد تشابه الأسلوب واضحا في عدة ألحان مثل "أنا على كيفك" و"شفت بعيني" لأم كلثوم و"القلب كان ماله ومالك" لنادرة. والواقع أن الشيخ زكريا لم يبدأ التلحين لأم كلثوم إلا عام 1931 وفي أعمال الاثنين متشابهة الأسلوب ميل إلى الأسلوب القديم الذي يرجع إلى محمد عثمان وجيله

4. تأثر النجريدي بمن سبقوه

يمكن أيضا تتبع آثار الأساتذة السابقين في ألحان النجريدي مثل سلامة حجازي والشيخ أبو العلا محمد في القصائد، وسيد درويش في الأدوار والألحان المسرحية

وبينما تؤكد الملاحظات السابقة موهبة صبري النجريدي الأصيلة نود الإشارة إلى سيد درويش بصفة خاصة والذي توفي عام 1923. مع سيد درويش التأثر يصبح منطقيا لأن الشيخ سيد سابق في الزمن وفي العمل، كذلك الحال مع سلامة حجازي والشيخ أبو العلا. من اقتباسات النجريدي الواضحة من سيد درويش لحن موشح "زارني المحبوب"، مقام حجاز كار، على لحن "يا كروان" من نفس المقام، واقتباس مطلع موسيقى أغنية "أشكي منك" لفتحية أحمد من لحن سيد درويش "عشان ما نعلا"، بالإضافة إلى مقدمات أدوار سيد درويش التي نقلت كما هي.

5. تشابه المقدمات مع مقدمات ألحان سابقة

الإشارة إلى تشابه ألحان مقدمات الأغاني بالذات لا تعني بالضرورة الاقتباس، حيث كان هناك تقليد قديم بضرورة تقديم أي عمل فني بواسطة "مقدمة" أو ما يطلق عليه "الدولاب". والمقدمة كانت شكلا من أشكال الموسيقى البحتة يستعمل في التمهيد للمقام الغنائي في اللحن القادم، واستخدمت الموشحات أيضا والليالي لنفس الغرض.

كانت المقدمات سابقة الصنع والتجهيز، وبمرور الزمن وكثرة استعمالها لم يعد بالإمكان تتبع مؤلفها الأصلي، بمعنى أن الملحن يمكن أن يستخدم مقدمة ما مقام كورد مثلا ليست من تأليفه ليستهل بها أغنية من لحنه من نفس المقام. لم يجد أي من الفنانين إشكالا كبيرا في استخدام المقدمات على هذا النحو بل إن منهم من ألف مقدمات ليستخدمها غيره مثلما فعل كامل الخلعي الذي ضمن كتابه "الأغاني" عدة مقدمات من مقامات مختلفة. لكن الأكثر شيوعا كان صياغة مقدمة على شكل المقدمات المعروفة من مقام مختلف

كدليل عملي على استقلال المقدمة جاهزة الصنع عن اللحن الأساسي بإمكان المستمع اكتشاف الاستهلال بنفس المقدمة تقريبا في قصيدتين لفتحية أحمد من ألحان النجريدي هما "غلب الشوق مغرما" و"فراق الروح" ولا فرق بين المقدمتين إلا في درجة الركوز، ولهذا لا يمكن الجزم في ذلك العصر بأن مقدمة ما نقلت عن لحن بعينه

6. ألحان متفردة

من ألحان النجريدي أيضا ما هو متفرد في اللحن والأسلوب بمعنى أنه لا تظهر بها آثار من سابقيه ولا أخذت عنه من اللاحقين. ويلاحظ أن أعماله المتفردة في اللحن والأسلوب اشتملت على قالب المونولوج والطقطوقة والقصيدة، أي أنه لم يتميز في أحد الأشكال فقط دون غيره، وهذا أيضا مما يثبت موهبته وقدرته على صياغة أشكال مختلفة من الألحان بأسلوبه الخاص. ولكن يمكن إضافة صفة "التفرد" إلى قائمة أطول من ألحانه التي لم يستمد أسلوبها من الأقدم وبذلك تصبح أسلوبا جديدا في وقتها وإن انتقل بعد ذلك إلى أعمال فنانين لاحقين

