﴿ معرفة الله بين العجز والذوق 

يا صاحِ… إذا أردتَ أن تعرف الحقَّ، فلا تجعل عقلك دليلَك وحده، فالعقلُ سراجٌ محدود، ونورُ الحقِّ لا يُدركه المصباح. أولُ الطريقِ أن تقف عند حدّك، وتعلم أن ما تبحث عنه لا يحدّه فكر، ولا تُمسكه يد، ولا يضمه اسمٌ ولا يحيط به رسم. هو ظاهرٌ بلا كيف، باطنٌ بلا أين، قريبٌ بلا مسافة، بعيدٌ بلا انفصال. كلما حاولتَ أن تصفه، ضاق الوصف، وكلما سعيتَ أن تدركه، تاه الإدراك. فإذا ضاق عليك الطريق، فاعلم أنك على الباب، وإذا عجز عقلُك، فاعلم أن الوقت قد حان لقلبك أن يتقدم. يا ولدي… العقلُ بابٌ، والقلبُ هو الداخل. العقلُ يريك الطريق، والقلبُ يمشي فيه. العقلُ يُنقّيك من الظن، والقلبُ يُنقّيك من نفسك. فإذا زال بينك وبينك، كان ما بينك وبين الحق أقربَ من أن يُقال له قرب. الأسماء الإلهية ليست حدودًا للحق، بل هي مرايا تجلّى فيها نوره لك. فاسمُ “الرحمن” رحمةٌ تسري في قلبك، واسمُ “النور” نورٌ يقوم به بصرك الداخلي، واسمُ “الحق” يقظةٌ توقظك من نوم الأوهام. الأسماءُ نوافذ، ولو كانت تعريفًا لكان المسمّى محصورًا… وحاشاه أن يُحصر. يا صاح… الحقُّ لا يعرفه من طلب معرفته بحدوده هو، بل من طلب معرفته بما يليق به هو. والحقُّ لا يليق به إلا التجرّد. فاجعل قلبك فراغًا، فإن امتلأ بغيره حجبه، وإن صفا له كشفه. واعلم… أنك لا تصل إليه بالوصف، بل بالغياب عن الوصف، ولا بالعلم، بل بسقوط العِلْم، ولا بالعبارة، بل بالصمت الذي يليها. فإذا انتهت العبارة، بدأ الإشارة. وإذا انتهت الإشارة، بدأ الحضور. وإذا حضر الحضور، سقط الواصل والموصول، وبقي “هو”… كما كان، بلا كيف، ولا أين، ولا مَن. فاذهب عنك تأتي إليه، واتركك يلقاك، واخفُ من نفسك يظهر لك. يا ولدي… العجز عن درك الإدراك إدراك، والسكون في حضرة النور نور، والصمت بين يديه كلام، والفناء عنه بقاء به. فكن له، يكن لك. ولا تبحث عنه بما يحدّك، بل ابحث عنه بما يُحرّرك. فلا حدَّ له إلا ما وضعتَه أنت، ولا بُعدَ له إلا غفلتك عنه. وإذا صحّت اليقظة، رأيتَ أن الحقَّ أقرب إليك من أن تبحث عنه، وأسبق إليك من أن تصل إليه، وأعرف بك منك. فيا من طلب الحقيقة… اترك الطريق، يمشِ الطريقُ إليك

 الفقير إلى الله أ.د  عبد الجليل الروسي الحسني   

 حفظه الله