الطب مرحمة

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

المفقود من مظاهر الحضارة..

 

اتجهت الإنسانية المعاصرة لوضع مقاييس وأطر لضبط الأداء العام والجودة ومواصفات للهيئات العاملة في مجال تقديم خدمتها للجمهور.. وبلدنا كواحد من تلك المنظومة أخذ بحظه من تلك الضوابط وأنشأت له هيئات متخصصة وإدارات ذات خبرات ودراية كاملة بهذا الشأن وانطلقت في سبيل ذلك مشاريع الحوسبة والميكنة ومشاريع الجودة الشاملة في كل مناحي الحياة مما يعد ظاهر كبرى ومظهر من مظاهر الحضارة التي اجتالت البلاد شرقاً وغرباً. فهل بعد ذلك من جهد؟ نعم.. فالمثلث لم تكتمل أضلاعه بعد .. إذ أن هناك الكادر المؤهل – حضارياً – لتستوعبه هذه النقلة ويستطيع تسيير حياته بها وعليها ..

إن الكثير من أرباب الأعمال في يومنا هذا يغض الطرف عن الحضارة بزعم أنها غير واقعية أو غير منطقية .. أو بحجة أنه لن يستفيد من التقنية الحديثة لأنه لا يزال بعيداً عنها كل البعد..

إن إنزال مظاهر التقنية الحديثة إلى الأرض يقتضي نقلة كبيرة في أفهام وعقول العاملين بالقطاعين الخاص والعام ليدركوا ضرورة التعامل حضارياً مع معطيات هذا العصر والذي لم يكلف نفسه عناء التعلم ويغمض عينيه ويجلس في بيته .. فسوف يغزوه الطوفان .. ولا يجد حينها طوق نجاة.. 

استاذ محمد أحمد .. كريم سليل آباء كرام .. قصد وزوجه إحدى المشافى الخاصة بحثاً عما يصفه لهم الطبيب من بلسم يضفى على حياتهم سعادة بلا مكدرات..  والطبيعي في مثل هذه الأحوال أن تكون التذكرة برقم فلكي يتناسب مع نظافة المكان .. وفخامة الأثاث..  ورغبة المالكين.. 

على كلٍّ .. فقد انطلق محمد أحمد وزوجته لمراجعة طبيبهم الحاذق .. فكان من موظف الاستقبال أن انتهرهم سائلاً عن كرت المقابلة .. فاعتذرا بأنهما نسيا كرتهما .. فما كان من الرجل إلا أن يخرج كل مكنونات عدم الدراية.. ونضب المعين.. وخلو الجعبة.. من حسن التصرف.. وإدراك المواقف.. وتقدير الشخوص.. وتكريم الإنسان كآدمي يستحق التكريم.. والجهالة آفة لا تكاد تخلو منها فئة .. حتى المثقفين .. فمنهم من يمزج مزجاً فريداً.. بين مظاهر العلم والحضارة.. وقمة التخلف .. في بلاد أصبح فيها الجهل جريمة لا تغتفر.. فما عاد بين الناس جاهل .. وكيف يكون جاهل .. وقد تواترت أسباب العلم .. وتنوعت طرق التعليم.. وتعددت مشاربه .. وسهل لكل إنسان أن ينال قسطاً من المعرفة ..

فاجأهم الكاتب بالإساءة إليهم .. هكذا بملء فيه .. ودون حياء أو استحياء.. ونسي أو تناسى أن دفاتره التي يسأل عنها قد عفاها الزمن.. وأن جبال الأوراق المكدسة أمامه ومن خلفه .. من أكبر مظاهر التخلف .. وأنه كان الأحرى به بدلاً من أن يتخذ آلة حاسبة يحسب بها أموال الناس ..  أن يجعل له حاسوباً .. يضبط  به الأداء .. ويحسب به عدد المرضى .. ويحصى به أعمارهم .. ويصنف أمراضهم .. ويثبت فيه أدويتهم .. ومواعيد زيارتهم ومراجعتهم ..

