الفصل الرابع

الآراء التوفيقية المتوسطة عند الإمام الأشعري

الفصل الرابع

رؤية الله تعالى

المبحث الأول : رؤية الله تعالى عند الإمام الأشعري ( رحمه الله )

المطلب الأول : رأي الإمام الأشعري في الرؤية اجمالاً

أولاً : امكان الرؤية

يقول الإمام الشهرستاني ( رحمه الله ) : ‘‘ ومن مذهب الأشعري أن كل موجود فيصح أن يُرى ، فإن المصحح للرؤية إنما هو الوجود ، والباري تعالى موجود فيصح أن يُرى .

وقد ورد في السمع أن المؤمنين يرونه في الآخرة قال تعالى ] وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ[ ([1])إلى غير ذلك من الآيات ، والأخبار .

قال [ أي الإمام الأشعري ] ، ولا يجوز أن تتعلق به الرؤية على جهة ، ومكان ، وصورة ، ومقابلة ، واتصال شعاع ، او على سبيل انطباع ، فإن ذلك مستحيل .’’([2])

ومن هذا النص يُعلم أن الإمام الأشعري ( رحمه الله ) أثبت الرؤية كما أثبتها أهل السنة والجماعة ، واستدل على إمكانها ، وجوازها بالنقل ، والعقل وقد لخص الشهرستاني ( جزاه الله خيرا ) الرؤية عند الإمام الأشعري ( رحمه الله ) وأوجز الكلام

فيها إيجازاً غير مخل بأفصح عبارة ، وأوضح تعبير .

وقد ثبتت رؤية الله تعالى بالكتاب ، والسنة الصحيحة ، فلا داعي للتأويل ، ورد السنة الصحيحة ؛ كما فعل المعتزلة ، إذ إن التاويل يؤخذ به إذا لم يمكن حمل النص على ظاهره ، وهنا لا محذور من حمل النص على ظاهره ، وقد توهم المعتزلة بتصورهم أن حمل النص على ظاهره في رؤية الله تعالى يستلزم الجهة ، والمكان ، والمقابلة ، واتصال الشعاع ، وما إلى ذلك من المستحيلات في حق الله وتعالى ؛ لذلك أنكروها ، وإنما دخل عليهم الوهم حينما قاسوا رؤية الله تعالى على رؤيتنا للأشياء ؛ إذ إن أحوال الآخرة ليست كأحوال الدنيا كما هو مسلم عند الجميع .

وكان يكفي إيراد الآيات ، والأحاديث في رؤية الله تعالى ؛ كما أكتفى بذلك الإمام الماتريدي ( رحمه الله ) ([3]) ؛ إذ إن إيضاح الواضحات من المعضلات كما يقال ، ولكنَّ عِناد المعتزلة ، وإنكارهم يوجب الرد عليهم ، والزامهم الحجة كما فعل الإمام الأشعري ( رحمه الله ) ، وسأفصل قوله في المطلب الثاني إن شاء الله .

ثانياً : ماهية الرؤية

للإمام الأشعري ( رحمه الله ) في ماهية الرؤية قولان :

الأول : إنه علمٌ مخصوص ، ويعني بالخصوص أنه يتعلق بالوجود دون العدم.

والثاني : انه إدراك وراء العلم لا يقتضي تأثيراً في المدرك ، ولا تأثيراً عنه .

يوضح لنا هذا الكلام الإمام الآمدي ( رحمه الله ) حيث يقول الادراك عبارة عن كمال يحصل به ( مزيد كشف ) على ما يخيل في النفس من الشيء المعلوم من جهة التعقل بالبرهان ، أو الخبر ، ولهذا نجد التفرقة بين كون الصورة معلومة للنفس مع قطع النظر عن تعلق الحاسة الظاهرة بها ، وبين كونها معلومة مع تعلق الحاسة بها [ وذلك إنا إذا نظرنا إلى البدر ثم غمَّضنا العين فلا خفاء في أنه وإن كان منكشفاً لدينا في الحالين لكن انكشافه حال النظر إليه اتم ، وأكمل ، ولنا بالنسبة إليه حينئذٍ حالة مخصوصة هي المسماة بالرؤية ]([4])فإذاً هذا الكمال الزائد على ما حصل في النفس بكل واحدة من الحواس هو المسمى إدراكاً .

وهذا الإدراك ليس بخروج شيء من الآلة الداركة إلى الشيء المدرك ، ولا بانطباع صورة المدرك فيها ، وإنما هو معنى يخلقه الله تعالى في تلك الحاسة ، ولو خلق الله ذلك المعنى في القلب ، و أو غيره من الأعضاء لقد كنّا نسمي ذلك مُدركاً ؛ وإذا جاز أن يخلق الله تعالى في الحاسة زيادة كشف ، وبيان بالنسبة إلى ما حصل في النفس ، فلا محالة أن العقل لا يحيل أن يخلق الله تعالى للحاسة زيادة كشف ، وإيضاح بالنسبة إلى ما حصل في النفس من العلم به ، وان تسمى تلك الزيادة من الكشف إدراكاً ومن عرف سر هذا الكلام عرف غور كلام أبي الحسن في قوله : إن الإدراك نوع مخصوص من العلوم ، لكنه لا يتعلق إلا بالموجودات ، وإذا عرف ذلك ، فالعقل يُجَوّز أن يخلق الله في الحاسة المبصرة ، بل وفي غيرها زيادة كشفٍ بذاته ، وصفاته على ما حصل منه بالعلم القائم في النفس ، من غير أن يوجب حدوثاً ، ولا نقصاً ، وذلك هو الذي سماه أهل الحق إدراكاً ([5]) .

