الفصل الخامس

الآراء التوفيقية المتوسطة عند الإمام الأشعري

الفصل الخامس

أفعال العباد

او هل الانسان مخير ام مسير ؟

المبحث الاول : افعال العباد عند الإمام الأشعري ( رحمه الله تعالى )

المطلب الاول : افعال العباد عند الإمام الأشعري ( رحمه الله ) أجمالاً .

قال الإمام الأشعري ( رحمه الله ) ‘‘ وإرادة الله واحدة أزلية متعلقة بجميع المرادات من أفعاله الخاصة وأفعال عباده من حيث إنها مخلوقة لا من حيث إنها مكتسبة لهم فعن هذا قال – أراد الجميع خيرها وشرها ، نفعها وضرها وكما أراد وعلم

أراد من العباد ما علم ، وأمر القلم حتى كتب في اللوح المحفوظ فذلك حكمه ، وقضاؤه وقدره الذي لا يتغير ولا يتبدل ’’ ([1])من النص المتقدم يتبين أن الإمام الأشعري ( رحمه الله ) ينسب جميع الافعال الى الله تعالى ، ولكن نسبة أفعال العباد الى الله تعالى من حيث إنها مخلوقة من الله تعالى ، فمن هذه الحيثية تنسب الى الله تعالى ، اما من حيث الكسب الذي يترتب عليه الثواب والعقاب فهي منسوبة الى العبد وهذا الكلام هو المدخل الى رأي الامام الاشعري ( رحمه الله ) في هذه المسألة ، وقوله بالكسب الذي جاء به القرآن الكريم قال تعالى } لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ { ([2]) للتخلص من الجبر الذي قال به الجبرية والذي يبطل الثواب والعقاب ، ومن نفي القدر الذي قال به القدرية ووافقتهم عليه المعتزلة وهو خلاف المعلوم من الكتاب والسنة في اثبات القدر .

ويوضح الامام الاشعري ( رحمه الله ) الكلام المتقدم أكثر حيث يقول : ‘‘ واختلف الناس في معنى القول ( ان الله خالق ) فقال قائلون : معنى ان الخالق خالق ان الفعل وقع منه بقدرة قديمة فانه لا يفعل بقدرة قديمة الا خالق ، ومعنى ( الكسب ) ان يكون الفعل بقدرة محدثة ، فكل من وقع منه الفعل بقدرة محدثة فهو مكتسب ، وهذا قول اهل الحق ’’([3]).

ويقول الإمام الأشعري (رحمه الله) : ‘‘ والعبد قادر على افعال العباد اذ الانسان يجد من نفسه تفرقة ضرورية بين حركات الرعدة والرعشة وبين حركات الاختيار والارادة .

والتفرقة راجعة الى أن الحركات الاختيارية حاصلة بحيث إن القدرة تكون متوقفة على اختيار القادر فعن هذا قال ( المُكْتَسب ) هو المقدور بالقدرة الحادثة والحاصل تحت القدرة الحادثة .’’([4])

يدلل الإمام الأشعري ( رحمه الله ) على (الكسب) الذي هو للعبد بالافعال الاختيارية والافعال الاضطرارية فمثلاً : الانسان قادر على البطش وعلى ضده وقادر على المشي والجلوس والقيام والقعود الى غير ذلك فهذه أفعال اختيارية .

ولكن هناك أفعال اضطرارية مثل الرعدة والرعشة فإن يد الانسان مثلاً : تتحرك بدون ارادته مرتعشة وهو لا يستطيع ان يوقف هذه الرعشة ، فدل على ان هذا الفعل اضطراري .

وأيضاً أثبت العلم الحديث حركات اضطرارية كثيرة للإنسان ليس له دخل فيها ، بل انها تجري عندما يكون نائماً بكل دقة واتقان مثل ضربات القلب ، وحركات المعدة لهضم الطعام الى غير ذلك من فعاليات الجسم المختلفة التي لا دخل لارادة الانسان فيها .

فاذن لابد من التفريق بين الافعال الاختيارية ، والافعال الاضطرارية ، وفي هذا الكلام رد على الجبرية القائلين بان الانسان كالريشة في مهب الريح اذ لو كن الامر كما قالوا لكان الانسان مضطراً في جميع افعاله والواقع على خلاف ذلك .

