قلم : م. صادق ياسين الرمضان

ماجستير اقتصاد زراعي من جامعة الملك فيصل في عام 2003هـ ๏

حاصل على بكالوريوس أدارة صناعية من جامعة الملك فهد للبترول والمعادن عام 1985م ๏

يعمل مديرا تنفيذيا لشركة الياسين الزراعية ๏

عمل (سابقاً) رئيسا لوحدة النظم بإدارة المواد لشركة الكهرباء ๏

حضر العديد من الدورات في الإدارة وفي مجال حقوق الإنسان ๏

عضو جمعية الإدارة السعودية وجمعية المهندسين الزراعية ๏

ناشط اجتماعي ولديه اسهامات في تطوير النظم الإدارية الحديثة في إدارة المجتمع ๏

كنا في مشوار من الاحساء الى الرياض مع اثنين من الاصدقاء، محمد جواد الجبران و سلمان حسين الحجي. مشوارنا كان لحضور مناسبة اجتماعية هناك. كلنا ممن لهم مساهمات في المجتمع. فمحمد جواد الجبران هو المتعاون الرسمي الوحيد مع الجمعية الوطنية لحقوق الانسان من محافظة الاحساء و من اعمدة نشاط حقوق الانسان في الاحساء كما و له الكثير من المساهمات الاجتماعية. سلمان الحجي هو ...

عضو للدورة الثانية في المجلس البلدي لمحافظة الاحساء و يتميز بحبة للأحساء و اهلها و يسعى بشكل دائم للمساهمة في تنمية المجتمع و خصوصا من الناحية المالية و الاقتصادية.

كعادة امثالنا في هكذا مشاوير يحلوا لنا ان نتحدث و نناقش الكثير من الامور، بعضها لا قيمة له سوى الترفيه، و بعضه الاخر نقاش جاد، يغطي الانشطة التي نقوم بها في المجتمع او رؤانا للحال المفروض ان تكون عليه امورنا العامة.

من بين الاحاديث التي دارت بيننا، حديث دار بيني و بين سلمان عن تدوين التاريخ و كم يفتقد مجتمعنا لذلك. فالموجود بين ايدينا القليل من كتب التاريخ عن الفترات الماضية عن مناطقنا، و الامر لا زال مستمرا في فقر كتابة التاريخ. فالتغييرات التي تجري في منطقتنا كبيرة و معقده و كثيرة و لكن لا يوجد من يرصدها للأجيال القادمة لكي يتمكنوا من استخدامها لتبرير حاضرهم و هي المشكلة التي نعيشها نحن اليوم. لم يقصر سلمان، و القى الكرة في ملعبي بسؤاله لي "لماذا لا تكتب في التاريخ انت؟". الحقيقة ان السؤال كان مفاجأة و ورطة، لكن كان الجواب، في ظني سهل، بانني لست مؤرخاً. و كان رده ايضا مفحما بان الموضوع سهل فلو سطرت سيرة حياتي و وصفي لبعض الاحداث التي مررت عليها و تحليلي لها، فان ذلك سوف يدون كم لا باس به من التاريخ. يظهر ان طرحه لم يترك مجال لي غير التفكير جديا في هذا الموضوع. و قد بدأت الكتابة على بركة الله في كتابة قصص مرت علي خلال حياتي. و كانت تلك البداية في يوم الجمعة 03/02/2012.

اليوم 06/07/2012 بعد ان كتبت كم لا باس به من ذكرياتي، قررت ان ابدأ بنشرها على صفحتي على الفيس بوك على شكل مقاطع قصيرة كما تم كتابتها، بهدف مشاركة الجميع في هذا التاريخ و لعل البعض يساهم ايضا في نقد ما كتبت و تحفز هذه الكتابة اخيرين على البدء في خطوات مشابهة لأثراء كتابة تاريخنا.

هناك بعض الامور و القواعد التي اود توضيحها فيما يخص هذه الكتابة:

في سردي للأحداث، سوف استخدم تقديرات للتواريخ كوني استرجعها من الذاكرة و لن اتمكن من التذكر الدقيق لتاريخ بعض الاحداث.

سوف اتوخى الحقيقة بقدر الامكان في نقل الاحداث، لكن سوف يبقى ما اسرده ممثل لمعلوماتي و لرؤيتي الخاصة و لما اتذكره و التي سوف اتوخى الدقة فيهما بقدر الامكان. ليسامحني القراء و ليغفر الله لي ان كانت رؤيتي ليست دقيقة او تجانب الصواب.

سوف اتجنب ذكر الاسماء ان كان تقديري بان الحدث يشكل حرج على الاطراف فيه.

لن يكون ما اذكره على حسب التسلسل التاريخي، فانا اكتب حين اتذكر شيء، و كل ما اكتب عن حدث، يذكرني بحدث اخر. امل حين اكمال كتاباتي ان اتمكن ان اجمع ما كتبت في كتاب يكون حسب التسلسل التاريخي.

جزء مما سوف اكتبه هدفه تدوين تاريخ مررت به، و اجزاء اخرى سوف تكون فقط لتدوين احداث مرت علي او لذكر بعض النوادر الطريفة.

املي ان يكون ما سوف اكتب نافع و مسل ... فانتظروا النشر قريباً

.. أُسرتي

والداي – ياسين عبدالله الرمضان و فاطمة احمد ابوحليقه - من الاحسائيين الذين هاجرا للبحرين لطلب الرزق - و كان حينها يقطن البحرين الكثير الاحسائيين الذين يمتهنون التجارة و الزراعية بشكل رئيسي. و بحسب رواية والدتي يحفظها الله، فإنها انتقلت الى البحرين بعد ولادة اخي الشقيق الاكبر، منصور، خلال الحرب العالمية الثانية، فيكون ذلك في النصف الاول من الاربعينات من القرن الماضي. و حسب الرواية، قبل هجرتهما، فان ابي كان يسافر كثيرا للبحرين لطبيعة اعمال الاسرة، كونهم يستوردن و يتاجرون في بضائع من الهند، و ينقلون الكثير منها للسعودية عن طريق البحرين. امي هي الزوجة الثالثة لابي. فزوجته الاولى توفاها الله بمرض السل – و الظاهر انه كان منتشر على نطاق واسع في ذلك الوقت - قبل زواج والدي من والدتي. كان لي اخت من زوجة ابي الاولى اسمها ياسينه – كان لدي الاحسائيين تقليد حينها ان تسمى البنت البكر باسم ابيها بصيغته المؤنثه. توفيت ياسينه و بنتها الوحيدة و زوجها بسبب مرض السل ايضاً قبل ان اولد انا، يرحمها الله. كانت ياسينه في حوالي عمر والدتي.

بعد خالتي، زوجة ابي الاولى، تزوج ابي من اخت زوجته الاولى، و انجب منها اختي مريم و اخي موسى و اخي جعفر يرحمهم الله جميعا. توفى اخي جعفر قبل ولادتي اثناء اجراء عملية جراحية له في عينه. غير واضح سبب وفاته و لكن يعتقد ان التخدير كان سبب في ذلك. توفيت اختي مريم و انا صغير – حوالي في الثامنة من عمري - قبل وفاة والدي بحوالي 3 اشهر و لسبب لا اعلمه حتى اليوم. فقد اتت للبحرين للعلاج قبل وفاتها بعدة اشهر، و بعد عودتها لبيتها في الاحساء، وافتها المنية. اما اخي موسى، فقد توفى قبل حوالي 10 سنوات لإصابته بالمرض الخبيث. الله يرحمهم جميعا

تزوج والدي من والدتي قبل وفاه خالتي، زوجته الثانية (خالتي ام موسى يرحمها الله)، و كانت خالتي حينها مريضة و لم تعش طويلاً. فقد اتى بها والدي للبحرين للعلاج في المستشفى الامريكي و اجريت لها عملية جراحية توفيت بعدها بفترة وجيزة يرحمها الله. يعتقد انها كانت مصابة بالسل ايضاً.

والدي كان صديق لشيخ احمد بن عبدالله بوحليقه – والد والدتي. خطب ابي والدتي من ابيها و كان عمرها حينها اقل من عشر سنوات. و يقدر عمر والدي بانه في الاربعينات. حين تزوجا كان عمر والدتي حوالي احد عشر سنة. رزقا باول مولود و سمياه حسن. عاش حسن حوالي 3-4 سنوات و توفاه الله. حسب رواية والدتي، اصابته عين بسبب جماله و ذكائه و نباهته – فكرة العين (او الحسد) كانت كثيرة الانتشار حينها. حسب وصفها، فقد انتكست صحته و تدهورت بشكل مفاجيء حتى توفى – يرحمه الله. والدتي – الله يحفظها – لا تنسى ذكره ابدا، فهو كان الاجمل و الاذكى من بين كل ابنائها، و لذلك اصابته العين. بعد وفاة حسن، رزقت والدتي بتسعة ابناء و بنات، منصور و مهدي و محمد تقي و فوزية و وجيهة و حميدة و مليحة و جليلة و اخيرا انا. كنت الوحيد الذي ولد في مستشفى و كان ذلك، حسب شهادة ميلادي، في سبتمبر 8، 1961. اما باقي اخوتي و اخواتي، فكانت الداية في البيت هو طريقة الولادة

اسقطت والدتي قبلي جنين واحد و اسقطت بعدي خمسة.. فشكلي كنت محظوظ (او غير محظوظ) لأكون في هذه الدنيا من بين كل من اسقطتهم والدتي

تسميتي بـ "صادق" لها قصة، فمنذ وفاة اخي جعفر – الله يرحمه – و والدي له رغبة ان يسمي احد ابنائه بجعفر. والدتي كانت تتحفظ و ترفض خوفا على ابنائها من نفس مصير اخي غير الشقيق. مع كل ولادة لذكر، يدور خلاف بينها و بين ابي حول التسمية، و تفوز والدتي بعدم التسمية "جعفر". مع ولادتي، احتدم موضوع التسمية و اصر والدي على تسميتي "جعفر"، و انتهى الموضوع بتوافق على تسميتي "صادق" و هو لقب للأمام "جعفر الصادق" عليه السلام – الامام السادس للشيعة. فتسميتي كانت مسك العصاية من النصف بين والدي


أقدم ذكرياتي 1964 م

أقدم شيء اتذكره في حياتي، هو مقطع من زواج اخي منصور. كان ذلك حوالي سنة 1964 م – كان عمري حينها اقل من سنتين و نصف السنة.

تزوج اخي منصور من السيدة نورية بنت عبدالله اليوسف - و هم ايضاً من الاحسائيين المهاجرين للبحرين. كان ابوها السيد عبدالله صديق حميم لوالدي، الله يرحمهما. فلا زلت اتصورهما حين يلتقيا في مجلس احدهما و ما يعبران عنه من ود لبعضهما. حفل الرجال ت...

م في مأتم (حسينية) الحساويه في المنامة بالبحرين اما حفل النساء فكان في منزل سيد عبدالله اليوسف و الذي يعد كبير بمقاييس تلك الايام. حتى وقت قريب، في البحرين و الاحساء، كانت كل حفلات الزواج تتم في الحسينيات بالنسبة للرجال و بعض حفلات النساء. البعض الاخر من حفلات النساء تتم في سطوح المنازل او حوياتها (حويات = جمع حوي و هي الساحة المفتوحة في وسط البيت العربي).

تم بناء غرفة خاصة في منزلنا ليعيش فيها منصور و زوجته. و كان ذلك ايضا من التقاليد القديمة، حيث كان الابناء يتزوجون و يعيشون في نفس البيت. فان كانت توجد غرفة يمكن لهم استغلالها، و الا، يتم بناء غرفة في احد زوايا البيت التي تتحمل ذلك. و قد سميت تلك الغرفة "بغرفة منصور".

ظهرت كاميرات التصوير الثابت (الابيض و الاسود) حينها و تم اخذ مجموعة من الصور القيّمة لزواج اخي منصور. المقطع الوحيد الذي اتذكره من ذلك الزواج اني دخلت غرفة اخي منصور و كان بها كثير من الناس، لا اذكر من هم، لكن اتذكر ان منصور كان جالس على كرسي واجلسني في حجره و طلب ممن لديه الكاميرا ان يصورنا. هذه الصورة لا زالت موجودة. كل مرة يصادف ان اراها، ينعاد معي ذلك الشريط القصير.

1965:

كان عمري حوالي ثلاث سنوات حين سافرنا في زيارة للعتبات المقدسة في كل من ايران والعراق و سوريا. اتذكر من تلك الرحلة ثلاث لقطات.

الاولى هي في ايران، عند احد بوابات حرم الامام علي ابن موسى الرضى عليه السلام. كان يقف في مدخل البوابة رجلين بزي خاص و بيد كل منهما صولجان مذهب، اتذكر اني كنت اقبل الصولجانين عند دخول الحرم و الخروج منه. ربما والدتي كانت تطلب مني ذلك في البداية، و لكني كنت اتذكر اني كل مرة ندخل الحرم او نخرج منه، كنت اقوم بنفس الحركة.

اللقطة الثانية التي اتذكرها، كانت لجدي عبدالله بن احمد الرمضان – الله يرحمه. كان ذلك في مكان ما في العراق حيث كان يقيم مع زوجته السيدة – زوجته الرابعة. اتذكره و هو يأكل الرز، و قد لفت نظري طريقة اكله. كان يأكل باستخدام اصابعه السبابة و الوسطة و الابهام. كل من اعرفه حينها كان يأكل بكامل كفه ليقبض على الرز و يضغطه بقبضته لتصبح "لقمه" يدفع بها في فمه. اتذكر اني بعدها، حاولت تقليد جدي في اكله، لكني لم افلح.

اللقطة الثالثة كانت في درج عمارة متعددة الادوار حيث كنت العب عليه مع اختي جليلة صعود و نزول. الذي فهمته بعدها انها العمارة التي سكناها في دمشق. مقارنة ببيوت الطين ذات الدورين في البحرين، كانت تلك العمارة الخرسانية المبلطة، شاهقة الطول و فخمة!


الاوضاع الاقتصادية - الستينات و بداية السبعينات

التصور الغالب عن الخليج بان ثرائه تاريخي. حتى ابنائنا اليوم، لا يتصورون مقدار العناء و الفقر الذي كانت تعاني منه هذه المنطقة قبل حرب عام 1973 و قطع امدادات النفط عن الغرب و ما نتج عنها من تغير هيكلي في اهمية هذه السلعة و اسعارها.

فريق (حارة) المخارقة، حيث نعيش، في عاصمة البحرين المنامة لم يكون الحي الراقي في البحرين، لكن احوال القر...

ى من حولنا كانت اصعب. حينها، وصل الكهرباء و الماء للبيوت. الماء مالح جدا، فيتم شراء ما نشربه و نطبخ به. و المياه انواع، ماء الحنفية للغسيل، و ماء حنيني (اظن ان هذا هو اسم العين التي يستخرج منها هذا الماء) للشرب و ماء "قفول" (و قد يكون هذا اسم عين اخرى) و يستخدم للطبخ. التحلية لم تصل حينها. شراء الماء غير متاح للجميع لأسباب اقتصادية، و لذلك كنا نرى بعض كبار السن يمشون شبه راكعين. بعد ان كبرت عرفت ان هؤلاء اللذين يشربون الماء العام و يؤدي الى تكلسات بين فقرات الظهر عندهم و ينتج عنه هذه الانحناءة الاجبارية.

الازقه رملية و الوعي بالنظافة و السلامة منخفض مقارنة بأيامنا هذه (مع اننا لا زلنا نحتاج المزيد). فرمي العبوات الزجاجية و تكسيرها في الطرقات و رمي الاشياء الحادة مثل المسامير، هو امر عادي. معظم الاطفال كانوا ينتعلون النعال الربل "الزنوبة" التي لم تكن تقينا من تلك الاشياء الحادة. فكم جرحت من زجاجة او مسمار اخترقا النعال ليستقرا في رجلي و بعض تلك الجروح كانت عميقة و احتاج اخذي للمستشفى. اللطيف اننا كنا نقوم ببعض العمليات الجراحية الصغيرة بيننا نحن الاطفال. فحين ينغرس في رجل احدنا مسمار مصدي، كان اخر يساعد في اخراج المسمار، و كانت عملية فنية بحيث يكون الم الاخراج اقل ما يمكن. كما و يقوم يتوليع عود من الخشب لحرق مكان اصابة صاحبه لتجنيب المصاب من الذهاب للمستشفى لأخذ ابرة التيتانوس. بنهاية كل يوم، حين نعود من الشارع، يجبرنا اهلنا على غسل ارجلنا و نعالنا الزنوبة التي قد بنى عليها طبقة ضخمة من الرمل و الطين و الاوساخ. الغسل كان مهمه شاقة و ثقيلة دم. بعضنا، حين الافلات من امر الغسيل، ينام بتلك الارجل شديدة الاتساخ!

الاكل بالكاد يسد رمقنا. فطبق الغداء يأتينا، رز و "ايدام" (لحم او دجاج او سمك) و يقوم اكبر من على سفرة الطعام بتوزيع حصة كل واحد من الحاضرين من "الايدام". هذا الاجراء ضروري لحماية الصغار و ليحصلوا على حصتهم الصغيرة. حصة كل واحد منا حينها، هي اقل مما يضعه احدنا اليوم في لقمته الاولى. اتذكر اني كنت افتت حصتي الى قطع متناهية الصغر لكي تكفيني لكامل الوجبة. طبعا، لم اكون اتطعم "الايدام" لصغر القطع. بعض الاطفال يتبعون استراتيجية مختلفة، فيأكلون كل ايدامهم في لقمة او لقمتين ليستمتعوا بعمق الطعم.

شراء الملابس، بالنسبة لي، كان في اربع مناسبات في السنة، العيدين و دخول المدارس و نصف السنة الدراسية. جودة الملابس كانت "وسط" و لذلك، فصيانتها و ترقيعها و تطويلها و وراثتها هي امور شائعة. مشكلتي كانت اني في مدرسة خاصة و زملائي اثرياء القوم، و مع بقائي طوال السنة بغيارين، كان يسبب لي حرج (بالإضافة الى امور مادية اخرى بجانب الملابس سوف اتناولها حين الحديث مدرستي). فرغم حبي لمدرستي، الا اني كنت اتمنى لو كنت مع من هم قريبين من وضعي المادي في المدارس الحكومية لأتخلص من ذلك الحرج المؤلم.

في منزلنا نملك مكيفي هواء (ذلك لم يكون متاح لكل المنازل في حارتنا). المكيف الاول في غرفة اخي منصور، و المكيف الثاني لباقي من هم في البيت. تم بناء غرفة جديدة في منزلنا و وضع بها مكيف و اطلقنا عليها اسم "غرفة المكيف". لا ادري ما حجمها بالضبط لكني اقدر انها لا تزيد عن 2.5 م × 3 م. رغم ان عدد الغرف في بيتنا 7 غرف، الا اننا ننام في "غرفة المكيف" كلنا حين اشتداد الحر و الرطوبة. ننام فيها ابي و امي و اخواتي الخمس و انا و ابناء اخي منصور، ابتسام و انور و هالة و هناء. كنا ننام على طراحات من القطن "دواشق". المفروض ان يكون لكل شخص "دوشق" واحد، و لكن المساحة لم تكون لتكفي، فنصيبي و اخواتي مليحة و جليلة دوشقين، نضعهما بجانب بعضهما و ننام عليهما نحن الثلاثة بالعرض. يا ويل اختي جليلة حين تنام بيننا من ترفيسنا لها طوال الليل! حين يتحسن الجو، ننتشر لننام في باقي غرف البيت، و احيانا في السطوح.

اما عن عدد الحمامات في بيتنا فعددها واحد بالإضافة الى مسبح (حينها كان يفصل المسبح عن الحمام). الازمة على هذا الحمام تكون في اشدها الصباح حين تجهيزنا للمدارس.

بكل المقاييس، كانت الاوضاع الاقتصادية في تلك الايام فقيرة حتى بالنسبة لأسرة مثل اسرتنا تعد من الطبقة المتوسطة.


تجارة الاسرة - منتصف السبعينات

والدي، الله يرحمه، كان يتجر في التتن (التبغ) حيث كان يستورده من افريقيا و العراق كأوراق عريضة، و يتم ثرمه (= فرمه - حيث ان الاحسائيين يحولون حرف الفاء الى ثاء احيناً) و ازالة عروق اوراق التبغ و من ثم نخله بالمناخل لعزل فتات التتن، و هو الجزء الذي يتم تدخينه، و عزلها عن الطوز ( = غبار التتن – و "طوز" تطلق ايضاً على الغبار الناعم جدا). يزال الطو...

و لكي لا يدخل حلق المدخن و يزعجه مع شفطه للسيجارة

التتن انواع حسب نكهته و حرارته. فالتتن العراقي هو الاكثر حرارة في تدخينه و الاغلى ثمنا. اما الافريقي، فيظهر ان كل دفعة (او محصول) لها نكهتها الخاصة. كان الزبون يأتي لدكاننا، و يدخن سيجارة من الانواع المختلفة ليستقر على احدها. بعض الزبائن محترفين في اختيار تتنهم. و لكن هناك اخرون يتفاخرون بإظهار احترافية مزعومة. يأتي احدهم و يجرب صنف، و يدعي انه سيء و يختار صنف اخر يدعي انه ممتاز. في المرة التالية التي يأتي ليشتري، تختلف عليه المسائل و يختار ما ادعى انه سيء المرة السابقة!

التتن العراقي كان يأتينا مع المسافرين للعراق و كمياته كانت قليلة و تواجده كان متقطع. حين يصل ويعلم عنه المدخنون المحترفون و الراغبون له و القادرون على دفع اسعاره المرتفعة يقومون بشراء كامل الكمية في فترات وجيزة. يميز التتن العراقي كون لونه اخضر. اما التتن الافريقي فلونه بني و كان والدي يستورده الوالد مباشرة من افريقيا. اذكر انه كان لدي الوالد سكرتير هندي بوقت جزئي يأتي كل يوم في المغرب ليقرأ و يترجم لوالدي الرسائل القادمة و يتولى طباعة الاجوبة على تلك الرسائل على الته الطابعة.

اتت السيجارة الملفوفة و التي فيها فلتر وبدأ التفريق بين التتن الذي نبيعه و القادم الجديد. اسم التتن الذي نبيعه اخذ اسم "تتن لف" (كونه يجب لفه قبل تدخينه) و القادم الجديد اخذ اسم "السيجارة" (او "الزقارة" باللهجة المحلية). بدأ القادم الجديد يأخذ حصة كبيرة من سوق التدخين و اصبح التتن اللف، مرتبط بكبار السن. القليل من الشباب بقى يدخن تتن لف، و من يدخنه منهم كان من باب التجربة فقط.