نأخذ مثالا من الأعمال المتفردة للنجريدي موتولوج "الحب كان من سنين"، فنلاحظ أن أسلوب التلحين أميل إلى المدرسة التعبيرية حديثة العهد في ذلك الوقت ولم يمض على وفاة مؤسسها سيد درويش غير عام أو عامين

7. انعكاس لفن المرحلة

نصل من هذه الملاحظات إلى أن ألحان صبري النجريدي عكست بدقة فن المرحلة التي ظهر فيها وهي مرحلة مميزة في مسيرة الفن، رغم قصرها، حيث أنها توسطت بين عصر سيد درويش وعصر محمد عبد الوهاب والقصبجي وزكريا في تلحين الأشكال المتعددة للأغنية، لكنها في القصائد حملت كل مظاهر لحن القصيدة التقليدي الذي شكله سلامة حجازي في مطلع القرن العشرين وسار على نهجه الشيخ أبو العلا حتى 1928 وكذلك عبد الوهاب إلى 1933، العام الذي بدأ فيه تجديد لحن القصيدة، ثم شاركه في ذلك رياض السنباطي في الأربعينات

8. صوت أم كلثوم

يتضح من الاستماع إلى صوت أم كلثوم في ألحان النجريدي، مقارنة بأصوات أخرى قديرة غنت من ألحانه في نفس الوقت مثل فتحية أحمد ونادرة، أن صوت أم كلثوم كان أصفى وأنقى في خامته كما أن أداءها كان أقرب للتقيد باللحن وأكثر دقة في تفاصيله، رغم أن هذا لا ينفي تمتع الأصوات الأخرى بميزات مختلفة

9. أداء الفرقة

عند الاستماع إلى أداء الفرقة الموسيقية، على بساطة تكوينها، نجد أنها تمتعت بمستوى احترافي عال من الأداء والالتزام بحدود اللحن دون زخرفات أو ضوضاء زائدة، ولا بد أن الملحن له دور في ذلك الانضباط، وهذا يحسب للنجريدي بجانب موهبته كملحن

10. جودة التسجيلات

مقارنة باسطوانات أخرى نكتشف جودة عالية للصوت تبعث على الدهشة لاحتفاظ المسجلات بوضوحها ونقائها لمدة تقترب من المائة عام. وإذا علمنا أن كثير من اسطوانات تلك الفترة فقدت جودتها مع مرور الزمن وأن الاسطوانات المسجلة قبلها بسنوات قليلة لا تتمتع بهذه الجودة نستنتج أمرين، أولهما تطور صناعة الاسطوانات في غضون سنوات قلائل من زمن سيد درويش إلى فترة النجريدي، وثانيهما حرص الطرفين، المطرب والملحن، على اختيار أفضل ما يمكن من وسط لتقديم إنتاجهما. ومن الأدلة على تطور صناعة الاسطوانات ظهور شركة أسمت نفسها "اسطوانات من غير خشخشة"!

11. ظهور النجريدي في فترة عصيبة من تاريخ مصر

يرجح أن الذي ظلم النجريدي ليس ألحانه بأي حال، ولا أم كلثوم كما ذكرنا، ولكن أغنية واحدة من كل هذا الكم والفن ظلمتهما معا هي "الخلاعة والدلاعة مذهبي". فقد أساء كلاهما اختيار العنوان والموضوع وكان هذا كفيلا بوسم المرحلة كلها بخاتم الخلاعة و"قلة الحياء" إن جاز التعبير. أغنية أساءت لتلك المرحلة رغب الاثنان في إسدال الستار عليها نهائيا لأنهما لم يتداركا الأمر في وقته قبل أن يرفضها المجتمع بل ويظل يحكي عنها أجيالا حتى الآن كمثال لهبوط الكلمة والمضمون في ذلك الزمن القاسي الذي لم تسلم منه مطربة أسطورية كأم كلثوم ولا ملحن نابغة مثل النجريدي. تدخل وقتها أحمد رامي ليغير الكلمات إلى "اللطافة" بدلا من "الخلاعة" لكن المحاولة لم تنجح فقد جاءت بعد فوات الأوان