ومن المُسَلَم به في العلوم التطبيقية ، والطبية في عصرنا الحاضر أن الحواس لا دخل لها في الإدراك ، وإنما هي مجرد آلات ، ومنافذ لإيصال المعلومات إلى الدماغ ، والإدراك انما يحصل بتحليل الدماغ لهذه المعلومات ، ولكن كيف يحصل هذا الأمر ؟! وكيف يتم ؟!!

هذا ما اعجز الأطباء ؛ إذ إن الارتباط بين الدماغ ،والنفس ، او الروح مما لا يخضع للتجارب ، أو الاختبارات ، وهذ سر أستأثر الله تعالى بعلمه قال تعالى : ]وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [ .([6])

يقول الدكتور الجميلي : والعقل سر من أسرار الله مثل الروح لم يفلح الطب في الوصول إلى غيبة سره …..

ولا يزال يقف دون الحقيقة ، وبيننا وبينها سد من الغموض وبحر من التقصير لإدراك كنهها ولسنا نعرف هل هذا القصور سببه ضعف إدراكنا ، ووسائلنا أم ان الروح هو الشيء الكبير الذي يستعصي على الإنسان لروعته وقوة سره . ([7])

وقد أجرى العلماء من أطباء الجملة العصبية ،والدماغ تجارب على الإنسان بأن خدروه تخديراً موضعياً ، ورفعوا غطاء الجمجمة ، والإنسان واعي يكلمهم ويكلموه ، وأخذوا يضغطون بأصابعهم على مواضع في دماغه ويسألونه عن إحساسه ، فتارة يعلمهم بأنه فرحان ، وتارة يتألم ويصرخ من شدة الألم ، وتارة يتذكر أموراً قديمة ، وتارة يعلمهم بأنه يرى بياضاً إلى غير ذلك من الإدراكات حيث إنه في أحد الضغطات على دماغه حرك يده فلما سؤل عن تحريكها قال لاعلم لي بذلك ، ولم ارد تحريكها ولكنها تحركت بضغطهم لذلك الجزء من دماغه. ([8])

وأيضاً فإن العلوم الميتافيزيقية ،أو ما وراء الطبيعة قد توسعت البحوث فيها في الآونة الأخيرة توسعاً كبيراً جداً ، وتفرغ لها علماء من كافة الاختصاصات ؛ ليدرسوها ويبينوا القول الفصل فيها ، وبعد دراسات وتجارب ثبت لهم إنها خارج إمكانية العقل ، ولا يمكن أن تخضع للعلوم التجريبية والتطبيقية ،واعترفوا بها وتسمى ( بالباراسايكولوجي ) .

ومن العلماء الذين درسوا الظاهرة الروحانية كما كانت تسمى آنذاك البرفسور وليام كروكس حيث اعلن عام 1870 عن عزمه على دراسة هذه الظاهرة وكان كروكس من أشهر علماء عصره وقد قضى أغلب حياته في الدراسة ، والبحث والقاء المحاضرات ، وتقلد مناصب علمية عالية ، ورأس الجمعية الملكية البريطانية بين 1913 – 1915 واكتشف عنصر التاليوم من ضمن اكتشافاته العديدة .

لقد درس كروكس ادعاءات العديد من الوسطاء الروحيين المشهورين آنذاك ، واستخدم لتحقيق ذلك كل الوسائل العلمية الفيزياوية والكيمياوية المتاحة له في ذلك الوقت ، واكتشف انه على الرغم من وجود الكثير من الدجالين والمزيفين ، تبقى هناك مجموعة من الناس امتلكوا قابليات مذهلة لا شك في صحتها ، ولا يمكن تفسيرها .

وبعد اثنتي عشرة سنة من الدراسة والتوثيق اصبح واضحاً أمام كروكس ومساعديه أن دراسة هذه القوى النفسية تحتاج إلى جهود مشتركة ومكثفة فكان ان تأسست الجمعية البريطانية للبحوث النفسية

Society Of Psychic Research

ولا زالت إلى يومنا هذا ([9])

فعلى المنصف من أهل الإسلام أن يعترف بالفضل لعلمائنا الأعلام امثال الإمام الأشعري ( رحمه الله ) ، وكما قيل انما يعرف الفضل لذوي الفضل ذووه ، وقد تقدم قول الآمدي ( رحمه الله ) : ومن عرف سر هذا الكلام عرف غور كلام أبي الحسن في قوله : إن الإدراك نوع مخصوص من العلوم ، لكنه لا يتعلق إلا بالموجودات … إلى آخر كلامه رحمه الله .

والخلاصة في ماهية الرؤية : أن الله تعالى قادر على أن يخلق في حاسة البصر إدراكاً خاصاً ، وزيادة كشف بذاته ، وبصفاته على ما حصل منه بالعلم القائم بالنفس وهذا الإدراك يسمى رؤية ؛ لأنه حصل بآلة الرؤية وهي البصر والعقل لا يمنع ذلك .

المطلب الثاني : رؤية الله تعالى عند الإمام الأشعري ( رحمه الله ) تفصيلاً استدل الإمام الأشعري ( رحمه الله ) على جواز رؤيته تعالى بالنقل والعقل .

أولاً : الاستدلال بالنقل .

