مصطفى اللباد: الملف النووي الإيراني: "لعبة محاكاة" في ثلاثة مراكز أبحاث دولية مهمة
النهار: 19-2-2010
تبدو طهران في بؤرة المشهدين الإقليمي والدولي غداة احتفالها بالذكرى الحادية والثلاثين لانتصار الثورة الإيرانية، بعد أن مددت حضورها الإقليمي في المنطقة كما لم تفعل في تاريخها الحديث.
أتت ذكرى انتصار الثورة هذه السنة وإيران تقطع خطوات واسعة على طريق امتلاك المعارف النووية، وبحيث تبدو 2010 علامة فارقة في مسيرة إيران والمنطقة على حد سواء. ويعود السبب في ذلك إلى أن انضمام إيران للنادي النووي سوف يتسبب في تغيير الموازين في المنطقة بكاملها وبشكل يعيد رسم خرائط التوازنات جذرياً، وبحيث يكون امتلاك إيران تلك القدرات نقطة الانطلاق نحو أدوار أهم وأكبر وليس محطة لانتهاء طموحاتها. لذلك تعتبر الدولة العبرية، التواقة إلى الهيمنة الإقليمية، أنها تواجه أهم الأخطار منذ تأسيسها وتدفع الأمور نحو حافة التصعيد ضد إيران بأشكال مختلفة يتقدمها الخيار العسكري. ويظل هدف الدولة العبرية متمثلاً في إنهاء البرنامج النووي الإيراني، ولكن هذا الهدف يبدو صعب التحقق بسبب خليط من العوامل الجغرافية واللوجيستية التي تمنع الدولة العبرية من القيام بذلك، بالإضافة إلى سبب جوهري ملخصه التصادم في المصالح بين الدولة العبرية والولايات المتحدة حيال الملف النووي الإيراني.
تنطلق غالبية التحليلات السياسية للأحداث في المنطقة من أرضية واحدة مفادها عدم وجود تمايز في المصالح بين تل أبيب وواشنطن، وبشكل يجعل هذه المصالح تبدو - في متون هذه التحليلات - وكأنها ملتصقة مثل التوائم السيامية. وإن كان التطابق في المصالح بين تل أبيب وواشنطن قد أثبتته أحداث كثيرة بعينها، إلا أن أحداثا أخرى كثيرة أثبتت عكس ذلك ومنها الملف النووي الإيراني. ويقود تقليب النظر في مصالح الأطراف المختلفة الداخلة في هذا الملف إلى ملاحظة التمايزات بين مواقف تل أبيب وواشنطن وهي تظهر في تمام الاكتمال. صحيح أن الولايات المتحدة الأميركية لا تؤيد إيران نووية مثل إسرائيل، ولكنّ كلتيهما تختلفان بشدة حول الطرائق الواجب إتباعها حيال وسيلة التعامل مع الموضوع. ففي حين تحبذ إسرائيل الحل العسكري وتدمير المنشآت النووية الإيرانية دون إبطاء، ترى واشنطن الأمور بشكل مغاير لأن تداعيات الضربة العسكرية على إيران غير مضمونة العواقب على مصالح الولايات المتحدة الأميركية. ولأن الأخيرة هي القطب الدولي الأوحد بعد انتهاء الحرب الباردة، تبدو حساباتها مرتاحة أكثر بسبب تنوع قائمة اختياراتها من البدائل، في حين تبدو قائمة الدولة العبرية قصيرة جداً ولا تحتوي سوى على وصفة ضرب إيران.
