تصفح صحيح البخاري في كتابين أحدهما كتاب الصلاة والآخر كتاب الجهاد والسير تجد في هذين الكتابين من البخاري حديثا مشهورا ..
أما الأول كتاب الصلاة في باب التعاون في بناء المسجد رقم الحديث 447 ، بسنده عن عكرمة قال لإبن عباس ولإبنه علي ( علي ابن عبد الله ابن عباس ) إنطلقا الى أبي سعيد ( الخدري ) فإسمعا من حديثه فإنطلقنا فإذا هو في حائط يصلحه ( في بستان يعمل فيه ) فأخذ ردائه فإحتبى ( أي جمع ظهره وساقيه بهذه الجلسة المعروفة ) ثم أنشأ يحدثنا حتى أتى ذكر بناء المسجد
ابن عباس قال لأبنه وقال لعكرمة أيضا إذهبا الى ابي سعيد فليحدثكم بالحديث فتستفيدان منه ، وكان يعمل في بستان وإذا به جلس يحدثهما حتى أتى الى ذكر بناء المسجد النبوي الشريف
فقال كنا نحمل لبنة لبنة وعمار لبنتين لبنتين فرآه النبي صلى الله عليه واله فينفض التراب عنه ويقول : ويح عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم الى الجنة ويدعونه الى النار .. قال يقول عمار أعوذ بالله من الفتن
هذا هو الحديث الذي جاء في كتاب الصلاة في باب التعاون في بناء المسجد
أما في كتاب الجهاد والسير في باب مسح الغبار عن الرأس في سبيل الله فجاء هذا الحديث برقم 2812 ، بسنده أيضا عن عكرمة أن ابن عباس قال له ولعلي ابن عبد الله أئتيا أبا سعيد فإسمعا من حديثه فأتيناه وهو وأخوه في حائط لهما يسقيانه فلما رآنا جاء فأحتبى وجلس فقال :
كنا ننقل لبن المسجد لبنة لبنة وكان عمار ينقل لبنتين لبنتين فمر به النبي صلى الله عليه واله ومسح عن رأسه الغبار وقال : ويح عمار تقتله الفئة الباغية عمار يدعوهم الى الله ويدعونه الى النار
والحديث واحد بلفظين .. وهذا الحديث شكل أزمة وورطة لأهل الخلاف .. لأن من المعلوم أن عمارا عليه الرحمة والرضوان قتل في صفين مناصرا لأمير المؤمنين عليه السلام والقاتل له جند معاوية
معنى هذا الحديث حينئذ إذ نعرف أن عمارا قتل بهذه الحيثية معناه أولا أن معاوية وأصحابه هم الفئة الباغية .. والأشد وطأة من هذا أن معناه أن معاوية واصحابه دعاة الى النار لأن الحديث يقول ويح عمار ( وويح كلمة ترحم ) وهي ليست ككلمة ويل فإن قيل ويحك فهذه كلمة ترحم لك وإذا قلت ويلك فهذه كلمة دعاء عليك
ويح عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم الى الجنة فإذن هو على طريق الجنة لأنه مع علي عليه السلام فيدعوهم الى الجنة وأما هم ويدعونه الى النار وفي اللفظ الاخر ويح عمار تقتله الفئة الباغية عمار يدعوهم الى الله ويدعونه الى النار يدعون الى الشيطان إذن .
معاوية وأصحابه دعاة الى النار ، فكيف يقال عنهم رضي الله عنهم ! أزمة وورطة عند أهل الخلاف .. فلابد أن يلجأوا هنا الى ما يلجأ اليه أهل الخلاف في عادتهم وهو إعمال التأويل ... إذا لم يجدوا محيصا وإذا لم يجدوا مفرا كأن يضربوا هذا الحديث بعرض الجدار وان يحكموا عليه بالبطلان والوضع كما فعل ابن تيمية إذا لم يسعهم ذلك أولوا والتأويل باب عرييييييض
أصلا كل شيء في الكتاب والسنة إن شئت أن تتشيطن فلك ان تؤوله .. كل شيء قابل للتأويل .. كل شيء .. إذا أردت أن تنفلت من كل حكم لازم .. من وجوب الصلاة تستطيع ان تؤول فتفر من وجوب الصلاة .. من وجوب الصوم هكذا .. في العقائد في الأصول تستطيع ان تؤول .. في الفروع تستطيع أن تؤول ..
باب التأويل باب عريض إن لم تكن له ضوابط علمية دقية فحينئذ كل شيء يكون قابلا للتأويل فيفرغ الدين من محتواه وتفرغ الشريعة من محتواها .
