من رسائل الفقيرإلى الله
للسّالكين
للسّالكين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، الأحدُ الصمدُ، أحمده حمده لنفسه، أحمدُه حمدَ صفاته لذاته، وأوحدُه توحيدَ ذاته في صفاته، المقدسُ عن كل ما يحوم بحمى العقل والتفكير، باب الرجاء وغاية العلياء، منور قلوبَ العاشقين بمحبته، والعارفين بنبراس معرفته، فأشهَدَهم جمالَ جلاله لكماله، وحجبَهم عن شهود غيره لقربه، وزين ذواتَهم بحلل شريعته لطاعته، وأصلي على أقربهم إليه مَن خصَّه بذكره لمقام محبته وقربه، وهداه إلى كرسي عزته من عرشه، وعرّفه بحقائق الأشياء من علمه، مرآة اشراقِ حقائق الأسماء والصفات، سيد الأولين والآخرين، قطبُ رحى سرِّ الوجود، ونقطةُ دائرةِ المقربين الشهودِ، سيدنا ومولانا رسول الله، محمد، صلوات الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد، يقول الله تعالى في سورة الأحزاب: إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما. صدق الله العظيم.
أخي السالك، إن هذه المقامات التي تبدأ بالإسلام ثم الإيمان، فالقنوت والصدق والصبر، والتصدق والصوم، والحفظ والذكر من هذه الآية الكريمة جاءت إلا تنبيها للمسلم ليسلكها حتى ينجوَ من سطو الدائم للنفس المتمثل بالزلل والنسيان وحب الأنا. فوضع سبحانه وتعالى هذه المقامات طريق السلوك وجعل "الذكر" من ضمن المقامات التي تحجب السوءَ عن العبد متوجها إلى الحق في عمله وبيته، بين الناس أو عائلته. لأنه بالذكر، متواصل على الدوام بالألوهية، بالجمال والجلال. وهكذا فالإتيان بالذكر من المقامات المتقدمة في الطريق إلى الله في القرآن الكريم.
فالذكر إذن، امساك ورفعة. إمساك عن اللغو والهُيام. ورفعة لأنه عبادة تفكرِ وقربٍ. تؤدَّى هذه العبادة لله وحده خلوة وعلانية مع حضور المعنى وغياب الأنا. فلهذا فهو يوفر اشراقَ الصفات الإلهية الصمدية. فالذكر عند أهل الطريقة ضمان الجمع والفرق عند الوصل. الذي يعني الفناءَ عن الإرادة والهوى وعدم الإلتفات إلى الفانيات. إنه إحياء القلب بالله ومع الله وفي الله بالكلية والإقبال عليه بكنه الهمة والاستغراق فيه. فتَتَحقق أنوار الصمدية في الإنسان ويصبح أهلا للترقي إلى مقامات التمكين. يُدرِك بها العبدُ على أن سيره في منازل الترقي هو فضل الله الذي لا يتناهى. فالفضل كله من الله على الدوام يُشاهَدُ بنور بصيرة المريد السالك، حتى يتلقى الإلهامات الربانية، التي لا تَنْتُجُ عن فكر أو فهم بل بالتلقي.
ومن تم، فالعلاقةُ الحاصلة في الذكر، هي علاقة المحبوب بالحبيب، هي علاقة خاصة بين العابد والمعبود، لا يطلع عليها سواهما. يظهر آثارُ الحق فيه، ليرتفع اللفظ والمعنى، إلى ما هو أقدس، إلى عين رحى سر الوجود. فيُعْرفُ بذلك الفرقِ بين التداني والتدلي، والترقي والتلقي، فيصير القلبُ أنذاك مرآةَ الوجود العلوي، منغمسا في بحر المداد وسر الإمداد، تَشِعُّ منه أنوارُ صفات الجود والكرم، والرأفةِ والرحمة، والحنان والرضا. فيدخلُ في حضرة القرب بالأنس والأمان والفناء في معاني الإحسان، ليَعرج إلى حضرة استحقاق اسم العبد. فيفوز بأسرار ليالي القرب، يفوز بأسرار الليل الذي هو غيب، ويفوز بأسرار القرب الذي هوغيب الغيب. لذلك، فإن أعظم الهبات الربانية الإلهية القدسية العظمى التي يرجاها السالك، هي التوفيق الإلهي، بالاعتصام ببابه للدخول إلى حظرته جل وعلا في هذه الدنيا قبل الآخرة. نعم في هذه الدنيا قبل الآخرة. من هنا تظهر عظمة وشمول وتكامل الدين الإسلامي الحنيف في الآية السابقة الذكر، حيث جمع بين الظاهر والباطن الذي هو سر أسرار نفحات القلب والموارد التي تهِل من الرحمن على العبد الشكور. فيكون الحق سبحانه وتعالى هو الرائي والمرئي.