إن الطب منحة ربانية .. ومهنة إنسانية .. فهو منحة ربانية تقتضى أن يكون الإنسان رحيماً .. فهو لا يعالج آلات ميكانيكية .. ولا يتعامل مع صخور جامدة .. أو أحجار صلدة .. وإنما يأتيه بشر بلحم ودم ..  ممتلء شعوراً ومشاعر .. فالذي ينبرى لهذه المهنة لا بد أن يكون قد روض نفسه على خفض الجناح .. ولين الجانب .. فابتسامة الطبيب.. لها الأثر الأكبر قبل جرعة الدواء .. وما يجرى على الطبيب في ذلك .. يجرى على من يستعملهم الطبيب في تنظيم أداء مهنته .. وتيسيرها للمرضى .. والزائرين .. فليس من الحكمة أن نضع وجهاً عبوساً و واجهة مكفهرة لتكون أول ما يستقبله المريض.. وكيف يسعد مريض وأهله إذا تجرعوا الداء على بوابة الشفاء؟

و الطب مهنة إنسانية.. فالطبيب يوم يؤدى قسم الواجب.. فإنه يودع يومها الراحة والدعة.. ويفتح قلبه وداره وعيادته و(جواله) للمرضى.. فلا يبرح يعالج هذا.. ويصف الدواء لذاك.. ولا يقطعه عن مرضاه سدول ظلام ولا انبلاج فجر.. فهو دائم السهر لراحة الآخرين.. كالشمعة تحرق نفسها وكالنحلة تخرج أطايبها.. ورحم الله الدكتور أحمد صابر الذي كان والحلوى في يده.. يقدم ابتسامته الدائمة.. وحسن استقباله مرضاه.. قبل وصف الدواء لهم .. فيخرجون وقد تبدلت حالهم لا لشيء إلا لما وجدوه وما سمعوه من كلمة طيبة ووفادة كريمة.. وأين ذلك من البروفيسور عمر أحمد دفع الله الذي كان ومازال  يقدم دروساً من التواضع والأخلاق العالية.. وحري بمن نال الأستاذية.. أن يكون خافضاً للجناح.. فتراه بين الناس.. وكأنه واحد منهم.. وهو الذي لم يتخلف عن ركب العلم والتعلم على الرغم من السنون التي أكلت من لحمه وعظمه..

ومن العجب أن للطب علاقة نسب ومصاهرة مع الأدب.. وقد نتج بينهما أواصر قربى.. وأواشج محبة.. فكم من طبيب اعتلى صهوة الأدب.. وكم من أديب تمكن من ناصية الطب.. فما يتميز به الطبيب من إعمال الفكر ورجاحة المنطق وقوة الإدراك والقريحة المتقدة والذاكرة القوية تجعله يقف جنباً إلى جنب مع جهابزة الأدب وصناع القوافي وأرباب القريض ببداهتهم وقوة ملاحظتهم ومعالجتهم المواقف والأحوال بمقامات كالمبضع في يد الجراح .. والذي يعلمه الطبيب ويوقن به أن ديناميكية الحياة لا تزال مغلقة أمامه ولا يزال الطب عاجزاً عن إدراك الكثير من أسرار الجسم البشري وهذا يدعوه للتأمل ولمزيد من الإيمان بالله الخالق جل جلاله.. وقد تغنى غير واحد من الأدباء والأطباء بهذه الحقائق فهذا أحدهم يفتخر قائلاً ..

 

فيها كهول وأشياخ وشبان

فنلت ما لم ينله الدهر إنسان

أفضى بها في قلوب الناس رحمان

هذى ستور حواشي الطب أفنان

أو لا .. فلا غادرتك اليوم أحزان

كلية الطب صرح شامخ علم

دخلتها أبتغي علماً ومعرفة

الطب ملحمة الإنسان مرحمة

يا من يروم ظلال العز وارفة

إن كنت طالب طب .. فابتهج طرباً

 

ويبقى أن الأطباء والمرضى تحت أقدار الله تعالى ، وليس المرض دليل موت .. ولا العافية كذلك .. والذي يصلح في ذلك أن الشافي هو الله.. والطبيب يؤدى رسالته لتكون سبباً للشفاء بحول الله وقوته.. وكثير منا يعرف حالات مات فيها الطبيب قبل مريضه، بل ربما مات بنفس المرض الذي كان يعالج مريضه منه وقد قيل:

 

لا يستطيع دفاع مكروه أتى

قد كان يبرئ مثله فيما مضى

جلب الدواء وباعه ومن اشترى

إن الطبيب بطبه ودوائه

ما للطبيب يموت بالداء الذي

مات المداوي والمداوى والذي

 

 

وإلى لقاء ..