يقول القاضي الباقلاني ( رحمه الله ) : ‘‘ اعلم ان مذهب اهل السنة والجماعة إن الله تعالى هو الخالق وحده لا يجوز ان يكون خالق سواه ، فإن جميع الموجودات من أشخاص العباد وافعالهم وحركات الحيوانات قليلها وكثيرها حسنها وقبيحها خلق له تعالى لا خالق لها غيره . فهي منه خلق وللعباد كسب على ما قدمنا بيانه بقوله تعالى } لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ { .([5])

وامثال هذه الاية من الادلة على الفرق بين الخلق والاختراع والكسب فلواحد منا اذا ما سمي فاعلاً فانما يسمى فاعلاً بمعنى انه مكتسب لا بمعنى انه خالقا لشيء ’’ ([6])

المطلب الثاني : أفعال العباد عند الامام الاشعري ( رحمه الله ) تفصيلاً .

أولاً : الادلة النقلية والعقلية .

يرى الامام الأشعري ( رحمه الله ) : ‘‘ إن أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة الله سبحانه وتعالى وحدها وليس لقدرتهم تأثير فيها بل الله سبحانه اجرى عادته بان يوجد في العبد قدرة واختيارا فاذا لم يكن هناك مانع اوجد فيه فعله المقدور مقارناً لهما فيكون فعل العبد مخلوقاً لله ابداعاً واحداثاً ومكسوباً للعبد والمراد بكسبه اياه مقارنته لقدرته وارادته من غير ان يكون هناك منه تأثير او مدخل في وجوده سوى كونه محلا له ’’ .([7])

يقول الدكتور محمد رمضان : ‘‘ الأشاعرة يقولون : الانسان ليس الا سبباً عادياً كما ان النار سبباً للأحراق سبب عادي فالتأثير من الله عز وجل فبعد مباشرة السبب من العبد يخلق الله هذا الفعل ؛ كما ان النار اذا وجدت فهي سبب فأما الاحراق والتأثير فمن الله .

فقد جرت سنة الله تعالى الكونية اذا وجدت الاسباب يوجد الخلق والتأثير والايجاد من الله تعالى . ’’([8])

أ‌- أدلة الامام الأشعري ( رحمه الله ) النقلية .

يستدل الامام الأشعري ( رحمه الله ) بالقرآن الكريم على صحة مذهبه ومن الايات التي استدل بها قوله تعالى } اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ{([9]) وقوله تعالى } وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ{ ([10]) وقوله تعالى } أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ { ([11]) في مقام التنديد بالمشركين وابطال رأيهم في تجويز الالوهية لغيره تعالى والتمدح بانه سبحانه الخالق الذي يستحق العبادة لا غيره فمعنى الآية _ والله اعلم – ما ينبغي لكم التسوية بين من يصدر منه حقيقة الخلق ومن لا يصدر من ذلك شيئا ففيها حذف المفعول وتنزيل الفعل منزلة اللازم ، للدلالة على مناط المدح واستحقاق العبادة إنما هو نفس الخلق .([12])

يقول الامام الاشعري ( رحمه الله ) : ‘‘ ان قال قائل : لم زعمتم ان اكساب العباد مخلوقة لله تعالى ؟

قيل له : قلنا ذلك لأن الله تعالى قال (( والله خلقكم وما تعملون )) وقال (( جزاء بما كانوا يعملون)) فلما كان الجزاء واقعاً على أعمالهم كان الخالق لاعمالهم . ’’([13])

من هذا النص نجد كيف ان الامام الأشعري ( رحمه اله تعالى ) يسبك الدليل العقلي مع الدليل النقلي سبكاً محكماً فهو سائر على منهجه في تقوية وتأكيد الدليل النقلي بالدليل العقلي وهي طريقة المحاسبي وابن كلاب وغيرهم من متكلمي أهل السنة أشتهر بها الامام الاشعري ( رحمه الله ) بعد مفارقته للمعتزلة .

ب‌- الادلة العقلية

الاول : ان العبد لو كان خالقاً لافعاله لكان عالماً بتفاصيلها ضرورة ان ايجاد الشيء بالقدرة والاختيار لا يكون إلا كذلك واللازم باطل – اللازم هو التالي اي جزاء الشرط واذا بطل اللازم بطل الملزوم - أي ان ايجاد الشيء بالقدرة والاختيار لا يكون الا من عالم بتفاصيل هذه الشي فالعلم هنا هو اللازم وهو باطل لأن العبد لا يعلم تفاصيل ما يفعله فإن المشي مثلاً من موضع الى موضع أخر قد يشتمل على سكنات متخللة وعلى حركات بعضها أسرع من بعض وبعضها أبطأ من بعض ولا شعور للماشي بذلك وليس هذا ذهولا عن العلم بل لو سئل لم يعلم وهذا في أظهر أفعاله .