من أجل ذلك، يجب علينا أن نحاسب أنفسنا وأن نزن قربنا من الله تعالى في كل وقت وحين لا في الأعياد والمواسم، بل نسأل أنفسنا ماذا تجدد فينا؟، ما نصيبنا من المعرفة والحكمة؟، وما هو حظنا من الترقي؟. تَسَنَّهَتِ الوجوه بتعاقب الفصول، فنضجت الصغار وشابت الفحول، ورحل الشيوخ والكهول فامتلأت الجبال والسهول، فأين نحن من علامات باب الوصول للدخول؟.
فاللهم يا أول يا آخر يا ظاهر يا باطن، اهدنا بك من عندك، وأفض علينا من بركاتك وفضلك في هذه الليلة المباركة وغيرها، وانشر علينا من رحمتك. نسألك يا ربنا، بمقاعد العز من عرشك، أن تعفو عن زلاتنا، وتتجاوز عن مخالفاتنا، وأن تُشرِق نور المحبة باسمك الأعلى، ومجدك الأسنى، على قلوبنا وبصائرنا، يا جواد يا رحمن يا رحيم، يا مغيث يا حبيب يا جليل، يا حي يا قيوم. برحمتك نستغيث، وبفقرنا إليك نحتمي، أغنينا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عن سواك، وبقربك عن بعدك. اللهم نسألك بجميع أسمائك وصفاتك أن تجعلنا ممن استقام وأقام، ووُفِّقَ للتقوى ودام، وأحبك ورام، وأن تُخَلِّص نفوسنا من شرك الإشراك ظاهرا وباطنا، بنور الإحسان، وأن تجعلنا ممن عمل لآخرته ودنياه مع مراقبته لك في سره ونجواه، وأن لا تفضحنا بظنوننا ودعوانا. اللهم أصلح هذه الأمة المحمدية، ذكورها وإناثها، أطفالها وشبابها، شيوخها وكهولها. اللهم يا ربنا فرج على كل من هو في ضيق، يا قديم الإحسان يا حنان يا منان، واستر واجْبُر، وشافي وعافي، واغني، وارحم كل من أشرق قلبه بك ولك ورفع يده إليك بين يديك شاكيا متضرعا لك متذللا راجيا بك يا وهاب يا باسط يا فتاح يا رازق يا رزاق يا غني يا مغني يا منعم يا متفضل. إلَهَنا لقد ظلمنا أنفسنا بإسرافنا فمن يغفر ذنوبنا يا ربنا، إليك توجهنا وإليك المصير. وصل اللهم بجمالك وكمالك على أشرف وأسعد مخلوقاتك سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وجميع الأنبياء والمرسلين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أللهم اجعل هذا البلد آمنا مطمئنا واحفظه من كل مكروه. اللهم جدد رحماتك على شيخنا ولي الله سيدي الدرفوف السليماني الحسني واجعل مقامه مع الذين أنعمت عليهم من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. اللهم ارحم موتانا وموتى جميع المسلمين. اللهم وفق مشايخ الطريقة الدرقاوية لما تحبه وترضاه واجعلهم من أوليائك الكرام المقربين وارحم مشايخنا وأساتذتنا الأحياء منهم والأموات وكل من عليهم الحق علينا من أفراد عائلاتنا وإخواننا ومريدي وطلابي الطريقة الدرقاوية وأصدقائنا وأولادنا وذرية ذريتنا إلى يوم الدين وجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات يا أرحم الراحمين يا رب العالمين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
من كتاب تحفة الأنوار