بالإضافة لتجارة التتن، كان والدي يتجر بأشياء اخرى. فاذكر انه في احد المرات، اتتنا بضاعة عبارة عن بسكوت مستورد و صار امام دكاننا تجمع الكثير من اصحاب محلات التجزئة و اشتروا الكمية كاملة خلال سويعات. و في مرة اخرى، تم استيراد مكسرات و تم بيعها بنفس الطريقة و في فترة وجيزة جدا. هذا النوع من التجارة كان متقطع و لم يستمر و لا اعرف لماذا.

بعد وفاة ابي بفترة و عودة معظم افراد اسرتنا للعيش في السعودية، قام اخي منصور بتحويل تجارته من التتن الى العدد و الادوات والمواد الصحية، و بذلك، انتهى عهد اسرتنا بتجارة التبغ.


العمل اثناء طفولتي - الستينات و السبعينات

في الستينات، العمالة الوافدة في البحرين كانت قليلة والحالة الاقتصادية صعبة، مقارنة بهذه الايام. معظم الاطفال يساعدون اهلهم في اعمالهم وخصوصا للذين يعملون في التجارة او في الاعمال الحرفية، وهي اكبر موظف للناس حينها. الوظائف الرسمية قليلة، سواء في القطاع العام او الخاص، وبعض الاسر يرى ان العمل في وظيفة هو امر معيب. فأبناء الحمايل لا يعملون كمستأجرين.

بدأت حياتي العملية حين كان ابي يأخذني للدكان وعمري حوالي الخامسة. في البداية علمني ابي كيف استخدم الميزان في تقرير الكمية التي يطلبها الزبون في حين هو يقوم بالتفاوض مع الزبون والاتفاق معه على صنف التتن المطلوب و السعر. بعد فترة، بدأت اتعلم كيف اتفاوض مع الزبون و اعرف حدود السعر وانتظر الزبون ليقرر أي الاصناف الموجودة يريد. مع تراكم الخبرة ووثوق ابي واخي منصور في قدراتي التجارية، اصبحت منتظم في فتح المحل كل يوم العصر. عمري حينها كان حوالي السادسة و اصبحت في اول ابتدائي. فتح الدكان يبدأ من الساعة 2.00 بعد الظهر من كل يوم وابقى فيه الى بعد المغرب بقليل. اما خلال عطل نهاية الاسبوع المدرسية (و التي كانت ايام الجمعة والاحد في مدرستي كونها خاصة و مسيحية – سوف اتي على ذكرها في حلقات قادمة) فكنت افتح الدكان صباح الاحد، و بعض ايام الجمعة صباحاً والتي يأتي ليشتري منا بعض البحارة الذين يدخلون البلد فقط في ايام الجمع. اما ايام الجمع بعد الظهر، فقد كانت اجازتنا.

المساعدة في العمل لم تقتصر على العمل لدي الاهل. فهناك اعمال موسمية لبعض معارف اهلنا. فبعضهم لديه مكتبة او محل ملابس، فينشط العمل لديهم حين افتتاح المدارس او الاعياد. و البعض الاخر تصله بضائع و يحتاج تنزيلها و ترتيبها. اهلنا يطلبون منا ان نساعد في تلك الظروف. من نقوم بمساعدته عادة ما يعطينا مكافئات مالية صغيرة كنا نسعد بها، رغم انها لم تكون شرط لحماسنا في العمل. ثقافة التعاون بين الناس حينها كانت عالية. فترى سيارة تتوقف لخراب بطاريتها ويتبرع المارة بدفعها دون معرفة صاحب السيارة. واحيانا ترى حمالي (عتال) يجر عربانته و يسقط احد اطاراتها في حفرة ولا يستطيع جرها لوحدة، فيتوقف الناس لمساعدته. الامثلة على تعاون الناس كثيرة وجميلة.

حين اصبحت في سادس ابتدائي، بدأت اتي للسعودية للعمل في فترات الصيف. فعملت في احدى الصيفيات في دكان اخي الاكبر موسى – الله يرحمه – و الذي تحول من تجارة التتن الى تجارة المواد الصحية والاخشاب. كانت تجارته زاهرة في بداية الطفرة مع صرف قروض صندوق التنمية العقارية. اخي كان يستورد اكثر بضائعه من دبي ولبنان ليقوم بتسويقها في الاحساء. وفي السنتين التاليتين، عملت في مزرعة الدواجن التي اسسها والدي – الله يرحمه - في الاحساء. العمل في المزرعة شاق و ثقيل و لكنه ممتع كون المزرعة بها بركة سباحة و كنت مع اقرباء لي يعملون في فترات الصيف في المزرعة، نسرق بعض الوقت لنستمتع بالسباحة

بعد انتقالي للأحساء، اصبحت اعمل بشكل منتظم. بدأت اسوق سيارة حينها و انا في ثالث متوسط – طبعا دون رخصة قيادة وذلك امر شائع حينها. تلبية طلبات مزرعة الدواجن من اعلاف وحاجيات عمل وعمال وتسويق البيض المنتج في المزرعة على البقالات هي مسئوليتي. بعدها بدا الاخوان مع الخال عبدالهادي بوحليقة – الله يرحمه - شراكة في تجارة معدات دواجن وفتحوا محل وتوليت العمل فيه في فترات بعد الظهر. استمر عملي خلال الدراسة حتى تخرجي من الثانوية. في الجامعة، تفرغت بالكامل للدراسة، و هي الفترة الوحيدة من حياتي التي لم اعمل بها.

العمل في سن الطفولة صقل مهاراتي الحياتية وقدرتي على تحمل المسئولية واتخاذ قرارات كبيرة، الا انه في نفس الوقت، حرمني، من عيش بعض جوانب طفولتي و الاستمتاع باللعب مع اقراني. لو يمكن للزمن ان يعود ادراجه، لتمنيت ان اعمل، لكن ان احصل على حصة اكبر لممارسة طفولتي.


حق التعبير للطفل - الستينات والسبعينات

الطفل الذكر، مثلي، حرية التعبير مكفولة له الى حد لا باس به مع والدتي ولي بعض السيادة على اخواتي البنات، رغم اني اصغرهن سناً. اما مع الرجال، فليس هناك أي نوع من حرية التعبير. بالأحرى، ليس مسموح للطفل التحدث او حتى اصدار صوت و هو وسط الرجاجيل (جمع رجل). فحين يغلط الطفل و يتحدث، يقال له "شب" (تعبير مهين يأمره بالصمت)، و لو كرر ذلك الخطأ، "فكف شلوت" على قولة اخواننا في مصر الحبيبة) مؤلم يكفل صمته لفترة مناسبة"...

كان فيني فضول – ولا يزال – للمشاركة في الاحاديث التي تدور حولي. كنت حين اتابع كلام الكبار، يأتي على بالي سؤال او رغبة في المشاركة، و كانت اغلاطي كثيرة في عدم ضبط النفس. اشارك فاسمع كلمة "شب" او اذا تكرر عدم ضبط النفس، ياتيني "الكف". بعدها، طورت تكنيك، ان اسرح. لا اتابع المواضيع التي تدور حولي. اعيش في عالمي الخاص. و بذلك، حليت مشكلتي و مشكلة من كان يتابع مداخلاتي الدائمة!

المشكلة في التكنيك الجديد انه نافع حين كنت طفل و ممنوع علي الكلام. حين كبرت و اصبحت رجل، المفروض اني اتحدث و اشارك. بقى التكنيك معي و بقى معه الخوف من "الشب" و "الكف"، رغم ان عهدهما انتهى. واجهت مشكلة كبيرة في ان يذهب قلقي و خوفي من المشاركة بالحديث حتى وصل عمري لنهاية العشرينات و بداية الثلاثينات. واتذكر اني في بداية الخروج من حالة الخوف، حين اشارك في أي حوار، كنت شديد الحدية و في كثير من الاحيان، يرتفع صوتي بالزعيق ويتوتر كل من اجالسه. لا اظن اني حالة خاصة، فقد رأيت الكثير ممن هم مثلي. بالأحرى، لا زلت ارى بعض الراجل كبار السن (والنساء) الذين يقلقون من التعبير عن آرائهم بأريحية.

هذا بالنسبة للأولاد، اما البنات، فقد كان حالهم اسوأ منا. فالبنت، يجب ان تلتزم الصمت و لا تعارض ولا يكون لها راي، فهذا جزء مهم لتعرف كم هي مؤدبة (ان لا يسمع لها صوت). الذي اتذكره اننا كنا لا نسمع صوت النساء الا اذا كن كبيرات السن. اما البنات و حتى النساء الشابات، فكن يتهامسن حين يتحدثن لبعضهن. لا ادري ان كان وضع المرأة هذا نتيجة لعادات اجتماعية او تفسير ديني يدعي بان "صوت المرأة عورة"؟

التأديب

مصطلح "الادب" و "التأديب" يعني الضرب في ايامنا. فحين يقال لأب، بانك "يحتاج ان تؤدب ابنك" فهذا يعني انك مقصر في ضربه. او حين يقول احدهم للآخر "سوف اعلمك الادب" فهذا تهديد باستخدام العنف.

لست استثناء عن باقي الاطفال. فحين اعمل ما يعتقد انه خطأ او لا اعمل المطلوب مني، فاني اتعرض للتأديب. اداة التأديب في البيت عندنا خاصة قليلا. فقد كانت والدتي يحفظها الله تدخن القدو (التدخين ) تشبه الشيشة ...

و لكن جسم القدو الرئيسي مصنوع من الفخار و اعوادها مصنوعة من الخيزران بما في ذلك العود الذي يتم شفط الدخان من خلاله و يسمى "قلم القدو"). القدو في البحرين يدخنه الرجال و النساء، الا ان معظم من يدخنوه هم النساء و يتعلمون تدخينه في المواتم (جمع "ماتم" و هو الحسينية حسب اللهجة البحرانية). تعلمت والدتي، كما الكثير من النساء، تدخين القدو في المواتم. طبعا، لا يكتفى بالتدخين في المواتم، بل يتواصل في البيت. المادة الاساسية لتدخين القدو هي التبغ و يتم شرائها لوالدتي و كذلك يتم شراء "قلامة القدو" بكميات لا باس بها. "قلامة القدو"، بالإضافة لاستخدامها في التدخين، كانت تستخدم في تأديبنا (لجلدنا بها حتى تتكسر على اجسادنا)

الزملاء الذين لا يتعرضون للعنف من اهلهم، كنا نتعامل معهم بقسوة. لا نعتبرهم رجال. ننبذهم و احيانا نحاول "تأديبهم" بأنفسنا. ما قمنا به ظلم، تعلمت ذلك بعد ان كبرت و تعلمت ايضاً انه حين يجتمع المتشابهون و ينغلقون على انفسهم، يصبح الخطأ "منطق سليم"

لم يأتي العنف باي نتيجة في جعلنا مثاليين. فلم نكون حتى قريبين من المثالية. كل الذي استطاع الضرب تحقيقه هو تطوير قدراتنا على اخفاء اخطائنا وجرائمنا. في احد الايام كنت مغتم بعد استلامي لشهادتي الدراسية بعد الاختبارات الشهرية. لقاني احد الاصدقاء و سألني عن سبب همي. فأخبرته بقلقي من حفلة ضرب او تعنيف كلامي متوقعه بسبب انخفاض مستواي عن الشهر السابق. "لماذا تخبرهم؟"، كان سؤاله. فأجبته بانه مطلوب توقيع الشهادة من ولي امري. كانت الحيلة بسيطة، ان اقلد توقيع ولي امري لكي اهرب من حفلة التقريع، فكان ذلك و تكرر!

يومي الاول في الروضة 1965

ادخلت للروضة وعمري اكبر بقليل من 4 سنوات. الروضة / المدرسة التي ادخلت لها تتبع احدى الكنائس الكاثوليكية في البحرين و اسمها "مدرسة القلب المقدس". كانت هذه الروضة / المدرسة تدرس كل شيء بالإنجليزي و من يدخلها يجب ان تكون لغته الانجليزية هي اللغة الاولى.

في ايامنا هذه، اصبح اول يوم في المدرسة بالنسبة للطفل هو يوم مهم و يتم التخطيط له و يلازم الطفل احد اب...

ويه لمدة يوم او اكثر لإزلة الرهبة و الرعب من قلبه الصغير من فراق البيت والاهل والدخول على اناس يتعرف عليهم لأول مرة في حياته. في ايامنا، كان الوضع يختلف. اخذت للروضة وادخلت في ذلك المبنى و تركت وسط مئات الاطفال و الكبار الذين لا اعرف أي احد منهم! و لم يكون واضح لي لماذا انا هناك؟ او لماذا تركوني لوحدي؟ او ماذا سيحدث لي؟ و الكثير من الاسئلة التي لا اعرف لها اجابة! تملكني رعب مهول، و طبعا اخذت في النحيب. لست الوحيد الذي في هذه الحالة من الرعب و البكاء، فقد كان، تقريبا، كل الاطفال يبكون و ينتحبون. معظم من هم في تلك المدرسة هم من الهنود الذين لا يتحدثون العربية، و لم اكون اعرف ولا كلمة انجليزي. بدأت اجول في ساحة المدرسة وانا ابكي. استوقفني طفل بحريني، يبكي مثلي. سالته "انت خائف مثلي؟" اجاب بالإيجاب. سالته عن اسمه فأجابني "عبدالرحمن". سالته ان كان لا باس ان نبقى مع بعضنا، فوافق. توقفنا عن البكاء و اصبحنا اصدقاء اعزاء طوال بقائي في تلك المدرسة. انقطعت اخباره عني بعد انتقالي من تلك المدرسة في ثاني ابتدائي الى مدرسة اخرى. امل ان يكون بخير كثير!

حكايتي مع لوسي 1965

كان صديقي عبدالرحمن يعيش في بيت "عود" ("عود" في اللهجة البحرينية تعني الكبير و تطلق على البيت الذي يعيش فيه الجد و عدة اجيال من ابنائه). بيت عبدالرحمن قريب من بيتنا و كنا نتزاور. كانوا اول من عرفت ممن يملكون كلب. في ذلك الوقت، كان يعرض مسلسل اجنبي مشهور يأتي على قناة الظهران (ارامكو) واسم ذلك المسلسل "لوسي" على اسم الشخصية البطلة في المسلسل و التي كانت كلبة ذكية. (قناة الظهران التلفزيونية كانت رائعة وتعرض افلام و برامج منتقاه و يتابعها الكثير من المجتمع في البحرين و شرق السعودية. اغلقت في السبعينات الميلادية و يعتقد البعض ان سبب اغلاقها هو غيرة التلفزيون السعودي الذي كان يسعى لإجبار الناس على مشاهدته. معظم الناس الذي حرموا من قناة الظهران تحولوا لمشاهدة قنوات خليجية ذات برامج اكثر جاذبية من التلفزيون السعودي). جلعنا المسلسل نحب الكلاب رغم سلبية الانطباع عنهم في تراثنا العربي و الاسلامي. فبدأ البعض يقتني الكلاب تأثرا بالفرنجة و كثير منهم اطلقوا على كلابهم اسم "لوسي" (التأثر بالفرنجة في بدايته كان شكلي و شمل البنطال الجينز و الجزمة الطويلة "البوت" والقبعات و التدخين على جانب الفم و استخدام المصطلحات الانجليزية، و انزلق البعض في شرب الخمور). كانت كلبة منزل عبدالرحمن اسمها "لوسي" ايضا.

في احد الايام، كنت متواعد مع عبدالرحمن ان ازوره في بيتهم. ذهبت على الموعد. كانت كلبتهم جالسة خارج منزلهم عند الباب. اقتربت من الباب، فزمجرت علي قليلا. توقفت. حاولت التقدم مرة اخرى، فرجعت و زمجرت. حاولت للمرة الثالثة، فعادت للزمجرة. صرفت نظر عن دخول بيت عبدالرحمن و قررت العودة من حيث اتيت. حين استدرت لأعود ادراجي، وقفت "لوسي" بتحفز، خفت وبدأت اجري، و"عينكم ما تشوف الا النور!" جرت "لوسي" خلفي و اخذت تنهش في كوعي و كعب قدمي الايمنين. كنت في وضع لا احسد عليه. لا اذكر اني ارتعبت في حياتي كما ذلك اليوم. واصلت الجري و بعد برهة، تركتني لوسي و حالي بعد ان اصابتني اصابات مزعجه.

وصلت البيت و كان حالي مزري. استقبلتني اختي جليلة و هي لا زالت تذكر شكلي المخيف مع تلك الدماء النازفة مني. شرحت لأسرتي ما حدث و اخذني اخي منصور للمستشفى. قرروا لي عدد ضخم من الابر و ضمدوا جراحي. في اليوم التالي، لم اذهب للمدرسة و ذهبنا في مراجعة اخرى للمستشفى. بالصدفة، لقينا في المستشفى ام عبدالرحمن (تلك المرأة الرائعة و الحنونة!). رأتني مضمد و ازعجها منظري و سألتني عما حدث. اخبرتها و بانفعال ان كلبتهم فعلت كل هذا بي! زاد انزعاجها. طلبت مني ان اتي لبيتهم في ذلك اليوم. لم اوافق ان اذهب رغم كل محاولاتها. قبل ان تتركنا، قالت لي بانني سوف اتي لبيتهم رغم كل شيء.

لم يأتي العصر الا و عبدالرحمن في بيتنا يطلب مني ان اذهب معه. قال بان والدته بعثته ليأتي بي و طلبت منه ان لا يأتي بدوني. وافقت ان اذهب معه على مضض و خوف. وصلنا لبيتهم و الكل متحفز هناك. استقبلتني والدة عبدالرحمن مع اعتذار شديد. اخو عبدالرحمن الكبير موجود و نادى على الكلبة وسحب حزامه الجلدي من بنطاله و كان فيه قطعة كبيرة من المعدن، و بدأ يضرب لوسي. الضرب كان مبرح و لوسي اخذت تعوي من شدة الالم. بدأت ادافع عن لوسي و اطلب من اخو عبدالرحمن ان يتوقف عن ضربها، و هو مواصل. لم يكن المنظر مريح ابدا. بعدها سألني ان كنت راضي عما فعله بالكلبة او اني اطلب مزيد من العقاب لها. فأخبرته انه كفى و وفى، و عدت لبيتنا.

بعد ذلك بكم يوم، عزمني عبدالرحمن لأزوره في بيتهم. رفضت رفض قاطع. سألني عن السبب. فأجبته بانني لست خبل (الخبل = عميق المجنون)، لم افعل شيء بكلبتكم و هي قد نهشني و كادت ان تأكلني بالكامل. ماذا ستفعل بي الان بعد ان ضُربت كل هذا الضرب المبرح بسببي. حاول اقناعي بانها لن تفعل أي شيء و انه سوف يمر علي كل مرة ليأخذني لبيتهم او أي خيار اخر ارتضيه. لم يكون ليقنعني أي شيء لأزورهم في بيتهم. فبقينا اصدقاء في المدرسة و توقف تزاورنا في البيوت.

مضت الايام و تشكلت لدي عقده من كلبة عبدالرحمن و من كل كلاب الدنيا. لم اعد اجرأ ان امر من الطريق الذي يؤدي الى بيت عبدالرحمن خوفاً من ان تشم رائحتي الكلبة و تنهشني مرة اخرى بعد ان عرفت ان حاسة الشم عند الكلاب عجيبة! تزايدت العقدة بحيث اني كل ما رأيت كلب، اتوتر، و تصيبني حالة غير طبيعية، وخصوصاً لو اقترب الكلب مني. كان وضعي سيء و لم اعود احتمله. عرفت بعدها معلومتين كان يمكن لهما ان تجنباني الحادث الاليم. الاولى ان الكلاب تحس بخوف الانسان و يجعلها ذلك متوثبة، و اظن ان ذلك ما حدث لي حين رأيت "لوسي" عند باب منزل عبدالرحمن. كما ان الكلاب تهاجم حين يهرب منها الانسان. بقيت على هذا الحال لعدة سنوات و بعدها قررت ان اخلص من هذه المشكلة. فأصبحت كل ما ارى كلب اليف، اذهب له لأمسح علي راسه او جسده. في البداية، كنت اتوتر، لكن مع الوقت، انتهى التوتر و صرت طبيعي معهم و اصبحت استظرفهم.

صداقاتي في مدرسة القلب المقدس 1965-1969:

بعد ان وزعنا على فصولنا في المدرسة، اكتشفت ان معي عدد لا باس به من الحساوية (هذا ما نسمي انفسنا نحن الاحسائيين) . صداقتي معهم هي خيار طبيعي. بعد ان كبرت، فهمت بان وجودنا في نفس المدرسة ليس صدفة. فأولياء امورنا اصدقاء و ادخالنا لهذه المدرسة هو اتفاق فيما بينهم. زاملني في المدرسة صديق عمري السيد محمد حسين اليوسف و ابن عمه السيد محمود ناصر ...

اليوسف و ابنة عمهما السيدة علياء حسن اليوسف و اخوها السيد علاء حسن اليوسف الذي كان يسبقنا بسنة دراسية. (لقب "السيد" يطلق عند الشيعة على من نسبه من ناحية الاب يرجع الى رسول الله عليه و على اله افضل الصلاة و ازكى التسليم، الا ان في ذلك امر غير واضح لي. بداية السيادة كان منشأها امرأة و هي السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام، كما ان العلاقة النسبية بالرسول الاعظم هي علاقة جينية يمكن لها ان تأتي من الرجل او المرأة. لا ادري لماذا تم الاقتصار على لقب السيادة على من ابوه سيد و تم استثناء من امه سيدة؟). بعدنا، كان هناك الكثير من الحساوية الاصغر منا سناً و منهم ابتسام و انور ابناء اخي منصور. كنت و محمد اليوسف نجلس بجانب بعضنا في الفصل وتعمقت صداقتنا كثيرا. انسجامنا كبير، رغم انه مشاغب و يورطنا في مشاكل. احببنا بعضنا بعمق ولا زلنا.