تدار العلاقات الدولية وتتخذ قرارات الحرب والسلم وفق معطيات عملية وعقلانية، وانطلاقاً من ذلك فقد دخلت "ألعاب المحاكاة" تاريخ الأزمات من أوسع أبوابها. تقوم هذه الالعاب على أساس متين قوامه الخبراء العسكريون والاستراتيجيون وخبراء الشؤون الإقليمية الذين يقومون بتمثيل أدوار الدول المختلفة المنخرطة في الأزمة. وكلما امتلك هؤلاء الخبراء ناصية تخصصهم، كلما كانت تصرفاتهم واستنتاجاتهم أقرب إلى الدقة بحيث تحاكي تصوراتهم الطريقة الأمثل لتصرف الأطراف المعنية في المواقف المختلفة. وتعد "ألعاب المحاكاة" واحدة من أهم الأدوات في أوقات الأزمات الدولية، حيث تبدأ بسيناريو محدد سلفاً للوصول إلى نتائج أقرب إلى الدقة لمواقف الأطراف المختلفة من هذا السيناريو. وهنا لا تستشرف "ألعاب المحاكاة" المستقبل في قراءة الطالع من خلال كرة بلّورية أو فتح "أوراق كوتشينة"، بل تعطي نتائج منطقية وواقعية تكون ذات أهمية قصوى لصناع القرار في اتخاذ قراراتهم والتخطيط لأهدافهم وتكشف بوضوح التناقض في المصالح بين الأطراف المختلفة. تضع "ألعاب المحاكاة" الأطراف في مواجهة بعضها البعض وكذلك اللاعبين، وتسلط الأضواء تالياً على الديناميكيات المتحكمة في الأزمة والعوامل الحاسمة في تطور كل سيناريو. باختصار تعد "ألعاب المحاكاة" الطريقة المثلى لتصور السياسة الواقعية حيال أزمة ما يشترك في التأثير على مساراتها أطراف عدة إقليمية ودولية، وهي حال أزمة الملف النووي الإيراني بالطبع.
أجرت حتى الآن ثلاثة مراكز أبحاث شهيرة "ألعاب محاكاة" تهتم بالملف النووي الإيراني، خرجت باستنتاجات فائقة الأهمية، تفيد في تقويم مواقف الأطراف الدولية المختلفة. ومع التسليم بأن هناك نتائج ومعلومات مازالت طي الكتمان وهو أمر طبيعي في "ألعاب المحاكاة" عموماً، وفي ألعاب المحاكاة الثلاث الخاصة بإيران، لأن الغرض الأساسي منها هو صناع القرار وليس الرأي العام العالمي، إلا أن المعلومات المتوافرة عنها تكفي للخروج باستنتاجات فائقة الأهمية. في كانون الاول 2009 عقد الخبراء في مركز بلفر للعلوم والشؤون الدولية في جامعة هارفرد الأميركية والخبراء في معهد دراسات الأمن القومي في جامعة تل أبيب، وخبراء في معهد صبان لدراسات الشرق الأوسط التابع لمركز بروكينغز الأميركي ثلاث جولات منفصلة من "ألعاب المحاكاة"، بهدف تحليل السيناريوات المختلفة للملف النووي الإيراني. وكما هي العادة فقد تم تنسيق اللاعبين بحيث يمثلون صناع القرار في الدول الداخلة في الأزمة النووية الإيرانية. في لعبة هارفرد كان السيناريو المحدد هو النتائج المتوقعة للأزمة النووية الإيرانية في السنة الحالية. وجاءت النتائج كالتالي:
أولاً: لم تستطع الولايات المتحدة الأميركية الحصول على دعم حقيقي لمساعيها نحو فرض عقوبات اقتصادية قاسية على إيران، بسبب مواقف روسيا والصين اللتين ستعقدان صفقات سرية مع إيران لمنع هذه العقوبات.
ثانياً: تضررت العلاقات الأميركية الإسرائيلية وانتهت إلى أزمة ديبلوماسية عميقة.
ثالثاً: رأت إيران نفسها في موقف قوي وتصرفت على هذا الأساس.
رابعاً: خرجت إيران من "لعبة المحاكاة" بشكل أفضل عما كانت عليه عند بدايتها، وبحيث تضاعف مخزونها من الاورانيوم المتدني التخصيب وتدخل مرحلة الشروع في صناعة رؤوس نووية عند نهاية 2010.
