فهرس تأملات في القرآن الكريم
١. القرآن معجزة النبيّ الخالدة
٢. تفسير القرآن لبعض الأسماء العبرية
٣. إعجاز القرآن في تفسير الأسماء الأعجمية
٤. قصة طفولة موسى عليه السلام في القرآن الكريم
٥. الفرق بين كلمتي " مَثْوَى" و"مَأْوَى" في السياق القرآني
٦. الفروق بين القرآن الكريم والأحاديث القدسية
٧. أسماء يوم القيامة وأوصافه في القرآن الكريم
٨. تأمّلات في الآية ٢٣ من سورة الزُّمَر
٩ . من أسرار البيان القرآني
١٠ . المدلول اللغوي لمادة "الوحي" في القرآن الكريم
١١ . "أَعْيُن" و"عُيون" في السياق القرآني
١٢ . لماذا تُكتبُ "امْرأة" بالتاء المربوطة حينًا وبالتاء المفتوحة
"امْرأَت" حينًا آخرَ في القرآن الكريم؟
١٣ . سبب تقديم السمع على البصر في القرآن الكريم
١٤. معنى "علم اليقين" و "عين اليقين" و "حقّ اليقين"
١٥ . الكون والخلق من العدم
١٦ . لطيفة قرآنية
١٧ . الفرق بين "الرحمن" و"الرحيم"
١٨ . تأمّلات في الآية ٥٤ من سورة الروم
١٩ . لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ
٢٠ . لطيفة قرآنية
٢١ . عقوق الوالدين في القرآن والسُّنُّة
٢٢ . تأملات في الآية ١٧ من سورة الرعد
٢٣ . تأملات في الآيات ٢٤-٢٧ من سورة إبراهيم
٢٤ . كلمات الله
٢٥ . تأمُّلات في الآية ٣٥ من سورة النور
٢٦ . قسوة القلوب
٢٧ . معنى كلمة "سُبْحان" في القرآن الكريم
٢٨ . تأملات في الآيتين ٧١ و٧٢ من سورة القََصَص
٢٩ . دلالة كلمتي "الريح" و "الرياح" في القرآن الكريم
٣٠ . الفرق بين كلمتي "زوج" و"إمرأة" في القرآن الكريم
٣١. تأمّلات في الآيات ٣١-٣٣ من سورة الأنفال
١. القرآن معجزة النبيّ الخالدة
القرآن الكريم هو في عقيدة المسلم كلام الله المعجز في لفظه ومعناه ومضمونه، الذي أنزله بواسطة المَلَك جبريل على النبي محمد صلى الله عليه وسلم: " نزلَ به الروحُ الأمينُ على قلبكَ لتكونَ مِنَ المُنذرينَ بلسانٍ عربيٍّ مُبين" ( الشعراء: ١٩٣).
وأميّة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم ثابتة في كُتُب السيرة والحديث، وثابتة بحكم المنطق، وثابتة بنصٍّ قرآنيّ قَطْعِيّ الدلالة: "وما كنتَ تتلو مِنْ قبلهِ مِن كتابٍ ولا تخطُّهُ بيمينكَ إذاً لَارْتابَ المُبْطِلون" (العنكبوت: ٤٨). والذي ينبغي أن يتنبّه إليه القارئ أن استعمال حرف الجر "من" في شبه الجملة "من كتاب" يُفِيدُ نَفْيَ الإطلاق في اللغة فيكون المعنى، بناءً على ذلك، أن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم لم يكن يقرأ من قبلِ نزول القرآن عليه أي كتاب إطلاقاً لا بالعربية ولا بغيرها من اللغات وأنه لم يكن يعرف الكتابة بأي لغة كانت. أما ثبوت أُمّيّته استناداً إلى المنطق فذلك لأنه لو ثبتَ اتصالُهُ بأي مُعَلِّم لكان ذلك تكذيباً لدعواه بأن القرآن وحيٌ أوحاه اللّهُ إليه.
وفي القرآن الكريم آيات عديدة تُذكّر القارئَ المرةَ تِلْوَ المرة بأن النبيَّ محمدًا (صلعم) لم يكن يعلم أخبارَ مَنْ سبقَ عصرَهُ من الأُمم والشخصيات الدينية والتاريخية ولا قصصهم وبأنه لم يكن يأمل أصلاً أنْ يبعثه الله رسولاً إلى قومه وإلى الناس كافةً. اقرأْ، إنْ شِئتَ، قولَه تعالى مُخاطِبًا نبيَّه الكريم: "وما كنتَ ترجو أن يُلْقَى إليكَ الكتابُ إلا رحمةً مِنْ ربِّكَ" ( القَصَص: ٨٦). ويأمرُ الله تعالَى نَبيَّهُ المختار أنْ يَرُدَّ على المُكذِّبين برسالته مِنْ قومِهِ بِجواب منطقي بسيط لا تَمَحُّلَ فيه ولا سَفْسَطة: "قُلْ لو شاءَ اللّهُ ما تَلَوْتُهُ عليكُمْ ولا أَدْراكُمْ بِهِ فقدْ لَبِثْتُ فيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفلا تَعْقِلون" (يونُس: ١٦).