مشكلتنا في المدرسة اننا لا نعرف شيء في اللغة الانجليزية و المدرسة مهيأة لاؤلائك الذين لغتهم الانجليزية هي اللغة الاولى. وضعنا – على قولة اخواننا المصريين، "طرشان في الزفة". ففي بداية ايامنا في المدرسة، اتت احدى القسيسات (واللاتي يدرن الكنيسة المرفقة بالمدرسة ولهن دور اداري في شئون المدرسة) و سالت سؤال باللغة الانجليزية. لم نعرف لا انا و لا محمد ما هو السؤال. رفع عدد لا باس به من الطلاب ايديهم، فرفع محمد يده معهم و طلب ان اشاركه. من ناحيتي، ظننت انه الافضل ان لا نرفع ايدينا في شيء لا نعلم ما هو، فطلبت منه ان ينزل يده، لكنه اصر على رفعها. اخذوا كل من رفع يده و خرجوا بهم من الفصل، فقلقت عليه. لقيته في الفسحة و فهمت منه انه تم ترقيته من التمهيدي الى الروضة. كان سعيد جدا برفع يده. في اليوم التالي، اعادوه لفصلنا، لست متأكد لماذا، لكن افترض انهم اكتشفوا مشكلته مع اللغة. ارتحت لعودته، و اظن ان جزء لا بأس به من راحتي سببه حسد و غيرة!


كما سبق الاشارة، المدرسة تدرس باللغة الانجليزية فقط لمن يعرفون هذه اللغة كلغة اولى، و لذلك لم يدرسونا الانجليزية و لكننا بدانا مباشرة في دراسة المواد بهذه اللغة. الحقيقة، انني بقيت ضائع طوال فترة تواجدي في هذه المدرسة. فلم افقه شيء. كانت شهاداتي، سيئة للغاية فيما عدا مادتين. الرياضيات و اللغة العربية (التي كانت تدرس في كتاب سنوي واحد لغير الناطقين بها. و بهذا الكتاب البسيط تعلمت الكتابة و القراءة العربية). درجاتي في هاتين المادتين، تتراوح بين 99 % و 100 %، اما باقي المواد، فقد كنت على حفة الرسوب، حتى حدث الرسوب الفعلي في الثاني ابتدائي و اضطررت لإعادة السنة.

اللغة الانجليزية كانت المسؤول الاكبر في رسوبي، لكنها لم تكون السبب الوحيد. كان وضعي في الشهادات سيء، و في تلك الايام، الطالب الذي درجاته منخفضة يعتبر بليد وعلاجه الرئيسي هو الضرب المبرح حتى يدفعونه للمذاكرة. اتذكر جيدا كم كنت اضرب في وقت امتحانات ثاني ابتدائي وكنت احفظ كل شيء عن ظهر قلب و اقوم بتسميعه بامتياز وقت المذاكرة و وجود العصا، لكن حين اصبح امام ورقة الامتحان، يذهب كل شيء ادراج الريح.

ظهرت نتيجة ثاني ابتدائي. راسب في كل شيء عدا الرياضيات 100 % و اللغة العربية 100 %. الرسوب شمل مجموعة من اصدقائي الحساوية، حيث اللغة الانجليزية كانت مشكلة الجميع. الناجح الوحيد بيننا كان صديقي محمد. فنقل للصف الثالث ابتدائي. اظن ان معظمنا كان يتمنى لو ان محمد رسب معنا على الاقل لتخفيف الحرج علينا!

عدت لثاني ابتدائي، و استمرت صعوبة الدراسة معي. وصلت لمرحلة ارى فيها افواه من حولي من مدرسين و طلاب تتحرك و اصوات تصدر و لا ادري ماذا يقال. كأنني في الصين! صرت في سنتي الخامسة في هذه المدرسة (روضة و تمهيدي واول ابتدائي وثاني ابتدائي لمرتين)، و حقيقة ليس لدي تفسير لماذا لم اتعلم اللغة الانجليزية خلال كل هذه المدة؟! تلقيت واخرين من اصدقائي الحساوية، دروس خصوصية في محاولة اهالينا لتحسين وضعنا، لكن تلك الدروس بها نفس مشكلة المدرسة، فقد ركزت على المواد و كأننا نعرف انجليزي، فلم تضيف لنا الكثير. في النهاية نجحت من ثاني ابتدائي و لكن بالكاد.

اتذكر ان عبدالرضا حسن الابراهيم، و هو احد الحساوية الافاضل الذين يدرسون في مدارس حكومية و يسكن حارتنا، سألني ذات يوم سؤال ليختبر انجليزيتي، ففشلت في الاجابة عليه. ثم سألني سؤال ليختبر معرفتي باللغة العربية، ففشلت ايضاً في الاجابة عليه. فعلق باني مثل الغراب الذي حاول ان يمشي مشية الحمامة، فضاع بالكامل!

تجربة مدرسة القلب المقدس، بقدر ما هي قاسية، الا اني تعلمت منها الكثير. فالدرس الاهم: الفشل هو اعظم مدرس في هذه الحياة. الم رسوبي في ثاني ابتدائي كان اكبر من ان اتحمله مرة اخرى في حياتي! الدرس الثاني: هو في تعاملي مع اطفالي في دراستهم. استخدمت الحوار معهم حين تكون لديهم مشكلة، ولا اذكر ان أي مشكلة استعصى حلها علينا.

الانتقال لمدرسة الارسالية الامريكية 1969

تم نقل معظم الحساوية من مدرسة "القلب المقدس" الى مدرسة "الإرسالية الامريكية" بموجب اتفاق بين اولياء امورنا بسبب مشكلة حدثت بينهم و بين المدرسة الاولى لا اعرف تفاصيلها حتى يومنا هذا. سعادتي تفجرت بسبب هذه النقلة، فقد تغيرت حياتي بالكامل. المدرسة تدرس باللغة العربية و اللغة الانجليزية هي لغة اضافية. اختلف الحال بشكل جوهري، فتحولت من ذيل الفصل في ترتيب الدرجات في المدرسة القديمة، الى قمة الفصل في المدرسة الجديدة. صرت دائم الوجود بين الثلاثة الاوائل حتى تخرجت منها. الغريب ان مستواي في اللغة الانجليزية اصبح افضل بكثير مما كان عليه في المدرسة السابقة. احسست ان هذه المدرسة، من الناحية العلمية، هي مكاني و صارت عندي قناعة بانني طالب طبيعي بل ومتفوق. بدأت مشوار بناء الثقة مع نفسي والذي كون شخصيتي الحالية.

الإرسالية الامريكية هي مدرسة اسستها ارسالية امريكية تبشيرية في البحرين، بالإضافة الى تأسيسها لمستشفى حمل نفس الاسم "مستشفى الارسالية الامريكية" و الذي يعرف محلياً باسم "المستشفى الامريكي"، و هو من اهم المستشفيات في حينه و يأتيه الناس من دول الخليج كلها ليتعالجوا فيه كون العناية الصحية حينها في الكثير من دول الخليج منخفضة نسبيا.

هذه المدرسة مثل سابقتها مرفقة بكنيسة. يتبادر للبعض ان هذه المدارس تبشر بالدين المسيحي بشكل فاعل. هذا غير صحيح ابدا. فخلال سنوات دراستي، لم يدور أي حديث عن الدين المسيحي بشكل تبشيري او حتى غير تبشيري. تدريس المسلمين للدين الاسلامي حسب المنهج الحكومي هو الزامي، و المسيحيين يلزمون على دراسة مادة الدين المسيحي. خلال درس مادة الدين الاسلامي، كان المسيحيون لهم الخيار ان يحضروها او ان يحضروا حصة نشاط. و خلال درس مادة الدين المسيحي، كان المسلمون يعاملون بنفس الطريقة. لا اعرف احد من المسلمين او المسيحين حضروا حصص الدين الاخر غيري و صديقي العزيز نعيم مصطفى، فقد حضرنا حصة الدين المسيحي من باب الفضول. هي المرة الاولى في حياتي التي اتعرض فيها لمعلومات عن دين اخر من مصدره الاساسي. طريقة التدريس للدين المسيحي كانت مختلفة عن دراستنا للدين الاسلامي. فالمدرس – و هو قس – كان يسرد قصص من الانجيل و يستخلص منها عبر. بنهاية الدرس، وجهت للمدرس اسئلة، بعضها نتيجة لأمور احتجت استيضاحها عن مادة الدرس و بعضها الاخر نتيجة لانطباعاتنا المسبقة نحن المسلمين عن الدين المسيحي (و هي في اغلبها سلبية). نيتي هي ان اعرف، ولا ادري لماذا ازعجت اسئلتي المدرس. فطلب مني ان لا اكررها. لم استطيع السيطرة على فضولي و كررت الاسئلة في الحصه التالية، فطلب مني ومن نعيم عدم الحضور لفصله مرة اخرى. هذه اخر مرة حضرت فيها حصة للدين المسيحي في المدرسة، وعدنا لحصص النشاط و عدنا للاستمتاع بشغبنا خلالها!

وجودي في هذه المدرسة و سابقتها علماني ان احترم الاخر بغض النظر عن معتقده وجنسه ولونه و جنسيته. البداية هي قانون ونظام المدرسة الذي لا يسمح بالتمييز، والنهاية هي بناء ثقافي لا زلت استمتع بوجوده في تكويني الشخصي و امل ان يبقى معي ما حييت.

صداقاتي في مدرسة الارسالية الامريكية 1969 -1976

تكونت لي مجموعة صداقات في الإرسال الامريكية منذ التحاقي بها في نهاية الستينات

صديقي العزيز محمد اليوسف، انتقل معي من مدرستي القديمة الى هذه المدرسة و تواصلت صداقتنا و تطورت. لنا اطنان من الذكريات مع بعضنا. فنحن نقضى معظم اوقاتنا في المدرسة سويا و نقضي بعض الوقت احيانا خارج المدرسة خلال ايام الاسبوع. اما نهاية الاسبوع، فمعظمها نكون مع بعضنا مع اصدقاء اخرين (و خصوصا سعيد التحو). محمد يتميز بالكثير من القدرات، ومن اهمها في فترتنا تلك، ان لديه قلب اسد. لا يخيفه الاقدام على أي شيء، و اظن ان قدرته على الاقدام ساهمت في نجاحه العملي اليوم. اقدام محمد ليس كله محمود، فبعضه كان يعرّفه الكبار بانه شغب ويعاقبونه عليه، و احيانا يقنعنا بان نحذو حذوه، فنعاقب معه. لكن الحق ان كل ذلك كان ممتع. بعض مغامراته كان لها اثار طويلة المدى علي و على غيري من الاصحاب، و منها التدخين و الذي سوف اتي عليه في حلقة خاصة. لا زلت على تواصل مع محمد حتى يومنا هذا، فنحن نلتقي في بعض المناسبات كل كم شهر في الاحساء او البحرين.

نعيم مصطفى صديق عزيز اخر من اصل ايراني و حسب ما اذكر انه اخبرني ان عائلته تنحدر من الخلفاء العباسيين. نعيم ذو قلب كبير و صداقته صادقة وحلوه. خياله واسع و دائم الحلم وذو عاطفة جياشة. فهو كثير العشق و الهيام. تمنيت كثيرا ان يحوي جوفي قلب كقلبه. في تلك الايام، كان المجتمع البحريني من اصل ايراني يعيشون في حارات مع بعضهم و يدخلون المدارس و هم لم يختلطوا كثيرا بالعرب، فتكون عربيتهم مكسرة. و حين يكسر احدهم الكلمات العربية، يقال له بانه "يحرق فيوزات" (الفيوز هو اداة تستخدم لحماية الاجهزة الكهربائية من الاحتراق في حال وقع خلل في التيار. فحين يقع الخلل، يحترق "الفيوز" بدل احتراق الجهاز)، نعيم احد هؤلاء الذين "يحرقون فيوزات". هو احد افراد الشلة التي تلتقي بعد المدرسة و يكون معنا في اكثر اجازات نهاية الاسبوع. لي مع نعيم ايضاً اطنان من الذكريات. للأسف انقطع تواصلي معه بعد انتقالي للسعودية. التقيته مرة واحدة في مطار البحرين بالصدفة و نحن مسافرين الى دول مختلفة. تحدثنا اثناء انتظارنا لطائراتنا وكان نعيم الذي اعرفه. نفس اللطافة و الرقة.

غسان مراد، صديق عزيز ايضاً. هو ليس مشاغب كثيرا، لكن اذا صار هناك مشروع شغب، لم يكن يمانع بالانضمام له و يأخذ دورة بجدارة فيه. لنا بعض التواصل بعد المدرسة. مستواه الدراسي عادي في ايامنا الا انه الوحيد من بين شلتنا الذي اكمل دراسته حتى الدكتوراه. هو يعيش في مجمع حديث في منطقة القفول مع عائلته الكبيرة. اتذكر جده العزيز، التقيته مرة واحدة وكان صاحب فكر متفتح. تواصلي مع غسان انقطع بعد مغادرتي للبحرين و لكن صار عندي جواله و نتبادل رسائل التهاني في الاعياد.

يوسف الفاضل صديق عزيز. كان مشاغب بامتياز. لطيف المعشر و لا يكف عن الضحك و المزح و التبكيت (التبكيت = عمل المقالب) على الجميع، بمن فيهم انا. هو يعرف كم كنت فضولي، فمجرد ان يقول لمن جنبه "شوف هذا!" اتي مسرعا لأسالهما عن ماذا يتحدثان، رغم اني اعرف انه مقلب و انه ليس هناك شيء ليرى، لكني لا استطيع ايقاف نفسي من التأكد من الموضوع، فيضحكان علي. لو كرر هذا السؤال عشر مرات في اليوم، لم اكن لأفلت من مقالبه! يوسف يعيش في حي باسم عائلتهم "فريج الفاضل" (فريج = حي). لا يتجرا احد و يغلط على يوسف، فهو عنده شلة تفزع له (في العنف طبعا). مشاركاته معنا خارج المدرسة قليلة، لكبر حجم شلته خارج المدرسة. الذي اعرفه عنه انه يعمل في وظيفة حكومية الان في البحرين. انقطع تواصلي معه منذ غادرت البحرين.

لنا اصدقاء عزيزين ايضا، لكن لم يكونوا جزء من شلتنا لعدم تحملها لمشاكلنا و العقوبات التي نتعرض لها و خصوصا الضرب و استدعاء اولياء امورنا التي تتكرر كثيراً.

محمود ناصر اليوسف (ابن عم محمد اليوسف). والده المرحوم سيد ناصر، يختلف عن اولياء امورنا. هو اقرب لأباء هذه الايام. فهو دائم الحوار مع ابنائه ولا اظن انه يستخدم العنف معهم. كنا نغار من وضع محمود و نتعامل معه ببعض الصلافة (و قد تكون الكثير من الصلافة). بيتهم بيت فني، فأبوه فنان مشهور في البحرين و محمود نفسه له رسمات مميزة. اصبح محمود من الناشطين الحقوقيين المميزين في البحرين و اقرأ عن بعض انشطته و القاه في بعض المناسبات الاجتماعية في البحرين.

باسل اريان، صديق لطيف وطيب ودمث الاخلاق. نزوره احيانا في منزله. هو اول من رأيت لديهم جهاز عرض سينمائي خاص. والده يأتي له بطائرات ذات محرك بانزين و نقضي ايام و نحن نساعده في تركيبها. انقطع تواصلي مع باسل منذ غادرت البحرين، لكنه، الان صديق على الفيسبوك، و استمتع بطلاتي على صفحته و بتعليقاته على بعض مواضيع صفحتي.

بدر كانو، صديق ذو ابتسامة ساحرة. استمتع بسوالفه الحلوة و باريحيته و لطافة خلقه. عزمنا كم مرة في "دولابهم" (دولاب = مزرعة باللهجة البحرينية) الجميل. لديهم (عائلة كانو) مجمع سكني هو اقرب للحارة بسبب حجمه الكبير. انقطع اتصالي به منذ غادرت البحرين.

لنا في المدرسة صداقات مع بعض الشيوخ و منهم الشيخ احمد الخليفة و الشيخ خالد الخليفة و الشيخ هشام بن عبدالعزيز الخليفة الذي اصبح والده – يرحمه الله – وزير للتعليم في ايامنا. كان الشيخ هشام يعزم كل الفصل مرة في السنة في مزرعتهم، ونستمتع هناك بالسباحة و نمتطي ظهور الجياد العربية الاصيلة التي تربى عندهم. التقينا في احد عزائمه بالمرحوم والده و كان رجل فاضل و لطيف جدا.

صديقي الغالي سعيد محمد التحو 1969 - نهاية حياتي

اسرة سعيد من الحساوية المهاجرين للبحرين ايضاً. سعيد ذكّرني بان بداية علاقتنا كانت في ماتم الحساوية و الذي اسسه جده حجي طاهر التحو الله يرحمه (حجي = الحاج حسب اللهجة الخليجية)، خلال مراسم عزاء والدي. هو يتذكر انه انكسر خاطره علي (انكس خاطره = اشفق) حين راني ابكي والدي. يظهر ان صداقتنا بدأت كما تبدأ أي علاقة بين طفلين، سهلة و بسيطة.

منذ ذلك الحين و حتى مغادرتي للبحرين، اظن انه لم يمضي يوم دون ان نلتقي و نقضي وقتا مع بعضنا. هو ايضاً من الاطفال الذين يساعد والده في دكانهم. والده محمد هو شريك لعمه جاسم و لديهما محل لبيع الملابس تحت اسم "التسهيلات". بعد انتهاء عمل سعيد، يمر علي احيانا في دكاننا لنقضي بعض الوقت في الدردشة و لعب الشطرنج ثم نخرج سويا لنتمشى بعد العشاء و اغلاق دكاننا. و احيانا اخرى، امر عليه في دكانهم، و خصوصا في مواسم افتتاح المدارس و الاعياد (انا و بعض الاولاد الحساوية الاخرين) لنساعد في عمليات البيع، حيث حينها لم تكون العمالة الوافدة متاحة.

بالإضافة لانتظامنا على لعب الشطرنج، لي مع سعيد هواية قراءة سلسة قصص بوليسية مصرية اسمها "الالغاز" و بطل تلك السلسة شخصية مراهق لقبه "تختخ". نشترك هو و انا في شراء القصص و اقتنائها. تدبير اموال شراء تلك القصص لا تخلوا من الابداع و المغامرات التي اضافت لاستمتاعنا بالقصص. حين تركت البحرين، بقت السلسة مع سعيد و لم اسئلة ماذا فعل بها حين كبر؟

كل اجازة اسبوعية لنا نشاط مع بعضنا، احيانا لوحدنا و احيانا اخرى مع اصدقاء اخرين، لكنا لم نكن نفترق ابدا الا اذا صار لنا التزامات اسريه تمنعنا. لدينا سياكل (جمع سيكل = دراجة هوائية) و نذهب بها للبحر لصيد السمك و الاستمتاع و احيانا لعين عذاري للسباحة و احيانا اخرى، لرحلات منظمة و خصوصا بعد انضمامنا لناديين اجتماعيين / رياضيين هما "Youth Club" و "Z Club" و اللذين اسسهما مدرسنا للغة الانجليزية في مدرستنا الارسالية الامريكية "مستر براون" (سوف اغطي ذكرياتي معه في حلقة خاصة).

سعيد و اسرته من الشخصيات التي تستحق التوقف و التأمل. اسرتهم بسيطة في ظاهرها، لكن جميع افرادها ناجحين وبتفوق. لا اذكر اني سمعت أي منهم يتفاخر باي شيء. فسعيد مستواه الدراسي عادي، لكنه من بين القلائل من جيلنا الذي انهى دراسته الجامعية و نجح في عمله و نجح في تكوين اسرة سعيدة (على اسمه). ابتسامته لا تفارق محياه. مرح، لا يتوقف عن نوادره الظريفة، و كثير من تلك النوادر عن نفسه – يشبه في ذلك والده. في اسرتهم طيبة واريحية نادرتين. من يعرف والديه يعرف ان ابنائهما ورثوا هذه الصفات الجميلة منهما، و بالخصوص من والدته (السيدة هاشمية اليوسف وهي عمة صديقنا المشترك محمد حسين اليوسف). حين ازور سعيد في بيتهم، اشعر اني احد ابنائها، كسعيد بالضبط. هذا التعامل لم يكون خاص بي، فقد عاملت الجميع بقلبها الكبير المليء بالحنية – الله يغمدها برحمته الواسعة.

كنا، سعيد و انا، نلعب مع بعضنا كثيرا و بتنافس حاد. لا احد منا يستمتع بان يهزم من قبل الاخر. من بين انظمة بيتنا الصارمة، انني يمنع علي لعب كرة القدم في الحارة، بينما سعيد مسموح له ذلك، و بذلك هو يلعب هذه اللعبة افضل مني. في احد الايام، كنا في منزلنا و قررنا ان نلعب ضربات جزاء ضد بعضنا. لعبتي في المدرسة هي كرة سلة. و كلاعب سله، أدائي كحارس مرمى افضل من ادائه، و لعل رجلي اقوى من رجله في ركل الكرة. انتهت المسابقة بفوزي عليه بفارق لا بأس به و بدأت مشوار تفاخري عليه و احراجي له. و لكي لا يجعلني استمتع بفوزي قال لي "لا تتفاخر كثيرا، فانا الجميع يهزمني". قتل شعوري بالإنجاز و النشوة في لحظة. استخدم معي حل شمشوم!

بعد عودتي للسعودية، القاه قليلا، و احياناً يكون بين اللقاء و الاخر عدة سنوات، لكن سعيد كما هو، يعرف كيف يجلب السعادة لمن حوله، و لي طبعا. صداقتي له بقت بجمالها و رونقها و بساطتها و اريحيتها و اعرف ان ذلك لن يتغير، لان جمال سعيد لا يغيره زمن او ظرف.

مستر براون 1974 حتى اليوم

هو الشخصية الثانية في مدرسة الارسالية الامريكية بعد المديرة الحديدية الانسة ايفون بندك. هو درسنا في الصفوف العليا لغة انجليزية ومادة "اشغال" و التي تشمل المشغولات اليدوية مثل النجارة – البنات كن يدرسن تدبير منزلي في نفس وقت دراستنا للأشغال – كما و درسنا رياضة. مستر براون محترف في عمله وملتزم كما كثير ممن يأتون من الثقافة الغربية. هو امريكي و قد يكون قس بروتستانتي، فهو يخطب في الكنسية المرفقة بالمدرسة وغير متزوج. يتميز بعلاقاته العامة الواسعة، فصداقاته في البحرين كثيرة و يتحدث العربية بطلاقة.

في المدرسة علاقتنا معه علاقة مدرس و طلاب. و كوننا مشاغبين (نسبياً)، كانت عصاه تطالنا كثيرا - يظهر ان ضرب الطلاب شائع في ذلك الوقت في الغرب و الشرق بالتساوي. تدريسه شيق و تعلمت منه الكثير سواء في اللغة الانجليزية او الاشغال – لا زلت اتذكر تلك الطاولة الجميلة التي صنعتها في حصة الاشغال و زينت بها غرفتي حتى غادرت البحرين. له الفضل في تعلقي بلعبة كرة السلة التي كانت لعبتنا الاساسية في المدرسة.