واما اذا تأملت في حركات أعضائه في المشي والأخذ والبطش او نحو ذلك وما يحتاج اليه من تحريك العضلات وتمديد الأعصاب ونحو ذلك فالامر اظهر. ([14])

واذا بطل علم العبد بالجزيئات والتفاصيل فإن ما أدى اليه - وهو ان يكون خالقاً لافعال نفسه – باطل فيثبت نقيضه ، وهو ما ندعي من أن الله تعالى هو الخالق لهذه الافعال ([15]).

الثاني : ان فعل العبد ممكن في نفسه وكل ممكن مقدور لله تعالى لشمول قدرته للممكنات باسرها ولا شيء مما هو مقدور لله بواقع بقدرة العبد ؛ لامتناع اجتماع قدرتين ومؤثرين على مقدور واحد ([16]) .

من جهة ان الشيء لا يكون أثراً إلا لمؤثر واحد .

الثالث : ان العبد لو كان موجوداً لفعله بقدرته واختياره استقلالاً فلا بد ان يتمكن من فعله وتركه والا لم يكن قادراً عليه مستقلاً فيه وان يتوقف ترجيح فعله على تركه على مرجح اذ لو لم يتوقف عليه كان صدور الفعل عنه مع جواز طرفية وتساويهما اتفاقياً لا اختياراً ويلزم ايضاً ان لا يحتاج وقوع احد الجائزين الى سبب فيسند باب إثبات الصانع .

وذلك المرجح لا يكون من العبد باختياره والا لزام التسلسل .([17])

ثانياً: الكسب.

نقدم للكلام عن الكسب بهذا السؤال:

هل يجوز مقدور بين قادرين ؟

الجواب : جوزه الاشاعرة لامطلقاً بل بين قادر خالق وقادر كاسب بناءا على إثبات قدرة للعبد غير مؤثرة في مقدوره بل متعلقة به تعلق ( الكسب ) مع شمول قدرة الله تعالى لجميع الأشياء فيكون مقدور العبد كسباً مقدوراً لله تعالى تأثيراً .

فالقدرة الحادثة على رأينا معاشرة الأشاعرة فانها لا تؤثر في فعل اصلاً وليست مبدأ الاثر قطعاً وان كان لها عندنا تعلق بالفعل يسمى ذلك التعلق ( كسباً ) ([18]) .

‘‘ فجميع افعال العباد مخلوقة مبدعة من الله تعالى مكتسبة للعبد والكسب عبارة عن الفعل القائم بمحل قدرة العبد والخالق هو الله تعالى حقيقة لا يشاركه في الخلق غيره فاخص وصفه هو القدرة والاختراع وهذا تفسير اسمه الباريء ’’. ([19])

والحاصل إن جميع ما يتوقف عليه افعال الجوارح وافعال النفوس لا تأثير لقدرة العبد فيه وانما محل قدرته أي العبد هو عزمه عقيب خلق الله تعالى هذه الامور في باطنه عزماً مصمماً بلا تردد وتوجهه توجهاً صادقاً للفعل ….

فاذا اوجد العبد ذلك العزم المصمم خلق الله تعالى له الفعل عقبه فيكون منسوباً اليه تعالى من حيث هو حركة ويكون منسوباً الى العبد من حيث هو زناونحوه من الأوصاف التي يكون بها الفعل معصية . ([20])

‘‘ فإن قيل لا معنى لكون العبد فاعلاً بالاختيار الا كونه موجوداً لافعاله بالقصد والارادة وقد سبق ان الله تعالى مستقل بخلق الافعال وايجادها ومعلوم ان المقدور الواحد لا يدخل تحت قدرتين مستقلتين .

قلنا : لا كلام في قوة هذا الكلام ومتانته الا انه لما ثبت بالبرهان ان الخالق هو الله تعالى وبالضرورة إن لقدرة العبد وارادته مدخلا في بعض الافعال كحركة البطش دون البعض كحركة الارتعاش احتجنا في التقصي عن هذا المضيق الى القول بأن الله تعالى خالق والعبد كاسب وتحقيقه ان صرف العبد قدرته وارادته الى الفعل ( كسب ) وايجاد الله تعالى الفعل عقيب ذلك خلق والمقدور الواحد داخل تحت قدرتين لكن بجهتين مختلفتين فالفعل مقدور الله تعالى بجهة الايجاد ، ومقدور العبد بجهة الكسب وهذا القدر من المعنى ضروري ، وان لم نقدر على ازيد من ذلك في تلخيص العبارة المفصحة عن تحقيق كون فعل العبد بخلق الله تعالى وايجاده مع ما فيه للعبد من القدرة والاختيار ولهم في الفرق بينهما عبارات مثل : ان الكسب واقع بآلة والخلق لا بآله .