ويختتمُ اللّهُ تعالى قصةَ نوحٍ مع قومه بقوله في الآية ٤٩ من سورة هود: "تلكَ من أنباءِ الغَيْبِ نُوحيها إليكَ ما كنتَ تَعْلمُها أنتَ ولا قومُكَ مِن قبلِ هذا فَاصْبِرْ إنّ العاقبةَ للمُتّقين".
وفي مُسْتَهلِّ سورة يوسف يقول اللّهُ تعالَى لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم قبلَ أن يقصَّ عليه خبرَ يوسف مع إخوته: "نَحنُ نَقُصُّ عليكَ أحسنَ القَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إليكَ هذا القرآنَ وإنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الغافِلين" (يوسف: ٣)، ويُنْهي القِصَّةَ بمِثلِ ما استهلَّها فيقول: "ذلكَ مِنْ أنباءِ الغَيْبِ نُوحِيهِ إليكَ وما كنتَ لَدَيْهِمْ إذ أجْمعوا أَمْرَهُمْ وهُمْ يَمْكُرون" (يوسف: ١٠٢).
وفيما يتعلق بقصة موسى عليه السلام وتكليم الله له مباشرةً على طُور سيناء وتكليفه بِحَمْلِ الرسالة إلى فرعون ومَلَئِه يقول الحقُّ عزّ وجلّ لنبيّه الخاتم: "وما كنتَ بِجانِبِ الغربيِّ إذْ قَضَيْنا إلى موسَى الأمرَ وما كُنتَ مِنَ الشّاهِدين" (القَصَص: ٤٤)؛ "وما كنتَ بِجانِبِ الطُّورِ إذ نادَيْنا ولكِنْ رحمةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قومًا ما أتاهُمْ مِن نَذيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرون" (القَصَص: ٤٦).
وبخصوص قِصّة شُعيب عليه السلام ورسالته إلى أهلِ مَدْين يقول الله تعالَى لرسوله: "وما كُنتَ ثاوِياً في أهلِ مَدْيَنَ تتلوعليهِمْ آياتِنا ولكِنّا كُنّا مُرْسِلين" (القَصَص: ٤٥).
وأخيرًا وبعد سردِ قصة ولادة مريم بنت عِمْران وتبليغ الملائكة لها بأنّ الله طَهّرها واصطفاها على نِساءِ العالَمين يروي اللهُ تعالَى الخلافَ الذي نَشِبَ بين كبار علماء بَنِي اسرائيل حولَ كفالة مريم واتفاقّهم أخيرًا على إجراء القُرْعة بهذا الشأن، فيقول: "ذلكَ مِنْ أنباءِ الغَيْبِ نُوحِيه إليكَ وما كنتَ لَدَيْهِمْ إذ يُلْقُون أقْلامَهُمْ أيُّهُمْ يَكْفَلُ مريمَ وما كنتَ لديهِمْ إذ يَخْتَصِمون" (آل عِمْران: ٤٤).
الذي يقرأ هذه الآيات القرآنية وهذا الأسلوب الربّاني الرصين في الخطاب وسرد القَصَص بتدبُّر ورَوِيّة وانفتاح ذهن بعيدًا عن الهَوَى والمَرض يُدركُ مِنْ فوره أنّ هذا الكلام لا يَصْدُرُ إلّا عن إلهٍ يعلمُ غيبَ السموات والأرض، ويقتنعُ بصِدْقِ رسالة نبيّه الخاتم عليه أفضلُ الصلاة والسلام إذ لا يصحُّ عَقْلًا أن يقوم إنسانٌ، أيُّ إنسانٍ، بِدَوْر المُخاطِب والمخاطَب أو المُوحِي والمُوحَى إليه في آنٍ واحد.
" إنَّ في ذلكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كانَ لهُ قلبٌ أوْ أَلْقَى السَّمْعَ وهو شَهيد" (ق: ٣٧).