اسس مستر براون ناديين. احدهما "Youth Club" له علاقة بالمدرسة، فمعظم اعضائه هم من طلاب و طالبات المدرسة. نجتمع فيه مرة واحدة في الاسبوع و نمارس الرياضة و يكون لنا فيه حلقة حوارية. العمر الاقصى للبقاء في هذا النادي هو للثاني متوسط. و النادي الثاني باسم "Z Club" و هو نادي اجتماعي للذكور الكبار (ثاني متوسط و ما بعدها) و مقره منزل مستر براون نفسة – دور ثاني من بيت عربي. نجتمع في هذا النادي مرة في الاسبوع، و نلعب العاب خفيفة مثل تنس الطاولة و العاب جلاسية (و نحن جالسون) مثل البته (البته = ورق اللعب باللهجة البحرينية) و الكيرم و بعض الالعاب الاخرى، و نقضي كثير من الوقت في السوالف.

في كلا الناديين كنا نخرج في رحلات للبحر او بعض المزارع او نقوم بأعمال خيرية. تعلمت بعض الاشياء الجديدة عن مجتمعنا. فمثلا، حين نذهب للبحر، كنا حين نصل، ننظف الشاطيء، و حين ننتهي، ننظف المكان الذي خيمنا فيه و نعيد الاوساخ معنا في اكياس للمدينة لنرميها في صناديق القمامة. حين صرت في السعودية، بدأت امارس نفس الطقوس حين نخرج لرحلاتنا مع الشباب لشاطئ العقير بالأحساء. ممتع حين نعود لنخيم في نفس المكان و نجده نظيف.

تفضل علينا احد وجهاء البحرين بإعطائنا مزرعته لرحلاتنا، فنأخذ معنا اصباغ و ادوات نجارة مرة كل سنة لنصبغ المزرعة و نصلح الابواب و النوافذ التي تحتاج لصيانة. كما وقمنا بعدة اعمال تطوعية، و منها غسيل سيارات لجمع مبالغ مادية للفقراء. المفارقة، ان الفقراء الذين نساعدهم هم مسيحيون من افريقيا. حينها لم اواجه مشكلة مع نفسي. بعد عدة سنوت و مع ما يسمى بالصحوة الاسلامية في الثمانينات، صار لدي شعور سلبي و ان هذه الاموال كان يجب ان تدفع للفقراء في البحرين و ان ما قمنا به خطأ. اليوم، اصبحت ارى كل البشر محترمين و يجب على كل انسان ان يساعد من يمكنه ان يساعده و رجعت اشعر بالفخر انني غسلت كم سيارة لأساعد اسرة فقيرة في افريقيا دون شرط لمعتقدهم او جنسيتهم او عرقهم او غير ذلك. اليوم وحين اسافر لأي بلد و القى تلك العلب الكبيرة في المطارات التي تجمع تبرعات للأطفال او لجمعيات خيرية، عادة ما اضع فيه بعض المال.

بعد تخرجي من المدرسة، صار مستر براون صديق لأخي منصور. اصبح يزور اخي في منزله و يستمتع بالطبخ المميز لام انور (زوجة اخي) وخصوصا المكبوس (المكبوس = الكبسة باللهجة الحساوية). كانوا على تواصل دائم و حين ازور البحرين اذهب سويا مع اخي منصور - و الذي بقى هو و اختي وجيهة يعيشون في البحرين بعد عودة كل اسرتنا للعيش في السعودية - لنزور مستر براون. بدأت اسميه "جيري"، وهو اسمه الاول و بدأت تتكون صداقتنا. بعد تخرجي من الجامعة و انتقالي من عملي الاول الى عملي الثاني في الاحساء، دعيت مستر براون و زارني في الاحساء و قضينا معا يومين جميلين. كان ذلك في نهاية الثمانيات من القرن الماضي. اتذكر من حواراتي معه حوارين كان لهما اثر باقي في نفسي.

الاول سياسي و كان حول علاقة الولايات المتحدة مع المنطقة العربية. حينها انهار الاتحاد السوفيتي و كان من رايه ان امريكا لا تستطيع ان تعيش دون عدو. فسالته عمن يمكن له ان يكون عدو امريكا بعد الاتحاد السوفيتي، فليس في الساحة من هو بالقوة المناسبة لتبوء هذا الدور. فقال انه يتوقع ان يكون الاسلام هو العدو. فأبديت له ملاحظة اننا نحن المسلمون لسنا بهذه القوة التي ترشحنا ان نكون اعداء لأمريكا، فكان رايه ان الساسة الامريكان، اذا قرروا ان يتخذونا اعداء، فسوف يرتبون الموضوع بحيث يظهرونا اقوياء. حين انظر لوضعنا اليوم، ارى ان نبوءته قد تكون صحيحة!

الحديث الثاني كان عن الفروقات الثقافية. كان عملي الاول في سكيكو (الشركة المنتجة و الموزعة للكهرباء في المنطقة الشرقية من السعودية) و كان مع انجليز و امريكان. ملاحظتي العملية عليهم ان قدراتهم على الانجاز اعلا منا، رغم ان بعضنا كان اكثر علم و قدرات و اجتهاد منهم. فكان سؤالي لمستر براون عن رايه في السبب في ذلك. رايه ان الفرق ثقافي. فالغربيين يتعلمون الانجاز حتى لو كان في ظروف غير مناسبة. فالغربي و منذ صغرة يصلح فراشة و يغسل صحن اكله بعد ان يفرغ منه و يُجبر على اكل كل ما تطبخه والدته و يعمل منذ نعومة اظفاره ليساهم في مصاريفه. بينما الولد العربي، وخصوصا الخليجي، فهو لا يتعرض لهذا النوع من التحدي، والملعقة كثيرا ما توضع في فمه.

لا يزال بيني و بين مستر براون بعض التواصل على البريد الالكتروني بعد ان تقاعد من التدريس و اصبح يسافر من بلد الى الاخر، و تبقى البحرين من المحطات الاساسية له.

المصروف اليومي 1965 – 1976

لا ادري متى بدأ تاريخ المصروف اليومي المنتظم للأطفال، لكني اظن ان المقصف المدرسي فرض على اولياء الامور هذا المصرف. في بداية دخولي للمدرسة، مصروفي المدرسي كان اربع "انات". حينها كان الاستعمار الانجليزي موجود والعملة في البحرين هي العملة الهندية. تقسيمة المال كانت "روبية" و هي تنقسم الى ستة عشر "انه" و كل انه تقسم الى 6 "بيزات". تقسيمة غريبة كعادة التقسيم الامبريالي البريطاني. حين اصبحت للبحرين العملة الخاصة بها، بقى الناس يستخدمون الاسماء الهندية، فسميت المئة فلس "روبيه"، و سميت الخمسة وعشرين فلس "اربع انات" و سمي الفلس "بيزه". التحويل لم يخلو من مشكلة، حيث ان الروبية القديمة هي 96 بيزة (= 16 "انه" × 66 "بيزات") بينما الربية الجديدة هي 1000 بيزة. مع الوقت، قل استخدام مصطلحات "الانة" و "البيزة" و لكن مصطلح "الروبية" بقى يستخدم لفترة طويلة. انما المال بشكل عام، لا زال يطلق عليه في البحرين مصطلح "بيزات" و هي جمع الـ "بيزة".

مصروفي اليومي، الاربع انات كانت تشتري لي كيس بطاطس و مشروب غازي اثناء الفسحة المدرسية الوحيدة اثناء اليوم. مع بداية السبعينات، بدأ مشوار التضخم، و اصبح مصروفي المدرسي نص روبية ثم تطور الى روبية فروبية و نصف و هذا كان اعلا مصروف وصلت له قبل انتقالي للسعودية. عقدت مع اخي منصور اتفاق ان يعطيني مصروفي مرة واحدة في الاسبوع و يكون دينار واحد (10 روبيات). فقدت بموجب هذا الاتفاق نصف روبية اسبوعيا، لكني لم امانع، فدينار مرة في الاسبوع يسمح لي بعمل انشطة احبها واوفر بعض من ذلك المال. طبعاً كان ذلك على حساب اني لا اكل أي شيء اثناء الفسح المدرسية.

بنك ستاندارد شارترد بنك Standard Chartered Bank، في البحرين، فتح برنامج توفير للأطفال. يذهب الطفل بهوية ولي امره و يفتح حساب، لا اذكر بالضبط المبلغ المطلوب لفتح الحساب و لكنه قد يكون حوالي دينار واحد. مع فتح الحساب، يعطى الطفل حصالة جميلة على شكل احدى شخصيات الكرتون ليوفر فيها مال يمكنه ان يودعه في البنك. اخترت لي شخصية "Donald Duck" و بدأت مسيرة التوفير. حين تمتلئ الحصالة، اخذها للبنك و يفرغونها و يعدون القطع المعدنية و الاوراق النقدية التي فيها و يسجلونها لي في دفتر. الحساب كان حساب توفير، أي اعطى عليه بعض الفوائد. وصل توفيري في هذا الحساب اكثر من اربعمائة روبية (مبلغ ضخم في ذلك الوقت بالنسبة لطفل). فادني هذا المبلغ حين انتقلت للسعودية. لا اظن ان برنامج التوفير كان اقتصادي للبنك و لكنه بنى علاقة بيننا كأطفال و بين ذلك البنك النبيل. لو لهذا البنك فرع في السعودية، لفتحت فيه حساب و عملت معه اليوم، رد لجميله معي في طفولتي.

مصروفنا لا يكفي لشراء كل ما نوده و الوضع المادي للأهل محدود و الاطفال كثيرين بحيث لا يمكن للأهل تلبية الكثير من الرغبات الصغيرة لأبنائهم. لحل هذه المشكلة خيارنا ان نتشارك في مصروفنا مع اطفال اخرين لتحقيق تلك الرغبات. اذكر من تلك الشراكات حالتين.

اشتركت مع اختي جليلة لفترة طويلة لشراء ايسكريم اسمه "جولد" (قد تكون صناعته اوربية). سعره روبية واحده و هو مصروف احدنا لمدة يومين. كل منا يضع مصروفه يوم الجمعة و نذهب لبقالة جعفر النجار في الحارة و نشتري الايسكريم و نقتسمه بالتساوي و ناكله و نحن في طريق عودتنا للبيت. هو احلى ايسكريم اكلته في حياتي. احتمال ان يكون السبب اني لم اكله حتى الشبع ابدا!

اول ما اتت شوايات الدجاج، حين نمر عليها و نرى الدجاج و هو يدور حول النار ليشوى و تفوح منه رائحته الزكية، و نتذكر معها الافلام المصرية الابيض و الاسود و احد اثرياء العزب يلتهم فخذي الدجاجة، نصبح في حالة نفسية متأثرة. اتى علينا اول عيد و تحاططنا نحن ست اطفال كل منا روبية واشترينا دجاجة كاملة و التهمناها. يا سلام، هي ايضاً احلى جزء من دجاجة اكلتها في حياتي!

الاختلاط 1976

ازمة الاختلاط التي تناقش هذه الايام لم تكن موضوع في تلك الايام. رغم ان الفرق بين ما كنت اراه في البحرين و الاحساء – حين اتي في الاجازات الصيفية - كان كبير، الا ان الموضوع كان اكثر اريحية بشكل عام. اتذكر اننا في الاحساء نذهب كمجموعة اسر من رجال و نساء و اطفال للنخيل (النخيل = جمع نخل و هو المزرعة التي تكثر فيها نخيل التمر). النسوة كن يلبسن عبايات و لكن العزل لم يكون ذلك الموضوع المتشدد. زوجتي اخبرتني عن ذكرياتها و هي طفلة و مراهقة بانهم كانوا يلعبون في الحارة مع اقاربهم و جيرانهم من بنات و اولاد. الاكيد ان شكل المرأة و صوتها و اسمها حينها لم تكون عورة.

حين يأتي احد اقارب والدتي - الله يحفظها - للبحرين، كان لا بد ان يزورها في بيتنا و من المعيب ان لا يفعل ذلك. يأتي القريب ليتقهوى (التقهوي = كلمة مأخوذة من القوة التي تقدم مع اشياء خفيفة مثل التمر و الخبز و اللبن و الفاكهة و لكن لا تكون وجبة) او ليأكل وجبة في منزلنا، ويكون ابي موجود و امي و يجلسون مع الضيف في نفس المكان. امي بعباءتها و يسولفون جميعهم في كل شيء. حتى يومنا هذا، يأتي اعمامي و ابناء عمومة والدتي (و خصوصا الذين في عقدهم الخامس و ما فوق من العمر) بشكل منتظم لبيتنا ليسلموا على والدتي و يجلسون باريحية و يدردشون في اخبار بعضهم و اخبار المجتمع. هذا النوع من صلة الرحم انتهت. فانا التقي اعمامي وعماتي و اخوالي وخالاتي و ابنائهم من الذكور، لكن السلام على بناتهم اصبح شبه نادر و يعتمد على صدفة اللقاء.

كأطفال و حتى سن المراهقة، كنا نلعب في الحارة، في غالب الاحيان الاولاد مع بعضهم و البنات مع بعضهن في نفس حيز المكان. و احيانا، تكون هناك العاب مشتركة. كما وكانت هناك المنازل الكبيرة التي يعيش فيها الجد مع جيلين او اكثر من ابنائه. ينتج عن هذا التعايش الكثير من الزيجات بين ابناء و بنات العم.

كان هناك كود اخلاقي حتى عند الذين ليس لديهم التزام ديني يمنعهم من المخالفات الاخلاقية (يسمي سرسري او زقرتي). عمل أي شيء مخالف للأخلاق في نفس الحارة التي يقيمون فيها، هي من صفات اراذل الناس. بالأحرى، كان بعض اولائك هم من حماة عرض حارتهم ومن المتشددين في ابقاء حاراتهم عفيفة. فلم تكون هناك حوادث اخلاقية مقلقة في حارات تلك الايام.

اول مدرستين درست فيهما "القلب المقدس" و "الارسالية الامريكية" كانتا مختلطتين. في المدرسة الاولى كنت صغير و لا اتذكر نظامها، لكن الثانية كان نظامها لا يتساهل مع أي مشكلة لها علاقة بالأخلاق. من يتجاوز حدوده الاخلاقية، يفصل من المدرسة، فلفظ غير مناسب كان يكفي ليفصل قائلة من المدرسة دون رجعة. درست في المدرسة حتى ثاني متوسط (اعدادي) ثم انتقلت للسعودية. لم تحدث في تلك المدارس – حسب علمي - أي حوادث اخلاقية تذكر.

كان في البحرين في نفس فترتنا مدرسة خاصة مختلطة اخرى. بعض الطلاب انتقلوا من مدرستنا لتلك المدرسة. زارونا بعد بضعة اشهر من انتقالهم. لم نصدق كيف تغيروا في بضعة اشهر واصبحوا يتحدثون عن علاقاتهم الغرامية هناك. عرفنا منهم ان النظام في المدرسة الجديدة يرحب بالعلاقات الغير محدودة.

بعد ان انتقلت للسعودية لمدرسة اولاد فقط، كان الفارق كبير في الالتزام بالآداب و بالأخص في المسالة اللفظية. الفارق جوهري و مقلق. عدد لا باس به من زملائنا يرى المرأة على انها الة جنس فقط لا غير، و عورة حتى في اسمها. اتذكر ان احدهم همس في اذني ان فلان اسم اخته "مها". استغرقت بعض الوقت لافهم ان من همس في اذني كان يتصور انه كشف عورة فلان. بقى هذا الامر حتى اصبح ابني محمد في المدرسة. اتاني ذات يوم و هو منزعج انه اختلف مع ابن عمه و انتقم منه ابن عمه بان اخبر زملائهما ان اسم امه "فتحية" فاصبحوا يعايرون ابني باسم امه. سالته اين المشكلة ان زملائك يعرفون امس والدتك؟ اظنه بهت من سؤالي. بعدها اصبح يبتسم لهم و اخبرهم انه فخور باسم امه، فانتهت المشكلة!

قناعتي مما سبق من تجارب ان الاخلاق لا يفرضها عزل الجنسين عن بعضهما من عدمه. التربية و الثقافة تشكل اخلاق الافراد و هي الرادع الاكبر و الحقيقي لمعظم الناس الاسوياء، ومن يفتقر للأخلاق يكون النظام له بالمرصاد. النظام لوحده لا يمكن ان يكفي، فهو رادع خارجي. الرادع الاقوى و الاكثر فاعلية هو الداخلي، هو الاخلاق. منذ اتانا النظام الجديد و الذي يعتمد على العزل و الرقابة الخارجية، اصبحنا نسمع عن الكثير من المشاكل!

العنف المدرسي 1969 - 1976

العنف (الضرب) في المدارس في ذلك الوقت هو اعتيادي ومقبول. المديرة والمدرسات - و هن الاكثرية - و المدرس الوحيد (مستر براون) في مدرسة الارسالية الامريكية معظمهم يتعاملون مع الطلاب بالضرب. ضرب المديرة هو الاسوأ نفسياً، فهي عصبية و عنيفة و ضربها مبرح. لكنها تلتزم بالضرب بالمسطرة و على الايدي فقط. خوفنا الاكبر منها هو ان تفصلنا او ان تستدعي اولياء امورنا. سبق ان فصلتني ليوم واحد، لكن هناك من فصلتهم بشكل نهائي من المدرسة.

اما المدرسات فضربهن المبرح لا يقتصر على استخدام المساطر على الايدي، بل يتعداه ليشمل الصفع على الوجه، ورطم الراس بالحائط ورطم رأسي طالبين ببعضهما و الجْمع (الجْمع = الضرب بقبضة اليد على الظهر). في احدى الحالات، ضربت احد المدرسات طالب بكتاب على رأسه فسالت الدماء من انفه. تلك هي المرة الوحيدة التي لاحظت قلق المدرسة من فعلتها.

اما صراخ المدرسات، فحدث ولا حرج. حين تغضب بعضهن، تفقد صوابها و تأخذ في الصراخ دون شعور، وقد يصل الانفعال بها حد البكاء! بعض الطلاب والطالبات يقلقهم ويخيفهم انفعال المدرسة. اما نحن الشلة، فكنا نعمل جاهدين لنوصل البعض من المدرسات لتلك المرحلة و يسعدنا انها تفقد شعورها. احيانا يكون انتقام منها على ضربها لنا، و احيانا اخرى، للمتعة و التلذذ.

ليست كل المدرسات عنيفات. فبعضهن رقيقات جدا وفي نفس الوقت، قويات و يستطعن ضبط الفصل بدون استخدام أي من اساليب العنف. معلمة وداد، مدرسة الاجتماعيات، كانت مثل مضيء في ذلك الزمان. معظم الطلاب يحبونها و يحبون مادتها، رغم ان الاجتماعيات ليست من المواد المفضلة لدي اكثر الطلاب.

حصتنا كشلة من العنف المدرسي مرتفعة نسبياً. الان حين اتذكر الضرب الذي نتعرض له، اعرف انه لم يكن يجدي نفعاً. بالأحرى، اظنه يعطي نتائج عكسية. فنحن نتفاخر باننا نُضرب و لا نظهر المنا (بعضه اثبات القوة والرجولة امام زميلاتنا البنات). نفتخر كلما كان الضرب اشد و اقوى، واننا نتحمله ونعاند ونعود لعمل الافعال التي نضرب من اجلها. معلمة وداد هي الحالة الخاصة فحين تطلب منا شيء، كنا نلتزم ونرى انه من المعيب معاندتها. فهي تحترمنا ومن حقها علينا ان نحترمها ونعتبر طلباتها اوامر.

حين انتقلت للسعودية لمدرسة اولاد، عرفت ان المدرسات هن اكثر انفعالاً وقسوةً من المدرسين. قدرة المدرسين على ضبط اعصابهم اكبر كما انهم يتعاملون بعقلانية و مسايسة للطلاب و لجوئهم للعنف اقل. الله يعين الطالبات على المدرسات!

الطائفية 1969 – 1976

حين اقارن بين الوضع في هذه الايام و بين ما كنا عليه في تلك الايام، اعرف اننا كنا ننعم بالسلام في معتقداتنا. فشلتنا المذكورين بالاسم في الحلقة (13) هم خليط بين السنة و الشيعة، و صار بيننا مسيحي اتى من لبنان بعد بداية الحرب الاهلية هناك - "ايلي". صحيح اني اعرف مذاهبهم، لكن المعرفة كانت بالمصادفة مع بعضهم، فلم يكون يدور بيننا أي حديث متعلق بالمذاهب. قد يتبادر اننا كنا اطفال، لكني اظن ان الذوق العام للمجتمع البحريني حينها، ان المعتقد امر خاص و ليس من الادب نقاشه. فرغم كبر مناسبة عاشوراء في البحرين و كثر الحسينيات و الخروج للشوارع بالعزاء و اعطاء الحكومة لأجازه رسمية ليومين (التاسع و العاشر من محرم و حسب التقويم الشيعي)، الا ان ذلك لا يحفز أي نقاش فيما بيننا. اتذكر بعض الاحداث التي يمكن لها ان توضح جوانب ذلك الوضع.

في احدى طلعات شلتنا لصيد السمك على جسر المحرق، بدأ حديث له علاقة بالشيعة و السنة بين اثنين من الاصدقاء - احدهما ليس دائم التواجد مع شلتنا. معظم الشلة ابتعدوا عن الاثنين وتركوهما مع نقاشهما. بالنسبة لي، شعرت بالقلق ان يقول الشيعي شيء يمكن له ان يجرح السني فابتعدت لكي لا اسمع ما يدور بينهما!

خلال سنتي الاولى بعد انتقالي للسعودية، ذهبنا و الاسرة مع خالي و اقارب لنا لزيارة الامام علي ابن موسى الرضا عليه السلام الى مشهد في إيران. سكنا هناك في خان (الخان = شبه فندق لكنه اقل منه في المستوى و الخدمات). صادف ان التقيت هناك بإحدى زميلاتي في الارسالية الامريكية. سألتني باستغراب عن لماذا انا في مشهد؟ كانت مفاجأة لكلينا اننا شيعة.

