الفصل الثاني - المبحث الثاني المطلب الثاني

رأي المعتزلة في الصفات الخبرية

الآراء التوفيقية المتوسطة عند الإمام الأشعري

الفصل الثاني - المبحث الثاني

المطلب الثاني

رأي المعتزلة في الصفات الخبرية

موقف المعتزلة من ( الصفات الخبرية ) ، او الصفات بصورة عامة ، موقف سلب ونفي بما يتفق ، وأصول مذهبهم من الغلو في التنزيه لحد التعطيل ؛ لذلك نراهم يؤولون ‘‘ العشرات من النصوص التي يدل ظاهرها على المكان ، والجارحة ، أو الأعراض ، القائمة به ( سبحانه ) .’’([1])

يقول القاضي عبد الجبار المعتزلي نافياً الجسمية عن الحق ( عز وجل ) : بأنه ‘‘ لو كان جسماً لوجب أن لا يخلوا من دلائل الحدوث كالقرب ، والبعد ، و الاجتماع ، والافتراق ، وكان يجب أن يكون محدثاً كهذه الأجسام ، و أيضاً فكان يجب ان يحتاج إلى مركِّب ، ومصوِّر ، ومؤلّف كما تحتاج الأجسام إلى ذلك .’’([2])

ثم يؤول الكثير من النصوص التي تدخل ضمن هذه المعاني([3]) من الاجتماع ، والافتراق الدالان على الجسمية ، ومن القرب ، والبعد الدالان على المكانية ؛ لان من كانت هذه صفته من الجسمية ، والمكانية ، والجارحة ، و الافتقار إلى مؤلف ، ومركب ، ومصور ؛ لا يكون إلهاً يستحق العبادة .

وهذا حق لا ريب فيه ، ولا يختلف اهل السنة معهم في ذلك ، ولكن المعتزلة توغلوا في ( التأويل ) ، وتجاوزوا الحدود بأن أخرجوا النصوص عن ظاهرها ، وإن كان هذا الظاهر مقبولاً ، ولا يخالف التنزيه زعماً منهم التثبت ، وزيادة الاحتياط في التنزيه ، وعدم التشبيه ، أو خوفاً من تعدد القدماء حتى نرى إنهم قالوا في الصفات ( القديمة ) إنها نفس الذات ، وقالوا عالم بذاته ، وقادر بذاته … الخ ؛ لذلك نسبوا إلى التعطيل .

وأيضاً نفوا رؤية الله تعالى يوم القيامة ، وأولوا الآيات ، والأحاديث الواردة في الرؤية ، وهنا مفترق الطرق بينهم ، وبين أهل السنة ، وقد قدمت في المبحث الأول قول الإمام ابن دقيق العبد ( رحمه الله ) : إن كان [ أي تأويل ] من المجاز البعيد الشاذ فالحق تركه .

ولكن أبى المعتزلة إلا أن يركبوا كل عويصة ، وألزموا أنفسهم بما لا يلزم .

يقول الإمام الشهرستاني ( رحمه الله تعالى ) : ‘‘ والذي يعم طائفة المعتزلة من الاعتقاد القول بأن الله تعالى قديم ، والقدم أخص وصف ذاته ، ونفوا الصفات القديمة أصلاً ، فقالوا : هو عالم بذاته ، قادر بذاته ، حي بذاته ؛ لا بعلم ، وقدرة ، وحياة هي صفات قديمة ، ومعاني قائمة به ؛ لانه لو شاركته الصفات في القدم الذي هو أخص الوصف لشاركته في الألهية ….. واتفقوا على نفي رؤية الله تعالى بالأبصار في دار القرار ، ونفي التشبيه عنه من كل وجه ، جهة ، ومكاناً، وصورة ، وجسماً ، وتحيزاً ، وانتقالاً ، وزوالاً ، وتغيراً ، وتأثراً ، ( وأوجبوا ) تأويل الآيات المتشابه فيها وسموا هذا النمط توحيداً .’’ ([4])

