انكشاف صورة برنامج أمير الشعراء

كنوز النورس | الشاعر - عبدالوهاب ابو زيد


كان في نيتي كتابة هذه المقالة قبل مدة ولكنني أجلت ذلك وسوفته، تحاشيًا لإساءة الفهم وسوء الطوية وخبث التأويل، وقررت أن أنتظر حتى نهاية الحلقة الأخيرة من برنامج أمير الشعراء، بغض النظر عن نتيجتها واسم الفائز بها. سأسجل اعترافي أولًا بأنني كنت من بين من فرحوا بهذا البرنامج في بادئ الأمر وبالصدى الكبير الذي تركه وتبعه، وتأثير ذلك على التفات الناس إلى الشعر الفصيح الذي كان شبه مهجور ومهملًا (لدينا في الخليج على الأقل) مقارنة بالشعر المحكي أو الشعبي أو النبطي بمختلف مسمياته، ويكفي دليلًا على ذلك المقارنة بين حضور أمسية شعر فصيح وأخرى لشعر شعبي أو مقارنة عدد مجلات الشعر الشعبي (قبل توقف معظمها مع ما توقف من مطبوعات) بعدد المجلات المتخصصة أو المخصصة للشعر الفصيح، إن وجدت أصلًا.

لقد أعاد البرنامج للشعر الفصيح وهجه، ووضعه في دائرة الضوء بالفعل، ولكن ذلك بالطبع كان جزءًا صغيرًا من الصورة، أو لنقل إنه طبقة السكر التي توضع فوق الكعكة لتحليها وتجعل مذاقها سائغًا شهيًا، ولكن العيوب والمثالب ما لبثت أن ظهرت منذ الموسم الأول للبرنامج حين فُوِّز من لا يستحق باللقب وأُخِّر من يستحقه لأسباب باتت معروفة لدى الجميع، حد عدم الحاجة لذكرها وتكرارها، لأن ذلك سيكون من نافل القول.

كتب كثيرون ينتقدون البرنامج منذ موسمه الأول، واستمرت الكتابات التي تنتقده، واستمر البرنامج أيضًا وتوسعت رقعة متابعته فيما أظن، وإلا لما استمر حتى الآن. شخصيًا، لم أحرص على متابعة البرنامج ولم أتابع إلا حلقات قليلة جدًا منه شارك فيها أصدقاء وشعراء أحبهم، وظل موقفي سلبيًا منه ولا يزال.

وما أظنه وأعتقده وأكاد أجزم به هو أن هذا البرنامج/اللعبة أسهم إسهامًا كبيرًا وواضحًا في تراجع الشعر العربي وجنى على شعرائه خاصة الشباب منهم، ممن سعوا لكتابة نصوص تتلائم مع الاشتراطات اللاشعرية التي ارتضاها البرنامج وروج لها بشكل واضح وإن لم يكن مباشرًا، فقد طغت فيه، على سبيل المثال، القصيدة الكلاسيكية البيتية وهمشت قصيدة التفعيلة (وبالطبع ظلت قصيدة النثر منفية عنه لحسن الحظ) لأن القصيدة الكلاسيكية تلقى قبولا أكبر وإقبالًا أوسع لدى عامة الناس ممن يسعى البرنامج لاجتذابهم لمتابعته، وليكونوا طرفًا في دعم حضوره الرمزي والمادي، فهم الوقود الذي يمده بالطاقة وهم المحرك الذي يجعل من استمراره أمرًا ممكنًا ومتحققًا حتى الآن.

وسواء أحببناهذا البرنامج أم لم نحبه، لا بد أن نعترف بأن له تأثيرًا كبيرًا على شريحة كبيرة من الشعراء، خاصة الشباب منهم، ممن يطمحون للشهرة والمال والمجد، وليس من المبالغة في شيء الربط بين ما لهذا البرنامج من تأثير وحضور إعلامي قوي وبين العودة القوية والواسعة لكتابة القصيدة بشكلها الكلاسيكي بين الشعراء الشباب الذين يُفترض بهم ويتوقع منهم أن يجنحوا للتمرد والتوجه نحو الأشكال الجديدة الأقرب إلى روح زمنهم.

صحيح أن العودة لكتابة القصيدة بشكلها الكلاسيكي بين شريحة مهمة من الشعراء المهمين قد سبقت ظهور البرنامج إلا أن البرنامج عزز ودعم وآزر تلك العودة والهجرة العكسية إلى الشكل القديم، وبنماذج متواضعة المستوى في معظمها، وليس أدل على ذلك ما تشهده وسائل التواصل الاجتماعي من ظهور أسماء متكاثرة ونماذج شعرية متهالكة تعيد كتابة و"تدوير" القديم بصورة مشوهة وعاجزة عن محاكاته، فضلًا عن تجاوزه. وهذه هي إحدى معضلات الكتابة بالشكل الكلاسيكي القديم، إذ أنه يزخر بتراث عريق يمتد عمره لمئات السنين من نماذج الشعر العليا التي ظلت عصية على رياح النسيان وأعاصيره العاتية.

ولعل أسوأ ما في أمير الشعراء هو أنه حول المنافسة بين الشعراء إلى منافسة بين البلدان التي ينتمي إليها أولئك الشعراء، فصار متوقعًا، بل ومطلوبًا، من مواطني كل بلد أن يصوتوا لمن "يمثلهم" فيما يشبه المنافسات الرياضية وبطولات كرة القدم. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إن الدائرة ضاقت لتصل إلى تصوير الشاعر بوصفه ممثلًا لمدينته أو قبيلته أو حتى طائفته. وكلنا يعرف ما يدور من حملات التجييش والدعم والاستنفار والانتخاء تحت مسميات مختلفة ليس الشعر من بينها بالطبع، لأن الشعر، والشعر الحقيقي على وجه التحديد، يتأبى على كل ذلك ويترفع عنه.

أعتقد أن الأوان قد آن لوضع حد ورسم خط نهاية لهذا البرنامج الذي شوه صورة الشعر وامتهن الشعراء الذين من الحري بهم أن لا يكونوا حطبًا ووقودًا لإشعال نار هذا البرنامج العقيم وهذه المسابقة السقيمة.