متن الورقات
الوَرَقَاتُ في أُصُولِ الفِقْة
لإمام الحرمين أبو المعالي عبدالملك بن عبدالله الجويني
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه ورقات تشتمل على معرفة فصول من أصول الفقه .
وذلك مؤلف من جزأين مفردين: فالأصل ما يبنى عليه غيره، والفرع ما يبنى على غيره .
والفقه: معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد .
والأحكام سبعة: الواجب، والمندوب، والمباح، والمحظور، والمكروه، والصحيح، والباطل .
فالواجب: ما يثاب على فعله ويعاقب على تركه .
والمندوب: ما يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه .
والمباح: ما لا يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه .
والمحظور: ما يثاب على تركه ويعاقب على فعله .
والمكروه: ما يثاب على تركه ولا يعاقب على فعله .
والصحيح: ما يتعلق به النفوذ ويعتد به .
والباطل: ما لا يتعلق به النفوذ ولا يعتد به .
[الفرق بين الفقه والعلم والظن والشك]
والفقه أخص من العلم .
والعلم معرفة المعلوم على ما هو به .
والجهل: تصور الشيء على خلاف ما هو به .
والعلم الضروري ما لا يقع عن نظر واستدلال، كالعلم الواقع بإحدى الحواس الخمس التي هي : السمع ، البصر ، الشم ، الذوق ، اللمس . أو التواتر .
وأما العلم المكتسب فهو الموقوف على النظر والاستدلال .
والنظر هو الفكر في حال المنظور فيه .
والاستدلال طلب الدليل .
والدليل هو المرشد إلى المطلوب ؛ لأنه علامة عليه .
والظن تجويز أمرين أحدهما أظهر من الآخر .
والشك تجويز أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر .
وعلم أصول الفقه: طرقه على سبيل الإجمال وكيفية الاستدلال بها .
[أبواب أصول الفقه]
وأبواب أصول الفقه أقسام: الكلام، والأمر، والنهي، والعام، والخاص، والمجمل، والمبين، والظاهر، والمؤول ، والأفعال، والناسخ، والمنسوخ، والإجماع، والأخبار، والقياس، والحظر والإباحة، وترتيب الأدلة، وصفة المفتي والمستفتي، وأحكام المجتهدين .
[ أقسام الكلام ]
فأما أقسام الكلام، فأقل ما يتركب منه الكلام: اسمان، أو اسم وفعل، أو فعل وحرف، أو اسم وحرف .
والكلام ينقسم إلى أمر ونهي وخبر واستخبار، وينقسم أيضاً إلى تمن وعرض وقسم .
ومن وجه آخر ينقسم إلى حقيقة ومجاز، فالحقيقة ما بقي في الاستعمال على موضوعه، وقيل: ما استعمل فيما اصطلح عليه من المخاطبة .
والمجاز ما تجوز به عن موضوعه .
والحقيقة إما لغوية وإما شرعية وإما عرفية .
والمجاز إما أن يكون بزيادة أو نقصان أو نقل أو استعارة، فالمجاز بالزيادة مثل قوله تعالى: ﴿ ليس كمثله شيء ﴾، والمجاز بالنقصان مثل قوله تعالى: ﴿ واسأل القرية ﴾، والمجاز بالنقل كالغائط فيما يخرج من الإنسان، والمجاز بالاستعارة كقوله تعالى: ﴿ جداراً يريد أن ينقض ﴾.
[ باب الأمر ]
والأمر استدعاء الفعل بالقول ممن هو دونه على سبيل الوجوب .
وصيغته: افعل، وعند الإطلاق والتجرد عن القرينة تحمل عليه، إلا ما دل الدليل على أن المراد منه الندب أو الإباحة .
ولا يقتضي التكرار على الصحيح، إلا ما دل الدليل على قصد التكرار .
ولا يقتضي الفور .
والأمر بإيجاد الفعل أمر به وبما لا يتم الفعل إلا به، كالأمر بالصلاة فإنه أمر بالطهارة المؤدية إليها، وإذا فعل يخرج المأمور عن العهدة .
تنبيه : من يدخل في الأمر والنهي ومن لا يدخل:
يدخل في خاطب الله تعالى: المؤمنون .
وأما الساهي والصبي والمجنون غير داخلين في الخطاب .
والكفار مخاطبون بفروع الشريعة، وبما لا تصح إلا به، وهو الإسلام، لقوله تعالى: ﴿ ماسلككم في سقر * قالوا لم نك من المصلين ﴾ .
والأمر بالشيء نهي عن ضده، والنهي عن الشيء أمر بضده .
[باب النهي]
والنهي استدعاء الترك بالقول ممن هو دونه على سبيل الوجوب، ويدل على فساد المنهي عنه .
وترد صيغة الأمر والمراد به الإباحة أوالتهديد أو التسوية أو التكوين .
[ العام والخاص وأقسامهما ]
وأما العام فهو ما عم شيئين فصاعداً، من قوله: عممت زيداً وعمراً بالعطاء، وعممت جميع الناس بالعطاء .