والكسب مقدور وقع في محل قدرته، والخلق مقدور لا في محل قدرته.

والكسب لا يصح انفراد القادر به، والخلق يصح انفراد القادر به.’’([21])

شبهة والرد عليها يقول أحد الباحثين : ‘‘ والواقع أن الأشاعرة قد خرجوا بعض الشيء من المأزق لكنهم لم يخرجوا منه نهائياً، ولن يخرجوا إلا مجرحين لحدة حافة الزاوية، إذ يبقى السؤال قائماً، من أحدث هذه الارادة عند الانسان؟

أليست هي حادثة فلا بد لها من محدث؟ وظاهر القرآن يصرح بأنها مخلوقة لله : ((وما تشاؤون إلا أن يشاء الله))، ولا أظن الأشاعرة يقولون بغير هذا.

فإذا كان الله خلق فيٍّ إرادة الشر ، وخلق لي الشر فكيف يحاسبني عليه؟! وهل سيكون معنى الكسب إلا أني تلبست بهذا الفعل ولو على كره مني؟!([22])

الجواب : إن الأشاعرة يقولون قوله تعالى : } وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ {([23])، وقوله تعالى : } اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ{([24])، لا يتوجه على الميلان القلبي للانسان نحو الخير، أو الشر، فالميلان القلبي لا يسمى شيئا ، والله تعالى يحاسب عباده على هذا الميلان القلبي ، أو التوجه نحو الشر ، أو الخير .

‘‘ ويقول الأشاعرة بأن القدرة يستخدمها الإنسان بعد ميلان القلب ، والميلان أمر اعتباري غير موجود في الخارج ، والميلان من الأمور الذهنية ، وهي غير قابلة للمخلوقية وميلان القلب يتحول إلى رغبة وإلى إرادة ومن الإرادة يأتي القصد ففعل هذا الشيء عنه أي صدوره عن الإنسان ، فنقول التأثير من الله والكسب من العبد .

وحتى نعمل جميع ما جاء في القران قال تعالى : } اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ { ([25]) ، } وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ{ ([26]) ، وحتى لا نكون ممن قال الله تعالى فيهم : } أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ{ ([27]) ، فالحساب يكون على الميلان القلبي ( الكسب ) . ([28])

وأخيراً قد يتمسك البعض بشبهة أخرى وهي : إنه قد دل الدليل على أن كل عمل لكل عامل سبق في علمه تعالى ، وتعلقت به إرادته ، وعلمه لا يتبدل وإرادته لا تتحول ….

قلت : هذا أمر صحيح ، ومسلم ولكنه لا يخالف ، ولا يعارض ما ذكرت ؛ لان علمه سبحانه وتعالى شامل أزلا وأبدا لكل عمل ، ولكل عامل وارادته تعالى تابعة لعلمه، ولا ينكر أحد ذلك : } أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ{([29]).

وقد صح أن ما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ لم يكن، لكن العلم كشف أزلاً ما أنت تعمله باختيارك وارادتك وارادته تعلقت به حسب علمه بذلك، فالعلم ليس مجبراً وإنما هو مظهر، والارادة منه تعالى تابعة لعلمه الكشاف وليس أمراً اجبارياً يوجب عليك الأمر بالقهر والاعتساف.([30])

المبحث الثاني : أفعال العباد عند باقي الفرق الاسلامية.

أولاً : رأي الجبرية في أفعال العباد.

خاض العلماء في حديث القدر وقدرة الانسان بجوار قدرة الله سبحانه وتعالى فنشأت فرق ومذاهب ومن هذه الفرق ، الجبرية، ‘‘ ويقال إن أول من دعى الى هذه النحلة من المسلمين الجعد بن درهم وقد تلقاه عن يهودي بالشام ونشره بين الناس بالبصرة، ثم تلقاه عنه الجهم بن صفوان’’([31]).

