الحمد لله، الواحد الأحد، الفرد الصمدُ، أحمدُه حمدَ صفاته لذاته، وأوحدُه توحيدَ ذاته في صفاته، توحيدا خالصا لوجهه بأسمائه المتجلية بحقه وأشهد أنه النورُ الشاهدُ الذي نور قلوب العاشقين بمحبته، والعارفين بنبراس معرفته، وحجبَهم عن شهود غيره لقربه، وزين ذواتَهم بحلل شريعته لطاعته، وأصلي على أقربِهم إليه من خصهُ بمقام محبته وقربه، وهداهُ إلى مقاعد عزته من عرشه، وعرّفهُ حقائقَ الأشياءِ صورةٌ ومعنى، سيدُ الأولين والآخرين، نقطةُ دائرةِ المقربين الشهودِ، سيدنا ومولانا رسول الله، محمد، صلوات الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد،
اللهم اجعل جمعنا هذا جمعا مرحوماً، وتفرقنا منه تفرقاً معصوماً، ولا تجعل يا ربنا بيننا شقياً ولا محروماً، و اجعل اللهم هذا البلد آمنا. اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الحضور الكريم،
الوفاق بين مختلفِ شعوب العالم من أجل انقادِ البشريةِ من التدمير الذاتِيِّ المتسارِعِ في هذه السنينِ العصيبةِ هو عاجل وحاسم. يقول سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعضَ الذي عملوا لعلهم يرجعون. صدق الله العظيم .
فمن دون أي شكل من أشكال التفاعل السلمِيّ في الأمة وعلى وجه الأرض قاطبة، الإنسانيةُ تَتَّجه لا محالة على تسريع اندثارها أو على الأقل على فقدان إنسانيتها لِيَحُلَّ الفسادُ ثم الفوضى كما جاء في الآية الكريمة السابقة الذكر.
ففي نظرنا أنه من بين الوسائل المتينة الضاربةُ نتائِجُها عبر تاريخ الإنسانية لتعزيز الأمن والسلام هي العملُ على إيضاح منهجِ أنوارِ أهل الإحسان لإيقاف هذا التظهور الناتج عن إهمالٍ عميقٍ ومتسارعٍ للقيم الإنسانيةِ الكبرى الناجمةِ عن أخطاءٍ مهولةٍ ارتكبَها ويرتكِبُها الإنسانُ في الأقطار والبلدان بغض النظر عن العرق أو اختلاف المذهب وغيرهما. هذه الأخطاءُ تعزو إلى فقدان قيمِنا الأخلاقية التي جاهد الإنسان على صوْنِها والحفاظ عليها عبر العصور. نعم إن التحليل السليم لهذه الأزمةِ يجعلنا نَفْهَمُ أن الإفلاس الروحي للناس هو عمق التظهور الحاصل الآن في المجتمعات الإنسانية.
في هذا الصدد ، من الضروريّ أن نذكرَ أن من زمان بعيد عملت مرجعياتُ من الشيوخ والعلماء على اختلاف مشاربهم على ضرب أجراس الخطر منبهةً ًبأن انحرافات متعددةً وعميقةً تَنْخَرُ الروحَ عنفا وتطرفا. وذلك راجع إلى التغيرات السريعة التي حصلت في المجتمعات لأسباب اقتصادية وغيرها وكذا منها ما يتعلق بالمعتقدات. فما يرجع للمعتقدات فإنها أُخِذَت بشكل جامد بسبب التفسيرات الجانبية والأحادية، مما أدى إلى ما يسمى "الأصوليةَ" أو "التعصبَ" أو "التطرفَ" - وهو اتجاه عالمي في معظم الديانات في العالم اليوم وكذا ما يخص صراع الإيديولوجيات . ولكن، فيما يخص بالتطرف الديني يمكن أن نأملَ إصلاح هذه المعضلةِ بإصلاح المناهجِ الدراسيةِ والعملِ على خلق تعاون أكبرَ بين مكونات العالم الإسلامي وغيره. فإن الناسَ المخالفين لمنهج الحق سوف يتحولون في النهاية إلى بواطِنِهِم وسيبحثون عن حقيقة الله أو الروحِ في ذواتِهم. فمن الضروريّ بالنسبة لنا ولهم جميعًا كأفراد أن نستيقظ وأن نصبح أكثرَ وعيًا بأفكارنا ومشاعرنا ومستقبلِنا. فهذا الوعيُ سيعطي المزيد من الوضوح وصفاء البصيرة.