كذلك لم يسلم من تيار ذلك الزمن فنانون كبار نعتبرهم من الرواد مثل زكريا أحمد في "ارخي الستارة" ومحمد عبد الوهاب في "فيك عشرة كوتشينة"، ومحمد القصبجي في "بعد العشا يحلى الهزار والفرفشة". الوحيد الذي أفلت من هذا التيار الجارف كان رياض السنباطي، ليس مباشرة بسبب شخصيته الانطوائية المحافظة بل بسبب أنه لم يلحق بذلك الزمن أصلا ولم يتواجد فيه على الساحة.

اعتذر عبد الوهاب لاحقا عن سابقة أعماله الوحيدة بسلسلة هائلة من الأعمال الوطنية الخالدة، واعتذرت أم كلثوم بسلسلة دينية رفيعة المستوى من أشعار شوقي وألحان السنباطي، واعتذر القصبجي بما قدمه من أعمال راقية، واعتذر زكريا أحمد بلسانه في حديث للإذاعة المصرية قائلا إنها كانت فترة سوداء في تاريخه وتاريخ الفن وأنه اضطر اضطرارا إلى قبول أعمال دون المستوى اللائق، أما منيرة المهدية وعبد اللطيف البنا فقد طواهما الزمن ولم يعد يسمعهما أحد

قطعا ليست صدفة أن تكون جميع هذا الأغاني الهابطة لنفس المؤلف رائد هذا التيار ومحاميه الأول في مصر محمد يونس القاضي. رائده لأنه صاحب أكبر وأشهر باقة من هذا النوع من الأغاني، ومحاميه لأنه دافع عنه بدعوى أنه أكثر حشمة من أغاني الخمسينات! وعين المهزلة أنه تم تعيينه رقيبا على المصنفات الفنية يمرر ما يشاء ويرفض ما يشاء رغم كونه رائد كتابة الأغاني المبتذلة. كيف انتشر ووصل إلى كل هؤلاء النجوم في وقت واحد؟ وكأنه يعمل كالفيروس فيشغلهم جميعا لحسابه؟

هنا نصل إلى قلب الحقيقة وهي أن هذا الموقف ربما لم يكن بمحض إرادة الرجل الذي يمكن أن يكون قد ناله بعض الظلم في ذلك، ولو أنه ارتضى أن يحول موهبته في الكتابة إلى أداة هدم للمجتمع بدلا من أن تكون أداة نقد أو ارتقاء، وإنما كانت إرادة سياسية من إدارة الاحتلال البريطاني والحكام الموالين لها في ذلك الوقت تضغط على الجميع، وكان ضمن أسلحتها إغراءات شركات الاسطوانات وغيرها

تلك هي الفترة التي بدأ فيها طمس أعمال المجدد والناقد الوطني سيد درويش عمدا عقب وفاته المفاجئة عام 1923، وبعد أن أغلق مسرحه بالقوة خلال حياته وأثناء عرض رواياته كما شهدناه في فيلم سيد درويش الذي كتب قصته محمد مصطفى سامي. في نفس السياق اقترح ضابط الاحتلال على سيد درويش مهددا إياه عندما اتهمه بإثارة الجماهير بتلحينه لنشيد "قوم يا مصري" من كلمات بديع خيري، أن يقوم بتلحين أغاني التسالي والفرفشة بدلا من الأغاني الوطنية حرصا على حياته ومستقبله. وكما جاء في نفس السيناريو رفض صاحب شركة الاسطوانات الخواجة "ميشيان" مطلقا تسجيل أغاني سيد درويش لاعتراضه على الكلمات وطلب منه نفس طلب ضابط الاحتلال، لكن سيد درويش رمز الشعب وروح ثورته رفض رفضا قاطعا هذه الضغوط والإغراءات