يقول الجهم بن صفوان في القدرة الحادثة : ‘‘ إن الانسان ليس يقدر على شيء ولا يوصف بالاستطاعة وإنما هو مجبور في أفعاله لا قدرة له ولا إرادة ولا اختيار وإنما يخلق الله تعالى الأفعال فيه على حسب ما يخلق في سائر الجمادات وتنسب اليه الأفعال مجازاً كما تنسب الى الجمادات كما يقال أثمرت الشجرة وجرى الماء وتحرك الحجر وطلعت الشمس وغربت ….. الى غير ذلك فالثواب والعقاب جبر كما أن الأفعال جبر قال وإذا ثبت الجبر فالتكليف أيضاً كان جبراً ’’([32]).

وقد تقدمت حجتهم والرد عليها في المبحث الأول وهي قولهم لا معنى لكون العبد فاعلاً بالاختيار إلا كونه موجداً لأفعاله بالقصد والارادة.

ثانياً : رأي القدرية والمعتزلة.

أ-رأي القدرية :

قيل أول من تكلم في القدر رجل من أهل العراق كان نصرانياً فأسلم ثم تنصر وأخذ عنه معبد الجهني وغيلان الدمشقي.([33])

وجملة قول القدرية إنهم زعموا : ‘‘ أن العباد خالقون لأكسابهم وكل حيوان محدث لأعماله وليس لله في شيء من أعمال الحيوانات صنع، وذكر أكثرهم أن الله عز وجل غير قادر على مقدور غيره وإن كان هو الذي أقدر القادرين على مقدوراتهم ’’([34]).

يقول الامام الأشعري (رحمه الله) : ‘‘ فإن قالوا : لم سميتمونا قدرية؟ قيل لهم : لأنكم تزعمون في أكسابكم أنكم تقدرونها وتفعلونها مقدرة لكم دون خالقكم والقدري هو من ينسب ذلك لنفسه، كما أن الصائغ هو من يعترف بأنه يصوغ دون من يزعم أنه يصاغ له …. وكذلك القدري من يدعي أنه يفعل أفعاله مقدرة له دون ربه ويزعم أن ربه لا يفعل من أكسابه شيئاً’’ ([35]).

ب-رأي المعتزلة :

يقرر المعتزلة في هذه المسألة نفس ما يقرره القدرية أي القول بأن الانسان خالق لأفعاله وهو ‘‘ القول بالقدر وإنما سلكوا في ذلك مسلك معبد الجهني وغيلان الدمشقي وقرر واصل بن عطاء هذه القاعدة … فقال : إن الباري تعالى حكيم عادل لا يجوز أن يضاف اليه شر وظلم ولا يجوز أن يريد من العباد خلاف ما يأمر ويحكم عليهم شيئاً ثم يجازيهم عليه.

فالعبد هو الفاعل للخير والشر والايمان والكفر والطاعة والمعصية وهو المجازى على فعله والرب تعالى أقدره على ذلك كله’’ ([36]).

واحتجت المعتزلة بانا نفرق بالضرورة بين حركة الماشي وحركة المرتعش فإن الأولى باختياره دون الثانية ، وبأنه لو كان الكل بخلق الله تعالى لبطل قاعدة التكليف والمدح والذم والثواب العقاب وهو ظاهر.

والجواب : إن ذلك إنما يتوجه على الجبرية القائلين بنفي الكسب والاختيار أصلاً وأما نحن فنثبته([37]).

والدليل على بطلان قول القدرية والمعتزلة من القرآن قوله عز وجل : } وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ{([38]).

‘‘ فأخبر الله عن نفسه بانه خالق أعمال العباد خلاف قول القدرية إن العباد خالقون لأعمالهم ، فإن قيل اراد بالاعمال الأصنام المعمولة قيل : إن الأصنام لم تكن من عمل العباد وإنما نحتها عملهم والله خالق عملها الذي هو نحتهم لها’’([39]).

وإذا قلنا إن افعال العباد مخلوقة لله تعالى لم نرد بالفعل المعنى المصدري الذي هو الإيجاد والايقاع لأنه أمر اعتباري لا وجود له في الخارج فلا يتعلق به الخلق بل نريد الحاصل بالمصدر وهو متعلق الايجاد والايقاع أي ما نشاهد من الحركات والسكنات مثلاً.

والفعل بهذا المعنى هو متعلق التكليف كالصوم والأكل والشرب والصلاة ، إذ هي عبارة عن قيام وقعود وركوع وسجود وتلاوة وذكر، وأهل العربية يقولون للمصدر المفعول المطلق لأنه هو المفعول بالحقيقة لأنه الذي يوجده الفاعل ويفعله وهو بناء على إرادة الحاصل بالمصدر لأن الأمر الاعتباري وهو الفعل بمعنى الاجاد والايقاع لا وجود له، فلا يتعلق به الخلق، فوجب إجراؤها أي الآية على عمومها للأحجار المنحوتة والأفعال.