الإنسان يشبه المنارة
المنارة على جانب بحر البشرية..
بلا حراك.
كل ما تراه هو انعكاسُك على سطح الماء.
اسمع صياحَ الأعماقِ
ولا تقضي أوقاتَكَ كُلَّها خارج الماء،
غص في الأعماق لتجد الحياة
بينما كنتَ تتعجبُ في السطح ،
ضيعت الخلودَ في الفناء
عندما يحترق القمر على الماء
وتشرْقُ الشمسُ ،
تموت العوالمُ على طول الظلماء.
فكيف يتم قياس الذي لا يقاس؟
كلٌّ مِنّا يعلم وبدون شكِّ أيها الحضور الكريم، أن التصوفَ الحقيقيَّ هو مقامَ الإحسان، الذي يجب إتباعه جليلُ القدر، عظيمُ النفع، لأنه يزكي النفس من الدنس، ويطهرها من كل الأوحال، ويوصل الإنسانَ إلى مرضاةِ الرحمن. وخلاصَتُه تسليمُ الأمورِ كلِّها لله والالتجاءُ في كل الشؤون إليه سبحانه مع الرضا بالمُقَدَّرِ من غير إهمالٍ في واجبٍ ولا إقدامِ على مقاربةِ لِمَحْظور.
إن طريق الإحسان هو طريق الوصال أيها السادة، حيث أنه يتجسدُ في كل فعل جميل يقربك إلى الله لقوله تعالى في محكم الكتاب:
" إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون" (صدق الله العظيم النحل : 128). وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (صدق الله العظيم الأعراف 56 ).
فوصاله سبحانه وتعالى مبني على محبته. ومحبته مبنية على توحيده تعالى.
فأهل الإحسان يأخذون على محمل الجد دعوة الله لإدراك وجوده في العالم وذواتهم وذلك بالتركيز على الداخل عن طريق التأمل خلال الأداء، بتصفية الداخل، بالتفاعل الاجتماعي الرباني. إن أهل الله قد فهموا منذ البداية أن الإحسان هو القلبُ النابض للإسلام وقوتُه الفاعلةُ في المجتمع. فبه تتعزز السكينةُ والطمأنينةُ ويتحقق بذلك الاستقرار والأمنُ والسلامُ حتى يتسنى للشعوب تحقيقَ النهضةِ العلميةِ والثقافيةِ والاقتصادية. ولعل من يدقق النظر في القرآن الكريم سيجد أن الله سبحانه وتعالى قد أخبرنا بهذا في عدة آيات منها: وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا. وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا.(صدق الله العظيم). فإذا كان الأمن والسلام ضرورةً للنهوض بالمجتمعات اقتصاديا فهو أيضا ضروريٌّ للحفاظ على مكوناتها الثقافية والفكرية والعقائدية لبناء حصنها المنيع. هذا الحصنُ لا يمكن له أن يَتْبُثَ إلا بالاستقامة. يقول الله تعالى: إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون. نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم. صدق الله العظيم. فأهل الاستقامة دائما في ظلّ الرحمن، يشملُهُم بعنايته ويرعاهم بحبه. أما الاستقامة فمعناها الإيمانُ والصلاح والتقوى والهداية والأقوال الطيبة والنية الصالحة التي هي أساسُ كُلِّ الأعمال. فالمستقيم يجب أن لا يُرى إلا في أحد الأمرين: إما ساعيا على معاشه وطالبا منافِعَ البشر أو مشغولا بأمر معاده. فهو السعيد حقا والناجح صدقا.
أيها الإخوة الكرام:
إن السلوك من أساسه الاستقامة والاستقامة لا تكون إلا بالصبر، فيه تتفاوت درجاتُ الأفراد والأنبياء والمرسلين ومراتبُ الصديقين والصالحين. فكل أمة تمسكت بالصبر وآدابِه وصلت إلى ما تحبه وتبتغيه. عليه أَسَّسَت الأممُ مجدَها وأقامت حضارتَها. فلا يمكن أن يتأتى هذا إلا بالإخلاص. فهو جمال المتقين والصديقين ووصية الأنبياء والمرسلين. لا تَصِحُّ بدونه عبادةٌ ولا يتحقق أملٌ ولا رجاءٌ. فالإخلاص في العمل هو سبب كل نجاح وفلاح ومفتاح كل مجد ونصر.