وألفاظه أربعة: الاسم الواحد المعرف بالألف واللام، واسم الجمع المعرف باللام، والأسماء المبهمة، كـ(من) فيمن يعقل، و(ما) فيما لا يعقل، و(أي) في الجمع، و(أين) في المكان، و(متى) في الزمان، و(ما) في الاستفهام والجزاء وغيره، و(لا) في النكرات .
والعموم من صفات النطق .
ولا تجوز دعوى العموم في غيره من الفعل وما يجري مجراه .
والخاص يقابل العام .
والتخصيص تمييز بعض الجملة، وهو ينقسم إلى: متصل ومنفصل، فالمتصل الاستثناء والتقيد بالشرط والتقييد بالصفة، والاستثناء إخراج ما لولاه لدخل في الكلام، وإنما يصح بشرط أن يبقى من المستثنى منه شيء .
ومن شرطه أن يكون متصلاً بالكلام .
ويجوز تقديم الاستثناء على المستثنى منه .
ويجوز الاستثناء من الجنس ومن غيره .
والشرط يجوز أن يتأخر أو يتقدم على المشروط .
والمقيد بالصفة يحمل عليه المطلق كالرقبة قيدت بالإيمان في بعض المواضع وأطلقت في بعض، فيحمل المطلق على المقيد .
ويجوز تخصيص الكتاب بالكتاب، وتخصيص الكتاب بالسنة، وتخصيص السنة بالكتاب، وتخصيص السنة بالسنة، وتخصيص النطق بالقياس، ونعني بالنطق قول الله تعالى وقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم .
[المجمل والمبين]
والمجمل ما افتقر إلى البيان .
والبيان إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي .
والنص ما لا يحتمل إلا معنى واحداً، وقيل: ما تأويله تنزيله، وهو مشتق من منصة العروس وهو الكرسي .
[الظاهر والمؤول]
والظاهر ما احتمل أمرين أحدهما أظهر من الآخر، ويؤول الظاهر بالدليل، ويسمى ظاهراً بالدليل .
[ الأفعال ]
فعل صاحب الشريعة لا يخلو: إما أن يكون على وجه القربة والطاعة أو غير ذلك .
فإن دل دليل على الاختصاص به فيحمل على الاختصاص .
وإن لم يدل لا يخصص به، لأن الله تعالى قال: ﴿ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ﴾، فيحمل على الوجوب عند بعض أصحابنا، ومن أصحابنا من قال: يحمل على الندب، ومنهم من قال: يتوقف عنه، فإن كان على وجه غير القربة والطاعة فيحمل على الإباحة في حقه وحقنا .
وإقرار صاحب الشريعة على القول الصادر من أحد هو قول صاحب الشريعة، وإقراره على الفعل كفعله .
وما فعل في وقته في غير مجلسه وعلم به ولم ينكره فحكمه حكم ما فعل في مجلسه .
[ النسخ ]
وأما النسخ فمعناه لغة : الإزالة وقيل: معناه النقل من قولهم: نسخت ما في هذا الكتاب ، اي نقلته .
وحده: الخطاب الدال على رفع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتاً مع تراخيه عنه .
ويجوز نسخ الرسم وبقاء الحكم، ونسخ الحكم وبقاء الرسم، والنسخ إلى بدل وإلى غير بدل، وإلى ما هو أغلظ وإلى ما هو أخف .
ويجوز نسخ الكتاب بالكتاب، ونسخ السنة بالكتاب، ونسخ السنة بالسنة ولا يجوز نسخ الكتاب بالسنة .
ويجوز نسخ المتواتر بالمتواتر منهما، ونسخ الآحاد بالآحاد وبالمتواتر، ولا يجوز نسخ المتواتر بالآحاد .
[ التعارض والترجيح ]
إذا تعارض نطقان فلا يخلو: إما أن يكونا عامين أو خاصين أو أحدهما عاماً والآخر خاصاً أو كل واحد منهما عاماً من وجه وخاصاً من وجه .
فإن كانا عامين فإن أمكن الجمع بينهما جمع، وإن لم يمكن الجمع بينهما يتوقف فيهما إن لم يعلم التاريخ، فإن علم التاريخ فينسخ المتقدم بالمتأخر، وكذلك إذا كانا خاصين .
وإن كان أحدهما عاماً والآخر خاصاً فيخصص العام بالخاص، وإن كان أحدهما عاماً من وجه وخاصاً من وجه فيخص عموم كل واحد منهما بخصوص الآخر .
[ الإجماع ]
وأما الإجماع فهو اتفاق علماء أهل العصر على حكم الحادثة، ونعني بالعلماء الفقهاء، ونعني بالحادثة الحادثة الشرعية .
وإجماع هذه الأمة حجة دون غيرها، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا تجتمع أمتي على ضلالة ))، والشرع ورد بعصمة هذه الأمة .
والإجماع حجة على العصر الثاني، وفي أي عصر كان، ولا يشترط انقراض العصر على الصحيح، فإن قلنا: انقراض العصر شرط يعتبر قول من ولد في حياتهم وتفقه وصار من أهل الاجتهاد فلهم أن يرجعوا عن ذلك الحكم .