جرت لعبة جامعة تل أبيب على أساس سيناريو المفاوضات الأميركية الإيرانية والردود الإسرائيلية المحتملة. النتائج جاءت كالتالي: أولاً: احتلت إيران موقعاً جيداً في اللعبة، بالاستناد على هدف واضح وهو الوصول إلى القدرات النووية العسكرية. ثانياً: افتقرت كل من إسرائيل وأميركا إلى أهداف واضحة للتعامل مع البرنامج النووي الإيراني. ثالثاً: قوّم الإيرانيون موقف أميركا على أنه ضعيف، في حين اعتبروا أن موقفهم قوي. رابعاً: ظهرت إسرائيل على أنها غير ذات فائدة لأميركا في هذا الملف. وفي نهاية اللعبة استمرت إيران في برنامجها النووي ولم تضطر للتخلي عنه لا بالمفاوضات ولا بالتهديد.
وفي المقابل تركز سيناريو لعبة معهد بروكينجز التي أجراها مركز حاييم صبان للشرق الأوسط في واشنطن على ردود فعل إيران وأميركا، في حال وجهت إسرائيل ضربة عسكرية للمنشآت النووية الإيرانية. وجاءت النتائج كما يلي:
أولاً: عارضت الولايات المتحدة الأميركية الهجوم الإسرائيلي. ثانياً: حاولت أميركا التحدث بخشونة مع الإيرانيين إلا أنها استمرت في التفاوض معهم. ثالثاً: حاولت الولايات المتحدة البقاء خارج المواجهة الإسرائيلية الإيرانية ولم تتدخل فيها. رابعاً: كان الرد الأميركي محدوداً ودفاعياً وإيران قوّمت الموقف الأميركي على أنه ضعيف.
مثّلت الألعاب الثلاث أهمية في حد ذاتها، لأن كل سيناريو مؤسس للعبة المحاكاة جدير بالتحليل والتقدير، ولكن أهمة الألعاب الثلاث تزداد عندما ينظر إليها سوياً، بحيث يمكن استخلاص نتائج مشتركة مهمة وتحظى بتوافق المشاركين: أولاً: لم تحصل الولايات المتحدة الأميركية على دعم دولي لمساعيها بفرض عقوبات على إيران. ثانياً: لا تملك العقوبات فرص حقيقية للتأثير على خيارات إيران النووية. ثالثاً: الولايات المتحدة غير مستعدة لدعم إسرائيل في ضرباتها الجوية حتى مع فشل السيناريوات الأخرى. رابعاً: تدهورت العلاقات الأميركية الإسرائيلية بشكل دراماتيكي. خامساً: استمرت إيران في مساعيها لامتلاك القدرات النووية العسكرية. سادساً: إيران امتلكت رؤية واضحة ومحددة وصناع القرار فيها منطقيون وحاذقون. سابعاً: من بين كل الدول الضالعة في الملف النووي الإيراني، كانت إسرائيل الوحيدة التي أبدت استعدادا لضربات عسكرية ضد إيران. ثامناً: اختلفت توجهات ومصالح كل من إسرائيل وأميركا في السيناريوات الثلاثة بحيث تبدو الأزمة في العلاقات الأميركية الإسرائيلية هي النتيجة المنطقية.
ما زالت الأزمة النووية الإيرانية مفتوحة على احتمالات شتى، ولكن "ألعاب المحاكاة" تؤكد مرة أخرى من طريق غير مباشر أن واشنطن ربما تعمد إلى تغيير النظام في إيران، كأفضل الحلول من منظارها لحل الملف النووي الإيراني. وحتى بافتراض توافق أركان الإدارة ومجموعات الضغط الأميركية المختلفة على ذلك السيناريو يبقى تقدير قدرات الطرف الآخر أي إيران، غائباً في هذا التصور.
سواء كنت مؤيداً أو متحفظاً أو ناقداً ازاء إيران السياسي، يقتضي الإنصاف بك –مع كل التحفظات- أن ترفع القبعة احتراماً لهذه المهارات التفاوضية اللامنتهية وتلك الطاقات العلمية والكفاءات البشرية التي تصنع حاضر إيران والإصرار العجيب على البقاء في بؤرة المشهد الإقليمي وفي مواجهة كل من واشنطن وتل أبيب!
( مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية والإستراتيجية – القاهرة)