والتحقيق : إن عملهم بمعنى الأثر الحاصل بالمصدر هو معمولهم ومعنى الموصولة وصلتها كذلك، فمآل المعنى فيهما واحد، لأن التقدير في الموصولة وخلق العمل الذي تعملونه، أو الشيء الذي تعملونه ودعوى عموم الآية للأعيان ممنوعة ، لأن الأعيان ليست معمولة للعباد بمعنى ايجادهم ذواتها وإنما هي معمول فيها النحت والتصوير وغيرهما من الأعمال ، وإطلاق قول القائل (عملت الحجر صنماً) مجاز، والمعنى الحقيقي هو أنه حوله بالنحت والتصوير الى صورة الصنم([40]).

وقد حام القاضي عبد الجبار المعتزلي حول هذا المعنى حيث يقول : "فمن جملة ما سيتمسكون به قوله تعالى : } أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون {([41]).

والجواب عن ذلك : إنا لو استدللنا بهذه الاية على مذهبنا لكنا أسعد حالاً منكم، لأن القديم تعالى أضاف اليهم العبادة والنحت، فقال : أتعبدون ما تنحتون؟ وذمهم على ذلك فلولا أنها متعلقة بهم وإلا لما حسن إضافته اليه وذمهم على ذلك.

وبعد ، فالأصل في كلام الحكيم أن لا يحمل إلا على وجه لو أظهر لكان لائقاً بالحكمة، ومعلوم أنه لو قال : أتعبدون ما تنحتون وأنا الذي خلقت فيكم عبادته ونحته لكان لا يليق هذا الكلام بحكمته، فلا يجوز حمل هذا على ظاهره، ويجب أن يحمل على وجه يوافق الأدلة العقلية، فيقال : المراد بقوله وما تعملون أي ما تعملون فيه وذلك كثير

جاء في اللغة وفي كتاب الله تعالى قال الله عز وجل : } يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَـرِيبَ {([42])فإنه لا تتعلق المحاريب بكونها أجساماً ، والمراد به العمل في المحاريب وكذلك قوله تعالى : } فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ{([43])، يعني العصا، أي ما يأفكون فيه، كذلك في مسألتنا.

نجد الرد على هذه الشبهة عند الامام الأشعري (رحمه الله) حيث يقول : ‘‘إن قال قائل : أفليس الله تعالى قال : }أتعبدون ما تنحتون { وعنى الأصنام التي نحتوها، فما أنكرتم أن يكون قوله : } خلقكم وما تعملون { أراد الأصنام التي عملوها؟.

قيل له : خطأ ما ظننت ، لأن الأصنام منحوتاً لهم في الحقيقة فرجع الله تعالى بقوله : } أتعبدون ما تنحتون { اليها، وليست الخشب معمول لهم في الحقيقة فيرجع بقوله خلقكم وما تعملون اليها.

فإن قال قائل : أليس قد قال الله تعالى : } تلقف ما يأفكون { ولم يرد أفكهم ، فما أنكرت أن لا يرجع بقوله } خلقكم وما تعملون { الى أعمالهم؟

قيل له : الذين يأفكون الأمثلة التي خيلوا الى الناس أنها حيات تسعى، وأفكهم تخييلهم، فأراد الله بقوله : } يأفكون { أي يخيلون الى الناس أنها حيات تسعى، وأفكهم هو إيهامهم الشيء على خلاف ما هو سبيله، فالامثلة هي التي يأفكون ويخيلون الى الناس أنها تسعى في الحقيقة، وهي التي تلقفها العصا.

فليس يجوز أن يعمل الخشب في الحقيقة فلم يجز أن يكون الله تعالى أراد بقوله } خلقكم وما تعملون { الرجوع اليها ووجب أن يرجع الى الأعمال كما رجع بقوله } جزاءً بما كانوا يعملون { الى الأعمال.

فلو جاز لزاعم أن يزعم أن قول الله تعالى : } خلقكم وما تعملون { أراد به غير أعمالهم كما أراد بقوله : } ما يأفكون { غير إفكهم لساغ أن يزعم أن قول الله تعالى } جزاءً بما كانوا يعملون { إنما أراد به غير أعمالهم كما أراد بقوله } خلقكم وما تعملون { غير أعمالهم ، كما أن قوله } ما يأفكون { إنما أراد به غير إفكهم، فلما لم يجز هذا لم يجز ما قاله هذا ’’([44]).