شرح أسرار صلاة نور الجلال، الموثقة في كتاب ،"الفيض الدائم في الصلاة على النبي الهائم (ص) للشيخ أبو المحاسن يوسف كوناتي حفظه الله.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الأول الآخر، الباطن الظاهر، الحي القيوم، الذي ليس كمثله شيء، وهو العزيز الجبّار المتكبّر، سبحان الله عمّا يصفون. أحمده حمده لنفسه، وأوحده توحيد ذاته في صفاته، منور قلوب العاشقين بمحبته، والعارفين بنبراس معرفته، فأشهدهم جمال جلال كماله، وحجبهم عن شهود غيره لقربه، وزين ذواتهم بحلل شريعته لطاعته والفناء في عزيز عظمته، وأصلي وأسلم سلاما تاما على سرّ تجليات أنوار حسن الجمال، أقربهم إليه سبحانه من خصه بذكره مع جلاله لمقام قربه بمحبته، سيد الأولين والآخرين، محور دائرة المقربين الشهود، سيدنا ومولانا رسول الله، محمد، صلوات الله عليه وعلى آله وصحبه وعلى شيوخنا وأساتذتنا وآباءنا وأجدادنا ومريدين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الذين وبعد،
إلى الشيخ الحِبر الدّين والمربي الأصيل والأخ الصادق الصدوق سيدي يوسف الكوناتي، بن الشيخ مولانا الحاج عليّ كوناتي القادري المسكاني قدس الله روحه، شيخ الطريقة القادرية المسكانية سلام الله عليكم وعلى دويكم وعلى جميع المريدين من الطلبة والمقدمين، سلاما نرجو منه سبحانه أن يجدكم بصحة وعافية جيدة وطمأنينة وسكينة، ردائها عناية الله ولطائفها توفيقه في جميع أعمالكم. هذا سيدي لقد توصلنا بعظيم كتابكم طالبين منا أن أدلو دلوي بشرح كلامكم، كلام أهل الله، ونفسر ما جاد الله به عليكم من أسرار صلاة نور الجلال، الموثقة في كتابكم الفخم الجليل،"الفيض الدائم في الصلاة على النبي الهائم (ص).."( صفحة 40)، ياقوتة الأذكار ولذيذ ماء النجاة، مطلع كل خير وهناء، وذكر الذاكرين في الصباح وعند المساء. فنحن سيدي، والله يعلم، نعترف أننا أضعف من الضعفاء في هذا الباب و قصير النظر علما وزادا ومعرفة وأنفاسا في هذا المجال وعديم الكشف والقرب معنى وحالا ومقالا ومقاما في هذا المكان، مكان العزة والجمال والجلال، موضع سر أسرار الألباب وأنوار تجليات الأبرار. لكني بعد تأمل وطلب من الله التوفيق والسداد عزمت أن ألبي لكم الطلب راجيا من العلي القدير أن يعفو عني ويغفر لي إذا ما زلل لساني عن النطق ويدي عن الحرف أو خل عقلي عن صراط المعاني القويم أو لصق الغلط بي من بداية إلى نهاية المقال أو خانت ذاكرتي قلبي وبصيرتي أو فهمت غير مرادكم لقلة زادي أو ركبت السفينة غلطا بدون مجاديف ولا قارب الإغاثة. فرجائي منه سبحانه وتعالى أن يكون مغيثي ويرضي علي كنت مصيبا أو مخطئا، محسنا أو مسيئا لغطرسة أنانيتي وأن يرحم أستاذي وشيخي[1] مولانا الوالد سيدي الأمين رحمة الرضا وأن يسعده بالنظر إلى وجهه الكريم.
فاللهم لا علما لنا إلا ما علمتنا، ولا فتحا نرجوه إلا فتوح العارفين والعالمين العاملين والمحبين المحبوبين المرضيين عنهم في كل وقت وحين بفضلك وجودك الدائم المبين. وبعد الاستعانة بالله العلي القدير وطلب توفيقه وعنايته، وتمعن في نص الصلاة التي بأيدينا كما وردت في كتاب الفيض الدائم في الصلاة على النبي الهائم (ص) على النحو الآتي :« أَللَّهُمَّ صَلِّ صَلاَتَكَ الْكَامِلَةَ الشَّامِلَةَ عَلَى سيِّدِنَا مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ نُورِ الْجَمَالِ، وَطُورِ الْكَمَالِ، وَمُسْتَوْدَعِ سِرِّ الْجَلاَلِ، وَأَرِنِي طَلْعَتَهُ الْبَهِيَّةَ فِي الْحَالِ وَالْمَآلِ، وَعَلَى آلِهِ وَسَلِّمْ تَسْلِيمًا مِثْلَ ذَلِكَ وَمُنَّ عَلَيَّ بِالْوِصَالِ، وَافْتَحْ عَلَيَّ فُتُوحَاتِ الرِّجَالِ».