أ – قوله تعالى حكاية عن موسى u ] قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي[ ([10])

والاستدلال بهذه الآية من وجهين :

الأول : ‘‘ إن موسى u سأل الرؤية ولو أمتنع كونه تعالى مرئياً لما سأل ؛ لأنه حينئذٍ إما أن يعلم امتناعه ، أو يجهله ، فإن علمه فالعاقل لا يطلب المحال فإنه عبث وإن جهله ، فالجاهل بما لا يجوز على الله يمتنع أن يكون نبياً كليماً ، وقد وصفه الله تعالى بذلك في كتابه بل ينبغي ان لا يصلح للنبوة اذ المقصود من البعثة هو الدعوة إلى العقائد الحقة والأعمال الصالحة .’’([11])

والحال أن موسى u ‘‘ كليم الله ورسوله من اولي العزم اعطاه الألواح فيها تبيان لكل شيء ، واضاف عليه من المعرفة بذاته وصفاته ما يليق بمثله بحق مثله ، فلا شك أن يعرفه منزهاً عن التشبيه ، والجهة ، والمقابلة وقد سأل منه رؤيته معتقداً جوازها عليه ، وعدم استحالتها في حقه وإلا كان عبثاً ، فمن زعم استحالة رؤية الله تعالى فقد أدعى معرفة ما جهله موسى u من اللائق بذات الله تعالى ، وصفاته .

وأما توبته عليه السلام فلا دلالة فيها على خطأه فإن المراد من قوله إني تبت إليك الرجوع عن طلب الرؤية ، فإنها قد تطلق عليه ، ولا تستلزم كونها مسبوقة بذنب ، فإن الأنبياء u يَعْدُون ترك الأولى ذنباً بالنسبة إلى مقامهم من قبيل حسنات الأبرار سيئات المقربين فحيث سأل من غير اذن كان تاركاً للأولى ؛ لأنه نظراً إلى علو شأنه ، وجليل منصبه ورفيع مكانته كان عليه أن يتوقف في طلب الرؤية على الأذن فعّد اقدامه على السؤال بغير اذن ذنباً بالنسبة اليه ، وان لم يكن في نفس الأمر ذنباً ، فسؤال موسى u دليل على جوازها لا ستحالة سؤال الأنبياء ما هو محال ’’. ([12])

الثاني : ‘‘ إنه تعالى علق الرؤية على استقرار الجبل ، واستقرار الجبل أمر ممكن في نفسه ، وما علق على الممكن فهو ممكن ’’. ([13])

؛ ‘‘ لأن معنى التعليق الإخبار بوقوع معلق عند وقوع المعلق به ، و المحال لا يثبت على شيء من التقادير الممكنة .’’([14])

ب- قوله تعالى : ] وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ[ ([15]) ، ويستدل بها علماء الاشاعرة على وجوب وقوع الرؤية والوقوع دليل الإمكان ؛ أي إن وقوع الرؤية إن ثبت دل على امكانها ، وقد ثبت بالآيات ، والأحاديث فثبت إمكان الرؤية وجوازها .

و الاستدلال بالآيات الكريمة كما يلي :

يقول الإمام الأشعري ( رحمه الله ) : ‘‘ لا يجوز أن يكون معنى قوله تعالى : ] إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [ معتبرة كقوله : ] أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ[ ([16]) ؛ لأن الآخرة ليست بدار اعتبار .

ولا يجوز ان يعني متعطفة راحمة كما قال : ] وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ[ ([17])أي لا يرحمهم ، ولا يتعطف عليهم ؛ لأن الباري لا يجوز ان يُتعطف عليه .

ولا يجوز أن يعني منتظرة لأن النظر إذا قرن بذكر الوجوه لم يكن معناه نظر القلب الذي هو انتظار ، كما اذا قرن النظر بذكر القلب لم يكن معناه نظر العين ؛ لأن القائل إذا قال : ( انظر بقلبك في هذا الأمر ) كان معناه نظر القلب ؛ وكذلك اذا قرن النظر بالوجه لم يكن معناه إلا نظر الوجه ، والنظر بالوجه هو نظر الرؤية التي تكون بالعين التي في الوجه .

فصح أن معنى قوله تعالى ] إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [ رائية اذ لم يجز ان يعني شيئاً من وجوه النظر .

وإذا كان النظر لا يخلوا من وجوه أربع وفسد منها ثلاثة صح الوجه الرابع وهو نظر العين التي في الوجه .’’([18])

وفصل الإمام الأيجي ( رحمه الله ) هذا القول وزاد عليه بقوله : إن النظر جاء في اللغة بمعنى الإنتظار ، ويستعمل بغير صلة بل يتعدى بنفسه قال تعالى ] فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ[ ([19]) أي منتظرة وجاء بمعنى التفكر ، والاعتبار ، ويستعمل حينئذ بفي يقال نظرت في الأمر الفلاني أي تفكرت واعتبرت وجاء بمعنى الرأفة والتعطف ، ويستعمل حينئذ باللام يقال نظر الأمير لفلان أي رأف به ، وتعطف .

وجاء بمعنى الرؤية ، ويستعمل بإلى ، والنظر في الآية موصول بالى فوجب حمله على الرؤية ، فتكون واقعة في ذلك اليوم وهو المطلوب .

واعترض عليه بانا لا نسلم ان لفظ إلى صلة للنظر بل هو واحد آلالاء ومفعول به للنظر بمعنى الإنتظار فمعنى الآية نعمة ربها منتظرة ….

والجواب : ان انتظار النعمة غم ومن ثمة قيل الانتظار الموت الأحمر فلا يصح الاخبار به بشارة . ([20])

ج – قوله تعالى ] كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ[ ([21]) وهو أيضاً من أدلة أثبات الوقوع ذكر الله تعالى ذلك تحقيراً لسان الكفار فيلزم منه كون المؤمنين مبرئين عنه فوجب ان لا يكونوا محجوبين عنه بل رائين له ([22]) .