من هذا النص يتبين ان المعتزلة إنما قالوا بوجوب تأويل كل ما ينافي ( التنزيه ) حسب اعتقادهم ؛ للتخلص من ( التشبيه ) ، فأنكروا الصفات القديمة زعماً منهم بأن ذلك يوجب تكثر القدماء ، وتعدد الآلهة كما هو عند الثنويه من المجوس ، ونفوا الرؤية لأنها تستلزم أن يكون الله جسماً حتى يرى ، فنفوها بناءً على نفيهم للتجسيم ، وارد تهم التنزيه ؛ لذلك كثر عندهم ( التأويل ) ، وتشعبت فيه طرقهم ، ومن تأويلاتهم البعيدة ، والتي تخالف المنقول من الكتاب ، والسنة ، والمأثور عن السلف الصالح ( رضي الله عنهم ) تأويلهم لرؤية الله تعالى يوم القيامة .

يقول القاضي عبد الجبار نافياً لرؤية الله تعالى ، وموؤلاً لقوله تعالى ] وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ[ ([5]) … فإن قيل : النظر المذكور في الآية اذا لم يفذ الرؤية فما تأويل الآية ؟

قيل له ، إن النظر المذكور هاهنا بمعنى الانتظار ، فكأنه تعالى قال : وجوه يومئذ ناظرة ، لثواب ربها منتظرة ، والنظر بمعنى الانتظار .([6])

وللمعتزلة تأويلات أخرى قد تكون قريبة قرباً كبيراً من تأويلات أهل السنة ، والجماعة من المتأخرين مع فروق بسيطة ، فقد أولوا الاستواء بمعنى الأستيلاء ، واولوا العين بمعنى العلم ، واليدين بمعنى القوة … الخ

يقول القاضي عبد الجبار راداً على شبه المجسمة :

وأما شبههم من جهة السمع فكثيرة :

1. منها قوله تعالى ] الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى[ ([7]) قالوا : الاستواء إنما هو القيام ، والانتصاب ، والانتصاب والقيام من صفات الاجسام ، فيجب ان يكون الله تعالى جسماً .

والأصل في الجواب عن ذلك أن يقال لهم : ان الاستواء هنا بعنى الإستيلاء ، والغلبة ، وذلك مشهور في اللغة قال الشاعر :

فلما علونا واستوينا عليهم تركناهُمُ صرعى لنسرٍ وكاسر

وقال آخر :

قد استوى بشرٌ على العراق من غير سيفٍ ودم مهراقِ

فالحمد للمهيمن الخلاق

2. ومنها قوله تعالى : ] وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [ ([8])، قالوا : فأثبت لنفسه العين ، وذو العين لا يكون إلا جسماً .

والأصل في الجواب عن ذلك : أن المراد به لتقع الصنعة على علمي ، والعين قد تورد بمعنى العلم ، يقال : جرى هذا بعيني ، أي جرى بعلمي …

3. وقد تعلقوا [ أي المجسمة ] بقوله تعالى : ] كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ[ ([9])، قالوا : فأثبت لنفسه الوجه ، وذو الوجه لا يكون إلا جسماً .

وجوابنا : عن هذا ان المراد به : كل شيء هالك إلا ذاته ، أي نفسه والوجه بمعنى الذات مشهورٌ في اللغة ، يقال وجه هذا الثوب جيد ؛ أي ذاته جيدة …

4. وقد تعلقوا [ أي المجسمة ] بقوله تعالى : ] لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ[ ([10])، قالوا : فأثبت لنفسه اليدين ، وهذا يدل على كونه جسماً .

