الفصل الثاني - المبحث الثالث

الآراء التوفيقية المتوسطة عند الإمام الأشعري

الفصل الثاني

المبحث الثالث

موازنة بين رأي الإمام الأشعري ( رحمه الله ) وآراء باقي الفرق الإسلامية

من خلال الموازنة والمقارنة بين الآراء التي تم عرضها في المبحثين السابقين من هذا الفصل نستطيع ان نخلص إلى ما يلي :

    • أولاً : إن الإمام الأشعري ( رحمه الله ) لم يخرج عن رأي السلف في مسألة الصفات الخبرية فنراه في قوله الأول يقرر ما قرره السلف حرفياً ، ولا يخرج عن قولهم في إثبات الصفات الخبرية ( بلا كيفٍ ) ، و لا يتعرض لتأويل ولا تفسير بل يسوق الكلام سوقاً واحداً مقرراً عقيدة السلف ، كما نقلت عنه في المبحث الأول عن كتابيه مقالات الإسلاميين و الإبانة .

وبالمقارنة مع آراء السلف في المطلب الأول من المبحث الثاني نجده لم يخرج عن قولهم .

وأيضاً فإن الإمام الأشعري ( رحمه الله ) في قوله الثاني لم يخرج عن رأي بعض السلف حيث أولوا بعض الصفات الخبرية تأويلاً إجمالياً ، وهو في هذا وسعه ما وسع بعض السلف ومنهم سفيان الثوري t الذي أول الاستواء بأنه قصد الإله إلى أمر في العرش واستشهد عليه بقوله تعالى] ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ[ ([1])،([2])

وذكرت الأسباب التي حملته على ( التأويل ) فلا داعي للتكرار ، وهذا التطور في المذهب الأشعري غير قادح فيه ، ولا خارج عن أصول الشريعة الإسلامية السمحاء ، ومرونتها ، وصلاحيتها لجميع الأزمان ، بل أن هذا التطور تطور طبيعي ، فلا يقاس مجتمع المدينة المنورة – على ساكنها افضل الصلاة والسلام – في عهد الصحابة ( رضي الله عنهم اجمعين ) بالعصر الأموي أو العباسي مثلاً ؛ لأن رقعة الدولة الإسلامية قد توسعت ، ودخل في الدين الأعاجم وغيرهم وهؤلاء كلهم لهم آراؤهم وأفكارهم ودياناتهم وفلسفاتهم ، ومن الطبيعي عندما تحتك الحضارات مع بعضها يتولد فكر وسيط ، وتساؤلات لم تكن تخطر على بال احد فما هو موقف الدين من هذه الأفكار والتساؤلات أيقف مكتوف الأيدي لا يستطيع ان ينبس ببنت شفة شأنه شأن المغلوب على أمره .

ولا تكون له حجة تناسب المخاطبين إذ من البديهي أن الاختلاط بغير المسلمين والنقاش معهم يحتاج إلى أدلة العقول وبراهينها ، فلا يستطيع المسلم أن يحاجج غير المسلمين بأقوال السلف ( رضي الله عنهم ) وبالآيات القرآنية ، و الأحاديث النبوية الشريفة ؛ ويطالبهم بأن يذعنوا لأحكامها لأنهم لا يصدقون ولا يؤمنون أصلاً بالله وكتابه ونبيه فضلاً عن الصحابة والسلف ( رضي الله عنهم ) .

فلا بد على المسلم ان يحاججهم بما يقرون به ويذعنون له وهو العقل والبرهان المنطقي ، ومن قال بحرمة ذلك بحجة أن السلف لم يستعملوه – وغفل عن اسبابه وموجباته – ليس له وزن في ميزان العقول ولا رأي عند أصحاب المنهج العلمي السديد وهو بهذا – إن علم أو لم يعلم – يحاول تحجير الشريعة السمحاء ، وجعلها غير صالحة لجميع الأزمان ؛ وانما يجعلها قاصرة وخاصة بزمن من الأزمان ، وبمجموعة من الناس ؛ وهذا خلاف الدين اذ من المعلوم من الدين بالضرورة ان الشريعة الإسلامية السمحاء صالحةٌ لكل زمان ، ومكان ؛ وإلا لم تكن ناسخة للشرائع التي قبلها ، وخاتمة لها .