د – قوله تعالى : ] لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ[ ([23]) وقد استدل المعتزلة بهذه الآية على نفي الرؤية بأن ال الداخلة على الأبصار للاستغراق ، وقد وقع عليها النفي فيكون المعنى لا يدركه أي بصر على عموم السلب لا على سلب العموم ، أي لا تدركه كل الأبصار فيجوز أن بعض الأبصار تدركه ، وايضاً قالوا : أن الإدراك هو الرؤية مطلقاً لا الرؤية على وجه الأحاطة بجوانب المرئي كما يقول اهل السنة .

‘‘ والجواب : بعد تسليم كون الأبصار للاستغراق ، و إفادته عموم السلب لا سلب العموم ، وكون الإدراك هو الرؤية مطلقاً لا الرؤية على وجه الإحاطة بجوانب المرئي : انه لا دلالة فيه على عموم الأوقات ، والأحوال ’’([24])

أي إننا نسلم قولكم إن الرؤية ممتنعة في الدنيا ، ولا نسلم إنها ممتنعة في الآخرة لورود النقل بثبوتها ، والعقل لا يمنع ذلك .

‘‘ وقد يستدل بالآية على جواز الرؤية إذ لو امتنعت لما حصل التمدح بنفها ؛ كالمعدوم لا يمدح بعدم رؤيته ؛ لامتناعها ، وانما التمدح في ان يمكن رؤيته ، ولا يرى للتمنع والتعزز بحجاب الكبرياء .

وإن جعلنا الإدراك عبارة عن الرؤية على وجه الإحاطة بالجوانب والحدود فدلالة الآية على جواز الرؤية بل تحققها اظهر ؛ لأن المعنى إن الله تعالى مع كونه مرئياً لا يدرك بالأبصار لتعاليه عن التناهي ، والاتصاف بالحدود ، والجوانب .’’([25])

ثانياً : الاستدلال بالعقل :

دليل الوجود

‘‘ رؤية الله تعالى بمعنى الانكشاف التام بالبصر جائزة في العقل وتقرير الدليل العقلي : إنا قاطعون برؤية الأعيان ، والأعراض ضرورة انا نفرق بالبصر بين جسم ، وجسم ، وبين عرض ، وعرض ، ولا بد للحكم المشترك من علة مشتركة وهي :

اما ( الوجود ) ، أو ( الحدوث ) ، أو ( الامكان ) إذ لا رابع يشترك بينها ، والحدوث عبارة عن الوجود بعد العدم ، و الامكان عبارة عن عدم ضرورة الوجود والعدم .’’([26])

يوضح الدكتور محمد رمضان النص المتقدم بقوله : (( إنا نرى الاعراض كالألوان والأضواء ، وغيرهما ، كذلك نرى الجواهر ، والأجسام وهذه الأمور المختلفة التي تتعلق بها الرؤية لابد ان يكون لصحة رؤيتها علة مشتركة وهي :

اما ( الحدوث ) ، واما ( الامكان ) ، واما ( الوجود ) ولا رابع لها فالحدوث لا يصح ان يكون علة ؛ لأن الحادث هو الموجود بعد العدم ، فالعدم جزء من مفهومه ، فلا يصح الأمر العدمي ان يكون علة للوجود .

كذلك الإمكان لا يصلح ان يكون علة للرؤية ،وهي أمر وجودي ؛ لأن الإمكان ما سلبت الضرورة من طرفي وجوده وعدمه يعني انه لا وجوده ضروري ولا عدمه ضروري ([27]) ،فإذاً العدم اصبح جزئاً من مفهومه فلا يصلح ان يكون علة للرؤية ، وهي أمر وجودي كما سبق .

فلم يبق إلا الوجود ، فوجود الشيء هو العلة لصحة رؤيته فلما كان الباري عز وجل موجوداً ، ووجوده أتم واكمل من كل موجود فالرؤية يصلح أن تتعلق به .

والمصحح لرؤية الله تعالى ( الوجود ) ، وهذا كلام الأشعري فالموجود يصح عقلاً أن يرى .

النفاة ( النافين للرؤية ) قالوا الله لا يصح أن يرى ؛ لأن المصحح للرؤية ( الجسمية ) فلو رؤي للزم ان يكون جسماً أو حالاً في مكان .

وكون الله جسماً أوحالاً في مكان هذا غير ممكن عند كل الفرق الإسلامية فلو اعتبر المصحح ( الجسمية ) فلا تجوز رؤية الله تعالى ؟.

الجواب : إن المصحح العقلي في كون شيء هو العلة المشتركة يجب أن يكون من المفاهيم العامة وهي : ( الوجود ) ، ( الحدوث ) ، ( الامكان ) هذه هي المفاهيم العامة للمشترك فلا يجوز في الحكم المشترك ان نبحث عن علة خاصة فلا بد من البحث عن علة عامة .

نحن في عالمنا الحسي ليست رؤيتنا متعلقة الجسم فقط ، فلو كانت متعلقة بالجسمية فقط نجعل ( الجسمية ) هي المصحح ، ولكن هناك أشياء أخرى نراها مثل الجواهر ، والأعراض ، كالألوان والأضواء فيجب البحث عن مفاهيم عامة .

هل الحدوث يصلح ؟ لا لأنه مسبوق بعدم ، والعلة لا بد ان تكون مُوجِبة والذي يدخل العدمي في مفهومه لا يصلح ان يكون علة .