وهي نفس القوى التي عينت مصطفى بك رضا مديرا لمعهد الموسيقى ثم مديرا لبرامج الإذاعة لاحقا واشتكى كل الفنانين في مصر من سوء اختياراته وسوء إدارته ومعاملته، وهو الذي أخذ على عاتقه مهمة إقصاء فن سيد درويش من الساحة وربما دفنه نهائيا

وهو نفس الزمن أيضا الذي انتشرت فيه الحانات ومحلات الخمور ونوادي القمار بأمر وتسهيل مباشر من سلطات الاحتلال بعد هدوء ثورة 1919 ووفاة سيد درويش

وهي فترة من أحلك أيام مصر شخص أمراضها وسجلها الأديب نجيب محفوظ في روايته الشهيرة "القاهرة 30"، يقصد 1930، أي العام الذي نضج فيه المخطط الخبيث واستوى وقبض على مفاصل الحياة الاجتماعية في مصر، بنشر الابتذال والتفسخ والرذيلة حتى تبدو أشياء عادية في المجتمع دون حرج، بادئا من صف النجوم إلى صفوف الجماهير، بقصد تغييب الضمير الشخصي والجمعي لمنع إعادة إنتاج ثورة 1919 وتحدياتها بأي شكل

وفي عام 1932 أقيم مؤتمر الموسيقى العربية الأول تحت رعاية الملك فؤاد وحضره مئات من الموسيقيين المصريين والعرب والأجانب، وتم تسجيل عشرات الأعمال ومنح محمد عبد الوهاب لقب "مطرب الملوك والأمراء". وانفض المؤتمر دون أي ذكر لسيد درويش رائد النهضة الفنية وصاحب الفضل على الجميع، والذي ترتفع منزلته في الموسيقى العربية إلى منزلة بيتهوفن في الموسيقى الغربية

ومع شديد الأسف يوجد اليوم من يدافع عن أشهر مؤلف للأغاني المبتذلة في تاريخ مصر، محمد يونس القاضي، ويحاول تكريمه بادعاء أنه صاحب نشيد بلادي، النشيد الوطني المصري، وعشرات نصوص أخرى من ألحان سيد درويش، وهذه في الحقيقة أكذوبة كبرى لعدة أسباب

12. تقدير ألحان النجريدي

عودة إلى موضوعنا، إنصافا للجميع علينا أن ننظر بموضوعية إلى بقية أعمال تلك المرحلة ونقدر قيمتها الحقيقية ومدى إسهامها في تطور الفن والرقي به بدلا من الاستسهال بإسقاط أعمال الفترة كلها جيدها وسيئها وكأنها لم تكن بسبب هبوط مستوى بعضها الاجتماعي أو الأخلاقي. وهناك من هذه الأعمال عشرات من القصائد الراقية والألحان الرائعة التي توارت خلف الزمن وليس من مصلحة أحد استمرار إسدال الستار أو إهالة التراب عليها للأبد، ببساطة لأنها عنوان يشير إلى جوهر اجتماعي سليم وسلوك أخلاقي حميد وقف في مواجهة تيارات الانحطاط الأدبي واللغوي والاجتماعي والمحاولات المستميتة لتدمير معنويات الشعب المناضل دائما من أجل حريته وكرامته

بهذه المناسبة نعد قراءنا ومستمعينا بنشر جميع ما توفر من ألحان الدكتور صبري مع كلماتها تباعا في حلقات بإذن الله ودمتم بخير، عرض ونقد د.أسامة عفيفي، ألحان أحمد صبري النجريدي، أول ملحن لأم كلثوم 

قوائم ألحان النجريدي لأم كلثوم ، فتحية أحمد ، ونادرة أمين 1924 - 1928