المبحث الثالث : موازنة بين رأي الامام الأشعري (رحمه الله) وآراء باقي الفرق الاسلامية في مسألة أفعال العباد.

من آمن بالقدر أمن من الكدر ولقد قام إجماع الأمة على أن جميع ما يقع من الحوادث والكوارث، وما يصدر من أفعال العباد خيرها وشرها بخلق الله وقضائه وقدره، فالخير منها برضاه والشر بقضاه لا برضاه لقوله تعالى : } وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ {([45]).

وإذا علم الله تعالى حركات العباد من الأزل لم يكن العبد موكلاً على ذلك القدر الذي ليس مقدوراً في علمه ولكن الواجب عليه أن يسعى لفعل الخير متجافياً عن الشر الذي لا يريده الله منه([46]).

‘‘ وهذه المسالة من أعوص المسائل الشرعية وذلك أنه إذا تؤملت دلائل السمع في ذلك وجدت متعارضة وكذلك حجج العقول.

أما تعارض أدلة السمع في ذلك فموجود في الكتاب والسنة أما في الكتاب فإنه تلفي فيه آيات كثيرة تدل بعمومها على أن كل شيء بقدر، وأن الانسان مجبور على افعاله، وتلفي فيه ايضاً آيات كثيرة تدل على ان للانسان اكتساب بفعله وأنه ليس مجبوراً على أفعاله ’’([47]).

وإن حال هذه المسألة حال عجيبة، وذلك لأن الخلق ابداً كانوا مختلفين فيها، بسبب أن الوجوه التي يمكن الرجوع اليها في هذه المسألة متعارضة متدافعة.

وتقرير ذلك أن نقول :

الجبرية : عولوا في تقرير قولهم على أن الممكن لا بد له من مرجح وهذه مقدمة بديهية، وإذا كان الأمر كذلك، فالقادر على الضدين يمتنع أن يرجح أحد الطرفين على الآخر إلا لمرجح، وذلك المرجح ليس منه وإلا لزم التسلسل، بل هو من الله وحينئذ يلزم الجبر.

وأما القدرية : فقد عولوا في تقرير قولهم : على أن حسن المدح والذم معلوم بالبديهة، ونعلم بالبديهة : أنه لو لم يكن العبد قادراً على الفعل لما حسن المدح والذم ، وما كان أصلاً للبديهي أولى أن يكون بديهياً.

فالحاصل : أن عمدة الجبرية هي أن الممكن لا بد له من مرجح، وعمدة القدرية : هي حسن المدح والذم وهما مقدمتان معلومتان بالبديهة فقد وقع التعارض بين هاتين المقدمتين في هذا المقام.

وأما الدلائل العقلية : فاعتماد الجبرية على أن هذه التفاصيل غير معلومة لنا فلا تكون مخلوقة لنا.

واعتماد القدرية على أن هذه الأفعال ، واقعة على وفق مقصودنا ودواعينا، فهي منّا.

فقد وقع التعارض بين دليل العلم ودليل القصد.

وأما الالزامات العائدة الى باب الكمال والنقصان، فاعتماد الجبرية على حرف واحد، وهو أن القدرة على الايجاد صفة كمال، فلا تليق بالعبد الذي هو منبع النقصان.

واعتماد القدرية على حرف واحد ، وهو أن أفعال العباد سفه وعبث، وايجادها نقصان وذلك لا يليق بالإله المتعالي عن النقصان.

وأما الدلائل السمعية، فالقرآن مملوء مما يوهم الجبر تارة ومما يوهم القدر تارة أخرى.

وأما الأنام ، فكذلك جميع الملل والنحل، بعضهم مجبرة وبعضهم قدرية، ولا ترى أمة من الأمم خالية عن هاتين الطائفتين.

فظهر … أن التعارض غالب في هذه المسألة إلا أن مذهبنا أقوى بسبب حرف واحد، وهو أنا إن قدحنا في قول ( الممكن لا بد له من سبب ) انسد علينا باب اثبات الصانع، وإن سلمنا بهذه المقدمة لزمنا القول بأن العبد غير مستقل بالايجاد، فلما كان دليل قولنا في هذه المسألة ودليل اثبات الصانع دليلاً واحداً، لا جرم كان جانبنا أقوى وأكمل([48]).