هل الإمكان يصلح ؟ لا يصلح ، والإمكان : هو ان تكون الضرورة مسلوبة من طرفي وجوده وعدمه أي لا وجوده واجب ولا عدمه واجب بل هو ممكن بالأمكان الخاص .

ولا بد ان تكون العلة مشتركة ، ولا يصلح ( الإمكان ) ؛ لأنه مسلوب الضرورة من طرفي وجوده وعدمه .

إذاً ( الوجود ) هو المصحح لأنه علة مشتركة بين الكل ، لأنه يمثل الجسم والعرض ، فهو يشمل الله عز وجل ، لأن وجوده اكمل و أقوى فقول المعتزلة ( الجسمية ) خطأ ، فالوجود هو المصحح ، و العقل لا يمنع ذلك )).([28])

يقول الإمام الإيجي ( رحمه الله ‘‘ واعلم ان هذا الدليل يوجب أن يصح رؤية كل موجود كالأصوات ، والروائح ، والملموسات والطعوم والشيخ الأشعري يلتزمه ويقول لا يلزم من صحة الرؤية لشيء تحقق الرؤية له وإنما لا ترى هذه الأشياء التي ذكرتموها لجريان العادة من الله بذلك أي بعدم رؤيتها فإنه تعالى اجرى عادته بعدم خلق رؤيتها فينا ، ولا يمنع ان يخلق فينا رؤيتها كما خلق رؤية غيرها ، والخصم يشدد عليه النكير أي الإنكار ، ويقول هذه مكابرة محضة ، وخروج من حيز العقل بالكلية ، ونحن نقول ما هو أي إنكاره الاستبعاد ناشئ عما هو معتاد في الرؤية ، والحقائق أي الأحكام الثابتة المطابقة للواقع لا تؤخذ من العادات بل مما تحكم به العقول الخالصة من الهوى وشوائب التقليدات ولا شبهة في أن الرؤية بالمعنى الذي حققناه فيما سلف ليست ممتنعة في سائر المحسوسات .’’([29])

وكلام الإمام الأشعري ( رحمه الله ) في ان كل موجود يصح أن يرى ، فتصح رؤية كل الموجودات كالأصوات ، والروائح ، ، والطعوم ، والملموسات ، وسائر الموجودات .

هذا الكلام كشف علمي سابق لأوانه حيث ثبت الآن بما لا شك فيه أن كل موجود يصح أن يرى ، فلو قيل لإنسان في عصر الإمام الأشعري ( رحمه الله ) أن هناك أجساماً في غاية الصغر تسمى المكروبات ، والجراثيم ، والفيروسات ، هي التي تسبب المرض ومن الممكن رؤيتها لأنكر هذا إنكاراً شديداً بناءً على أن العادة تحيل رؤية مثل هذه الأجسام الصغيرة .

غير ان العلم الحديث استطاع بأجهزة مثل المجهر ، والمجهر الإلكتروني أن يرى مثل هذه الجسيمات التي هي في غاية الصغر ، و أيضاً فإن هناك أجهزة حديثة استطاع الإنسان بواسطتها ان يدرك ويرى ألواناً ، ويسمع أصواتاً خارج ما تستطيعه العين الإنسانية والأذن البشرية وهي ما تسمى بالأشعة الفوق البنفسجية والأشعة تحت الحمراء ، واذا جاز هذا بآلة صنعها الإنسان لم يمتنع بحواس الإنسان نفسه ، أو بغيرها – على الله تعالى القادر على كل شيء قدير - .

ولو أن المسلمين انتبهوا له ، وحاولوا إثبات هذا الحكم العقلي الخالص بالتجارب ، والاختبارات لتوصلوا إلى اكتشافات مذهلة سبقهم إليها علماء الغرب ، ولعلهم أفادوها منهم .

ومما لا شك فيه أن البحث العلمي التجريبي يعتمد أولاً على الحكم العقلي بعد أن يدرس العالم التجريبي – من أي اختصاص كان – الحالة التي يريد اثباتها يصل بواسطة الفكر من ترتيب المقدمات والتوصل إلى نتائج ، او بواسطة الرياضيات إلى حكم عقلي ، ويحاول ان يثبت هذا الحكم العقلي بواسطة التجربة ، والاختبار ، ، فإذا نجحت التجربة واطردت دل على ان هذا الحكم العقلي الصحيح ، وإذا فشلت التجربة ظل العالم التجريبي يحاول إنجاحها بتوفير الشروط التي قد تكون غير متوفرة والعوامل المساعدة ، وما إلى ذلك من التعديلات ، وقد يتوصل من خلال التجارب إلى أن حكمه العقلي كان قاصراً ، او فاقداً لبعض الشروط ، فيصلحه إلى أن يصل إلى نتيجةٍ سلباً أو إيجاباً .

أي ان اساس البحث العلمي التجريبي هو الفكر ، او الحكم العقلي فعلماء المسلمين ( رحمهم الله ) من المتكلمين وغيرهم لم يكن ينقصهم الفكر بل هم جاءوا بأفكار مذهلة سابقة لأوانها بقرون طويلة ، وإن كان بحثها من قبلهم عرضاً ، ولم يكن مقصدهم الرئيس هو العلوم الكونية بل كان مقصدهم إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج ، ودفع الشبه بالبراهين العقلية .

ولو كان مقصدهم العلوم الكونية ، لكانوا اذهلوا العالم بمكتشفاتهم واختراعاتهم؛ اذ لاينكر حتى من الأعداء ، والفضل ما شهدت به الأعداء ، إن للعلماء العرب والمسلمين الفضل الأكبر على الغرب في حضاراتهم ، فقد اثرت عن علماء عرب ومسلمين كشوفات علمية في غاية الدقة والروعة .