٢. تفسير القرآن لبعض الأسماء العبرية
كثُرت الكتب والدراسات قديماً وحديثاً التي تناولت إعجاز القرآن اللغوي والبلاغي والتشريعي والعلمي، ولكنني سأقتصر في هذا البحث الموجز على إعجاز القرآن في مجال قلَّ مَنْ تناوله على حدّ علمي من القدامى والمُحْدَثين على السواء. فقد اسْتوْقَفني أثناء قراءتي للقرآن الكريم أن القرآن يترجم، أو يفسر، للناطقين بالعربية أسماء وكلمات أعجمية، هي في الغالب الأعم عبرية أو مصرية قديمة، دون أن يشعر حتى المتدبرُ لآيات الذكر الحكيم بهذا التفسير أو بتلك الترجمة. وهذا الأمر أدهشني جداً، فأخذتُ أتساءل: كيف يستطيع نبيٌّ أميّ لم يكن يقرأ أو يكتب حتى بلغته هو أن يفسر معاني كلمات عبرية وحتى هيروغليفية لم تُفَكَّ طلاسِمُها إلا في أوائل القرن التاسع عشر على يد المؤرخ واللغويّ الفرنسي جون فرانسوا شامبليون (١٧٩٠-١٨٣٢ م) أثناء الحملة الفرنسية على مصر. وأميّة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، كما قلتُ في المنشور السابق، ثابتة تاريخياً وثابتة بحكم المنطق وثابتة بصريح القرآن: "وما كنتَ تتلو مِنْ قبلهِ مِن كتابٍ ولا تخطُّهُ بيمينكَ إذاً لَارْتابَ المُبْطِلون" (العنكبوت: ٤٨).
لمّا جاءت الملائكةُ تبشّر سيدنا إبراهيم الخليل بمولد ابنه اسحق عليه السلام سمعت امرأتهُ سارة هذا الخَبَرَ، كما يُفهَمُ من النص القرآني، فضحكت من شدّة غرابته لأنها كانت عجوزاً وكان زوجها شيخاً طاعناً في السن. وفي ذلك يقول القرآن الكريم:" وامرأتُهُ قائمةٌ فضحكتْ فبشّرناها بإسحاقَ ومِن وراءِ إسحاقَ يعقوب. قالت يا ويلتا أَأَلِدُ وأنا عجوزٌ وهذا بعلي شيخاً إنّ هذا لَشيءٌ عجيب" (هود: ٧١ و٧٢). فالقرآن الكريم يَدُلُّكَ على أنَّ مناسَبةَ تسمية إسحاق بهذا الإسم هو ضَحِكُ سارة من هذه البشرى الغريبة العجيبة. فما هو اسم اسحاق باللغة العبرية؟ إنه יצחק (بالإنجليزية Isaac) ومعناه بالعربية يضحك أو الضاحك. والأغرب والأعجب في هذه البشرى أنّ الله تعالى بَشّرَ سارة بأنه سيولد لها من إسحق حفيدٌ يُسمّى يعقوب ولم يكن إسحاق قد وُلِدَ بعدُ وأنجب أولاداً. فما هو اسم يعقوب بالعبرية؟ إنه יעקב (بالإنجليزية Jacob) ومعناه بالعربية يَعْقُبُ أو يخلُفُ أو يأتي مِن بعد تماماً كما تنصُّ عليه الآية الكريمة أعلاه.
ننتقل الآن إلى بداية سورة مريم: "كهيعص. ذِكْرُ رَحْمَتِ ربِّكَ عبدَهُ زكريا. إذ نادى ربَّهُ نداءً خَفيّا. قال رَبِّ إني وهنَ العظمُ مني واشتعلَ الرّأسُ شيباً ولم أكن بدُعائكَ ربِّ شقيّا. وإني خفتُ المواليَ مِن ورائي وكانت امرأتي عاقراً فهبْ لي من لَدُنْكَ وليّا. يرثني ويرثُ من آلِ يعقوبَ واجعلْهُ ربِّ رضيّا" (الآيات: ١-٦).
قصة سيدنا زكريا تشبه قصة سيدنا إبراهيم من حيثُ إنّ كلا الرجلين كان شيخاً كبيراً عندما رُزق الولد وأن زوجة كلٍّ منهما كانت عجوزاً ولم تلد أولادًا من قبلُ. أما الفرق بينهما فهو أن سيدنا إبراهيم بُشِّر بإسحاق ويعقوب من غير أن يطلب من الله الولد في حين دعا زكريا ربَّهُ ضارِعاً أن يرزقه الولد وهو يعلم حالَهُ من تقدّم السنّ وحالَ امرأته العجوز العاقر، وعلّل هذا الطلب بأنه يريد ولداً يرثه بعد مماته ويحافظ على إرث سيدنا يعقوب الديني الذي كان يتميز بالتوحيد الخالص لله.
