MoatazWafdFallacies

لمغالطات المنطقية في التعديلات الدستورية

د. معتز بالله عبد الفتاح

كلية الاقتصاد، جامعة القاهرة 

الوفد ، 23 يناير 2007 

          قمت بتدريس مادة التفكير النقدي Critical Thinking لعدة سنوات حينما كنت في الولايات المتحدة الأمريكية. وهي مادة تقرر على كافة طلاب الجامعة بغض النظر عن التخصص وتهدف في المقام الأول إلى تدريب الطلاب على التفكير المنطقي السليم بحكم أن المنطق، كما يعرفه الجرجاني، هو العاصم من الوقوع في الخطأ. وكان واحدا من أهم أجزاء المقرر تدريب الطلاب على اكتشاف المغالطات المنطقية أو ما يسمى بالـ Logical Fallacies وهي التركيبات اللغوية التي قد تبدو مقنعة لأول وهلة ولكن ببعض التبصر والتأمل يكتشف العقل المدرب أنها ليست كذلك بل فيها الكثير من خلط الحق بالباطل على نحو يؤدي إلى النتيجة التي يريدها المتحدث أو الكاتب. وقد وجدت نفسي، بلا افتعال، أوصف الكثير من الجدل الدائر حول التعديلات الدستورية على أنها حجج مصابة بالمغالطات المنطقية التي تبدو كتدريب جيد للقارئ على كيفية التفكير النقدي فيما يسمع أو يقرأ. وقد اخترت خمسا منها على سبيل المثال لا الحصر.

 

وأول المغالطات الشائعة في هذا المقام هي مغالطة "قنابل الدخان"  Red Herringوالتي يقوم أصلها اللاتيني على فكرة أن ينشر سارقو المنازل قطعا من السمك المتعفن في مكان الجريمة حتى لا تستطيع كلاب الحراسة أن تتبع أثر السارق. وقد برزت هذه المغالطة في قول القائل إن تعديل المادة 88 بالنص الصريح على أن تكون الانتخابات في يوم واحد له أهداف ثلاثة: 1- يهدف إلى حماية القضاة من الإهانة المحتملة نتيجة دخولهم إلى معترك الصراعات الانتخابية، 2- عدم تعطيل أعمال المحاكم لفترة طويلة من الزمن تقارب الشهرين، 3- مواكبة الزيادة الكبيرة في أعداد اللجان نتيجة زيادة أعداد السكان.

وهي في تقديري ثلاثة قنابل دخان تخفي وراءها السارق الحقيقي، عفوا الغرض الحقيقي وهو سرقة الانتخابات، فإن غاب الحارس أصبح الصندوق نهبا لمن يستطيع أن يفرض كلمته. وبالعودة إلى اجتماع نادي القضاة في يوم السبت الماضي يتبين لي أن القضاة حينما اشتكوا من إهانة فقد كانت إهانة قادمة من بعض رجال الشرطة وليس من الناخبين أو المرشحين، فضلا عن أن القضاة يقبلون أن يراقبوا الانتخابات في فترة الإجازة الصيفية وهي شهور ثلاثة والتي تكون فيها المحاكم متوقفة عن العمل أصلا، فضلا عن أن قضية الزيادة الكبيرة في السكان، وهي بالمناسبة لا تعني بالضرورة الزيادة في أعداد المقترعين بسبب استقالة المصريين المسببة من الحياة العامة، لا تعني تقليل عدد الأيام وإنما المنطقي زيادتها حتى نحافظ على أعلى درجة من نزاهة العملية الانتخابية.

 

المغالطة الثانية هي مغالطة القياس الخاطئ أو False Analogy وأصلها اللاتيني يقوم على فكرة تمرير استنتاج معين بقياس غير منطقي لفكرة على فكرة أو حالة على حالة لا تساويها في المضمون حتى وإن شابهتها في الشكل. ومن هنا فقد خدعونا حين قالوا إن عدم تعديل المادة 77 والتي تجعل من حق الرئيس أن ينتخب لعدد غير محدود من المرات يرجع إلى التقاليد الدستورية التي تأخذ بها بعض الدول مثل فرنسا وهي مغالطة واضحة: فهل لدينا انتخابات نزيهة كما هي في فرنسا؟ وهل لدينا قوات أمن محترفة تحاسب أمام مجلس النواب على النمط الفرنسي؟ وهل لدينا نظام حزبي جامع لكافة القوى ذات الوجود في الشارع مانع لغير الملتزمين بالدستور والقانون على النمط الفرنسي؟ وهي مغالطة أشبه بمغالطة أخرى كانت تقال حينما كان الرئيس ينتخب على أساس المادة 76 قبل التعديل بترشيح من مجلس الشعب واستفتاء الشعب، والتي كانت تقول إن الرئيس المصري ينتخب على نمط الرئيس الجنوب إفريقي. ويالها من فوضى لغوية تبرز مدى استهزاء المتحدث بعقل السامع.