مُدرّستنا لمادة الدين في الخامس ابتدائي هي السيدة فاطمة العلوي - بلغني انها توفيت يرحمها الله - وهي شيعية و تزورنا في البيت احيانا لتوجب والدتي. احدى حصص الدين كانت تطبيقية عن الوضوء، فسألتني المدرسة عن كيفية وضوئي فشرحت لها – طبعا بالطريقة الشيعية. فأخذت كل الطلاب و الطالبات لدورات المياه و تركتني في الفصل. حين عادت وجدت معي صديقي نعيم مصطفى، فسالته لماذا لم يأتي معهم لتطبيق الوضوء. فقال لها ان حاله من حالي. فأوسعته ضرب كونه سني و هو ملزم بالمنهج.

التحدي العقدي الوحيد الذي واجهته كان من احدى المدرسات في مدرسة الارسالية الامريكية، لا اذكر ما الذي فتح الموضوع، لكنها تطرقت الى ان الشيعة لديهم خرافات و انهم يعتقدون ان احد ائمتهم لا زال على قيد الحياة و مختفي منذ اكثر من الف سنة. اول ما تبادر لي انه كيف لهذه التي تلبس "مني جيب" ("مني جيب" = فستان قصير جدا يظهر معظم رجلي المرأة و الذي كان موضة حينها) ان تتحدث في مواضيع دينية و تنتقد الاخرين. اللطيف انني انفعلت في داخلي و شيطنت المُدرّسة بدل ان اركز على طرحها (الشيطنة هي ان اركز على الشخصية بدل الموضوع، فمن هو على خطي اجعله ملاك و كل ما يأتي منه جميل، و كل من يختلف معي اجد المبرر لجعله شيطان و بذلك، كل ما يأتي به لا يستحق الالتفات له). والامر اللطيف الاخر ان المُدرّسة تؤمن - كباقي المسلمين – بالامتداد فوق الطبيعي لحياة بعض الشخصيات الدينية مثل النبي نوح والنبي عيس ابن مريم و الخضر عليهم السلام، لكنها ترى ان امتداد عمر امام الشيعة هو خرافة، فهي كالت بمكيالين (الكيل بمكيالين هو ان نرى كل ما لدينا حق و يجعلنا الفئة المنصورة و كل ما يأتي من غيرنا هو الباطل الذي يستحقون عليه نار جهنم و بئس المصير). بعد ان كبرت و توسع اطلاعي في مشكلتنا الطائفية لاحظت ان الشيطنة و الكيل بمكيالين هما وقود طائفيتنا التاريخية و الحالية.

بعد ان انتقلت للسعودية، ذهبت في زيارة للبحرين. كان الاصدقاء قد وصلوا لثالث ثانوي (التوجيهي) و الثورة الاسلامية في ايران قد نجحت و بدأت الحرب الطاحنة بين العراق و ايران. رافقت احد الاصدقاء القدامى لمدرسته، بعد الظهر، لكي احضر بعض انشطتهم المميزة التي كان النظام التعليمي في البحرين يتمتع بها. كل شيء كان اكثر من رائع. ملاحظتي الوحيدة ان مجموعة صديقي كانت شيعية بالكامل. فسالته ان كان تغير الوضع عما كنا عليه؟ فاكد ان الوضع لم يعود كما كان. الحساسيات اصبحت موجوده و اثرت على حميمية العلاقات ... لعن الله السياسة!

قصص من حياتي (20)


التدخين 1967 – 1973


الاثار الصحية السلبية للتدخين لم تكن واضحة كأيامنا هذه. التعود عليه وانه يقلل من لياقة المدخنين هما الصفتين السلبيتين المعروفتين. بالمقابل، معظم نجوم السينما من ابطال وبطلات يدخنون. فحين ينهي البطل الشجاع مهمة خيالية القدرات، يختمها بنفث الدخان في السماء. و حين تحاول الممثلة الجميلة اغراء بطل الفلم الوسيم تدخن الزقاره (زقارة = سيجارة) بطريقة فيها ذلك الاغواء. مناظر مثل هذه تعرض في الافلام الغربية و العربية على حد سواء. دعايات الدخان كثيفة تتواجد في كل المناسبات الشعبية و التلفزيونية و السينمائية.


التدخين مقبول للكبار و لكنه ممنوع على الاطفال، الا ان الفرص كثيرة لتورط الاطفال فيه.


السجاير تقدم كضيافة في الحسينيات و البيوت. مع كل مناسبة او عزومه، يدار على الضيوف صحن به عدة قواطي سجاير (قواطي = جمع قوطي = علبة الدخان. في الاحساء يسمى بكت وهو تعريب للكلمة الغربية Packet) من انواع مختلفة. نحن الاطفال من يمر بالصحن على الحضور ليختاروا سيجارة على مزاجهم - و البعض يأخذ له كم سيجارة يضعها في جيبه! يكون على الصحن شخاط (شخاط = كبريت) لكي تكتمل الخدمة و يولع الشخص سيجارته. بعد الانتهاء من التوزيع على الضيوف، و انتهاء المناسبة، كنا نقتسم ما يتبقى. و احينا، نأخذ حصتنا من السجاير اثناء التوزيع لنضمن "عدم خروجنا من المولد بلا حمص".


حين ينتهي تاريخ ارسالية سجاير من احد وكلاء الدخان، ترمى تلك الارسالية دون اتلاف قريبا من البحر، فتتوفر كميات دخان كبيرة مجانية في ايدي الاطفال من تلك الارسالية. اتذكر ان سجاير احدى تلك الارساليات المنتهية فيها كبريتها. فتخرج السيجارة وتشخطها في جانب البكت وتولع. سهل علينا ذلك الاختراع تدخين سجائره!


بيع السجاير على الاطفال متاح في الكثير من المحلات و ليس عليه أي قيد كما ان سعره في متناولنا. توجد بعض البقالات تبيع الدخان بالتجزئة لمن لا يستطيع دفع قيمة بكت كامل ومعظم زبائنهم هم من الاطفال. اتى علينا وقت انتشرت فيه طريقة البيع المتجول. الباعة المتجولين اكثرهم اطفال من سننا، والسلعة الرئيسية التي يتم بيعها هي الدخان. فلا يواجه الطفل مشكلة في الوصول الى سيجارة هو يبيعها اصلاً.


بالإضافة لكل الخيارات السابقة، كان لي و اصدقائي خيار اخر مهم و لا يكلفنا أي مال، دكاننا الذي نبيع فيه التتن. فانا مسئول عن العمل في الدكان في خارج اوقات دراستي واصبحت اعرف كيف الف السجاير (اعمل سيجارة بوضع بعض التتن في الكاغد = ورق الدخان – والفه باصابعي لتصبح لدينا سيجارة). صرت اُضيّف كل من يزورني من الاصدقاء. حين نكون مفلسين و لدينا رحلة او طلعة، الف ما يكفينا من سجاير و نأخذها معنا. لفي للسجاير ليس ممتاز ولكنه يفي بالغرض ولا يُنتقد، فهو خيارنا الوحيد احياناً!


اخي منصور من المنتظمين على التدخين. حين يخرج من البيت، عادة ما يأخذ معه بكت دخان جديد و يترك بقايا البكت السابق في احدى روازن البيت (روازن = جمع روزنه = جدران البيت العربي القديم سميكة وتصل الى 50 سم. الشباك يكون في الطرف الخارجي من الجدار و بين الشباك و طرف الجدار الداخلي للغرفة يكون هناك مساحة تستخدم كرف و تسمى روزنه). بعد تجمع عدد من تلك البكتات الناقصة، يعود عليها اخي ليجمّعها في بكت واحد ليأخذه معه. استلفت كثير من سجاير تلك البكتات الناقصة (الله يسامحني). كنت أتأكد دائما انني اترك ما بين سجارتين و ثلاث في كل بكت لكي لا يشك اخي في الموضوع. تمنيت لو تحول اخي لتدخين مارلبورو لايت الذي افضله عن سجاير اخي الدنهل.


يصادف احياناً ان يكتشف تدخيننا احد الاطفال الاخرين. ولكي لا يبلغ عنا احد الكبار ولنتجنب علقة ساخنة، كنا نقنع الطفل ان يأخذ له مزة (مزة = نَفَس من السيجارة) ليكون شريكنا في الجريمة. بعدها نقول لهم عبارتنا المشهورة " اذا علّمت (علّمت = اخبرت) عني، بعلّم عنك". حين اعود للبيت، أغسل فمي ووجهي و يدي بالماء و الصابون في المغسلة التي في مدخل بيتنا لأخفي رائحة الدخان.


حتى سنة 1973، تدخيننا كان دون ادخال الدخان في رئتينا. لدينا تصور ان من يدخل الدخان لرئتيه سوف يدمن على التدخين و تركه سيكون مهمة صعبة. شاعت بيننا قصة الحاج حسن الابراهيم - من خلال ابنه سعيد و هو صديقنا - و كيف انه عانى بسبب تركه للتدخين من صداع و تعب. بعد زيارة صديقي محمد اليوسف لأهله في الاحساء، عاد و هو يدخل الدخان في رئتيه. كنا في شهر رمضان و نخرج في الليل مع بعضنا بسياكلنا و نجلس على حشيش (حشيش = عشب) على رصيف مصنع الكهرباء لنسمر وندخن بعيد عن الاعين. طلب مني محمد ان اجرب ادخال الدخان في رئتي. اعلمته بقلقي من الادمان. اقنعني ان اجرب، فانا لن ادمن من اول شفطه! شفطتها وسعلت بشكل متصل حوالي 10 دقائق حتى كدت ان اهلك. بعد ان هدأت، افهمني ان هذا يحدث فقط اول مرة يشفط فيها الشخص الدخان وبعدها يستمتع بالشفط دون مشاكل. لم يحدث بعدها ان دخنت دون شفط الدخان لداخل رئتي. لا اعرف ان كان محمد اتبع نفس الاسلوب مع باقي الشلة، لكننا اصبحنا كلنا مدخنين محترفين في نفس الفترة.

قصص من حياتي (21)


علاقة البحارنة بالحساوية


يشيد كل من يزور البحرين اليوم بلطف تعامل البحارنه. في وقتنا الوضع كان مختلف. فالغريب عنهم غير مقبول و يتعدون عليه بكلام غير مناسب و احيانا بالضرب. يحدث ذلك للصغار في السن فقط و بشكل شبه يومي. عدم الاحترام لم يقتصر علينا نحن الحساوية، لكنه مرتبط مع غير البحرينيين بشكل عام. وضعنا ليس الاسوأ، فالعمانيين يعاملون بقسوة اكثر منا وكذلك الهنود الذين بدأوا يتدفقون على البحرين. اما العجم (العجم = البحرينيين او المقيمين من اصل ايراني) فالتعدي عليهم اقل بكثير لكونهم اقل مسالمة من الجنسيات الاخرى.


بالنسبة لنا، كانت اكثر الاهانات التي نتعرض لها هي لفظية. بعضها قاسي في طبيعته و بعضها الاخر هو تنابز لقبي فقط ولا اعرف له قيمه. من التنابز الذي تعرضنا له – و هو يوجه للحساوية فقط - قولهم لنا "بجّت ولا ما بجّت؟". لم اعرف المقصود من عبارة "بجّت"، فسالت امي عن معناها. فهمت منها ان اهل المبرز، و هي مدينة في الاحساء، يقولون هذه الكلمة التي تعني ان الدجاجة باضت (نحن من مدينة الهفوف بالأحساء و التي بين اهلها و بين اهل مدينة المبرز مماحكات ودية). صار عندي شعور ان اهل المبرز مسئولين عن جزء من محنتنا ومعاناتنا في البحرين! قبل عدة سنوات، صرت عضو في مجلس ادارة غرفة التجارة في الاحساء، و من ضمن زملائي الاعضاء في المجلس، الصديق العزيز نعيم بن جواد المطوع، و هو من اهل المبرز. في احدى مزحاته معي - و نحن نمزح مع بعضنا كثيرا - قال لي "انتوا يا اهل بجّت ..." قلت له، "عفوا يا طويل العمر، تراني من اهل الهفوف مو المبرز"، قال بانه يعرف ذلك وان اهل الهفوف هم من يستخدمون مصطلح "بجّت". صدمت كوننا طوال تلك السنين ونحن نتحمل ذلك المصطلح ثقيل الدم الذي ليس للحساوية علاقة به!


خلال زياراتي للأحساء في الاجازات الصيفية، شعوري بالكرامة والامان وسط الاهل والاحبة كان عميق وممتع ويلبي حاجة افتقدتها وانا في البحرين. فرغم ان الحياة في البحرين اكثر رغداً وتطوراً حينها، وما يتوفر فيها اكثر بكثير من الاحساء، و حين كبرت، انتهى ذلك التنابز و المضايقات، الا ان قلبي ارتبط بالإحساء وحلمت وتمنيت ان اعود لأعيش فيها. مضى الزمن وتحققت امنيتي وهانذا اعيش في الاحساء واحس بالكرامة الكاملة وبحلاوة الوطن وامنه واستمتع بعشقي له ... الله لا يغير علينا، و يحفظ البحرين و اهلها.

قصص من حياتي (22)


جدتي ام ياسين 1969


حين وعيت على هذه الدنيا، كانت جدتي ام ياسين - الله يرحمها - قد هرمت و فقدت بصرها و عانت من خرف شديد. يتحدث عنها اخواني و اخواتي بانها عطوفة ولطيفة ومتعلقة بهم وتحبهم بعمق. اول عرض ظهر عليها هو فقدها لبصرها والذي كانت له قصة. بدأ الموضوع بماء ابيض في العينين ورفضت ان تجري عملية لسحبة خوفاً من الاطباء. بدلاً عن ذلك كوت جانبي وجهها لدي طبيب عربي مما نتج عنه فقدها لبصرها بالكامل. تأثرت بفقد البصر وبدأ تدهورها السريع حتى وصلت لمرحلة الخرف الكامل واصبحت لا تعي من او ما يدور حولها. خُصصت لها غرفة في بيتنا في الطابق العلوي تطل على الشارع. كنت اصعد مع والدتي احياناً وقت اطعام جدتي، و تطالبني امي ان اغادر الغرفة حين تنظيف الجدة.


اتذكر القليل من ذلك اليوم، اخر ايام حياة جدتي، لكن ما اتذكره واضح. عمري حينها حوالي الثامنة. كنا ابي و امي وانا في الصباح الباكر بجانب جدتي. لم اعرف ماذا بها. ابي و امي يقرآن عليها سور من القران و يبكيان. طلب مني والدي ان اذهب لأستدعي عمي علي - يرحمه الله. في طريقي لبيت عمي كنت افكر في الموت و ماهيته. اعرف انه يغيّب الناس للابد لكن لم استوعب ما هو بوضوح، فقد كنت مشوش كثيرا. وصلت لبيت عمي، و حين لقيته، انفجرت باكياً و اخبرته ان ابي يطلب حضوره. سألني ان كان جرى شيء للجدة. فأجبته ان ابي وامي بجانبها و هي لا تتحرك. فبكى و هرعنا سويا الى بيتنا. حين وصلنا، كان كل من في بيتنا يبكي و اعلن وفاة الجدة.


بقيت بعدها فترة طويلة احاول ان استوعب ماذا جرى. و لا زلت اتساءل ان كانت الجدة يرحمها الله قد توفيت حين طلب مني والدي ان استدعي عمي؟ شعور مختلط. لا ادري ان كان يجب علي ان ارتعب من كونها متوفية و لكن ذلك لم يحدث. انزعجت و بكيت كونها توفيت لكن منظرها لم يخيفني رغم انه اول مرة ارى فيها احد متوفي او قريب من الوفاه.


اختي مريم 1969


بعد وفاة جدتي ام ياسين بحوالي الشهرين، زارتنا اختي غير الشقيقة مريم – الله يرحمها – في البحرين. اتت للعلاج من مرض، حتى اليوم لا اعلم ما هو. يظهر انه في تلك الايام، لم يكون احد يتكلم ويناقش الاطباء حول المرض الذي يعاني منه مهما كان خطير. رافقها في زيارتها لنا ابنها جواد – الله يرحمه. عمره قريب من عمري لكنه لم يكون يمشي بشكل طبيعي، ويتمسك بحيطان البيت لتساعده. هو اول شخص اعرفه من اقاربي من ذوي الاحتياجات الخاصة. تصوري، مثل كثير من البشر، ان امر مثل هذا يحدث للآخرين فقط. بعدها بدأت اتصور اننا جزء من هذا العالم و يحدث لنا ما يحدث لغيرنا. جواد ليس الوحيد المعاق من ابناء اختي، فهي لديها ابنة اسمها فتحية، حالتها تشبه حالة جواد. تلد اختي هؤلاء الاطفال، وفي البداية يكونون طبيعيين ويتطورون بشكل عادي حتى يصلون لمرحلة المشي و الكلام. ثم تبدأ حالتهم في التدهور البطيء لكن المتواصل، ثم يصبحوا مقعدين و في عجز تام حركي و ذهني. يعيشون لبعض الوقت و لكن يتوفون في سن مبكرة. رزق الله اختي ابنين هما علي و فتحي وهما طبيعيين و لله الحمد.


بقت اختي مريم معنا لبعض الوقت ثم عادت للأحساء. بعد فترة وجيزة من عودتها اتى خبر وفاتها. وفاتها صدمتني بشدة! بالنسبة لي، عافيتها لا تستدعي فقد حياتها. بوفاتها، بدأت اتصور ان الناس يمكن لهم ان يتوفوا دون مقدمات كثيرة، وهو شعور مقلق و مرعب في صغري (ولا زال).

قصص من حياتي (23)


والدي (حتى 1969)


توفى والدي و انا عمري اقل من تسع سنوات بنهاية عام 1969، فانا اتذكر القليل عنه. و حتى ذلك القليل الذي اتذكره، لا ادري ما هو ترتيبه الزمني.


والدي كان من المثقفين في وقته. فانا لا اكاد اذكره في البيت او الدكان الا و هو يقرأ. قرأته تشمل الكتب و المجلات. من المجلات التي يقرأها بانتظام ويحتفظ بأعداد كثيرة منها "المعارف". مكتبه والدي هي في غرفة المرحومة جدتي التي تحوي عدد لا باس به من الخزائن المليئة بالكتب واعداد كثيرة من المجلات. لا اعلم اين ذهبت هذه المكتبة بعد وفاته. اتذكر مجلسنا و المجالس التي اذهب مع والدي اليها و كيف يدخل دائماً في نقاشات مع جلساءه. حين كبرت و صرت التقي ببعض اؤلائك الجلساء، هم يشيدون بذهنية ابي و ثقافته و حواراته الممتعة و المنطقية و في مواضيع متعددة. مؤخرا، قرات كتيب لابن العم المؤرخ جواد بن حسين الرمضان اطال الله بعمره، كتبه عن السيرة الشخصية لابي. اشاد في الكتيب بثقافه ابي وعلمه وادبه وقدرته الشعرية ولكنه انتقده كونه لم يترك تراث مكتوب ففُقد معظم ما اصدره، وانا اتفق مع ما ذهب له ابن العم الغالي ابوحسن في نقده!


صحة ابي جيدة، فيما عدا السكري الذي يتعاطى من اجله حبوب و يحتمي من بعض المأكولات. الا انه كان يدخن بشراهة. فكما اني لا اكاد اتذكره الا و هو يقرأ، فيده لا تخلو من سيجارة. نومي كان مع والديّ في غرفتهما حتى وفاته. كنت اصحي في الليل عدة مرات. في كل مرة اراه يدخن. هو يصحى ليدخن و ينام مرة اخرى، و يظهر ان رائحة دخانه كانت تصحيني من النوم.


كان يدلعني بكلمة "جندوغ". لا اعرف معنى لهذه الكلمة، الا انها تسعدني كثيراً. حتى و انا اكتبها الان، لها طربة خاصة في نفسي. تلك الايام كانت قاسية. الطفل يعاني من العنف الجسدي و اللفظي، في بيته و مدرسته و الشارع. كلمة حلوة من والده، تعني الكثير في قلبه الصغير. افتقدته كثيرا حين غاب عني مبكرا وافتقدت كلمة الدلال هذه، و لا زلت افتقده.


حين الذهاب لدكاننا او لمكان اخر، يمسكني من يدي او اسير بجانبه. اثناء مسيرنا، يسلم ابي على الكثير من الناس، و يحدث بيننا شيء طريف كل مرة يسلم على احد. فحين يرفع يده ليسلم على احدهم "السلام عليكم يا ابو فلان" فارد انا "و عليكم السلام" فيقول لي، "يا بني، انا اسلم على شخص غيرك، فلا ترد علي سلامي". بعد قليل يسلم على شخص اخر فارد عليه السلام، و يكرر علي نفس العبارة. لم يفلح ابدا في ايقافي عن رد سلامه. ردي كان امر لا ارادي!


بسبب السكري وقد يكون كثرة التدخين، فقد ابي معظم اسنانه. في يوم من الايام، جاء الى الدكان و هو يبتسم لي ليظهر لي طقم اسنانه الجديد. و سألني: "هل ترى شيء تغير فيني"؟ شكل وجهه تغير علي و شككت انه هو ابي، فقلقت. و سالته: "ماذا تغير فيك؟" فأجابني بانه ركب طقم اسنان. طلبت منه ان يزيله. ازاله و اطمئنيت انه هو ابي!


حين اطلب منه مصروفي اليومي، اقول له "عطني فلوسي"، فيضحك حتى القهقهة. و اذا صادف وجود والدتي او احد البالغين حوله، يقول لهم، "يطلب مني مصروفه (يقصدني) و كانه يطلبني بدين له!" فهمت قصده حين كبرت، و اصبحت استمتع حين يأتيني احد ابنائي ليطلب مصروفه مني بنفس الطريقة.


اخر رحلاته، كانت الى بيروت مع والدتي واخواتي. اخي منصور تحفظ على ذهابي معهم، ولا ادري لماذا؟ غيابهم كان مؤلم لي. اصعد كل يوم، اثناء غيابهم، الى غرفة والديّ وابكي لافتقادي اياهم ولإحساسي بوحدة خانقة. هم مصدر ذلك الشعور بالأمان و الطمأنينة.


رجعت اسرتي بالسلامة و في فترة وجيزة سافر ابي الى الاحساء. احست والدتي بان في سفرته امر غير طبيعية، وأصبحت قلقة جدا. حاول اخي منصور تهدئتها و اظهار انها غلطانه في حدسها وان ابي بخير و لكن ذلك لم يجدي نفعاً. دون سابق انذار، سافر اخي منصور للأحساء، فزاد التوتر في بيتنا. ادركت امي ان مكروه خطير حدث لابي. الكل يحاول تهدئتها، لكن دون جدوى. بعد يوم من سفر اخي، اتى عمي علي – الله يرحمه – الي بيتنا و بكى، فصار كل من في البيت يبكي. الامر كان واضحا، لكني استغرقت بعض الوقت لاستوعب ان البكاء كان من اجل ابي و انه توفى ولن اراه مرة اخرى.