إسم سيدنا زكريا بالعبرية هو זכריה (بالإنجليزية Zechariah) ومعناه باللغة العربية حرفياً "ذَكَرَ اللهَ " أو " ذاكِرُ اللهِ". فكأنّ اللهَ يقول في هذه الآية: ذَكَرَني عبدي زكريا خُفيةً في نفسه فَذَكَرَتْهُ رحمتي بأن وهبتُ له ولداً كان يتمناه.
فللّهِ درُّ هذا الكتاب المعجز الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه تنزيلٌ من حكيم حميد.
٣. إعجاز القرآن في تفسير الأسماء الأعجمية
قُلنا في بحث سابق إنّ القرآن الكريم يترجم أو يفسر بعض الأسماء العبرية والمصرية القديمة بطريقة فَنّيّة خفيّة لا يَلتفتُ إليها القارئ المتعجّل أو حتّى المتدبِّر لكتاب الله. ومن جملة الأسماء العبرية التي ترجمها أو فسّرها القرآن الكريم والتي تناولتها بالبحث في ذلك المنشور إسحق ويعقوب وزكريا.
وسنعرض في هذا المنشور لكيفية تفسير القرآن لكلمتي "فرعون" و"مصر" باللغة المصرية القديمة وهي الهيروغليفية.
تقول الموسوعة البريطانية الشهيرة Encyclopaedia Brittanica إنّ كلمة "فِرْعَوْن" باللغة المصرية القديمة مركّبة من كلمتين per aa ومعناهما بالإنجليزية great house أي البيت العظيم، وأنّها كانت تُطلَق على القصرالملكي في مصر الفرعونية، ثُمَّ أَخذت تُستَعملُ لقبًا لملوك مصر القديمة ابتداءً من السُّلالة الثامنة عشرة (١٥٣٩-١٢٩٢ قبل الميلاد). وهذه التسمية تُذكّرني بتسمية الأتراك العثمانيين لقصر توبكابي Topkapi Palace في اسطنبول "بالباب العالي" وكان مقرًا لسلاطين الدولة العثمانية على مدار أربعة قرون متتالية.
والسؤال المطروح: كيف أشارَ القرآن الكريم إلى معنى كلمة "فرعون"؟ من المعروف أنّ امرأة فرعون موسى، وهو رمسيس الثاني على أرجح الأقوال، كانت تؤمن بالله وكان زوجها من الكُفّار الجبابرة. وقد بلغَ من جبروته وطغيانه وعُتُوِّهِ أنْ خاطبَ الأشرافَ مِنْ قومِهِ قائلًا لهم: "يا أيُّها الملأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إلهٍ غيري فَأَوْقِدْ لي يا هامانُ على الطِّينِ فاجْعَلْ لي صَرْحًا لَعَلّي أَطَّلِعُ إلى إلهِ موسى وإنّي لأظُنُّهُ مِنَ الكاذبين" (القَصَص: ٣٨) "؛ وقال لهم وللسَّحَرة: "أنا ربُّكُمُ الأَعْلَى" (النازعات: ٢٤).
يروي القرآن الكريم نفورَ امرأة فرعون واستياءَها من زوجها المتجبّر فيقول: "وضربَ اللهُ مَثَلًا للذين آمنوا امْرأتَ فِرْعونَ إذْ قالتْ رَبِّ ابْنِ لي عندكَ بيتًا في الجنّةِ ونَجِّني مِنْ فِرْعونَ وعَمَلِهِ ونَجِّني مِنَ القومِ الظالمين" (التحريم: ١١). فكأنَّي بامرأة فرعون تقول: لا أريد "البيتَ العظيم" (فرعون بالمصرية القديمة) وأكتفي عندَك يا ربّ ببيتٍ صغير تَبْنيهِ لي في جَنَّتك. فسبحانَ الله.
ننتقلُ الآن إلى ترجمة القرآن لأحد الأسماء التي كانت تُعرفُ بها مصر الفرعونية في العصور الغابرة. يذكرُ مؤرّخو الحضارة الفرعونية أنّ من ضِمْنِ الأسماء التي أطلقها المصريون القدماء على بلدهم إسم Kemet أو Kmt اختصارا ومعناه حرفيًا "الأرض السوداء" وذلك لخصوبة تربتها الداكنة في وادي النيل والدلتا.