تحقق لنا : ‘‘ إن ما وجد من الأفعال بأسرها منسوب له تعالى ولا ثاني له فيه إذ ليس للعبد فيها إلا الكسب خلافاً للمعتزلة في قولهم إن العبد يخلق أفعاله الاختيارية بقدرة خلقها الله فيه.

وخلافاً للجبرية في قولهم بأن العبد مجبور على الفعل كالريشة المعلقة في الهواء ولا كسب له فيه أصلاً، فالمعتزلة (فرطوا) حيث قالوا بأن العبد يخلق فعله الاختياري، والجبرية (أفرطوا) حين قالوا بأنه لا كسب له فيه وأهل السنة (توسطوا) حيث قالوا بأن العبد لا يخلق فعله لكن له فيه (الكسب) وخير الأمور أوسطها لأنه خرج من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين ’’([49]).

([1]) الملل والنحل للشهرستاني ، 1/100-101.

([2]) سورة البقرة الاية 286.

([3]) مقالات الإسلامين ، 2/196.

([4]) الملل والنحل ، 1/101.

([5]) سورة البقرة ، الاية 286.

([6]) الانصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به ، للقاظي ابي بكر الباقلاني ، ( 403هـ ) ، ص127، كتب هوامشه العلامة محمد زاهد الكوثري مكتب نشر الثقافة الاسلامية ، 1369هـ –1950م.

([7]) شرح المواقف 8/145-146.

([8]) محاضرة ، د. محمد رمضان القاها على طلبة الماجستير قسم أصول الدين الاربعاء 12 محرم 1420هـ ، 28/4/1999م.

([9]) سورة الزمر ، الاية 62.

([10]) سورة لصافات ، الاية 96.

([11]) سورة النحل الاية 17.

([12]) انظر المسامرة بشرح المسايرة ص98-99 وهامش ص98 للشيخ محمد محي الدين عبد الحميد .

([13]) اللمع ، ص 69.

([14]) انظر شرح النسفية ، ص109-110.

([15]) المسامرة بشرح المسايرة هامش ص98.

([16]) انظر شرح المواقف 8/148.

([17]) أنظر المصدر لسابق 8/149.

([18]) انظر شرح المواقف 6/81-85.

([19]) الخطط للمقريزي ، 2/390.

([20]) المسامرة بشرح المسايرة ، ص119، -122.

([21]) شرح النسفية 116-118.

([22]) العقيدة الاسلامية في القرآن الكريم ومناهج المتكلمين، رسالة دكتوراه، محمد عياش الكبيسي، ص 166.

([23]) سورة الانسان ، الآية 30.

([24]) سورة الزمر، الآية 62.

([25]) سورة الزمر الآية 62 .

([26]) سورة الصافات ، الآية 96 .

([27]) سورة البقرة ، الآية 85 .

([28]) محاضرة في علم الكلام ، د.محمد رمضان عبد الله ، القاها على طلبة الماجستير ، الأربعاء ، 5/5/1999 م.

([29]) سورة الملك ، الآية 14.

([30]) نور الاسلام ، الشيخ عبد الكريم محمد المدرس ص 240-242، الدار العربية للطباعة ، بغداد، 1978م.

([31]) تاريخ المذاهب الاسلامية ، محمد أبو زهرة ، ص105.

([32]) الملل والنحل ، 1/91.

([33]) تاريخ المذاهب الاسلامية ، ص112.

([34]) أصول الدين، البغدادي ، ص135.

([35]) اللمع ، ص90-91.

([36]) الملل والنحل ، 1/54.

([37]) شرح النسفية ص 111-112.

([38]) سورة الصافات ، الآية 96.

([39]) أصول الدين ، البغدادي ، ص 135-136.

([40]) انظر المسامرة بشرح المسايرة 102-104.

([41]) سورة الصافات، الآية 96.

([42]) سورة سبأ ، الآية 13.

([43]) سورة الأعراف ، الآية 117.

([44]) اللمع ، ص69-70.

([45]) سورة الزمر، الآية 7.

([46]) انظر الدين الحنيف ، للشيخ نجم الدين الواعظ ، ص39-40، مطبعة السعدي، بغداد، 1373هـ-1954م.

([47]) الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة ، ابن رشد ، ص186 ، ط1، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، 1998م.

([48]) انظر القضاء والقدر ، للامام فخر الدين الرازي (ت606هـ) ص217-218، دار الكتاب العربي.

([49]) الباجوري على السنوسية ص 26-27.