بكيت كثيرا (و الان ذرفت دمعتي!).


خلال رحلته للبنان زار ابي طبيب قلب هناك و اخبره ان وضع قلبه ليس على ما يرام، و المح له بان ايامه قد تكون معدودة. يظهر انه اعاد الاسرة للبحرين و ذهب للأحساء لرغبته بان يدفن فيها.


في العديد من المناسبات، رددت والدتي رواية دارت بينها و بين ابي. فهي تنقل ان ابي كان ينظر لي و يقول لها ان صورة اليتم ظاهرة علي و على عيني. هي تطلب منه ان يتعوذ من الشيطان (بمعنى طرد هذه الفكرة من راسه) لكنه كان يعود ليكررها. مع كل انجاز رئيسي في حياتي، تعيد والدتي ذكر هذه القصة و تختمها بأمنية ان يكون والدي موجود ليرى كيف وفق ذلك اليتيم الذي كان قلق عليه.


الله يرحمك يا والدي!

قصص من حياتي (24)


الجن 1965-1976


موضوع الجن في البحرين كان سائد في وقتنا. هو اقرب للموضة. احياناً، يشتهر جني (او جنية) باسم "ام رجل حمار"، و احيانا اخرى يظهر جني اخر اسمه "دعيدع". حين تظهر قصة على احدهما، تتابع القصص و كل ظهور تكون معه قصة غير شكل! احياناً نصادف - كأطفال - من يدعي انه راي الجني و يسرد لنا تفاصيل روايته، مما يؤكد لنا وجود الجن!


كطفل طبيعي، خيالي واسع واصدق تلك القصص واخاف منها خوف الموت. ما يزيد من صعوبة الامر ان الاضاءة في الزرانيق (زرانيق = جمع زرنوق و هو الزقاق) الضيقة لحارتنا ضعيفة ان لم تكون معدومة. مشكلة الاضاءة هي بسبب الاطفال - و بعض الكبار - الذين يحطمون لمبات الطرق بفلاتياتهم (فلاتيات = جمع فلاتية = نبالة). اُرعب حين يبعثني احد الكبار من اهلي لأقوم بمهمة ما بعد هبوط الظلام - طبعا لا اجرؤ على الرفض لان العقوبة ستكون اسوأ من لقاء جني في الطريق! اخرج من البيت و انتظر مرور احدهم لأمشي قريب منه حتى اصل لمقصدي. اذا طال الحال دون مرور احدهم، اطلق لرجلي العنان لأسابق الريح.


في احد تلك الواجبات الليلية، كنت اسير في احد الازقة المظلمة. حاولت ان اصبّر نفسي بان امشي ولا اجري لأثبت لنفسي اني كبرت و اصبحت شجاع. حواسي من نظر و سمع و تركيز يعملون بكامل طاقتهم - او يزيدون قليلاً، و خيالي ينتظر خروج الجني. فجأة، و اذا بشيء ينطلق من خلف راسي و قريب من اذني اليسرى ليسقط امامي في الارض و ينكسر. هي بيضة بكل تفاصيلها، بياضها و صفارها و قشورها. اطلقت لرجلي العنان و سابقت الضوء حتى وصلت لمكان فيه بشر. اخذ الرعب مني مأخذه. اخيرا، صرت قريب من جني كاد يصيبني ببيضة! في صباح اليوم التالي و في طريقي للمدرسة مررت بنفس ذلك الزرنوق. ذهبت لنفس النقطة التي صار لي الحادث فيها. لم يكون هناك أي اثر للبيضة. تذكرت مدى الظلام و انه لا يمكن ان تكون تلك التفاصيل التي رايتها للبيضة الا من نسج خيالي المرتعب.


لنا مزرعة دواجن صغيرة في الاحساء، توقف العمل بها و اصبحت مهجورة. ذهبت لها في احد الليالي لآخذ غرض منها. لم يكون في المزرعة كهرباء و لكن تلك الليلة مقمرة. السيارة التي معي وانيت (وانيت = بيكاب = شاحنة صغيرة، و يعتقد ان اسم "وانيت" اتت من الرقمين الانجليزيين 1 و 8. اول من اتى بهذه السيارات هي شركة ارامكو ووضعت عليهم ارقام تبدأ بـ 18). الونيت الذي معي كان قمارتين (قمارة = كبينه) و صندوق. نزلت و دخلت في مبنى المزرعة و اخذت مرادي و عدت للسيارة لأمضي في سبيلي. فجأة امسك براسي من الخلف شيء و هو يصرخ بشكل غريب. كاد قلبي ان ينشلع من مكانه. ضربت ذلك الشيء بيدي و سمعت ارتطامه بالزجاج الخلي للسيارة. فتحت باب السيارة و هربت بعيدا. "معقول يكون جني؟". استغرقت بعض الوقت، لتخف ضربات قلبي و ليتزن تفكيري. اعرف هذه المرة ان الموضوع يختلف عن البيضة. هناك شيء بالتأكيد، فانا احسسته و سمعته و ضربته و سمعت ارتطامه. قررت ان اعود للسيارة لأرى ماذا هناك. كانت قطوة (قطوة = قطه). فانا تركت شباك السيارة مفتوح، و الفصل ربيع بمساء بارد و يظهر انها دخلت لتجد لها مكان دافئ. كدت ان افقد عقلي. لو حدث و فقدته، لأخبرت الجميع بانني صادفت جني و امسك براسي و .....!


لم تكون كل القصص التي تتلى علينا عن الجن تأتي من اطفال واسعي الخيال. بعض البالغين يقولها لتخوفينا و ابتزازنا لتنفذ ما يطلبون منا - مثل ام السعف و الليف و التي تستخدم لإخافة الاطفال و اجبارهم على النوم (ام السعف و الليف = النخلة). و اظن ان بعض البالغين يؤمنون بتلك القصص و يعتقدون انها واقعية.

قصص من حياتي (25)


عين عذاري 1967


البحرين بها عدة عيون (ينابيع) طبيعية لكن عين عذاري هي الاهم. فهي الاكبر والاشهر و الاكثير اهتمام بها من قبل الحكومة. تنبع عذاري بغزارة و سابها (ساب = مجرى المياه) طويل و يصل للكثير من المزارع. تتميز هذه العين عن أي عين اخرى بما فيها عيون الاحساء، و التي اسبح فيها في الاجازات الصيفية، ان في عذاري اسماك كبيرة ترعى لتنظفها من الطحالب و المواد العضوية. اما الاوساخ الغير عضوية، فمخصص لها سباح من البلدية ينزل في العين لينظفها. يعجبني ذلك السباح بطول الفترة التي يقضيها تحت الماء دون الخروج ليأخذ نفس.


يوجد مبنى صغير ذو دور واحد على احد جوانب العين و يمتد منه لوح خشبي في اتجاه العين. يصعد الشباب لأعلى المبنى و يطبون من طرف اللوح الى العين (يطبون = يقفزون). الاغلب يطبون على ارجلهم، و لكن بعض الشاطرين منهم يطب روّيسي (روّيسي = ان يطب الشخص و راسه في المقدمة و يمد يديه امامه لتحمي راسه حين الارتطام بالماء). صعدت احدى المرات لأعلى المبنى و نظرت للعين من ذلك العلو. لم اجرؤ ان اطب. ذلك الموقف زاد اعجابي بمن يطبون و صرت اراهم ابطال!


يقال بان عذاري "تسقي البعيد و تخلي القريب" (تخلي = تترك). اصل هذه المقولة انه من كان يدير مياه الري الناتجة من عذاري كان يشح بها عن المزارع القريبة من العين والتي يملكها عامة الناس لتتوفر مياه تسقي المزارع البعيدة التي يملكها متنفذين في السلطة. هذا جعل لاسم عذاري معنى سياسي لمن يكون خيره للبعيد. و قد غنى بهذا المعنى الفنان محمد يوسف – اخو الفنان احمد الجميري - اغنية كان المشهور انها محظورة في البحرين "عذاري وين الماي وينه؟".


من الشايع على ايامنا ان ولي الامر، و ليعلّم الابن السباحة، ما عليه الا ان يرميه في الماء العميق و يتركه ليخرج من الماء لوحده. هذا ما حدث لي بالضبط، فقد رماني اخي منصور في عين عذاري فسبحت و خرجت. كانت من اتعس التجارب في حياتي والتي شعرت فيها باني سأموت. احسست ان التخلي عني من قبل ولي امري، هو قرار سهل وان تعلم السباحة هو اغلى من حياتي كلها. اعرف ان اخي كان متأثر بثقافة وقته و هدفه كان نبيل، و انا فعلا تعلمت السباحة بتلك الرمية، لكن ذلك لم يمنع ذلك الشعور الصعب بداخلي.


حين علّمت ابنائي السباحة، صرت حذر جدا بان اطمئنهم و احترم بكائهم و خوفهم من المياه. تعلموا السباحة، و بكوا خوفاً اثناء التعليم، لكني تجنبت ان يشعروا بان حياتهم على المحك. اتمنى ان اكون وفقت في جعلهم يشعرون بان امانهم اولوية.

قصص من حياتي (26)


العزاء (1/2)


في احد تجمعاتنا التجارية في دولة خليجية، رافق احد الاصدقاء المغاربة والدته. دعيت الاصدقاء على العشاء بمن فيهم والدة صديقنا. دخلنا في حوارات كثيرة ومنها السياسية – كما هي عادة العرب. شاركتنا والدته الحديث و اتي ذكر الشيعة فذكرتهم بسوء. ابتسمت و اخبرتها باني احدهم. فاجأتها المعلومة في البداية و احرجتها، لكنها لم تمنع نفسها من سؤالي "لماذا تضربون انفسكم؟!".


في ذكريات معظم الشيعة هناك وضع خاص للحسينيات و العزاء، وانا احدهم. فهم العزاء و فهم علاقة الشيعة به، يحتاج التعرف ببعض المصطلحات و الظروف الشيعية.


المعصومين الاربعة عشر:

يعتقد الشيعة بعصمة النبي محمد عليه و على اله افضل الصلاة و ازكي التسليم و كذلك عصمة ابنته فاطمة الزهراء وزوجها الامام علي بن ابي طالب و ابنائهما الاحد عشر. علي بن ابي طالب و ابنائه الاحدى عشر عليهم السلام هم ائمة الشيعة. يعتقد الشيعة ان التكليف الالهي للائمة هو ابلاغ و تعليم الدين الصحيح للناس وادارة المجتمع البشري بشكل مثالي. وبحسب تاريخ الشيعة، فان احدى عشر من ائمتهم قد قتلوا اما بالسيف (الامام علي بن ابي طالب و ابنه الامام الحسين عليهما السلام) او بالسم (باقي الائمة)، اما الامام الثاني عشر فهو غائب و سيعود في اخر الزمان ليملأ الارض عدلا بعد ان ملئت ظلماً وجورا و هو المهدي المنتظر. جزء من الطقوس التعبدية للشيعية هي احياء ذكر المعصومين الاربعة عشر في موالدهم ووفياتهم.


المأتم / الحسينية:

تحيا مناسبة الموالد والوفيات بشكل رئيسي في مباني خاصة تسمي في البحرين "مأتم" نسبة لوظيفته في احياء وفيات الائمة، و تسمى في الاحساء "حسينية" نسبة للأمام الحسين عليه السلام (تمثل واقعة الطف التي قتل فيها الامام الحسين رمزية الصراع بين الخير و الشر لدي الشيعة). تستخدم الحسينيات ايضاً في مناسبات اجتماعية مثل الاحتفالات العامة والوفيات والزواجات، الا ان استخدامها للزواجات قل كثيرا في الآونة الاخيرة بعد انتشار صالات الافراح. لا يقتصر احياء المناسبات الدينية على الحسينيات بل تحيا في المنازل الخاصة بالشيعة و خارج اوقات هذه المناسبة كنوع من كسب الاجر وطرح البركة للمكان. يتبرع ببناء الحسينية شخص واحد او ميسوري اسرة معينه و في هذه الحالة، يشتهر اسم الحسينية باسم الشخص او باسم الاسرة المتبرعين. و احيانا تجمع التبرعات لبناء الحسينية من وجهاء المجتمع وفي هذه الحالة تشتهر الحسينية باسم احد المعصومين او مناسبة دينية او المنطقة التي بنيت فيها. يمول تشغيل الحسينية اما بالأوقاف الدائمة او بالتبرعات والنذور التي يقدمها المؤمنون.


الموالد:

الموالد هي مناسبات سعيدة يتم احيائها في المساجد و الحسينيات و يتم ذكر قصة وظروف ولادة المعصوم ومناقبه وتتلا فيها اشعار المدح وتوزع الحلويات ويبارك الناس لبعضهم البعض. تتراوح احجام الفعاليات في الموالد المختلفة. فالمولد النبوي هو الاكبر و الاهم و يليه مولد الامام علي عليه السلام. و من الموالد المميزة، مولد الامام المهدي عليه السلام (الامام الثاني عشر) و الذي يكون في منتصف شعبان و يطلق عليه "الناصفة" و مولد الامام الحسن ابن علي (الامام الثاني) ويأتي في منتصف شهر رمضان و يطلق عليه "القرقيعون". الناصفة والقرقيعون مناسبتين سعيدتين للأطفال فهم يخرجون للشوارع بملابس جديدة ويحملون معهم اكياس ويطرقون على المنازل ليهزجوا بأناشيد ويُعطون المكسرات و الحلويات و البعض يكون اكثر كرم ليعطيهم بعض النقود.


الوفيات:

هي المناسبات الحزينة التي يحي الشيعة فيها ذكرى وفاة او مقتل المعصومين. في تاريخ الذكرى، يتم احياء المناسبة في الحسينات بشكل رئيسي، لكن بعض الوفيات تحيا خارج وقتها و خصوصاً مقتل الامام الحسين عليه السلام. فالشيعة يتبركون بإحياء ذكراه في حسينياتهم و منازلهم. احياء ذكرى الوفيات تتكون من عدة اجزاء:

القراءة: و هذا هو الجزء الثابت من احياء الذكرى. القراءة هي ان يصعد شيخ او ملا المنبر في الحسينيات او يجلس في مكان مميز في مجالس البيوت ليتولى القراءة. طبيعة القراءة يحددها المستوى العلمي و الثقافي للملا او الشيخ. فالملا في العادة هو شخص صوته جميل و يحفظ جزء من التاريخ و ابيات شعرية هي رثاء ومديح للمعصومين. اما الشيخ، فهو طالب علم و يكون درس في احدى الحوزات (الحوزة = المدرسة الدينية عند الشيعة). في الماضي كان الملالي هم الاكثر عدد و حضور على المنابر. الشيوخ اقل عدد والقليل منهم يصعدون المنابر. نقطة التحول قد تكون مرتبطة بالثورة الاسلامية في ايران والتي ادت الى تزايد الوعي الديني لدي الشيعة والتحاق كثير من الشباب بالدراسات الدينية بالإضافة لتغير ثقافي جعل هؤلاء الطلاب اكثر قرب وتواصل مع مجتمعهم من خلال المنابر الحسينية. في الماضي، كانت القراءات على المنابر ضعيفة المحتوى وتتلى فيها قصص من غرائب الكتب وبعضها خرافية. اما اليوم، فأصبحت القراءة اكثر ثراء بمواضيعها و منطقها وتغطي جوانب اخلاقية و ثقافية وتسعي لتغيير واقع المجتمع الشيعي للأفضل. عادة ما تبدأ القراءة بتلاوة اية قرآنية ويقوم الشيخ بتفسيرها بما يخدم غرض المحاضرة من الارشاد او الاصلاح لموضوع يختاره الشيخ. تنتهي المحاضر بالنعي وهو تلاوة مأساة وفاة المعصوم و التي تكون بشكل حزين و يبكي الكثير ممن يحضرون المجلس. البكاء ذاته يؤجر عليه المؤمنون حسب معتقد الشيعة.


البركة: البركة هي الطعام الذي يقدم بعد انتهاء القراءة او العزاء. القراءة قد تكون يوم واحد او عدة ايام (في الغالب عشرة ايام و تسمى "العشرة"). البركة تقدم اما كل ايام القراءة او اخر ايامها. الذي يتم تقديمه يتفاوت بين شيء بسيط مثل كيكة وعصير او وجبه رز ولحم. ويمكن ان يعطون المتسمعين (المستمعين = الحاضرين للقراءة) وجبات يأخذونها لمنازلهم. في عاشور (العشر ايام الاولى من شهر محرم) يمكن ان يكون في الحسينية الواحدة عدة وجبات خلال العشرة ايام حسب التبرعات و الاوقاف والنذور المتاحة، و لكن غالب تلك الوجبات يكون بين اليوم السابع و العاشر من محرم ومعظم الحسينيات يكون فيها وجبة ليلة او يوم العاشر من محرم – و هو اليوم الذي قتل فيه الامام الحسين و صحبة عليهم السلام.


العزاء: هو نوع من تعذيب الجسد حزنا او احتجاجاً على وفاه المعصوم. و تتراوح شدة التعذيب من الضرب الخفيف على الصدر الى جرح الجسد (التطبير و ضرب الظهر بسلاسل بها سكاكين حادة) او حرقه (بالمشي على الجمر الملتهب). لا يختلف الشيعة على فضل القراءة والبكاء في احياء ذكر المعصوم، فلديهم احاديث متواترة على احياء مجالس الحزن من قبل بعض الائمة في ذكرى مقتل الامام الحسين عليه السلام. اما العزاء و خصوصا الاشكال الشديدة منه مثل التطبير (جرح الراس بضربه بالسيف او جرحة بشفرة و جعله ينزف) فعليه خلاف يتراوح بين الاستحباب لدي بعض المجتهدين (سوف اتي في احدى الحلقات على موضوع الاجتهاد و التقليد) و بين الحرمة لدي اخرين و بين هذين الرأيين العدد الاكبر من المجتهدين الصامتين على هذا الموضوع. في العزاء تتلى قصائد ويقوم المعزين بترديد اجزاء من تلك القصائد (لذلك تسمى قصائد العزاء "رداديات") ويضربون انفسهم بإيقاع منظم. القصائد عادة ما تكون رثائية تخص المعصوم صاحب المناسبة، لكن في بعض الدول، تكون القصائد اجتماعية او حتى سياسية حسب الحرية التي يتمتع بها المجتمع. و يمكن ان تستخدم في بعض العزْيات (العزْيات = جمع عزاء) بعض الادوات الموسيقية مثل الطبل او الطوس (صحنين من المعدن يتم طرقهما ببعضهما) ليكوّنا ايقاع للعزاء.


التوقف عن الاعمال: يتوقف الشيعة في بعض الذكريات الدينية عن اعمالهم. ففي البحرين تكون هناك عطلة رسمية ايام التاسع و العاشر من محرم و كذلك وفاتي النبي والامام علي عليهما السلام. اما في الاحساء، فتغلق المحلات و يغيب الكثير من الموظفين و الطلاب ايام السابع و العاشر من محرم وفي وفاتي النبي و الامام علي عليهما السلام.

قصص من حياتي (27)


العزاء (2/2)


في صغري كنت مرتبط بماتمين. ماتم يقام في بيت المرحوم عمي علي ويقوم عليه شباب الحارة. لم اتولى أي مهام تذكر فيه عدا المشاركة في العزاء. انا حتى لا اتذكر القراءة فيه. يخرج عزائه مبكر و يعود لنذهب بعد ذلك لماتم الحساوية.


ماتم الحساوية هو مركز الجالية الحساوية في البحرين و تقام فيه كل مناسباتهم من افراح و اتراح. التجمع في عاشور هو الاكبر و يحضره معظم الحساوية المهاجرين ليتسمّعون و بعضهم يعزون. قبل سنة 1973 وبداية عودة السعوديين الى وطنهم، كان حجم موكب العزاء كبير. لكن مع عودة اكثر الحساوية الى وطنهم، اصبح حجمه صغير نسبيا.


دورنا كأطفال في المناسبات الدينية هو الخدمة في الماتم. تلك الخدمة التي مهما صغرت او تواضعت طبيعتها هي شرف اجتماعي لمن يقوم بها و يؤجر عليها - حسب المعتقد الشيعي. فكنا نغسل الاواني ونصب الشاي والقهوة ونقدم السجاير (تقديم السجاير للضيوف سواء في الحسينية او المجالس الخاصة هو من بروتوكولات الضيافة) ونكنس الارضيات بعد القراءة و البركة و غير ذلك من الخدمات.


القرأة في الماتم هي لملا والمواضيع التي يتطرق لها ضعيفة و بعضها خيالي او حتى خرافي. ذلك المستوى من القرأة كان شائعاً في الكثير من المواتم حينها. الا ان النعي (النعي = الشعر الحزين الذي يصف مقتل او موت المعصوم) مميز وبصوت شجي وجميل، يجعل الكثير من المستمعة يتأثرون ويبكون على مصاب الامام الحسين عليه السلام. علينا ان نردد بعض المقاطع الشعرية التي يتلوها الملا في النعي. مع تكرار استضافة الحسينية لنفس الملا و اعادته لنفس الاشعار لعدة سنوات، صرنا نحفظ القصائد كامله ونتلوها معه.


في العزاء، يكون هناك شيال و هو الشخص الذي يتولى قيادة العزاء بتلاوة الرداديات (الرداديات = الشعر الذي يتلى مع العزاء و يردد اجزاء منه المعزين). كنا نتنافس كأطفال بمن يرفع صوته اكثر في الترديد. فهناك من يقول لنا اننا برفع اصواتنا، يكون اجرنا اكبر. لا يكاد العزاء ينتهي الا و اصواتنا مبحوحة! حين نعود للحسينية يوزعون علينا نخج (نخج او نخي = لبلبي باللهجة البحرينية). نشرب ماء النخج الدافيء ليريح احبالنا الصوتية قليلا.


العزاء الذي نخرج فيه هو عزاء الضرب على الصدور. اعتقادنا انه كلما كان الضرب قوي ومؤلم، صار الاجر اكبر. والامر لم يخلوا من التفاخر فيما بيننا. ففي نهاية العزاء يكشف كل منا صدره ليتفاخر بين اصدقاءه باحمراره. البعض يتحملون ضرب انفسهم بشكل مبرح حتى يصبح صدرهم احمر قاني. بالنسبة لي، لم استطع تحمل ضرب نفسي بشده، رغم اني حاولت!