نقول والله أعلم وبه نستعين، اللهم: بمعنى "يا الله"، حذفت ياء النداء لغلبة الذكر من المتعبد العابد، المخلص الزاهد، أدبا مع الله لأنه سبحانه وتعالى أقرب من القرب، وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ۖ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ. فدرجة الإخلاص لعبوديته تجعلنا نرجو منه تعالى أن يقربنا إليه رغم بعدنا نحن منه. ولأن ياء النداء يؤتى بها للبعيد لا لمن هو أقرب إليه من حبل الوريد فيحصل له حينئذ أدبان: أداب تنزيه الله عن التنبيه وأداب الشعور بالقرب من الحبيب. إنه جل وعلا لا جهة له لنناديه فهو أينما تولوا فتم وجه الله. وأعظم وجهة يوليها السالك هو قلبه، لأن القلب محل أنوار الإيمان ومعدن الأسرار وزينة الأبرار بانجذابه إلى الله، منه به له، بأنوار تجلي توحيد الحق فيه بفيوضات المودّة والرأفة والعاطفة والرقّة، والإيمان والإيقان، والوفاء والصفاء، والطهارة، لأن القلب لباب المخلوقات وخلاصة الموجودات. وعند تذوق القلب بعظيم جمال الله وجلاله يكون الجمع آنذاك دلالة على حاله مما يعوض أداة النداء بـ"الميم" فيصير النداء "يا الله" قربا من ذاته الجامعة لكل الأسماء والصفات ب"اللهم". فاللهم استغاثة بالذات الإلهية التي أكسبت الوجود ظهوره بتجلي حسن الأسماء ونداء مقرونا بالرجاء للرحمن كامل الجمال والجلال واجب الوجود الظاهر في الأسماء والصفات الجامع في اسم الله المستحق لكل جمال وجلال وكمال. صلّ: أي ارحم وتعطف على بدرة رحى دائرة سر الوجود، سابق الخَلق بالعلم والقدرة والجود، مرآة الأخلاق الربانية المحمود، والبركة والتشريف والتكريم الدائم السجود. صاحب أنوار الشريعة وإشراق الحقيقة عند أرباب العهود. صلاتك: هنا إشارة للصلاة التي صلى عليه الله عندما سار إليه ودناه منه وكان قاب قوسين أو أدنى. فهذه الصلاة هي التي نرجى من الله تعالى له لأنها صلاة دائمة قبل الوجود منه له فهي ما زالت أهلا له لأنها كاملة مُعَرَّفة في الملكوت والجبروت رسما ومعنا وفيوضا منذ الأزل لا تتغير ولا تنقطع بجمال جلال كمال الله، شاملة، وافية، عامة مطلقة، للإحاطة الله التامة بالصغيرة والكبيرة "وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ". على سيدنا محمد رسول الله: أي على من فُرضت طاعته في الأرض "محمّد" وفي السماء أحمد ومن تجلت عليه أنوار المعارف (ص) واتضحت به طريق عوالم معاني الإيمان التي يستمد السالك لحضرته قوته للوصول إلى عين سعادته وانكشفت على يديه لطائف الرحمن وانفلقت أنوار الرحمانية بقيامه حقوق رسالة الله عبادة منه له به سبحانه كما أمره. نور الجمال: يعني به يُدْرَكُ جمال الحق السائر في كل الخلق المتجلي بكل الصفات. فلولا نور الحق على القلب بالذكر والتباع الرسالة المحمدية لما أنارت الأرض بنور ربها ووجودها. فالرسول (ص) نور جمال المعرفة لقوله (ص) في دعائه: اللهم اجعل في سمعي نورا، وفي بصري نورا، وفي شعري نورا، حتى قال: واجعلني نورا. وإنما طلب مشاهدة ذلك لكونه نوراً. أما كونه نور الجمال، فهو الإنسان الكامل المتحقق بكل صفات الجمال، أعلى مقامات التمكين، منها حوض ماء ينبوع طور الكمال، فمن شرب منه شربة لن يظمأ أبدا بل يخرج من ظلمة الغيب إلى نور الشهود أصل الوجود. فالكمال في الوجود نور على نور لا يرى غيره على