 

المغالطة الثالثة وهي مغالطة المأزق المفتعل False Dilemma وأصلها اللاتيني أن تضع السامع أو القارئ في مأزق الاختيار بين بديلين فقط وكأنه لا يوجد غيرهما. وهو ما يبدو بوضوح في دعوة البعض لاستفتاء المصريين على التعديلات ككتلة واحدة إما أن تقبلها جميعا أو أن ترفضها جميعا. وهو ما لا يستقيم مع المنطق السليم. هل جربتم حضراتكم أن تذهبوا إلى السوبر ماركت ويطلب إليك البائع أن تشتري عشرين سلعة مرة واحدة أو ألا تشتري أيا منها على الإطلاق؟ إن هذا موقف غير ليبرالي، بل أقول غير إنساني. فإذا كنا نريد أن ندعم حقا مفهوم المواطنة، فلنبدأ باحترام حق المواطن في القبول والرفض. فليقبل ما يشاء وليرفض ما يشاء. أما أن يكون الاختيار على هذا النحو المفتعل بين ما يحتاجه ويريده من ناحية وما يرفضه بل ويزدريه يجعلنا أمام تعديلات إذعان وليس تعديلات اختيار.

 

المغالطة الرابعة وهي مغالطة الخلط بين السبب والنتيجة False Cause وأصلها اللاتيني أن يحاول المتحدث أو الكاتب إقناعنا بأن التزامن بين ظاهرتين يعني وجود سبب بينهما كأن الأول هو سبب الآخر، في حين أنه من الممكن أن تكون الظاهرتان نتيجتين لسبب ثالث غائب عن الحوار. والمثال الطريف في هذا المقام أن الدول التي بها محلات ماكدونالدز لا يحارب بعضها بعضا. وتبدو المسألة لأول وهلة أن السر في نوع اللحم، ولكن حقيقة أن الظاهرتين سواء وجود هذه المحلات أو عدم استخدام أداة التدخل العسكري في حل النزاعات بين الدول يرجع لسبب ثالث وهو السبب الحقيقي بحكم أن هذه الدول هي الأكثر انفتاحا على الاقتصاد العالمي بما يجعلها مكانا آمنا للشركات العالمية وفي نفس الوقت أقل استعدادا للدخول في مغامرات عسكرية. وهو ما بدا لي حينما حاول البعض ترويج فكرة أن عزوف المصريين عن المشاركة يرجع بالأساس إلى ضعف الأحزاب السياسية ورغما عن تزامن الظاهرتين إلا أنني أشكك في علاقة السببية المباشرة بينهما. فالحقيقة أن الاثنين نتيجتان مباشرتان لعامل ثالث وهو رغبة الحزب الحاكم في السيطرة والتضييق على حق الأحزاب في التعبئة وحق المواطنين في المشاركة. فالمزيد من المشاركة السياسية ستكون بالضرورة في غير صالح الحزب الوطني وبالتالي من مصلحة الحزب الوطني أن يعزف المصريون عن المشاركة. ومن مصادر مباشرة تبين أن أربعة من بين كل خمسة مواطنين عازفين عن المشاركة فإنهم لو شاركوا فسيصوتون لغير صالح الحزب الوطني، وهو ما انعكس على منع قوات الأمن لقطاع كبير من المواطنين من التصويت في الجولة الثالثة من الانتخابات بعدما تبين أن مزيدا من التصويت يكون في غير صالح الحزب الحاكم، ومن مصلحته أيضا ضعف الأحزاب حتى لا يوجد أمام الناخبين بدائل ذات شرعية تهدد سلطة الحزب الوطني واستمراره.

 