لنتذكر أيها الإخوة، أن اإحسان عشقُ الله، ومنبتُه خدمةُ خلقِ الله. فلا وجود لشجع أو الطمع ولا وجود للكبر والبغضاء والحقد هناك سوى المَحَبَّةُ والمَوَدّةُ والوَلَهُ , والإخاءُ والسكينَةُ والجُودُ والكَرَمُ والتوكلُ والرضي.
فنلاحظ أن هذه الأسماء النابعة من أنوار السلوك لها أثرها في الأنفس مما يجعل المتمكن منها يتمتع بقدرة خارقة لحل المعضلات العديدة التي تعصف بعالمنا اليوم.
فالسالك أكان امرأة أو رجلا فهو كالسحاب يظل كل شيء وكالمطر يسقي ما ينبث وما لا ينبث فهو مسؤول عن أخيه كيف ما كان لونه أو عقيدته أو مذهبه أو سيرته. يجعل من حياته فرصة لخدمة خلق الله ويركز نيته على حب الله.
عندما ينظر المرءُ إلى الحالة التي آلت إليه الدول الغنية كالفقيرة، يتضح على الفور أن الجشع البشري لا يشبع. فقد تسبب في عدد لا يحصى من الكوارث الإنسانية: كالحروب إلى جانب الكثير من المشاكل المميتة الأخرى المناخية والبيئية: تلوُّث المياه، الاحتباس الحراريّ، نقص التّنوُّع الحيويّ، تحمُّض المحيطات، انتشار الأمراض المُعدية، الأغذية المعدلّة وراثياََ...
إن طريق الإحسان يمتلك كل السيمات والصفات الإيجابية لمعالجة الجشع المهيمن على الأفراد وبالتالي على مجتمعات المعمور. فهذا الجشع المجحف يمكن تفكيكه واستبداله بتربية روحية تعكس الإنصاف والانسجام والتوازن. وهذا أمر بالغ الأهمية ، بحيث يصبح فيها التعايش السلمي القاعدة وليس الاستثناء النادر.
لذلك فالسلوك الروحي يوفر الأجوبة الفكرية الأكثر تساؤلا وإلحاحًا من الناس في كل بقاع الأرض من خلال تزكية النفس واليقين بالله سبحانه وتعالى. وأن السلوك الروحي بإمكانه كذلك أن يطفئ بسهولة أكثر عطش الطامحين في البحث عن الله. فالاهتمام الغربي بالروحانيات بسبب الوضع الشاذ للعالم الحديث وبسبب متاهات الفلسفة المادية التي أصبح المرء مسجونا في دائرتها المتمثلة في الاستهلاك ثم الاستهلاك ولَّدَ اهتماما مدهشا جدا بين الناس بحيث أنه في أوروبا بل وأكثر في الولايات المتحدة أصبح الناس يبحثون بشغف عن كتب أهل الإحسان وتقاليدهم ويخرجونها للوجود بلغتهم لأن رسالة أهل الإحسان متنوعة وغنية .
فالفلاسفة العقلانيون في القرن الثامن عشر أو غيرهم لم يتنبأوا أبداً أنه بعد قرن أو قرنين أن الناس في العالم سيصبحون مهتمين مرة أخرى بأرواحهم. إن الفلاسفة العقلانيين في القرنين الماضيين لم يدركوا أنه ستظهر احتياجات الإنسان الروحية مرة أخرى على المقياس الذي نراه أمامنا اليوم. هذه الاحتياجات بطبيعتها مؤسسة له، هي نفسها لا تتغير إلى الأبد ، لا سيما بسبب طبيعة الإنسان التي لا تتغير. "الإنسان هو ما هو عليه، خوفه من الحاضر والمستقبل. فحاجته العميقة إلى اليقين مدى حياته وما بعد مماته تبقى هي ضالته. فاليقين ، هو في الواقع أمر أساسي للغاية لاكتساب الكمال الروحي. لقوله تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) صدق الله العظيم. وهذا بالطبع متناقض مع ما نجده مصبوغا بعمق في عقلية الإنسان المعاصر ألا وهي الثنائية المقسمة للواقع في المادة والعقل الذين يرفضونها أهل الإحسان بيقينهم في الله جملة وتفصيلا. فإنهم يعلمون بتجربتهم الدينية أن التمرد ضد الله يحدث على مستوى النفس، وليس على مستوى الجسد. فالجسد هو فقط أداة للاتجاهات التي تنشأ داخل النفس. إنها النفس التي يجب صقلها حتى تصبح مستعدة لحفل زفافها بالروح، إذا ما ارتبط هذا الصقل بمبادئه السليمة الأصيلة المنبثقة من مشكاة النبوة المحمدية.