عزاء الحيدر موجود في بعض المواتم فقط (حيدر - هو احد اسماء الامام علي بن ابي طالب عليه السلام و يطلق في البحرين على التطبير لكون المطبرين يكررون هذا الاسم اثناء العزاء). "الحيدر" في ماتم الحساوية كان مزدحم بالمعزين قبل الهجرة المعاكسة. يخرج الحيدر صباح العاشر من محرم فقط. كنت اتفرج عليهم وهم يحضّرون للخروج. بعضهم يسن سيفه (يسن السيف = يجعله حاد) واخرين يلبسون الكفن (الكفن = قطعة قماش بيضاء تخرق في منتصفها و يدخل الرأس من ذلك الخرق و تثبت على الجسد بحزام من نفس القماش). يضبط ايقاع الحيدر بواسطة الطرق على طبل كبير وطوس، و يكررون كلمات "حيدر حيدر حيدر"، و يبدأ التطبير. حين كنت صغير، بمجرد ان يبدأ طرق الطبل و ترديد اسم "حيدر" اطلق لرجلي العنان، خوفا، و اذهب للبيت. تأتيني تلك الفكرة التي تقول: "اذا كان الواحد منهم يضرب نفسه بالسيف، ما الذي يجعله لا يضرني انا ايضاً؟!". حين كبرت، تلاشى الخوف عني وامكنني التفرج على الحيدر. يدير الحيدر في ماتم الحساوية حينها المرحوم حسن بن صالح وهو ابن اخت جدتي ام ياسين. حين يأتي لزيارة خالته في بيتنا، كنت احس بفخر انه يزورنا واراه اشجع رجل في العالم!


ليلة العاشر من محرم نقضيها بالخدمة في الماتم و الخروج للعزاء و من ثم نذهب لنخدم في تجهيز الغداء لليوم التالي. يطبخ الغداء في احد البيوت الكبيرة و المملوكة لاحد الحساوية (لا اذكر اسمه بالكامل لكن عائلته من "القطري"). يقوم على طبخ الغداء رجال متطوعين ويستخدمون حطب وجذوع نخيل كوقود. دورنا هو تقطع اللحم والبصل وغسل الاواني ومساعدة الطباخين. نعمل حتى الفجر ونكافأ بان يقلوا لنا كبدة الخرفان مع حمسة من البصل و البهارات. طعمها لذيذ جداً بعد ليلة طويلة ومضنية من الجهد والعمل. بعدها نذهب لننام قليلا في الماتم. يأتي منظمو الماتم ليصحونا في حوالي الثامنة. تبدأ التجهيزات للقراءة والعزاء و بعدها تقدم وجبة الغداء. الامور في ذلك الوقت لم تكون باليسر الحالي، فكمية الرز و اللحم قليلة بحيث تُلحّس الصحون (تُلحّس = تؤكل عن اخرها).


بعد انتهائنا من واجب الخدمة و العزاء في ماتم الحساوية، نخرج نحن الاصدقاء لنتفرج على عزيات المواتم الاخرى و التي لها خط سير و تمر كلها في احد الشوارع المحددة. يزدحم هذا الشارع بالمتفرجين و المتفرجات. احد جوانب الشارع للرجال و الجانب الاخر مخصص للنساء. يقوم بتنظيم ذلك و تنظيم سير العزيات لجنة منظمة.


بعض العزيات لها سماتها الخاصة. فعدد من المواتم، يسبق عزائها خيل او جمال و يركب بعضها "الشبيه". "الشبيه" يمثل احدى شخصيات موقعة الطف (موقعة الطف = اسم الموقعة التي قتل فيها الحسين ابن علي عليه السلام - ثالث ائمة الشيعة) و يكونوا في حالة اصابتهم او قتلهم او سبيهم. يسمح للأطفال بامتطاء الجمال والخيل وكان امر ممتع لهم. وفي احد العزيات، كانت الرداديات تتلى بالحان لآخر الاغاني التي نزلت في ذلك الموسم. ويتشكل احد العزيات من فرقة موسيقية كاملة تعزف موسيقى شجية اقرب لموسيقى "الجاز = Jazz".


هناك عزيات للجاليات الشيعية التي تعيش في البحرين او التي استوطنتها وابقت على ثقافتها الاصلية. منهم العجم و هم المواطنون البحرينيون من اصل ايراني او الايرانيين الذين يقيمون في البحرين. عزائهم يتكون من عدة حلقات، كل منها تعزي بطريقة مختلفة. فمنهم من يضرب الصدر، و منهم من يعزي بالسلاسل واخرين يقرعون الطبول ومنهم الحيدر. حيدرهم حلقته كبيرة و المشاركين فيه كثر وكمية الدماء النازفة غزيرة. اما حلقة الطبول و كان يطلق عليها "شكلم بحلم" (لا ادري ما الذي يعنيه هذا الاسم) فكانت حلقته تتكون من العشرات من الاشخاص الذين معهم طبول و يقرعونها بشكل عشوائي فينتج عنه لا ادري ماذا؟! و هناك عزاء الهنود و الباكستانيين الذين في جزء من عزائهم، يستخدمون سلاسل بسكاكين طويلة و حادة يقطعون بها ظهورهم. منظر صعب و يحتاج قوة قلب لمشاهدته! و من طقوس الهنود المشي على الجمر في العاشر من محرم. هذا لم يكون في المنامة و لم اشاهده و لكني لقيت بعض الهنود المضمدة ارجلهم بسبب الحروق.


عودة على بداية هذه القصة ووالدة صديقي المغربي، اوضحت لها انه صحيح ان الشيعة يذهبون للحسينيات و يبكون ذكرى المقتل الاليم لابن بنت رسول الله عليه السلام والبعض منهم يضرب صدره حزن واحتجاج على تلك القصة الرمزية للصراع بين الخير والشر، الا ان الممارسات العنيفة للعزاء، لا يقوم بها الا عدد قليل جدا من الشيعة المؤمنين بصحة تلك الممارسات وبضرورة ممارستها، و الذين اصبحوا يسعون لإشهار ممارساتهم اعلامياً كدعم لما يعتقدون. كما ان بعض الإعلاميين - اما كون هذا الممارسات موضوع اعلامي دسم او بقصد اختزال المذهب الشيعي في هذه الممارسة - ينشرون هذه الممارسة اعلامياً و يضخمون وجودها. ما ينطبق على المذهب الشيعي من وجود معتقدات و ممارسات غريبة ينطبق على المعتقدات الاسلامية الاخرى و يتمسك بها اقلية ولا يمكن لها ان تشكل طابع عام لذلك المعتقد او ان تؤثر على ثرائه الحضاري وعظمته.

قصص من حياتي (28)


الافراح الدينية الشيعية


الانطباع الغالب عن الشيعة انهم مجتمع احزان، لكن الواقع ان لديهم الكثير من مناسبات الفرح. فهم يحتفلون بولادة الاربعة عشر معصوم و البعض يحتفل حتى بمواليد الانبياء المدون لهم تاريخ ولاده وبشخصيات دينية مثل السيدة مريم والدة السيد المسيح. ومن الاحتفالات الرئيسية عند الشيعة "عيد الغدير" الذي يعتقد الشيعة بان النبي عليه و على اله افضل الصلاة و السلام قد نصب فيه الامام علي عليه السلام خليفة على المسلمين و طبعا العيدين الاسلاميين الرئيسيين – عيد رمضان و عيد الاضحى.


الاحتفال يتراوح بين فاعليات كبيرة مثل عيدي رمضان و الاضحى و عيد الغدير ومولد النبي و الامام علي عليهما السلام وبين لبس الجديد و توزيع الحلويات والمكسرات على الاطفال مثل مولد الائمة الحسن ابن علي عليهما السلام (منتصف رمضان و يطلق عليه "القرقيعون") و المهدي المنتظر عليه السلام (منتصف شعبان و يطلق عليه "الناصفة" او "حجة و مدينة") وبين توليع انوار المنازل و تبادل التهاني مثل موالد اكثر المعصومين. تحيا بعض هذه المناسبات خارج اوقاتها، ففي وليمة البيت او المزرعة الجديدة، يمكن ان تقرأ ذكرى مولد النبي او الامام علي عليهما السلام. اما في الزواجات، فتقرأ قصة زواج النبي على السيدة خديجة او قصة زواج الامام علي على السيدة فاطمة الزهراء عليهم السلام جميعاً. قراءة الاحتفالات عادة ما يكون على شكل اناشيد و اهازيج. اما بين النساء فتكون على صيغة غناء جماعي بأشعار المناسبة و اشعار المديح للمعصوم صاحب المناسبة. في غالب الاحيان، يحي الذكرى السعيدة ملا للرجال او ملاية للنساء.


حضرت مع والدي – يرحمه الله - مناسبة احياء لذكرى مولد الامام علي عليه السلام في ماتم بن زبر في البحرين حوالي عام 1967. في احد فقرات الاحتفال، قام احدهم على المنصة و اعلن بانه سوف يقرأ شعر للحاج ياسين الرمضان نيابة عنه في مدح الامام علي عليه السلام. التفاعل مع الشعر كان كبير والكثير طلبوا اعادة قراءة بعض الابيات لإعجابهم بها. بعد الانتهاء من قراءة الشعر، اتى العشرات لوالدي ليحيونه على قدراته الشعرية. احسست بفخر و زهو تلك الليلة!


في "الناصفة" و "القرقيعون" تصنع الامهات لأطفالهن اكياس من القماش متصلة بخيط يعلق حول الرقبة. يخرج الاطفال ليدوروا على البيوت و يهزجون في "الناصفة" بنشيدة "ناصفة حلاوة ... على النبي صلاوات ... عطونا الله يعطيكم ... بيت مكة يوديكم ... يوديكم ويا اهاليكم ..." فيعطون من بعض البيوت و بيوت اخرى لا يفتحون الباب حين يطرق. في "القرقيعون"، هناك نشيدة مضادة اذا لم يعطى الاطفال ما يطمحون له، فينشدون "قرقع قرقع قرقيعون ... جدتكم ام القرون".


لا يمشي الامر دائما بسلام في هذه المناسبات. فهناك القراصنة و هم الاولاد الذين اصبحوا في عمر لا يُعطون فيه شيء لو زاروا البيوت التي توزع الحلويات. يقوم هؤلاء الصبية باختطاف اكياس الاطفال الذين يكون تجمعهم صغير. اما اذا كان تجمع الاطفال كبير، فيخشى القراصنة من هجوم مضاد او صراخ يفضحهم. بعضهم تكون عنده شفرة و كيس فيأتي بجانب الطفل ليقطع كيس الطفل بالشفرة ويفرغ محتواه في كيسه دون ان يشعر الطفل.


حين كبرت، اصبحت ابقى في البيت لأوزع الحلويات و البسكوت و المكسرات على الزوار من الاطفال. يحتاج ان اكون نبه ان لا يعود بعض الاطفال اكثر من مرة ليأخذوا مني. في احدى المرات، عاد احدهم مرة اخرى، فرفضت ان اعطيه. فاخذ يحلف بانه توأم و ان من اتاني قبل قليل كان اخوه. لم اصدقه حتى ذهب و عاد بأخيه، فأعطيته المقسوم و ذهب غضبان مني!

قصص من حياتي (29)


اسرة اخي منصور (1961 حتى عمر طويل)


تولى اخي العزيز منصور – الله يحفظه ويطيل في عمره و يغدق عليه الصحة و العافية - جزء كبير من مسئولية تربيتي اواخر حياة ابي وانتقلت مسئوليتي له بالكامل بعد وفاة ابي الله يرحمه. هو من تولى تجارة الاسرة في سنوات والدي الاخيرة و بعد وفاته و من ثم، تحمل المسئولية الاقتصادية عن معظم افراد اسرتنا. كما انه قرر تدريسي في مدارس خاصة، رغم ضعف وضعنا المادي وثقل حمله الاقتصادي بسبب كبر مسئولياته واحتضار تجارتنا في التتن.


حين عشت مع اسرة اخي، كان ابناءه ابتسام و انور و التوائم هالة و هناء و امل و غادة قد قدموا لهذه الحياة. درة لم تكون قد ولدت بعد. و انا اكتب اسماءهم، كدت ان اكتب اسمي بينهم، فقد كنت احدهم (ولا زلت). اخي، في عطاياه و تعامله و حتى في قسوته، كان عادل مع الجميع و لم يفرق بيننا. حصة ابنه انور من عنفه هو الاكثر كونه متمرد حينها (حسب تقديري).


اخي منصور، مثالي و يتقلد مبادئ يريد لها ان تتحقق بالكامل على ارض الواقع. ليس مهم العمر او العلم او الخبرة للطفل. الالتزام و التنفيذ الحرفي هو المتوقع. من يفشل، وبغض النظر عن الاسباب، تكون عقوبته قاسية. حين كبرت، اكتشفت عدد ممن هم في سنه و يشبهونه في توجههم المثالي الصارم. لا ادري ان كان ذلك التوجه هو نتيجة لثقافة جيلهم؟


زوجت اخي السيدة نورية عبدالله اليوسف كانت كوالدة لي بعد ان عادت والدتي – اطال الله في عمرها - و اخواتي للعيش في السعودية. دافعت عني كما تدافع عن ابنائها من عصا اخي. اكّلتني و شرّبتني و لبّستني كما كل ابنائها. كنت اطلب منها كما يطلب منها أي من ابنائها و تلبي لي مثلهم حسب المتاح. هي اليوم تدخل بيتي في الاحساء و انا ادخل بيتها في البحرين كدخولي الابن و الام لبيوت بعضهما. زوجتي فتحية تحدثني عنها كما تتحدث عن اختها الكبرى. الله يمد بعمرها و يمن عليها بالصحة الوافرة.


ابتسام هي البنت الكبرى لأخي و تمتاز باللطافة والهدوء والمسالمة. هالة و هناء كانتا توأمتين متشابهتين كثيرا. ولدتا قبل وفاة والدي بعدة سنوات. و لكي يفرق والدي بينهما طلب ان تعمل لهما جلادتين (جلادة = عقد). في احد وجهي قلب الجلادتين اسم الجلالة وفي الوجه الاخر اسم كل منهما. يناديهما ابي ويدير قلب الجلادة ليقرأ الاسم و يتعرف عليهن. امل و غادة كانتا صغيرتين حين غادرت البحرين و ليس لدي قصص عنهما. كل بنات اخي، بمن فيهن درة اصبحن اخوات لي وصديقات واعتز بهن كثيرا.


انور هو الطفل الثاني لأخي. رغم هدوءه الحالي، الان ان طفولته صعبة المراس وغنية بالشغب. عنده قدرة وتحمل و صبر على كل العقوبات حتى يحقق مطالبه. يمكنه الاستمرار في البكاء ليومين متصلين، حتى يقتنع الجميع ان اعطائه ما يريد هو الحل الوحيد! ابتعثه اخي لبريطانيا للدراسة وهو صغير جدا (في الابتدائي). اظن ان تلك المرحلة من عمره كانت صعبة عليه لدرجة انه نادرا ما يشير لها في احاديثه او ذكرياته. كبرنا و اصبحنا عضيدين لبعضنا واخوين اعزاء وصديقين متوادين ويجد احدنا الاخر بجانبه حين يلتفت. نتصيد فرصة سنوية لنسافر فيها مع بعضنا لعدة ايام لا نتوقف فيها عن الحديث لبعضنا. كم احب انور!


فخري كبير انني جزء من اسرة اخي منصور الكريمة و ضميري يحمل عظيم امتنان لأخي و زوجته ام انور لتحملهما مسئوليتي في وقت كانت الظروف صعبة للغاية. فالشكر لله و لهما جزيلاً.

قصص من حياتي (30)


اسرة عمي علي (1961 – 1973)


عمي علي – الله يرحمه – عاش مع اسرته في البحرين. منزلهم قريب من منزلنا و عمله الرئيسي هو في بيع التتن ايضاً، ودكانه ملاصق لدكاننا. التقي بعمي و ابنائه كثيرا في الدكان او اني ازور منزلهم و العب هناك او بعض ابنائه يزورون منزلنا لنلعب سويا. علاقة عمي بالأطفال علاقة خاصة فهو لين عريكة مع الجميع ومعي بشكل خاص. قبل المغرب من كل يوم تقريبا، و حين تخف حركة الزبائن في دكانينا، يجلسني قبالته و يسرد لي قصة من نسج خياله ... ولا اجمل. بعض تلك القصص تثير مخيلتي و تتواصل احداثها في راسي لعدة ايام. أسف اني لم اعود اتذكر شيء من تلك القصص و ان عمي لم يدونها.


زوجة عمي (ام فاضل) يرحمها الله، سيدة فاضلة من اصل عراقي. هي كريمة و بيتها كان مفتوح لنا. ازورهم بانتظام و تعاملني كما تعامل ابنها عباس. حين تعطيه مصروفه اليومي في وجودي، تعطيني معه حتى بدأت اتصور ان ذلك حق لي و انتظره مع عطيتها لعباس. اكل الوجبات في بيتها بأريحية بيتنا. تصنع ام فاضل شربت ليمون (شربت = شراب) لذيذ خاصة في اشهر الصيف الحارة وشديد الرطوبة. الله يرحمها و يغمدها بواسع رحمته.


ابناء عمي الذكور القريبين من عمري هما فاضل و عباس. عباس يكبرني بسنتين وفاضل يكبر عباس بحوالي سنتين او ثلاث. بنات عمي القريبات من عمري ثلاث و اكبرهن المرحومة بتول التي توفيت اثناء ولادتها الثانية بسبب ثقب مزمن في قلبها. بتول هي رمز الطيبة المطلقة بالنسبة لي. حتى يومنا هذا، اذا مر علي موقف فيه الكثير من الطيبة، تأتي على بالي – الله يرحمها و يدخلها فسيح جناته.


عباس الصديق العزيز ذو الشخصية القوية حتى مع البحارنة الذين في فريجنا (فريج = حارة)، وهذا نادر ان يكون لولد حساوي في سن عباس. هو متميز في لعب كرة القدم وحضرت له عدة مباريات في الحارة وخارجها حقق فيها نتائج تلهب تصفيق مشجعي الفريق. في احد الايام، اختلف مع احد البحارنه. هدد عباس البحراني بكسر خشمه (خشمه = انفه). تطاول البحراني في الكلام فما كان من عباس الا ان وضع كره كان يحملها على الارض وشاتها (شاتها = ركلها) مباشرة في خشم البحراني. احسست بفخر ونشوه بما فعلا عباس كون ذلك الشخص فعلا مزعج!


لي مع عباس العديد من المغامرات و من ضمنها الخروج لصيد السمك. حينها ممنوع علينا من قبل اهالينا ان نذهب للبحر، لكننا كنا نخالف ونذهب سراً. نستخدم مصروفنا اليومي لشراء ادوات الصيد و نذهب للبحر و نصطاد السمك. في نهاية الرحلة، نرمي كل شيء! احياناً يكون مصيدنا مميز في كميته و جودته و يوجعنا قلبنا لرميه، لكن الم رمي المصيد اهون من الم العصا اذا اكتشف امرنا.


بيت عمي يتحول الى ماتم في عاشور و مناسبات الوفيات الدينية ويديره ابناء الحارة. اعطى ذلك عمي و ابنائه مركزية خاصة في حارتنا من الاحترام و التقدير.


لعمي شراكات في لنجات (لنجة = سفن خشبية) تنقل بضائع بين البحرين وايران والسعودية. تصنع هذه اللجنات في البحرين وحضرت مرة مع عمي و ابناءه انزال احدى تلك اللنجات الى البحر. كل شيء يجري بشكل يدوي. فيضعون قطع خشب اسطوانية امام اللجنة و يدفعها عدد كبيرة جدا من الرجال لإنزالها للبحر. العملية مجهدة والتفرج عليها ممتع وخصوصاً صيحات النصر من قبل الرجال في لحظة نزول اللجنة للبحر. يأخذنا عمي في رحلات صيد للبحر في تلك اللنجات. في احدى تلك الرحلات اصطدنا عدد كبير من سمك القرش واهديناه لربان السفينة و مساعده - اظنهم عمانيين - كوننا لا ناكل هذه السمكة. و في رحلة اخرى، انزلوا شبك واصطدنا كميات كبيرة من الربيان (الربيان = الجمبري).


في منتصف السبعينات، قرر عمي علي العودة للعيش في السعودية ولا ادري لماذا اتخذ هذا القرار. يوم مغادرته للبحرين من الايام الحزينة في حياتي. اتذكر تلك الشاحنة الكبير التي وقفت عند بيتهم و حملت العفش المعد للسفر معهم. كل شباب الحارة اتوا ليساعدوا في تحميل العفش. تحركت الشاحنة في اتجاه الفرضة (الفرضة = الميناء الذي فيه اللنجات التي تسافر للخبر في السعودية). الكل كان حزين على فراق العم و ابنائه. شعوري بالغربة اصبح اكبر بغياب اسرة عمي الكريمة.

قصص من حياتي (31)


خرابيط طفولية (1966 – 1973)


الطفل في تلك الايام يسمى جاهل. من منطلق حقوقي، فان هذه التسمية فيها غبن للطفل. لكن اذا رجعت لبعض احداث طفولتي، قد يكون وصف "الجهل" مناسب لي.


في احد الايام، كنت العب لوحدي بكرة قدم في حوي البيت (الحوي = هو الردهة في وسط البيت العربي). احسست بالعطش فذهبت لأشرب ماء من الثلاجة. عدت لأبحث عن الكرة في الحوي، فلم اجدها. بحثت في كل غرف البيت و صعت للطابق العلوي و بحثت في غرفه، مفترضا انني ركلت الكرة لأعلا قبل ذهابي لشرب الماء، و لم اجدها. صعدت لأسطح بيتنا و لم تكن هناك. عدت للحوي و بدأت جولة اخرى من البحث. لقتني اختي جليلة و لاحظت بحثي، فسألتني عن ماذا ابحث؟ اخبرتها بمشكلتي. فسألتني عن الشيء الذي تحت ابطي. كانت الكرة هناك طوال الوقت!


يأتي احد الحمالية (حمالي = عتال) ليربط حماره قبالة دكاننا و يذهب لقضاء مصالحه. اذهب للحمار لاستمتع بدغدغته في طرف بطنه فيرمح برجليه او احداهما في الهواء. في احدى مرات دغدغتي له باغتني باستدارته السريعة وتمكن من رمحي بإحدى رجليه. اصابتي كانت في فخذي و ترك حافر الحمار اثر على جلدي كما يحدث في افلام الكرتون. الاصابة قريبة من مكان حساس جداً. كنت محظوظ. بعدها، صرت احترم خصوصية ذلك الحمار!