والمشكلة عند أهل الخلاف أن لا ضوابط عندهم للتأويل .. تأويلاتهم إستحسانية ذوقية خاضعة للهوى.
يعني الحديث صريح يدعونه الى النار .. دعاة الى النار إذن هم ! فماذا فعلوا في تأويل الحديث ؟
مثلا : القسطلاني في كتابه إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري يقول :
يدعوهم أي أن يدعو عمار الفئة الباغية وهم أصحاب معاوية رض الذين قتلوه ( أي قتلوا عمار ) في وقعة صفين الى سبب الجنة
يعني عمار يدعو معاوية وأصحابه الذين قتلوه الى سبب الجنة ..وهو طاعة علي ابن أبي طالب رض الإمام الواجب الطاعة إذ ذاك
هو شرح هذا المقطع من الحديث عمار يدعوهم الى الجنة أنه معنى دعوته الى الجنة أنه يدعوهم الى طاعة الإمام علي عليه السلام
ويدعونه الى النار فهذه مشكلة كيف نقول معاوية واصحابه يدعونه الى النار ونحن نترضى عنه .. فقال مؤولا :
ويدعونه الى سبب النار ولكنهم معذورون ! للتأويل الذي ظهر لهم .. لأنهم كانوا مجتهدين ظانين أنهم يدعونه الى الجنة وإن كان في نفس الأمر بخلاف ذلك
يعني هم يدعونه الى النار هذا في نفس الأمر أما في نفوسهم هم .. في ظنهم هم .. كانوا يدعونه الى الجنة
فلا لوم عليهم في إتباع ظنونهم فإن المجتهد إذا أصاب فله أجران وإذا أخطأ فله أجر
هل رأيت هذا الباب ؟.. باب التأويل كم هو عريض ومتسع ؟ بحيث الداعي الى النار يمكن أن يعذر لأنه تأول غلب على ظنه أنه يدعو الى الجنة وإن كان في واقع الأمر وفي نفس الأمر يدعو الى النار ! لكن لا حرج عليه ولا لوم عليه في إتباع ظنه .. في إتباع ظنه لا لوم عليه ..
إذا كان الأمر هكذا فلا يمكن الحكم على أي داعية للنار بانه من أهل النار .. لا يمكن ! لأنه أيضا يمكن ان يكون قد غلب على ظنه أنه يدعو الى الجنة .. إذهب لكل هذه الأديان حتى الذي يعبد البقر فلما تساله لماذا تعبده يقول هذا يوصل الى الجنة مثلا وله أجر واحد يتمسك به !
الى اين يوصلنا ذلك ؟ الى لا شيء !
إذا حكمت هكذا على انه لا لوم عليهم في إتباع ظنهم لأنهم مجتهدون وكانوا يظنون أنهم إنما يدعونه الى الجنة فهذا الباب إذا فتحته يدخل فيه كل داعية الى النار .. حتى الذين إدعوا النبوة مثلا ! حتى الذين آمنوا بمسيلمة الكذاب مثلا !
كانوا يظنون أنه هذا هو طريق الجنة .. فهل يا ترى اليوم الذين كانوا مع مسيلمة وأمنوا به وإتبعوه وخاصة أن كثير منهم إتبعوه بسبب شهادة من تسمونهم الصحابة ؟ كالرجال أو الرحال ابن عمر الذين جاءهم وقال لهم أنا أشهد ان مسيلمة رسول من الله من بعد محمد صلى الله عليه واله فهؤلاء صدقوا هذا الصحابي الجليل المشهور بالعلم والعبادة كما ترجم له وقالوا إذن هذا من اصحاب محمد صلى الله عليه واله وكلهم عدول بأيهم إقتديتم إهتديتم فنحن نتمسك بكلامه ونؤمن بمسيلمة ولذلك قاتلوا وإستبسلوا بالدفاع عن مسيلمة في حروبهم وماتوا .. هؤلاء لم لا يقال عنهم لا لوم عليهم في إتباع ظنونهم فان المجتهد إذا أصاب فله أجران وإذا أخطأ فله أجر
أخطأوا نعم ولكنهم إجتهدوا .. عملوا بشهادة الصحابي ! .. صحابي جاء وقال لهم أنا أشهد أن مسيلمة رسول فإتبعوه .. وهذا إجتهاد أم لا ؟
هذا إجتهاد على قواعد اهل الخلاف ..
