الحمد لله، أحمده حمده لنفسه، وأشكره شكرا جامعا للمدح والثناء عما يستحقه لذاته المغيبة عن خلقه وأوحده توحيدا خالصا لوجهه بأسمائه المتجلية بحقه وأشهد أنه الفردُ الواحد الأحد، المقدسُ جماله وجلاله وكماله. والصلاة على من منه انشقت الأنوار فأضاءت قلوب المحبين الأخيار مرآة مظهر حقائق الأسماء والصفات ومفتاح أبواب خزائن المحبة والجود والكرم نقطةُ دائرة المقربين الشهود، سيدنا ومولانا رسول الله، محمد، صلوات الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد،
اعلموا إخوتي جعلكم الله من أهل محبته، أنه من أشرقت أنوار الله على قلبه بذكره، اشتغل بجلال حضرته وجمال سطوته ، ومن استنشق نسيم الأنس بتوحيده وأضحى لم يشاهد سواه تفضل عليه الرحمن وأكرمه. أردت بمداخلتي هاته أن أقص عليكم ملحمة من ملاحم الرجال محورها العشق والقرب حتى نستخلص من سيرتهم الحكم والعبر. فبسم الله أبدأ مستعينا راض به مدبرا معينا.
كان مليح الوجه، يكتب لهذا حجابا.. ضد الأشرار، ولتلكَ جميعَ ما ترضاه عنها الأقدار. هكذا شاع صيته بين سلاطين البلاد والأقطار. هتفوا باسمه في جميع المحافل: ولينا.. ولي الزمان. شيخنا.. شيخ الكرامة المختار.. القطب.. عليه كل المدار.
كان الجوال المشهور كلَّ جمعة يركب قاربَه ويجول بين أنهار البلاد وأزهار المراعي يحومُ، طالبا المزيدَ من إعلاء همته ليسد كلَّ فجواته. فبينما كان يجدف ناظرا صورَ الأشجار.. والورود.. على سطح الماء، سمع صوتا يشبه التهليل ، يغمر الغابات والجبال والسفوح. فأسرع باحثا بقاربه في كل مكان، من الوادي، عن منبع وسرالتهليل بعين الحال والمقال.
جال فضيلَتُهُ زوايا الغابات والبراري، فوجد شيخا وقورا عليه حلة جمال الأبرار تحت الشجرة المباركة في القرآن. منذ تسعين عاما، وحيدا على هذا الحال، يقتات من نور ربه العالي دون أن يحتاجَ إلى الخال أوالعم أو المال..مرددا شيئا يشبه اسم الله. لا يصح نطقُه عند الجوّال. شيئا مثلَ ألاّه ألاّه. فلما سأل الجوّالُ شيخَ الشجرة المباركة عن حاله أجابه: "طعامي براعمُ الأزهار، وشرابي جوهرُ ندى الورود، ويومي القرب من محبوبي وليلي سهري مع حبيبي والوفود، وغطاءي دفئُ سرِّ النجوم والوجود، وعطري نسيمُ الوصال المحمود، وأسرارُ فؤادي سمفونيةُ زغاريدِ الفجر. جذبني الوصلُ لجنابه، فوقفت في حظرته، واستراح فؤادي لقربه. إن الله يدعوني ..يدعوك.... يدعوننا : ألا فانهضوا.. ألا فاقبلوا.. حبي يفوقُ عرضَ السموات والأرض. ألا فخلُّوا سوايَ تغنموا، ما فازوا إلا من هجروا، وسهروا الليالي وما تعبوا".
رجع الجوّال بعد أن نصح الشيخَ الكامل بقول الله بدلا من ألاّه ألاّه، يجدف بعناء ضد حملة الوادي والجزر المعتاد، وهو يجمع فكره بين أقوال وأحوال الشيخ المبارك. سمع مرة أخرى: ألاّه ألاّه.. تهب من موضع جميل الأزهار والشجرة المباركة. فحرك ثانية مجادفه اتجاه الشيخ الكامل ليعيد تصحيح أذكاره. فبالتسعين حولا يمشي فوق سطح ماء الوادي مناديا الجوّال قائلا: " لقد تاه عقلي عن ذكر لفظه، ألا أخبرتني ثانية... ألا هديتني.. فيا ليت شرابي منه يزدادُ، ويا ليت قربي منه يكتملُ، ويا ليت عيني تدمعُ إلا لهُ، ويا ليت الوجدُ مدادي، ويا ليت شوقي ودادي، فيا ربي إني إليك دائما راغبٌ، فعجزي على نطق الحروف زاد غرامي لما علمت منك بك أنك ولو ضاعت حروفي وكلماتي تبقى دائما أنت ربي إلهي، أنت الحي الباقي، أنت اللطيف الخبير، أنت الحليم الحكيم، أنت الحبيب والمحبوب، أنت الجود والإحسان، أنت الله".
من زمان بعيد... أقدم من القدم كان الله
هو ..كما يزال
من لا يرى أسماءه بالتحقيق
فقد الروضات والجنان
وهمسَ الجداول والبحار..
على كرسي مشكاة الأنوار
يتربع..
لمن يراه.. هو عناية شراع السفن
هو غاية مرسى الوصول
الكلمات التامة حصن لمن يريد حضرتَه
أتحسب أنك بعيد عنه
فجمالك منه.. وعشقك الأوفر منه..
لولاه لم تك شيئا
ولولاه لن توجدَ لعبادته
ولولاه ما انفتحت جواهرُ الكون..
ولا رشَفَت الصحاري من ندى الصباح
بعد ليالي العصف...
تذكر صنعتَهُ فيك
تذكر وأنت تغازلُ جمالَهُ..
تذكر وأنت واقف مذهول
عند جلاله..
فهو معنى وجودُك
ووجودُك معنى اقواله
فقل: ما أكرمك يا الله
تذكر..
أيها السالك المحب، إن ولينا الشيخ الكامل العاشق لربه حقق توحيد الله بقلبه، فغدى من مجالس القرب بحبه. فكان مرادُه مرادَه، فحقق بذلك حقا مبتغاه. حبه به منه اصطفاه وعشقه له به اجتباه. استسلم لحبيبه فنجى، وحقق في معنى الوجود فسمى. فكان بلا كيف ولا أين ولا متى فأضحى عزيزا للعيان وما تلاهى.
أنواره جعلت من الظلام ألوانا
وحبه نقش على القلوب أسرارا
أوليائه شموس الضحى عيانا
وجموع أحبائه في حضرته عرسانا
فكان الكأس والساقي واللبن معا
لمن كان حفله حفل سلطانا
جماله في سر بروز الألف حتما
وكماله تحقيق أقواله فهما
من ذا الذي قال شمس أوليائه قد غابت
ومن الذي يجرأ القول أن طيف ألوانه تولى
فلينظر من شرفة البصيرة من تاه
ويتنصت على زغاريد الفجر من هام...
فاللهم طهر قلوبنا بخشيتك، ونورها بذكرك، واملأها بمحبتك، واشغلها بجلال حضرتك، والبسها جمال جليل سطوتك، وكمّلها بكمال أحديّتك، حتى نكون من أهل التّجريد في حبّ ذاتك، وظهور عظيم أسرار ربوبيتك بخدمتك وتجلي مظاهر حقيقة رحمتك بحمدك. يا الله، يا الله، يا الله، يا رحمان يا رحيم، يا جوَّاد يا كريم تَوَلَّ قبضَ أرواحنا بيدك، وَحُلْ بيننا وبين غيرك، بحق أسمائك وصفاتك وأفعالك، وبحق مولانا رسول الله صل الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.