التفصيل والإجمال لأنه صلوات الله عليه مستودع سر الجلال، به تعرفنا وعرفنا الحق من الباطل بتجلي آثار أسماء الله كالجليل القهار ، والجبار المتكبر، والقوي المتين والمنتقم ذو الجلال وشديد العقاب كما جاء في آيات القرآن المجيد. فأريني طلعته البهية في الحال والمآل أي عرفني به، ربي، فناء وبقاء بالجمع في رحاب الإحسان والرضا والجود والقرب حتى أكون مِنْ مَنْ فاز بالقرب به وبـ آله وسلم تسليما مثل ذلك أي أريني طلعة أحبائه وصحابته وأهل الله من الأولياء والصالحين. ومُنْ علي بالوصال: أي مُن علي بالأسرار والآداب معك على نهج حبيبك رسولك الأعظم متذوقا حلاوة القرب وعظمة ملكوتك وجبروتك لأغرق في أنسك وأتيه في عظمتك وأنغمس كليا في أنوار رحمتك وأفنى في قربك. فقد أنشد من وصف لذة نسيم الوصال هذه خلف الحجاب الرباني وقال:
نسيم الوصل هب على النداما**وأسكرهم ومـا شربوا مداما
فمـالت منهم الأغصان ميلا**لأن قلـوبهم ملئت غرامــا
ولمــا شاهدوا المولى تجلـى* *وأيقظ في الدجى من كان ناما
يناديهم عبــادي لا تنـاموا **ينـال الوصل من هجر المناما
ينال الوصل من صهر الليـالي **علـى الأقدام وأنحله الصياما
فمـا مقصودهم جنات عدن ** ولا حـور حسان ولا الخياما
سوى نظر الجليـل فذا مناهم ** وهذا مقصد القـوم الكراما
وافتح علي فتوحات الرجال: أي افتح علي، ربي، مرآة التجليات الرحمانية الظاهرة بالعدنانية المصحوبة بالرعاية الأبدية والمنن السرمدية كما فتحتها على أوليائك وأحبائك الذين ذكروك فخشيت قلوبهم واقشعرت أجسامهم قبل الركوع والسجود واضطربت أحشائهم خائفين ضابطين ألفاظ وحروف كتابك الكريم متفهمين معانيه وأسراره وآدابه بمنة فضلك وجودك وكرمك متذوقين حلاوة كلامك المقدس مما عليه من جلال ووعد تارة وجمال وجزاء تارة أخرى وإنذار وتبشير وبلاغة وإعجاز. فاللهم اجعلنا بهذه الصلاة على نبينا وحبيبنا موقنين وبحروفها مستبصرين وبمعاني كلامها مؤمنين وبِجُملها موحدين محمودين. وعليها مواظبين وبجوهرها متمكنين وبألطافها مطمئنين وبرحماتها مسرورين وبأنوارها مشرقين وبجمالها محسنين وبجلالها طائعين وبحسن كمالها مستبشرين. وبها فائزين وبسرها واصلين. وحرزا لأولادنا وذريتنا وذرية ذريتنا إلى يوم الذين. واجعل أجرها علينا وعلى مريدينا وطلبتنا وعلى جميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات وعلى كل من قرأها أو تلاها أو تمعن فيها أو أخرج معانيها أو سمعها أو أوصى بها أو استوصى بها أو لم يراها ولم يسمع بها. فاللهم اجعلنا في كل وقت وحين ممن ناديتهم فأجابوك وأمرتهم فأطاعوك وفنوا بحبك فعرفوك.
"فاللهم طهر قلوبنا بخشيتك، ونورها بذكرك، واملأها بمحبتك، واشغلها بجلال جميل حضرتك، وألبسها جمال جليل سطوتك، وكملها بكمال أحديّتك، حتى نكون من أهل التجريد في حب ذاتك وظهور عظيم أسرار ربوبيتك بخدمتك، وتجلي مظاهر حقيقة رحمتك بحمدك،.يا الله، يا الله، يا الله، يا رحمن يا رحيم، يا جواد يا كريم تَوَلَّ قبض أرواحنا بيديك، وحل بيننا وبين غيرك بحق جميع أسمائك وصفاتك وأفعالك، وبحق مولانا رسول الله صل الله عليه وسلم. سبحان ربك رب العزة عم يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين"[2].
والسلام منا على جميع الأهل والمريدين ونحن على العهد نرعى الوداد وعهد المحبين لا ينقضي.