يكمل القسطلاني فيقول : واعيد الضمير عليهم وهم غير مذكورين صريحا .. لكن وقع في رواية ابن السكن وكريمة وغيرهما وثبت في نسخة الصغاني المقابلة على نسخة الفربري التي بخطه ويح عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم والفئة هم أهل الشام
الحمد لله .. هو هنا يصرح بان هذه الفئة الباغية هم أهل الشام
وهذا التأويل الى الان تأويل سخيف بارد تافه لا قيمة له لأنه ليس هنالك أصرح من قول النبي صلى الله عليه واله يدعونه الى النار .. يعني النبي يقول ويح عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم الى الجنة او يدعوهم الى الله ويدعونه الى النار .. فيفترض أن نلتزم بما نطق به النبي الأعظم صلى الله عليه واله فنقول إن معاوية واصحابه يدعون الى النار .. أما أن نؤول ذلك فنرد على النبي صلى الله عليه واله ونقول إنهم كانوا يدعون عمارا الى الجنة في ظنهم .. في ظنهم ! فحتى المشركون لما كانوا يدعون النبي صلى الله عليه واله الى عبادة الأصنام لقائل أن يقول أنهم كانوا يدعونه الى طريق الفلاح في ظنهم .. حتى النصارى واليهود كانوا يدعون الى طريق الجنة في ظنهم ..
هكذا يمكن الرد على الله وعلى رسوله صلى الله عليه واله بردود شتى .. أن نتشبث بالظنون وما قيمة ظنهم ؟
الآن هذا الذي يدعو عمارا الى معاوية يكون داعية الى أي شيء ؟ الى النار .. معاوية يدعو عمارا الى النار .. بمعنى لو إفترضنا أن عمارا في وقعة صفين غير رأيه
عمار كان يدعوهم الى الجنة يعني أنهم إذا إنتقلوا الى طاعة علي ابن أبي طالب عليه السلام كما إعترف به القسطلاني فإنهم إذا ما قتلوا أو ماتوا ذهبوا الى الجنة .. العكس لو إفترضنا ان عمارا في وقعة صفين غير رايه فترك عليا عليه السلام وإنقلب الى معاوية وثم قتل في وقعة صفين يكون الى اين ؟ أين يذهب ؟ أين مآله ؟ الى النار
لأنهم يدعونه الى النار بمعنى انه لو إتجه اليهم .. صار معهم وقتل لذهب الى النار وهذا ما إعترف به القسطلاني إذ قال إنهم يدعونه الى النار في نفس الأمر ( نفس الأمر يعني العاقبة يعني واقع الأمر )
فهنا لو إفترضنا أن معاوية مثلا قتل في وقعة صفين لكان مآله الى أين ؟ إن قلت مآله الى الجنة كان ذلك نقضا لنفس الأمر لواقع الأمر وكان ذلك تكذيبا لرسول الله صلى الله عليه واله لأن رسول الله صلى الله عليه واله قال يدعونه الى النار أي الى طريق النار .. فمعاوية إذن سيذهب الى النار لا محالة إذا ما قتل في صفين ، ولا ينفع في يوم القيامة أن يعترض قائلا إلهي غلب على ظني أني ذاهب الى الجنة .. كان هذا ظنا لي .. هذا الظن لابد أنه لا يكون حجة في حقه لأننا لو إفترضنا هذا الظن حجة فسمح لمعاوية واصحابه أن يفروا من النار الى الجنة لكان مآل ذلك ونتيجته تكذيب النبي صلى الله عليه واله وأن عبارته هذه .. نصه هذا بلا محتوى .. فارغ المضمون .. كلهم سيذهبون الى الجنة لأنهم غلب على ظنهم فكيف يقول النبي صلى الله عليه واله يدعونه الى النار ؟
لا نار هنا في كلتا الحالتين هذه الطائفة تذهب الى الجنة غاية ما هنالك تذهب الى الجنة في الدرجة الأولى لأن لديها أجرين .. والطائفة الثانية طائفة معاوية أيضا تذهب الى الجنة ولكن بالدرجة الثانية لأن معها أجر واحد .. ولا نار هنا إذن !
فكيف تقول يا أيها المصطفى يدعونه الى النار ؟ هذه مبالغة منك !
لا نار هنا أصلا ... كلتا الطائفتين في الجنة .. كلتا الطائفتين من المؤمنين .. فنفرغ كلام النبي .. سنة النبي .. حديث النبي .. من محتواه ويصير بلا معنى حينئذ .. يصير كلام أشبه والعياذ بالله بالسفاهة .. كلام سفيه يعتبر نعوذ بالله .. أنه كلام ليس له واقع .. كلام طائش .
فهذا التأويل لا يمكن قبوله .. أي إنسان له مسكة من عقل .. له شيء من إحترام العقل .. من إحترام الضمير .. لا يمكن أن يقبل هذا التأويل ! ... تأويل جدا سخيف