اخذنا اخي منصور و كل الاسرة للبحر في جنوب البحرين في سيارته الجديدة الاولى "بيجو". اوقف السيارة بعيدة قليلا عن البحر لتجنب تغريزها في الرمال، و صرنا ننقل الاغراض من شنطة السيارة لمكان جلستنا. ترك اخي مفتاح السيارة معي. لدي فضول كيف اذا اُغلقت شنطة السيارة تقفل ذاتياً، و كيف اذا ادير المفاتح تنفتح؟ بدأت تجاربي الاستكشافية والشنطة مفتوحة. القفل يمكن ان يقفل بتدويره يدويا، و يمكن ايضاً فتحه يدويا من الجهة الداخلية للشنطة. تخيلت اولائك الاشخاص في الافلام الذين يحجزون في شنط السيارات و لماذا لا يفتحون القفل ليخرجوا؟ قررت ان اجري تجربة على نفسي. دخلت شنطة السيارة و اغلتها. منذ اللحظة الاولى عرفت ان الامر صعب. الظلام دامس، و كاد ان ينقطع تنفسي. احسست انني سأموت! بدأت في الصراخ لعل احد يأتي لينقذني، لكن هيهات. الصوت مكتوم و المسافة بعيدة عن مكان جلوس اهلي. بدأت اتحسس القفل و احاول ان افتحه بيدي لكن الامر صعب جدا. فقفل الشنطة ماسك في مشبكه و فتحه يدويا يحتاج لقوة عنتر ابن شداد. حاولت و بقيت احاول و شعور الرعب يزداد. حسبت ان المسألة حياة او موت، فضغطت على القفل بكل قوتي و تمكنت من فتحه وخرجت و الدماء تسيل من اصابعي!


ثلاجتنا في البيت، حين فتح بابها تولع لمبتها و حين اغلاقها تنطفئ. اخذني الفضول في كيف يحدث هذا. اكتشفت ان خلف باب الثلاجة زر، ينضغط مع اغلاق الباب فتطفئ اللمبة و يرخي الزر مع فتح الباب فتولع. ثم اردت ان اعرف ما الذي يجعل اللمبة تولع. ماهية الكهرباء غير واضحة لي حينها. ادرت اللمبة فاستدارت معي حتى انتزعتها من مكانها. ادخلت يدي من حيث اخرجت اللمبة. انتبهت وانا ملقى على الارض. حدث شيء رهيب، عرفت انه "الشوط"!


لدينا صندوق بريد في دائرة البريد في المنامة. يبعثني اخي منصور احيانا لفتح الصندوق و احضار البريد. مفتاح الصندوق من نوع خاص لا يمكن الحصول عليه الا من ادارة البريد. ثمن المفتاح دينار بحريني و هو مبلغ كبير في ذلك الوقت. احيانا اُضّيع المفتاح و عليّ ان اتحمل العقوبة و هي كم لطمة. في احد الايام، و انا في طريق عودتي من البريد، بحثت عن المفتاح في جيوبي، فلم اجده! فكرت ان اعود ادراجي للبريد للبحث عن المفتاح لعلي اسقطته في الارض. ذهبت وعدت لمرتين وانا احاول تذكر خط سيري بالضبط، فلم اجده. عدت ادراجي لدكاننا وشكلي يشير ان هناك مشكلة. سألني اخي، ماذا هناك؟ اجبته بانني اضعت المفتاح. اخذت علقتي المعتادة، و بعد ان هدأ اخي سألني عن الشيء الذي في قبضة يدي. كان المفتاح!

قصص من حياتي (32)


ثقافتي الجنسية (1968)


لكل شخص من جيلنا قصة في كيفية بنى ثقافته الجنسية. الكلام في هذا الموضوع من المحظورات في المنزل. اما المدرسة فلم يكون في مناهجها أي اشارة للجنس. رغم ان الشوارع تعج بالكلمات غير المناسبة الا ان قيمتها الثقافية لا تتعدى اننا اصبحنا نعرف الاجزاء المختلفة في اجسادنا و اجساد الجنس الاخر، لكن بصورة شديدة السلبية.


زار البحرين قريب لاحد اصدقائي يعيش في احدى الدول الخليجية. كنا سويا نحن الثلاثة. اخذ قريب صديقي يثقفنا في العملية الجنسية. سرد لنا تفاصيل كامله عن الرجل و المرأة و اختلافاتهم الجنسية و كيف يتزوجون و تحمل المرآه و كل شيء اخر. طريقة سرده تقنية و انا شخصياً اخذته من تلك الزاوية وسالته الكثير من الاسئلة التي اجابني عليها. خرجت من تلك الجلسة واصبحت امور كثيرة اكثر وضوح اختفى الكثير من الابهام المحيط بالجنس.


في اليوم التالي، لقيت صديق اخر وكنت متحمس لنشر هذه الثقافة العجيبة. اخذت اتلو عليه ما تعلمته و استرسلت واجبت حتى عن الاسئلة التي توقعت انه سيسالها. اثناء شرحي التفصيلي للموضوع، كان احتقان صديقي يتنامى دون ان الاحظ. ما كدت انتهي من سردي حتى انهال علي سباب و شتم مستنكرا ان شيء كهذا يمكن له ان يحدث بين ابويه. صدمت اني ارتكبت هذه الحماقة مع صديقي. التقيته عدة مرات في الايام التالية و لكنه توقف عن التحدث معي وكان ينظر لي و عينيه تجدح شرر. بعدها بفترة قصيرة التقيته وهو في حالة استسلام، و قال "تأكدت انهما يفعلان ما قلته لي – عيال الكلب!"

قصص من حياتي (33)


انتقال امي و اخواتي للسعودية 1973-1974


قد اكون في خامس او سادس ابتدائي حين دار حديث حاد و جاد بين والدتي واخي منصور. اذكر اني قلقت و خفت، كما يحدث لأي طفل حين يختلف الكبار، وخصوصاً ان الذين اختلفا هما المسئولين عني.


فهمت بعدها ان امي و اخواتي سوف ينتقلن الى السعودية للعيش هناك و لكني سوف ابقى في البحرين. اخبرني اخي منصور باقتضاب بهذا القرار واخبرني ان الهدف منه ان اخواتي كبرن ويجب ان يرجعن للوطن للزواج.


كان ذلك الخبر وذلك اليوم من الايام السوداء في حياتي. اتذكر اني بقيت ايام وايام لا ادري ماذا سيحدث لي، و كيف سأعيش دون امي و اخواتي. هن مصدر للراحة و الكثير من الامان. كنت اتدلل عليهن و يقبلوني. علاقتي بأخواتي، و خصوصا حميدة و مليحة و جليلة، هي علاقة خاصة و صداقة و لعب و خلافات وضرب و كل شيء يمكن له ان يحدث بين اخوة يعشقون بعضهم بعمق. ذهبن و اخذن معهن وجودي و قلبي و امني. لم تعود حياتي بعدهن كما كانت.

قصص من حياتي (34)


المظاهرات (1966 – 1976)


حارتنا كانت تعج بالمظاهرات بنهاية فترة الاحتلال البريطاني للبحرين. عمري صغير حينها ولا ادرك سبب المظاهرات. الا اني اتذكر بوضوح مسيلات الدموع التي تطلق كل مرة تخرج فيها مظاهرات وكيف انها تزعجنا ونحن في منزلنا. ريحتها خانقة واحيانا تهيج العيون.


نخرج من البيت بعد ان تهدأ المظاهرات و تختفي اصوات الهتافات لندردش مع الاطفال الاخرين عن الذي جرى. من الاحداث المؤلمة في حارتنا ان احد جيراننا قتل بثلاث رصاصات من قبل الامن. كان رجل الامن الذي قتله، يلاحقه ويطلق عليه الرصاص. حين خرجنا، كانت جدران المنازل التي في طريق المجني عليه ملطخة بدمه. اخر رصاصة اصابته في راسه و سقط مضرج بدمائه في حضن امه حين فتحت له باب منزلهم.


من الفترات العصيبة التي مرت على حارتنا، الاستفتاء على عربية البحرين من قبل الامم المتحدة. فبعد خروج المحتل الانجليزي، كان هناك استحقاق سياسي بان يجري استفتاء تشرف عليه الامم المتحدة لتقرير مصير البحرين في ان تكون عربية مستقلة او انها ولاية ايرانية. يقطن حارتنا بحارنة (بحارنة = الشيعة العرب) و عجم (عجم = بحرينيين من اصل ايراني). البحارنة يريدون للبحرين ان تكون عربية و الكثير من العجم يريدون لها ان تكون ولاية ايرانية. قبل الاستفتاء، كانت هناك شبه حروب بين الطرفين. بعض تلك الاشتباكات كانت قريبة جدا من منزلنا. الطرفين يشتبكون بالأيدي والاسلحة البيضاء من سكاكين وادوات حادة وزجاجات فارغة وتراشق بالأحجار. تأتي قوات الامن لتفصل بينهم. بعد ان تهدأ الامور، نذهب لمكان الموقعة لنرى الكثير من الدماء على الارض. المنظر مرعب! حينها، يحدث احيانا ان يستوقفنا احدهم في الطريق ليسالنا عن راينا في كون البحرين عربية او ايرانية. اعطاء الجواب الخطأ يعني علقة ساخنة. الجواب المنقذ كان سهل لكون لهجة السائل البحراني مميزة عن لهجة السائل العجمي. بالنسبة لي، كان جوابي "اني حساوي"، فاترك في حال سبيلي (هي المرة الوحيدة التي احسست فيها ان حساويتي اعطتني ميزة!).


اتت اول انتخابات برلمانية وامتلأت جدران حارتنا بصور المرشحين. نجح عدد من الاشخاص من حارتنا و الحارات المحيطة في دخول البرلمان. بعد فترة، تم حل البرلمان ولحق ذلك اضطرابات كثيرة ومظاهرات واحتكاك بين الناس وقوات الامن واعتقل كثيرون من حارتنا.


المظاهرات استمرت طوال فترة وجودي في البحرين، ويشارك في بعضها طلاب المدارس. في احدى جلسات الحارة تحدث بعض الشباب المشاركين في المظاهرات بان مشاركتهم هي من باب المتعة ليس الا!

قصص من حياتي (35)


علاقتي بأفراد من اسرتي (1961 – 1976)


علاقة افراد اسرتنا ببعضنا و لله الحمد اكثر من ممتازة. لكن تبقى ذكريات الطفولة مرتبطة ببعض الشخصيات لقرب العمر و لبعض الاحداث التي تبقى راسخة في ذاكرتنا و بعضها يبقى اثره ما بقى الانسان في هذه الحياة.


اخي العزيز المرحوم موسى (اخي الاكبر غير شقيق): حين وعيت على هذه الحياة، كان قد انتقل للعيش في الاحساء. هو يزورنا بشكل دوري في البحرين و تكونت صداقة خاصة بيني و بين ابنه البكر سامي ولنا ذكريات كثيرة وجميلة مع بعضنا. يدللني اخي موسى بكلمة "كنعد"، و دائما ما يكرر علي السؤال "هل تفضل الصافي او الكنعد؟" (الصافي و الكنعد = اسماك مشهورة في الخليج). يتميز اخي موسى بوضوحه و صراحته في كل تعاملاته، تلك الصراحة التي تزعج البعض من مجتمعنا الذين يفضلون اظهار الملاحظات فيما بين السطور. هو يمثل الشخصية الحساوية التي تعشق المزح و التبكيت. المرة الوحيدة التي صدق لي فيها حلم، كان مع اخي موسى. في ذلك الوقت، كان من المشهور ان الحرامي في الحلم يعني ان غائب سوف يأتي. حلمت في احدى الليالي اني التقيت حرامي عند مدخل بيتنا فهربت و صعدت لسطح البيت و لقيت الحرامي مرة ثانية هناك. في الصباح و انا خارج من البيت، رأيت اخي موسى عند مدخل البيت. جريت لأخبر امي التي كانت في السطح، واذا به خلفي لاراه مرة اخرى كما في الحلم. عملت في دكان اخي موسى في الاحساء في بيع المواد الصحية كطالب صيف في احدى السنوات. هي المدة الاطول التي قضيتها قريب منه و تعرفت عليه بشكل اكثر وضوح و زاد عشقي له. الله يرحمه و يتغمده بواسع رحمته.


اخي منصور (اخي الشقيق الاكبر): هو شقيقي والوالد الذي لم يغيب عن حياتي ومجرياتها. بقى يشعر بالمسئولية تجاهي في كل مراحل حياتي. فهو لا زال اذا زارنا في الاحساء، يشتري لي مأكولات و يأتي بها من البحرين. حتى وقت قريب، كان يشتري لي ملابس. هو يشعر اني ابنه، و انا اشعر انه والدي و لن يتغير ذلك. قبل استقلالي بالخروج في عطل نهاية الاسبوع مع شلتي، كنت اذهب معه بشكل منتظم للبحر لصيد السمك. كل مرة نذهب للبحر وبغض النظر عمن يكون معنا، نصيب أخي منصور من الصيد هو السمك الاكبر و الاكثر، ظني ان ذلك اكثر من حظ. جعل البحر جزء رئيسي من ذكريات طفولتي. حببني ايضا في اغاني فيروز و موسيقى زوربا الذين يصدحان دائما في سيارته و لسنوات.


اخي مهدي، يكبرني بحوالي اربعة عشر سنة. حين ادركت، كان هو يدرس في الجامعة الامريكية في بيروت و بعدها، رجع ليعيش و يعمل في السعودية. اثناء اجازاته من لبنان، يأتي للبحرين ويحمل معه هدايا للجميع و منهم انا. يأتي لي بملابس فاخرة تسعد قلبي كثيرا. هو الوحيد من بين الكبار الذي يأخذني معه لنتمشى ويدردش معي كثيرا. يسالني عن احوالي و احلامي، احاديث اخوه متكافئين. حين عاد للعيش في السعودية، اتى في زيارة للبحرين و كنت احضر غرفتي في البيت والتي كانت غرفة جدتي ام ياسين. هُجرت هذه الغرفة بعد موت جدتي لسنوات وكانت شديدة الاتساخ. قمت بتنظيفها و صبغها و تعديلها و ساعدني في ذلك الاصدقاء. اخي مهدي ساعدنا بالعمل والتصاميم والتجهيز بذوقه الرفيع واعطاني بعض المال لشراء حاجيات الغرفة. كل ما اذكره لأخي مهدي حلو وجميل واكرمني الله بان نكون شركاء في عملنا اليوم و التقيه كل يوم و استمتع بأخوته و صداقته و سعة قلبه. اصبحنا شركاء حياة.


اخي محمد تقي، يكبرني بحوالي اثنا عشر سنة. حين وعيت لهذه الدنيا كان قد غادر البحرين للعيش في الاحساء. درس هناك في المدرسة الصناعية و ابتعث لفرنسا و المانيا و لم تكون لي معه ذكريات كثيرة. في احدى زياراته للبحرين، اخذني لمدينة العاب و قضينا وقتاً ممتع معا. حدثت لي حادثة مؤلمة حينها. ركبنا سيارات تصادم و كان اخي محمد تقي يسوق السيارة. كعادتي، سرحت و انا اتفرج على السيارات الاخرى و هي تصطدم ببعضها. فجأة اصطدمت سيارتنا بسيارة اخرى و انا ملتفت وارتطم جانب راسي بجزء من سارتنا و احسست بألم شديد في اذني اليسرى. بعد ذلك بعدة سنوات تعالجت عن مشكلة في اذني اليسرى تسببت لي بصعوبة سمعية، قد تكون تلك المشكلة مرتبطة بذلك الحادث.


اخواتي فوزية ووجيهه، تكبراني بعشر سنوات و ثمان سنوات على التوالي. في طفولتي، الشعور بفارق العمر كبير، و لا اتذكر معهما الكثير من الاحداث. اختي وجيهه هي الاولى بين اخواتي زواجاً وكان عمري حينها حوالي عشر سنوات. ازعجني ذلك الرجل الذي جاء و اخذ اختي، ولم استوعب لماذا الكل راضي بذلك؟!


اختي حميدة تكبرني بحوالي ست سنوات. بداية علاقتنا ببعضنا كانت عداوة و كره. هي نحيسه و تستأنس بتجنيني و تخويفي (لست الوحيد الذي تعامله بهذه الطريقة). لا تضيع فرصة ان تلعب دور جنية، لتجعلني اكاد افقد عقلي من الخوف. اتى ذلك "اليوم العظيم" الذي كبرت فيه واصبحت عضلاتي لا باس بها. استثارتني في ذلك اليوم كعادتها حتى فقدت كل سيطرة على نفسي. طرحتها ارضاً ووضعت كوعي في حلقها و ضغطت بكل قواي حتى توقف تنفسها. تركتها معتقداً انها ماتت وهربت من البيت. كان الوقت عصرا وبقيت في الخارج حتى الليل. قلقت وحزنت على قتلي لها. تمنيت انني لم افعل. تذكرت اشياء كثيرة جميلة في شخصيتها وتخيلت ان الحياة لن تكون جميلة بدونها. عدت للبيت و انا اتوقع ان اسمع عويل الجميع على موتها. لم اسمع شيء. دخلت البيت و انا اجر خطواتي واذا بها في وجهي حية ترزق! سعدت انها بخير ولكني لم اعبر. نظرنا لبعضنا وصار واضح ان ميزان القوى بيننا قد تغير. بعدها، صرنا اصدقاء و تعمقت صداقتنا ببعضنا حتى يومنا هذا. هي تذكر "اليوم العظيم" و تتفق معي انه نقطة التحول في علاقتنا.


اختي مليحة، تكبرني بحوالي اربع سنوات. هي المتمردة الوحيدة في منزلنا. لا ادري كيف صارت كذلك، لكني افترض ان المتمردين يخلقون كذلك، فأسرتنا شديدة المحافظة وعقوبات المخالفات صارمة وعنيفة. من لديه السلطة لم يكن ليوفر مليحة من العقوبات العنيفة، لكنها لا تكترث باي من ذلك. تفعل ما تشاءه وتريده. كنا نخاف منها. اذا طلبت شيء و ليس حولنا كبير نحتمي به، نلبي طلبها ونحن ساكتين، لنتجنب الجْمع على الظهر (الجْمع = الضرب بخلف قبضة اليد) والذي تهددنا به دائما. هي مبدعة، تخيط ملابس وتعمل العاب وتطبخ لنا اكل ونقوم بكثير من المغامرات معها. مليحة هي الاكثر كرما في اسرتنا. تستمتع ان تعطي كل ما تملك للآخرين ولا زالت تستمتع بهذه الصفة.


اختي جليلة، تكبرني بحوالي سنتين. هادئة جدا في طفولتها و مسالمة. الاختلاف معها صعب. كل ما اذكره اختلاف واحد لكنه كان خطير. في بداية سنة دراسية ولم ادخل المدرسة بعد، تم شراء حاجيات المدرسة لجليلة و كانت تبري اقلام الرصاص الخاصة بها. طلبت منها ان تعطينا احدها، فرفضت. والدتي مشغولة بكي ملابس و بدات ابكي و استنجد بها. طلبت امي من جليلة ان تعطيني احد الاقلام. غضبت جليلة ورمت القلم علي فانغرست البرية في بياض عيني. بكت حتى كادت روحها ان تخرج خوفا علي و ندما. في نهاية الاسبوع، نضع مصروفنا مع بعضه و نشتري شيء رئيسي نقتسمه. ونحن في طريق العودة من البقالة، تقوم هي بقسمة ما اشتريناه و تترك لي الخيار. كنت دائما اختار الجزء الاكبر و هي لا تمانع، ولا نصل البيت الا و ما اشتريناه قد نفذ.


http://sadekstories.blogspot.nl/

قصص من حياتي (36)


انتقالي للسعودية 1976


في سنتي الاخيرة في مدرسة الارسالية الامريكية (ثاني اعدادي) كنا في رحلة بحرية بنهاية الاسبوع مع اخي منصور في الزلاق جنوب البحرين. لديه قارب ينفخه و ننزل به في البحر لصيد السمك. عادته ان تكون احاديثه معي اقرب للأوامر. في ذلك اليوم، الوضع كان مختلف. بدأ بمقدمة طويلة تظهر انه فكر في الموضوع الذي سيطرحه طويلا وملياً. تحدث معي عن الاسرة والوالدة والاخوات ووجودهن في السعودية في بيت خالي المرحوم عبدالهادي بوحليقة وانهن يحتاج ان يكونن في منزل مستقل ومطلوب ان يكون معهن رجل، وانني المؤهل لتلك المهمة ومطلوب ان انتقل للسعودية. رغم انها اول مرة يبرر لي منصور عمل مطلوب مني ان اقوم به وبهذا الشكل، لكن ذلك العمل بالذات، لم يكون يحتاج أي تبرير. ان اعود لأعيش مع الوالدة و الاخوات، و في بيت مستقل، وانا اكون رجال البيت في معشوقتي الاحساء، لا احد يتامر علي او يتحكم فيني! كان من اسعد اخبار حياتي. سؤالي الوحيد لأخي كان "متى سوف اذهب؟".


بدأت التجهيز للرحلة. اول شيء فعلته هو اعلام اصدقائي و بالخصوص سعيد التحو و محمد اليوسف بالخبر السعيد بالنسبة لي والغير سعيد لهما. محمد كان في نيته ان يأتي للأحساء في اجازة الصيف، فقررنا ان نذهب سويا. ذهبنا لنفصل ثياب (دشاديش) لدي الخياط - ففي البحرين حينها ملبس الشباب كان افرنجي. القليل من الشباب يلبس الثوب و الغترة (شال الرأس) وينظر لهم انهم دراويش. تشاورنا ففصلنا ثياب باللونين السماوي و الاخضر لظننا ان هذه الالوان جميلة. جهزنا انفسنا بعجل و سافرنا للأحساء.

قصص من حياتي


اخواني و اخواتي الاعزاء


يومكم جميل


لقد نشرت اليوم الحلقة الاخيرة من فترة معيشتي في البحرين. امل ان استطيع مواصلة هذه القصص، لكني سوف انقطع لبعض الوقت حتى اجمع حصيلة جديدة من الكتابة في المراحل الاخرى من حياتي.


ارجو ان يكون ما تم كتابته ممتع لكم وانه حقق هدفه من خلق تصور عن المرحلة التي عاشها جيلنا


تحياتي و محبتي

إعداد وتصميم : سعيد الرمضان