والجواب عنه : أن اليدين هاهنا بمعنى القوة ، وذلك ظاهر في اللغة يقال : مالي على هذا الأمر يدٌ ؛ أي قوة ، فإن قالوا فما وجه التشبيه إذاً ؟

قلنا : إن ذلك مستعمل في اللغة ، على عادتهم من وضع المثنى مكان المفرد وعلى هذا قال الشاعر :

فإن بخلت سدوس بدراهميها فأن الريح طيبة قبول

وقال الشاعر :

فقالا شفاك الله والله مابنا لما حملت منك الضلوع يدان

5. وقد تعلقوا ايضاً [ أي المجسمة ] بقوله تعالى ] بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [ ([11]) قالوا : فأثبت لنفسه اليد وذو اليد لا يكون إلا جسماً .

والأصل في الجواب عن ذلك : ان اليد هاهنا بمعنى النعمة ، وذلك ظاهرٌ في اللغة ، يقال : لفلان عليَّ منة ، أي منة ونعمة .

6. وقد تعلقوا أيضاً بقوله تعالى :] يا حسرتا على ما فَرَّطتُ في جَنْب الله [ ، قالوا ، : وذو الجنب لايكون إلا جسماً .

والجواب عنه ، أن الجنب هنا بمعنى الطاعة ، وذلك مشهور في اللغة وعلى هذا يقال اكتسبت هذا الحال في جنب فلان ؛ أي في طاعته وخدمته .

7. وقد تعلقوا ايضاً بقوله تعالى : ] وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [ ([12])، قالوا : وذو اليمين لايكون الا جسماً .

وجوابنا : ان اليمين بمعنى القوة ، وهذا كثير ظاهر في اللغة . قال الشاعر :

رأيت عَرَابةَ الأوسي يسمو إلى العلياء منقطع القرين

إذ ما راية رفعت لمجدٍ تلقاها عرابة باليمين

8. وقد تعلقوا [ أي المجسمة ] بقوله تعالى : ] وَجَاءَ رَبُّكَ [ ([13])، فقالوا : فالله تعالى وصف نفسه بالمجيء ، والمجيء لا يُتصوَّر إلا من الأجسام

والأصل في الجواب عن ذلك : أنه تعالى ذكر نفسه واراد غيره جرياً على عادتهم في حذف المضاف ، واقامة المضاف إليه مقامه ؛ كما قال عز وجل:] وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ[([14])، يعني أهل القرية … ([15])

فالمعتزلة أولوا الكثير من النصوص ؛ لتأييد آرائهم حيث انهم اولوا كل نص يتعارض مع اصولهم ، وأوجبوا تأويل المتشابهات فجاءت تأويلاتهم منها المقبول ، ومنها المردود بالأدلة ، والقرائن النقلية ، والعقلية .

([1]) - العقيدة الإسلامية في القرآن الكريم ، ومناهج المتكلمين ، د. محمد عياش الكبيسي ، مطبعة الحسام بغداد ، ط1 ، 1416هـ ، 1995م ، ص131 .

([2]) - مختصر اصول الدين ، القاضي عبد الجبار المعتزلي ، ص15 .

([3]) - أنظر المصدر السابق نفسه ص216-218 .

([4]) الملل والنحل ، 1/51-52 .

([5]) سورة القيامة الآية 22 - 23 .

([6]) انظر شرح الأصول الخمسة ، القاضي عبد الجبار بن أحمد المعتزلي ، ص242-245 ، الناشر مكتبة وهبه ، ط1 ، 1384هـ ، 1965م القاهرة ، ومذاهب الإسلاميين ، 1/420 .

([7])- سورة طه الآية 5 .

([8])- سورة طه آية 39 .

([9])- سورة القصص ، الآية 88 .

([10])- سورة ص الآية 75 .

([11])- سورة المائدة ، الآية 64 .

([12])- سورة الزمر ، الآية 67 .

([13])- سورة الفجر الآية 22 .

([14])- سورة يوسف الآية 82 .

([15])- أنظر شرح الأصول الخمسة ، ص226-230 ، وذاهب الاسلاميين ، ص415-416 .

عودة الى الصفحة الرئيسية