والمنهج التجريبي الذي قامت عليه الحضارة الحديثة ، للعلماء المسلمين النصيب الأوفر فيه ، ولعل قصة الرازي الطبيب المسلم المشهور هي اوضح دليل على المنهج التجريبي عندهم ، وهي أن الخليفة طلب منه ان يختار مكاناً لبناء مستشفى في بغداد ، فعمد إلى قطع من لحم الضأن ووزعها في اماكن متفرقة من بغداد ، وكان يمر عليها كل يوم، فما اسرع إليه الفساد تركه حتى بقيت آخر قطعة تعرضت للفساد ، والتعفن فاختار موقعها لبناء المستشفى ، إذ استدل من تأخرها في الفساد عن مثيلاتها أن هذا المكان هو الأصلح من ناحية الهواء النقي والتربة الطيبة ، والجو المعتدل الذي يلائم المرضى ، ويصلح لبناء مستشفى فيه .

وغير هذا كثير فقد كان كتاب ابن سيناء القانون في الطب يدرس في اوربا لقرون عديدة ، واثرت عن علماء مسلمين بحوث وتجارب كثيرة ادت إلى اكتشاف الدورة الدموية الصغرى من قبل العالم المسلم ابن النفيس ، واكتشاف الماء الملكي الذي يذيب كل المعادن إلا الذهب والبلاتين من قبل جابر بن حيان ، واكتشاف علم البصريات من قبل العالم المسلم ابن الهيثم ، وهذا على سبيل المثال لا الحصر ، ولو اردنا استقصاء ذلك لخرجنا عن المقصود .

ولكن لابد من كلمة أخيرة وهي: من الواجب على المسلمين ان ينتبهوا لمؤآمرات أعدائهم ، ومحاولاتهم لقطعهم عن كل ما هو أصيل في تأريخهم وتشويه صورة علمائهم الأوائل ، ورميهم بالجمود ، والتقليد والتبعية لينفروا عنهم ، لأن أعداء الإسلام علموا علم اليقين ان الأمة الإسلامية ، لو انتبهت إلى هذا وسعت إلى إكمال ما بدأه علماؤها الأوائل لسبقتهم في الفكر والعقيدة ، وفي السلوك والأخلاق ، وفي العلم النظري ، والتطبيقي اذ إن الإسلام هو دين متكامل صالح لكل زمان ومكان فيه خيري الدنيا والآخرة .

المبحث الثاني : آراء باقي الفرق الإسلامية في رؤية الله تعالى

المطلب الأول : رأي المعتزلة في رؤية الله تعالى .

أولاً : رأي المعتزلة إجمالاً :

يقول الإمام الشهر ستاني ( رحمه الله ) :‘‘ واتفقوا [أي المعتزلة] على نفي رؤية الله تعالى بالأبصار في دار القرار ، ونفي التشبيه عنه من كل وجه ، جهةً ومكاناً وصورةً وجسماً وتحيزاً ، وانتقالاً ، وزوالاً ، وتغيراً ، وتأثيراً.’’([30])

ويقول الإمام الأشعري ( رحمه الله ): ‘‘ أجمعت المعتزلة على ان الله لا يرى بالأبصار ، واختلفت هل يرى بالقلوب :

فقال ابو الهذيل واكثر المعتزلة : إن الله يرى بقلوبنا بمعنى انا نعلمه بها وانكر ذلك الفوطي وعبّاد .’’([31])

ثانياً : استدلال المعتزلة على إنكار رؤية الله تعالى يوم القيامة تفصيلاً.

استدل المعتزلة على ذلك بأدلة نقلية وعقلية وقد أوردتُ بعض استدلالاتهم في المبحث الأول عند ذكر رأي الإمام الأشعري ( رحمه الله ) وذكرت ردود أهل السنة عليهم .

أ-الأدلة النقلية :

قوله تعالى حاكياً عن موسى u } قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي { ([32]) ، أستدل المعتزلة بهذه الآية الكريمة على امتناع الرؤية اذ لو كانت جائزة لما منع منها نبي الله موسى u.([33])

وقد بينت في المبحث الأول كيف رد الأشاعرة ( رحمهم الله ) من أن الأنبياء وخاصةً أولي العزم من الرسل يعلمون ما يجوز وما يستحيل في حق الله تعالى ولول كانت الرؤية مستحيلة لما طلبها نبي الله موسى u ، اذ طلبها مع علمه بامتناعها عبث لا يليق بالأنبياء ، فدل على انها ليست مستحيلة ولكن الله تعالى شاء عدم إجابة الطلب وهو لا يسأل عما يفعل ولو كان لا يُرى لقال اني لا أُرى ولا سبيل إلى رؤيتي وايضاً تعليق الرؤية على استقرار الجبل وهو امر ممكن وما علق على الممكن فهو ممكن كما تقدم فلا حاجة للتكرار .

ولكن المعتزلة أوردوا شبهاً في هذا المقام وقد استوعبها صاحب المواقف واختار منها شبهة واحدة وهي قولهم :

‘‘ إنما سألها بسبب قومه لا لنفسه لإنه كان عالماً بامتناعها ولكن قومه اقترحوا عليه وقالوا ارنا الله جهرةً وانما نسبها إلى نفسه في قوله ارني ( ليمنع ) عن الرؤية فيعلم قومه امتناعها بالنسبة إليهم بالطريق الأولى وفيه مبالغة لقطع دابر اقتراحهم وفي اخذ الصاعقة لهم دلالة على استحالة المسؤول …..