أيها الحضور الكريم، إن المكان الواضح للتطبيق ما ورد ذكره هو العالم الإسلامي أولا، ولكن للأسف، نجد هذا العالم أكثر تمزقاً وتفككا بحيث هناك طوائف تعمل على قتال روح الإسلام من داخله باسم فهمها المنفرد والدفاع عن تصورها الأوحد بشتى الوسائل. لكن، من ناحية أخرى، إذا أعطيت الفرص لأهل العناية الوسائل للحفاظ على التوجه السليم فإن علمائَنا وشيوخَنا وفضلائَنا سيعملون كل من موقعه، بدون شك، على تقديم حلول عملية تراعى إختلاف العرق والمذهب وحتى العقيدة من أجل السلام والازدهار على أسس دائمة. يقول سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون. (صدق الله العظيم . آل عمران104).
ختاما،
· إن تعاليم ديننا السليم، إذا ما تم نقلها بلغة معاصرة عبر جميع الوسائل المتاحة لها من مدارس وجامعات وقنوات التواصل الاجتماعي والإعلام بصفة عامة، يمكن أن تساعد في حل العديد من المشاكل الحالية التي ظهرت في المقام الأول بسبب نسيان المبادئ الأولى من خلال إحياء النشاط الفكري الأصيل وتنشيط الجوانب الثمينة للفرد الذي يغطيه الاستهلاك والمظاهر.
· لكن من جهة أخرى، إذا كان هذا التوجه يوفر في ذاته حلولا كونية، فيجب أن يكون قادرا، في ممارسته الميدانية، على الحفاظ على سلامته ونقاءه وقادرا أيضا على مقاومة قوى الانحراف والتشويه التي يمكن أن تبرز من بعض دخلائه. كذلك عليه في كل مكان أن يخدم العالم حوله مثل البلورة الذي تجمع الضوء وتنشره في المناطق البعيدة عنها. في نفس الوقت يجب أن يكون قادراً على معالجة العالم من حوله بلغة يفهمها هذا العالم. كما أنه لا يمكن أن يترك دون جواب جاذبية أولئك الذين ينادون عليه بدون المساس بمبادئه بأي شكل من الأشكال لكي يصبح أكثر عصرية مثلا فيصبح آنذاك بدعة تختفي من المشهد بنفس السرعة التي أصبح شائعا فيها.
فتعالوا أيها الفنانون
والحرفيون والصناع
أيها المفكرون والمثقفون
أيها العلماء... المبدعون..
إلى كلمة سواءٍ...
إلى بساتين المحبة.. وعطور العشق
إلى عبادة الله.. إلى معرفة الله
إلى ما يَعْزِفُ به الوجودُ كُلَّ لحظة
تعالوا إلى اللحاق واللقاح
عبر القرون.. إلى غاية إبداع المهرة.
فاللهم طهر قلوبنا بخشيتك، ونورها بذكرك، واملأها بمحبتك، واشغلها بجلال حضرتك، والبسها جمال جليل سطوتك، وكملها بكمال أحديتك، حتى نكون من أهل التجريد في حب ذاتك، وظهور عظيم أسرار ربوبيتك بخدمتك وتجلي مظاهر حقيقة رحمتك بحمدك. يا الله، يا الله، يا الله، يا رحمان يا رحيم، يا جوَّاد يا كريم تَوَلَّ قبضَ أرواحنا بيدك، وَحُلْ بيننا وبين غيرك، بحق أسمائك وصفاتك وأفعالك، وبحق مولانا رسول الله صل الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. سبحان ربك رب العزة عم يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين. والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.