المغالطة الخامسة وهي المبالغة في تصوير العواقب على نحو غير منطقي Slippery Slopeوالتي تعني محاولة إقناع السامع أو القارئ بأن الوضع الراهن أفضل مما هو عداه لأن المتوقع شديد السوء. ومن هنا رفضت بعض قيادات الحزب الوطني تعديل المادة 93 الخاصة بحق مجلس الشعب في الفصل في صحة عضويته بعد الإطلاع على تقارير محكمة النقض بما يجعل من المجلس خصما وحكما في صحة عضوية أعضائه على نحو يتيح للأغلبية الحق في التخلص من القوى النابضة في المعارضة ومن ثم تدجين الكثير من العناصر التي لها حصانة برلمانية بحكم المنصب وفقا للدستور. ويبالغ هؤلاء في تصوير العواقب السلبية المحتملة إذا أعطينا لإحدى الهيئات القضائية العليا الحق في الفصل في صحة العضوية لأننا بهذا ننتهك مبدأ الفصل بين السلطات. وهذه حجة فيها الكثير من المغالطة، فالتوازن بين السلطات وتداخلها بحساب من أجل الرقابة مبدأ مقرر دستوريا وعمليا، وقد أخذت به دول كثيرة مثل المكسيك والأرجنتين وكوريا الجنوبية والكويت والعديد من الولايات في الدول الفيدرالية. ولست مغاليا إن قلت إن تعديل هذه المادة وحدها بحيث يكون اختصاص محكمة النقض أو غيرها من المحاكم العليا هو الفيصل في استمرار عضوية عضو مجلس الشعب كانت كفيلة بإحداث نقلة نوعية في أداء مجلس الشعب سواء التشريعي أو الرقابي. فالتزوير وشراء الأصوات ما كان ليضمن لمرشح مقعدا لو أن كل مزيف أو مزور يفقد مقعده بعد افتضاح أمره وثبوت التزوير عليه بحكم قضائي. وأكرر إن إعطاء القضاء وحده الحق في الفصل في صحة عضوية أعضاء المجالس النيابية كان سيحدث نقلة أكبر على طريق التحول الديمقراطي الحقيقي لأنه سيقف حائلا ضد فساد الهيئة المسئولة عن رقابة فساد السلطة التنفيذية وجهازها الرقابي.

 

          إن هذه التعديلات وغيرها تجعلنا أمام حقيقة أن ليس كل تحول عن التسلطية التقليدية يعني تحولا ديمقراطيا. فهناك الكثير من حالات التحول من النمط التقليدي للتسلطية إلى نمط آخر يطلق عليه في علم السياسة "التسلطية التنافسية"؛ حيث توجد قواعد ومؤسسات ديمقراطية قانونية شكلية تتوافق أطراف العملية السياسية على أنها مصدر الشرعية بيد أن هذه الأطراف تنتهك هذه القواعد عندما تجد نفسها بحاجة لهذا. كما تتبنى النظم الحاكمة تحت هذا النوع من التسلطية استراتيجية الانفتاح السياسي المحدود أو التكتيكي كمحاولة للتكيف مع الضغوط الداخلية والخارجية بإعطاء بعض التنازلات السياسية الشكلية مع زيادة إنفاقها على الأمن وأجهزة الإعلام واهتمامها بآليات الضبط السياسي. ولاشك أن مصر تسير في هذا الاتجاه.

 

          إن التسلطية التنافسية، بحكم التزامها الشكلي بالمؤسسات والإجراءات الديمقراطية، تعطي انطباعا زائفا بالديمقراطية. وهي بهذا تضع نفسها في حالة توتر دائم بما قد يعجل بفنائها لاحقا إذا نجحت القوى المعارضة والمستقلة أن تتحد وتقدم شرعية بديلة قادرة على تحدى الممارسات التسلطية القائمة، وهي مرحلة متقدمة لم تصل إليه المعارضة المصرية بعد.

          لكن يظل التوتر الأكبر الذي ستشهده مصر في الفترة القادمة هو التوتر مع السلطة القضائية التي يقف العديد من أبنائها الشرفاء حجرة عثرة في مواجهة محاولات تزييف إرادة الشعب المصري في الانتخابات القادمة. وهذا التوتر بين السلطتين التنفيذية والقضائية ليس بجديد في النظم التسلطية التنافسية حيث تسعى النخب الحاكمة إلى "تدجين القضاء" بحيل كثيرة مثل التخلص من القضاة المعارضين أو رشوتهم (مكافئتهم) على حسن خدمتهم "للعدالة" أو حتى الابتزاز. إن دولة مثل بيرو تحت حكم فوجيموري عرفت أعلى معدلات فساد القضاة في أمريكا اللاتينية ومن الأعلى في العالم بيقين. وفي عام 1993 حينما أعلنت المحكمة الدستورية العليا أن قرار يلتسن بحل البرلمان غير دستوري، قطع عن المحكمة خطوط التليفون وسحب من القضاة حراسهم الشخصيين.

          ومع ذلك يظل الاستقلال النسبي للسلطة القضائية في وجه السلطة التنفيذية واحدا من أهم خصائص التسلطية التنافسية لوجود مجموعة من القضاة الشرفاء الذين يرفضون أن يكونوا شهود زور على تزييف إرادة الناخبين. وعادة ما تلجأ المعارضة إلى القضاء المستقل نسبيا لتحقيق مزيد من المكاسب السياسية. ففي أوكرانيا دعمت المحكمة العليا موقف المعارضة التي اعتبرت أن نتائج الاستفتاء الذي يحد من صلاحيات البرلمان مزيفة ولا تعبر عن إرادة الأوكرانيين. وكان هذا دعما مهولا لمطالب المعارضة الأوكرانية، لكننا نظل في مصر نعاني من معارضة متشرذمة لم تقدم حتى الآن بديلا مقبولا عن الحزب الحاكم.