[1] كل ما أوردناه في هذا الشرح فهو ثمرات عناية الوالد بنا. فجل ما ورد فهو لذيذها وماء جوهرها.
[2] دعاء الفقيه العلامة الشيخ المربي سيدي الأمين الروسي الحسني رحمه الله.
من كتاب تحفة الأنوار
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى أهل الله السالكين محبينا في الله وبالله حمداً لله، وصلاةً وسلاماً على مصطفاه، وعلى آله ومن والاه في مبدأ الأمر ومنتهاه. ورضي الله تعالى عن أشياخنا ، ورحم الله من سبقنا بالإحسان من إخواننا إليه، ووفق أحياءنا أطفالنا وشبابنا إلى ما يحبه ويرضاه.
إخوتي الأعزاء، الفقراء إلى الله والأغنياء به: قد يفوتني ترتيب الكلمات وتزيينها، لكنني أسألُ الله ألاَّ يفوتني التحقيق والتوفيق. فبذكر الله أبدأ وأقول أن التصوف تجربةٌ توصل السالك في طريق الله إلى التذوق والسعي إلى الصفاء والمشاهدة. وسبيل ذلك لا يكون إلا بعلم الشريعة والحقيقة التي تتمثل في العبادة القلبية الوجدانية ليرتقي السالك في سلم المقامات طالبا وجه الله سبحانه وتعالى. لأن هذه العبادة المطلوبة، عبادة حسِ وذوقٍ، هي الوحيدة التي تغير الباطن الذي به يتغير به الظاهر ليولد الإنسان ولادة جديدة كلها إشراقٌ وحبٌّ وبركة وإنتاج وجني للثمار. فهذا ما جربه الصحابة والشيوخ وكل من نهج نهجهم رضي الله عنهم وأرضاهم. أمَّا الثمرات الرُّوحية المجنية فهي نتيجة الجهود والأعمال والإشراقات النورانية. فالصوفية أرباب أحوال، لا أصحاب أقوال[1]، فتيقنوا يا إخواني أنه لن ينال المشاهدة مَنْ ترك الْمُجَاهَدة.
أيها الكرام، أيها المريدون الأجلاء، أيها السالكون الأخيار، إنَّ التصوف طرق مرتبطة بكل إنسان وعصر ووطن، فهو تجسيد لعملية استخلاف الإنسان على الأرض، فإذا لم يَسْعَ المرء في طريق المحبوب لن يصل إلى نور الحبيب، وإذا لم يلتمس المعارج إلى رب الأرباب لا يمكن له أن يرقى ويرتقي، ومَنْ هو ساكن في قفصه لن ينتقل، ومن ظن أن اعتماده على نفسه اغتر وتاه وظل. فالحمد لله ثم الحمد لله الذي جعل بين خليقته محبين مثلكم متمسكين بحبل الشريعة وسالكين أنوار الطريقة وقاصدين رحاب الحقيقة. فالشَّريعَةُ أن تَعْبُدَ الله، والطريقةُ أن تَقْصِدَهُ، والحقيقةُ أن تَشْهَدَهُ[2]. وهذا هو المراد، مراد مَنْ استأذن على الله بأذب أذن له، ومن وقف ببابه تعالى خاشعا متضرعا أدخله. فغاية الطريق أن يصل المريد الصادق بجهده، مستعينا بالقدوة الحسنة، فليس الشيخ أيها الأحباء من سمعتَ منه، ولكن شيخ الطريق من أخذتَ عنه. فاللهم اجعلنا وإياكم عيون جارية تروي العطشى وشجرة ثابتة تطعم رجال التقوى وتشد عضد الواقفين عند بابك العظمى واجعلنا خليفة الصلحاء من عبادك الذاكرين الكثرى. فمن جاهد: عدل، ومن اجتهد: وصل. والحمد لله على هذا وذاك. والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير البرية سيدنا وقدوتنا رسول الله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الكرام وارحم اللهم شيخنا الفقيه العلامة مولاي الوالد سيدي الأمين الروسي الحسني وجميع شيوخ وفقراء أهل الله. إنك سميع مجيب الدعوات والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
[1] هذه المقولة للإمام محمد الغزالي رحمه الله.
[2] أن تشهد تجلياته سبحانه وتعالى بعين الفكر والقلب ثم السر.
من كتاب تحفة الأنوار
موقع الطريقة الشاذلية الدرقاوية الروسية الحسنية.
المملكة المغربية.
2004م - 2025 م