والجواب : إنه خلاف الظاهر فلا بد له من دليل ومع ذلك لا يستقيم اما أولاً : فلإنه لو كان موسى مُصدَقاً بينهم لكفاه في دفعهم أن يقول هذا ممتنع بل كان يجب عليه ان يردعهم عن طلب مالا يليق بجلال الله كما زجرهم وقال إنكم قوم تجهلون عند قولهم اجعل لنا آلهة كما لهم آلهة .

وإلا أي وان لم يكن مُصدَقاً بينهم بل كان القوم كافرين منكرين لصدقه لم يصدقوه أيضاً في الجواب بلن تراني إخباراً عن الله تعالى ؛ لإن الكفار لم يحضروا وقت السؤال ولم يسمعوا الجواب بل الحاضرون هم السبعون المختارون فكيف يقبلون مجرد إخباره مع إنكارهم لمعجزاته الباهرة .

وأما ثانياً : فإنهم لما سألوا وقالوا ارنا الله جهرةً زجرهم الله تعالى وردعهم عن السؤال اخذ الصاعقة فلم يحتج موسى في زجرهم إلى سؤال الرؤية وإضافتها إلى نفسه وليس في أخذ الصاعقة دلالة على امتناع المسؤول لأنهم لم يروا إلا أن اخذتهم الصاعقة عقب سؤالهم وليس في ذلك ما يدل على امتناع ما طلبوه بل جاز أن يكون ذلك الأخذ لقصدهم اعجاز موسى عن الإتيان بما طلبوه تعنتاً مع كونه ممكناً فأنكر الله ذلك عليهم وعاقبهم كما انكر قولهم لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا وقولهم انزل علينا كتاباً من السماء بسبب التعنت وإن كان المسؤول أمراً ممكناً في نفسه فأظهر الله عليهم ما يدل على صدقه معجزاً ورادعاً لهم عن تعنتهم .’’([34])

ومن الأدلة على استحالة الرؤية عند المعتزلة قوله تعالى } لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ { ([35]).

وقد تقدم في المبحث الأول رد الأشاعرة على المعتزلة ، وملخصه أنها لاتدركه في زمان واحوال الدنيا وهذا لايمنع ان تدركه في زمان وأحوال الآخرة إذ الآية الكريمة لم تشر إلى أن الأبصار لا تدركه مطلقا ، أي لافي الدنيا ولا في الآخرة .

فجاز ان لا تدركه في الدنيا ، وتدركه في الآخرة .

ب- الأدلة العقلية :

يقول التفتازاني ( رحمه الله ) : ‘‘واقوى شبههم من العقليات ان الرؤية مشروطة بكون المرئي في مكان وجهة ، ومقابلة من الرائي وثبوت مسافة بينهما بحيث لا يكون في غاية القرب ولا في غاية البعد ، واتصال الشعاع من الباصرة بالمرئي ، وكل ذلك محال في حق الله تعالى .’’([36])

والجواب تقدم في المبحث الأول ، وخلاصته : أنه قياس الغائب على الشاهد وهو فاسد ؛ لأن احوال الآخرة تختلف عن أحوال الدنيا .

وان المصحح للرؤية هو الوجود كما قال الامام الاشعري ( رحمه الله ) لا (الجسمية) كما تقول المعتزلة .

المطلب الثاني : رأي الحشوية :

قال الكرامية والمجسمة بإثبات الرؤية وجوازها ، ولكن خالفوا اهل السنة من أشاعرة وماتريدية في كيفية هذه الرؤية ‘‘ فعندنا ان الرؤية تكون من غير مواجهة ، ومقابلة ولا ما في حكمهما إذ يمتنع ذلك في الموجود المنزه عن الجهة ، والمكان ، وهم يدعون الضرورة في ان ما لايكون في جهة قدام الرائي ولا مقابلاً له أو في حكم المقابل لا يُرى موافقين في ذلك للمعتزلة ومخالفين لهم في أصل الرؤية .

والجواب : انا نمنع الضرورة وما ذلك أي ادعاء الضرورة من هاهنا ، إلا كدعوى الضرورة في أن كل موجود فإنه في جهة وحيز ، وما ليس في حيز وجهة فإنه ليس بموجود ، ولعل هذا الإدعاء فرعه أي فرع ذلك الإدعاء وقد وافقنا الحكماء والمعتزلة على أن حصر الموجود فيما ذكر حكم وهمي مما ليس بمحسوس فيكون باطلاً ، فكذا الضرورة التي ادعاها الكرامية ، والمجسمة في الرؤية .’’([37])

ولقد ذكرت اقوال هؤلاء في الفصل الثاني وبينت تهافتهم وخروجهم عن المعقول بما لا مزيد عليه فليراجع .

وفي الختام وبعد ان اتضح لنا جلياً امكان الرؤية ، وجوازها عقلاً ، ونقلاً فقد فرّع الأشاعرة ( رحمهم الله ) على هذا جواز الرؤية في الدنيا وقد اختص بها رسول الله محمد r في ليلة الإسراء والمعراج ، واما اختلاف الصحابة ( رضي الله عنهم ) في ذلك فهو ليس في اصل الرؤية ، ولكن في محل وقوعها هل هو العين ؟ أو القلب وإلا فأصل الرؤية قد ثبت عندهم .

المبحث الثالث : موازنة بين رأي الإمام الأشعري ( رحمه الله ) في رؤية الله تعالى وآراء باقي الفرق الإسلامية .