وايضاً عالمية هذه الشريعة السمحاء وهذا الدين الإسلامي الحنيف قال تعالى مخاطباً نبيه المصطفى(ص) : ]وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ[ ([3]) وقال : ] وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [ ([4]) فمن هذه النصوص الكريمة تثبت عالمية الرسالة الإسلامية ، وشموليتها ولا تحقق هذه العالمية وهذه الشمولية إلا لفكر متحرر متطور ، لا فكر متحجر منغلق على نفسه .

فمن أراد الوقوف عند رأي السلف ( التفويض ) ، وعلم أن السلف ينزهون الله تعالى عن ظاهر ما تقتضيه هذه النصوص ، وينفون الكيفية ويكلون علم ذلك إلى الله تعالى فهو آخذ برأي الإمام الأشعري ( رحمه الله ) الأول .

ومن أراد محاججة الخصوم ، ودفع التشبيه بالبراهين العقلية وتثبيت عقائد ضعفاء المسلين الذين دخلت عليهم بعض الشبه ، ولم يستطيعوا دحضها ، ودفع وسوستها أخذ ( بالتأويل ) بشروطه ، أو بسؤال العلماء العارفين بذلك ، وهم يبينون له التأويل الحق .

وهو بهذا آخذ برأي الإمام الأشعري ( رحمه الله ) الثاني ، ومن خرج عن هذين القولين فهو :

إما ( مشبه ) آخذ بظواهر النصوص ولم يعلم أن السلف مجمعون على استحالة هذه الظاهر تقليداً لبعض من لا يقتدى به من السلف والمبتدعة من الخلف ، وهو بذلك ( كرامي ) أو ( ظاهري ) .

أو ( معطل ) آخذ بالتأويل المطلق بلا قيد ولا شرط وهو بذلك ( معتزلي ) أو ( باطني ) .

( والمشبه يعبد صنماً ) و ( المعطل ( يعبد عدماً ) كما في القول المأثور .

اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه … آمين .

    • ثانياً : من خلال استعراض أدلة وحجج السلف والخلف في وجوب التفويض أو وجوب التأويل اتضح لنا جلياً أن ( التحقيق ) في هذا الباب هو أن التفويض جائز ، والتأويل جائز ولا رجحان لأحدهما على الآخر بل التفويض والتأويل معمول بهما على حد سواء .

وهذا الذي نجده عند الإمام الأشعري ( رحمه الله ) حيث قال بالتفويض ، والتأويل معاً ؛ لوجاهة أدلة كل من المفوضة والمؤولة ، ولا مانع من الجمع بينهما عقلاً.

    • ثالثاً : تتضح لنا الوسطية والتوفيقية عند الإمام الأشعري ( رحمه الله ) فهو بقوليه ( التفويض ) و ( التأويل ) استطاع أن يوازن كفتي الميزان فلا ترجح أحدهما على الأخرى ، فلا ترجح كفة ( التفويض ) حتى يصل بعضهم إلى فهم هذه الصفات على ظاهرها خلافاً لما فهمه السلف فيقع في التشبيه والتجسيم كما هو حال غالية الشيعة و الحشوية ، و الكرامية ومن تابعهم .

ولا ترجح كفة ( التأويل ) فتبطل الشريعة إذ التأويل المطلق بلا قيد ولا شرط إبطال للشريعة إذ كل نص يمكن تأويله و إخراجه عن ظاهره كما فعلت المعتزلة والباطنية ومن تابعهم كما بينت ذلك .

    • رابعاً : و أيضاً تتضح لنا هذه الوسيطة التوفيقية في إرضائه جانبي ( العقل ) و ( النقل) فهو يجعل العقل كما ذكرت خادماً للنصوص لا حاكماً عليها كما فعلت المعتزلة ولا محكوماً عليه بالحجر والإلغاء كما فعلت الحشوية والمجسمة .

ومن المعلوم ان الدين الصحيح لا يخالف العقل السليم ولا ينازع في ذلك إلا مكابر فمن جعل قضايا ، ومسائل الدين من المستحيلات العقلية ، فقد فرق بين ( الدين ) و (العقل ) وما ثبت التكليف الديني إلا بسبب العقل فلو زال العقل زال التكليف كما هو معلوم بالضرورة .

([1]) سورة فصلت ، الآية 11 .

([2]) ذكره إمام الحرمين في الإرشاد

([3]) سورة الأنبياء ، الآية 107 .

([4]) سورة سبأ ، الآية 28 .