والإجماع يصح بقولهم وبفعلهم وبقول البعض وبفعل البعض وانتشار ذلك وسكوت الباقين عنه .
وقول الواحد من الصحابة ليس بحجة على غيره على القول الجديد .
[ الأخبار ]
وأما الأخبار، فالخبر ما يدخله الصدق والكذب .
والخبر ينقسم قسمين: إلى آحاد ومتواتر .
فالمتواتر ما يوجب العلم، وهو أن يروي جماعة لا يقع التواطؤ على الكذب من مثلهم إلى أن ينتهي إلى المخبر عنه فيكون في الأصل عن مشاهدة أو سماع لاعن إجتهاد .
والآحاد هو الذي يوجب العمل ولا يوجب العلم، وينقسم قسمين: إلى مرسل ومسند، فالمسند ما اتصل إسناده، والمرسل ما لم يتصل إسناده، فإن كان من مراسيل غير الصحابة فليس بحجة، إلا مراسيل سعيد بن المسيب، فإنها فتشت فوجدت مسانيد عن النبي صلى الله عيه وسلم .
والعنعنة تدخل على الأسانيد، وإذا قرأ الشيخ يجوز للرواي أن يقول: حدثني أوأخبرني، وإن قرأ هو على الشيخ فيقول: أخبرني، ولا يقول: حدثني .
وإن أجازه الشيخ من غير قراءة فيقول: أجازني أو أخبرني إجازة .
[ القياس ]
وأما القياس فهو رد الفرع إلى الأصل بعلة تجمعهما في الحكم .
وهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام: إلى قياس علة، وقياس دلالة، وقياس شبه .
فقياس العلة ما كانت العلة فيه موجبة الحكم .
وقياس الدلالة هو الاستدلال بأحد النظيرين على الآخر، وهو أن تكون العلة دالة على الحكم ولا تكون موجبة للحكم .
وقياس الشبه هو الفرع المتردد بين أصلين، ولا يصار إليه ، مع إمكان ماقبله .
ومن شرط الفرع أن يكون مناسباً للأصل، ومن شرط الأصل أن يكون ثابتاً بدليل متفق عليه بين الخصمين .
ومن شرط العلة أن تطرد في معلولاتها، فلا تنتقض لفظاً ولا معنى .
ومن شرط الحكم أن يكون مثل العلة في النفي والإثبات أي في الوجود والعدم فإن وجدت العلة وجد الحكم .
والعلة هي الجالبة للحكم .
[ الحظر والإباحة والاستصحاب ]
وأما الحظر والإباحة فمن الناس من يقول: إن الأشياء على الحظر إلا ما أباحته الشريعة، فإن لم يوجد في الشريعة ما يدل على الإباحة يتمسك بالأصل وهو الحظر .
ومن الناس من يقول بضده، وهو أن الأصل في الأشياء على الإباحة إلا ما حظره الشرع .
ومعنى استصحاب الحال الذي يحتج به: أن يستصحب الأصل عند عدم الدليل الشرعي .
[ترتيب الأدلة]
وأما الأدلة فيقدم الجلي منها على الخفي، والموجب للعلم على الموجب للظن، والنطق على القياس، والقياس الجلي على الخفي .
فإن وجد في النطق ما يغير الأصل - يعمل بالنطق - وإلا فيستصحب الحال .
[ الاجتهاد والإفتاء والتقليد ]
ومن شرط المفتي أن يكون عالماً بالفقه أصلاً وفرعاً، خلافاً ومذهباً .
وأن يكون كامل الأدلة في الاجتهاد، عارفاً بما يحتاج إليه في استنباط الأحكام من النحو واللغة ومعرفة الرجال وتفسير الآيات الواردة في الأحكام والأخبار الواردة فيها .
ومن شرط المستفتي: أن يكون من أهل التقليد، فيقلد المفتي في الفتيا .
وليس للعالم أن يقلد .
والتقليد قبول قول القائل بلا حجة، فعلى هذا قبول قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسمى تقليداً .
ومنهم من قال: التقليد قبول قول القائل وأنت لا تدري من أين قاله، فإن قلنا: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول بالقياس، فيجوز أن يسمى قبول قوله تقليداً .
وأما الاجتهاد فهو بذل الوسع في بلوغ الغرض، فالمجتهد إن كان كامل الأدلة في الاجتهاد، في الفروع فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فيها وأخطأ فله أجر .
ومنهم من قال: كل مجتهد في الفروع مصيب .
ولا يجوز أن يقال: كل مجتهد في الأصول الكلامية مصيب، لأن ذلك يؤدي إلى تصويب أهل الضلالة من النصارى والمجوس والكفار والملحدين .
ودليل من قال: ليس كل مجتهد في الفروع مصيباً، قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( من اجتهد وأصاب فله أجران، ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد )) .
وجه الدليل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطأ المجتهد وصوبه أخرى .
انتهت الورقات