من خلال ما مر في المبحثين السابقين ، ومن المقارنة والموازنة ومناقشة الإدلة تبين لنا أن الإمام الأشعري ( رحمه الله ) قد سلك مسلكاً وسطاً بين الإفراط والتفريط فلم ينكر الرؤية ويأول النصوص الصريحة ويرد السنة الصحيحة كما فعلت المعتزلة بدون دليل .

ولم يثبت الرؤية بمواجهة ، ومقابلة واتصال شعاع وما إلى ذلك من المحالات في حق الله تعالى كما فعلت الحشوية ، بل سلك طريقاً وسطاً واضعاً نصب عينيه النصوص النقلية ومؤيداً لها بالأدلة العقلية ، فلا جرم ان جاء قوله سديداً ورأيه رشيدا .

يقول الإمام الغزالي ( رحمه الله ) : ‘‘ ولينظر المنصف كيف افترقت الفرق وتحزبت إلى مُفِرط ومُفَرِّط .

أما الحشوية فإنهم لم يتمكنوا من فهم موجود إلا في جهة ، فأثبتوا الجهة حتى الزمتهم بالضرورة الجسمية ، والتقدير ، والاختصاص بصفات الحدوث .

واما المعتزلة فإنهم نفوا الجهة ولم يتمكنوا من اثبات الرؤية دونها ، وخالفوا به قواطع الشرع ، وظنوا أن في إثباتها إثبات الجهة ، فهؤلاء تغلغلوا في التنزيه محترزين من التشبيه فأفرطوا ، والحشوية أثبتوا الجهة احترازاً من التعطيل فشبهوا .

فوفق الله سبحانه أهل السنة للقيام بالحق ، فتفطنوا للمسلك القصد ، وعرفوا أن الجهة منفية لأنها للجسمية تابعة ، وتتمة ، وان الرؤية ثابتة لأنها رديف العلم وفريقه ، وهي تكملة له ؛ فانتفاء الجسمية اوجب انتفاء الجهة التي من لوازمها ، وثبوت العلم أوجب ثبوت الرؤية التي هي من روادفه وتكملاته ، ومشاركة له في خاصيته ، وهي إنها لا توجب تغييراً في ذات المرئي ، بل تتعلق به على ما هو عليه كالعلم ، ولا يخفى عن عاقل أن هذا هو الإقتصاد في الإعتقاد .’’([38])

([1]) سورة القيامة،الآية 22 –23 .

([2]) الملل والنحل ، 1/106 .

([3]) انظر شرح المواقف ، 8/129 ، تاريخ المذاهب الإسلامية ص184 – 185 .

([4]) شرح العقائد النسفية ، ص103 .

([5]) أنظر غاية المرام ، ص166-167 .

([6]) سورة الإسراء، الآية 85 .

([7]) أنظر الإعجاز الطبي في القرآن ، تأليف الدكتور السيد الجميلي ، ص88-89 ، قصة الإيمان بين الفلسفة والعلم والقرآن ، نديم الجسر ، ص205 ، دار التربية، بغداد .

([8]) اخذت هذه المعلومات من محاضرة للدكتور أحمد عدنان في جامع الإمام أحمد بن حنبل t في بغداد ، رمضان سنة 1420هـ .

([9]) انظر مجلة العلوم ، موضوع البارسايكولجي ، ص29 ، العدد الخامس مجلة شهرية تعنى بالقضايا العلمية تصدرها وزارة لثقافة والإعلام – القطر العراقي -

([10]) سورة الأعراف ، الآية 143.

([11]) شرح المواقف ، 8/117 .

([12]) نشر التالي على نظم الأمالي ، ص80-81 .

([13]) شرح المواقف 8/117 .

([14]) نشر الئالي على نظم الأمالي ، ص81 .

([15]) سورة القيامة، الآية 22-23.

([16]) سورة الغاشية، الآية 17 .

([17]) سورة آل عمران، الآية 77 .

([18]) اللمع ، ص34 .

([19]) سورة النمل، الآية 35.

([20]) أنظر شرح المواقف ، 8/120-132 ، شرخ الجلال الدواني على العقائد العضدية 2/540 ، المدرسة الأشعرية ، ص131

([21]) سورة المطففين،الآية 15.

([22]) أنظر شرح المواقف ، 8/134 .

([23]) سورة الأنعام ، الآية 103 .

([24]) شرح النسفية ، ص108 .

([25]) المصدر السابق ، ص 108 .

([26]) شرح النسفية ، ص 106 .

([27]) هذا تعريف الإمكان الخاص ، وأما الإمكان العام : فهو أن يكون طرف من أطرافه الواجب بالغير ، والطرف الآخر المستحيل والذي يفيدنا هنا هو الإمكان الخاص .

([28]) محاضرة في علم الكلام للأستاذ الدكتور محمد رمضان ألقاها على طلبة الماجستير قسم اصول الدين في كلية العلوم الإسلامية الاربعاء 5 محرم 1420هـ ، 21/4/1999 م .

([29]) شرح المواقف ، 8/ 123 – 1247 .

([30]) الملل والنحل ،1/51 .

([31]) مقالات الإسلاميين ،1/265 .

([32]) سورة الأعراف ، الآية 143 .

([33]) وانظر المسترشد على مزاعم المشبهة والمجسمة ، القاسم بن ايراهيم الرسي ( ت 246هـ) ، ص63 ، ط1 ، دار الآفاق العربية ، القاهرة ، 1420هـ- 2000م .

([34]) شرح المواقف ، 8/119-120 .

([35]) سورة الأنعام ، الآية 103 .

([36]) شرح النسفية ، ص117 .

([37]) شرح المواقف ، 8/143 .

([38]) الاقتصاد في الإعتقاد ، ص48 .

-