يا سالكي دروب الحياة الأرض تئن، كوكبنا يئن، سفينتنا تئن. الأرض بصراخها اليومي على شكل الزّلازل وموجات التسونامي، والفيضانات الغارقة، والعواصف هنا وهناك، والحرارة الغير المسبوقة، والجفاف المتواصل في مناطقنا العربية وحتى في المناطق التي اعتدنا عليها أو سمعنا بها شتوية المناخ تتوجع وتئن. هناك دلائل علمية صارخة -وليست بالنظريات الجوفاء- تؤكد أن نظامنا الإيكولوجي يتحول ويتغير ربما لا رجعة فيه إذا أصرت المجتمعات على اختلاف ثقافتها وأديانها ونماذج اقتصادياتها وإيديولوجياتها جهل ما يحدث. أليس هذا راجع إلى كبرياء المجتمعات وتمسكها بالأسلوب المادي الاستهلاكي المفرط الغير المستدام الذي ألحق خسائرا فادحة من خراب بيئي للأرض والمحيطات والجو ومعه نفاذ الأنواع الحيوانية والنباتية والموارد الطبيعية الطاقية معتقدون أننا منفصلون عن العالم وأن المال هو الحل لجميع المعضلات؟ هذه المقاربة بالطبع غير صحيحة يا سادة منذ أن عُرِف أضرارها.
كوكبنا الأرض على قياسنا أيها السادة الكرام، كائن حي مثلنا، ننتمي إليه شئنا أو أبينا. إنه خُلِق من قبلنا لنكون خلفاء فيه. فهو جزء منا، ونحن جزء منه. معاناتنا معاناته، والعكس صحيح. ليس هناك انفصال مستقل في المعنى أو الجوهر، وإلا لماذا أكرمنا الله بالخلافة وأكرمه بالوجود مِن قَبْلِنا لقول الله تبارك وتعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ صدق الله العظيم. (سورة البقرة الآية 30). وقوله تعالى: إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ (71) وكذلك قوله سبحانه وتعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ(20) (سورة الروم). وقوله سبحانه وتعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70) (سورة الإسراء 54) وأليس أرواحنا كريمة لقول الله تعالى وتبارك: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) (سورة الحجر). أليس الأرض كريمة بالحياة على باقي كواكب المجموعة الشمسية؟ أليس قدرة الله تتصرف في الأرض وفينا على السواء وكذا لطفه وجماله وجلاله؟ أليس ما في الأرض أو قل ما في الكون يسبح لله مثلنا لقوله سبحانه وتعالى: يسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) (سورة الجمعة).
بالكَون، جملة وتفصيلا، نتعرف على جمال الله وجلاله وقدرته وكرمه ولطفه وعظمته فهو الأول والآخر والظاهر والباطن. الكون بما فيه الأرض طبعا مصدرنا من مصادر معرفة الله ونحن مصدر الكون في رؤية نفسه لنفسه بالتأمل والمراقبة المستمرة التي تؤدي إلى طريق الحقائق لقول الله تعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53). العالم مخلوق ونحن كذلك، لا انفصال ولا غنا عن بعضنا البعض. الكل خَلْقُ الله لقول الله تعالى : قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ۖ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَٰذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (4). سورة الأحقاف.
العالم مخلوق، وكل الناس كذلك، واتصالنا به مشيئة الله المكنونة في سر أنوار وحدة البعد الروحي للحياة. فلا شفاء للأرض من الأضرار التي سبق ذكرها ولا بقاء للإنسانية إلاّ الرجوع إلى الحقّ بمعاجلة أنفسنا والمحافظة على بيئتنا والسماع في كل حين لأنين الأرض المنبه على تجاوزاتنا والانفصال عنها بانفصالنا عن العبودية المتمثلة في معرفة الله. لقول الله سبحانه وتعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) (سورة الروم). فلإعادة الأرض إلى التوازن الحقيقي علينا بالفعل إعادة الإنسان إلى موقعه الذي خصصه الله له به. وهذا الموقع يتمثل في احترام ما خَلَقَ الله. لقول رسولنا الكريم سيدنا محمد عليه أفضل الصلوات: جعلت لي الأرض كلها طهورا ومسجدا.
بأسماء الله الحسنى يتغذى الكون بأسره. فلماذا عَمَلَ الإنسان منذ قرون على فك ارتباطه بالأرض عنوة وقطع كل تسابيح الخَلْق بكبريائه الفردي أو الجماعي؟. ألم يَحِنِ الوقت قبل فوات الأوان، لاستجابة لنداءات الأرض المتوالية بالحفاظ عليها بقلوبنا وأرواحنا وأعمالنا. أَلَمْ يَانِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْاَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) صدق الله العظيم (سورة الحديد).
حان الوقت لايقاظ العزائم، فإذا كانت الجنة بداية للإنسانية وبداية معرفتنا بالله فيجب علينا أن لا ننسى أن استيطاننا للأرض أيضا معرفة وخلافة ومسؤولية وعمل. إن كوكبنا يحتاج إلى اهتمامنا والحفاظ عليه للأجيال القادمة. إنه بحاجة إلينا ونحن بحاجة إليه. ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم. صدق الله العظيم.