فماذا يقول القرآن الكريم عن هذا؟ في سورة يوسف أشار القرآن الكريم ثلاثَ مَرّات إلى مصر القديمة بكلمة "الأرض" :
"وكذلكَ مَكَّنا لِيوسُفَ في الأرض" (الآية ٢١)؛ "وكذلكَ مَكّنّا لِيوسُفَ في الأرضِ يَتَبَوَّأُ منها حيثُ يشاءُ" (الآية ٥٦)؛ "فَلَنْ أبرَحَ الأرضَ حتّى يَأْذَنَ لي أبي" (الآية ٨٠). فلا جدالَ أنّ اللهَ تعالى لم يُمَكِّن ليوسف عليه السلام ولم يُعْلِ شأنَهُ ومكانتَه في جميع بِقاع المعمورة، وإنّما في مصر وحدها. وكبيرُ إخوة يوسف قال "فلَنْ أبرحَ الأرضَ حتّى يأذَنَ لي أبي" وهو لا يزال في مصر، لا في غيرها من البلدان. ومن الطريف أنّ الإسرائيليين اليوم يطلقون على بلدهم إسرائيل كلمة הארץ (أي الأرض) تمامًا كما كان يفعل قدماء المصريين.
٤. قصة طفولة موسى عليه السلام في القرآن الكريم
قصة النبي موسى عليه السلام هي من أجملِ القصص القرآنيّ، وأكثرِها إثارةً وتشويقًا، وأَحْفَلِها بالأحداث والوقائع، وأغناها بالعبر والمواعظ، وأَبْيَنِها لقدرة الله تعالى على تصحيح مسار التاريخ وقلب موازين القوى وهَزِّ عروش الطغاة بتدبير إلهي خفيّ وحكيم. يكفي للتدليل على أهمية هذه القصة وعظمتها المساحةُ الهائلةُ التي خُصِّصت لها في القرآن الكريم حيث وردت في ٣٤ سورة من أصل ١١٤ سورة وذُكِر موسى عليه السلام بالإسم في القرآن الكريم ١٣٦ مرة . حتى أبو الأنبياء سيدنا إبراهيم لم تُذكَر أخباره إلا في ٢٥ سورة ولم يتجاوز عددُ المرات التي ذكر فيها بالإسم ٦٩ مرة.
يذكر مفسرو القرآن وعلماء المسلمين أنّ فرعون موسى، الذي يرجح الباحثون المعاصرون أنه رمسيس الثاني، أُبلِغَ بأنه سيولد في بني اسرائيل طفل يكون زوال ملكه وهلاكه على يده فأمر بتذبيح الذكور عند ولادتهم واستبقاء الإناث على قيد الحياة. وها هي أم موسى تلد طفلها وسط هذه الأنباء المفزعة، فينخلع قلبها هلعًا ولا تجد حيلة لإنقاذ ولدها من موت مُحَقَّق. هنا تتدخل العناية الإلهية :"وأوحينا إلى أُمِّ موسى أنْ أرضعيهِ فإذا خِفْتِ عليه فألقيهِ في اليَمِّ ولا تخافي ولا تحزني إنّا رادُّوهُ إليكِ وجاعلوهُ مِنَ المرسلين" (القصص: ٧). هذه هي الخطة التي أوحاها الله تعالى إلى أم موسى لإنقاذ طفلها من الهلاك، وطمأنها بأنه سينقذ ولدها، ولكنه سبحانه لم يأمرها بَعْدُ بتفيذ خطة الإنقاذ. أما مرحلة التنفيذ الفوري لهذه الخطة فتأتي في الآيات التالية: "ولقدْ مَنَنَّا عليكَ مَرّةً أخرى. إذْ أوحينا إلى أُمِّكَ ما يُوحَى. أَنِ اقْذِفيهِ في التابوتِ فاقذفيهِ في اليَمِّ فَلْيُلْقِهِ اليَمُّ بالساحلِ يأخُذْهُ عدوٌّ لي وعدوٌّ لهُ" ( طه: ٣٧-٣٩). ويكاد قارئ هذه الآيات يحس بما أحست به أم موسى من ضرورة الإسراع في تنفيذ الأمرالإلهي وذلك من تتابع الفاءات وتوالي الأوامر القصيرة.
تمتثل أم موسى لأمر الله تعالى فورا فتضع ابنها في صندوق ثم تلقي به في نهر النيل وتطلب من ابنتها أن تراقبه عن بُعْد دون أن يحس بوجودها أحد: "وقالتْ لأختهِ قُصِّيهِ فبَصُرَتْ بهِ عن جُنُبٍ وهُمْ لا يشعرون" (القصص: ١٢). وترجع البنت إلى أمها فتحدثها بما رأت: "فالتقطهُ آلُ فرعونَ لِيكونَ لهمْ عدوًّا وحَزَنًا. وقالتِ امرأةُ فرعونَ قُرَّتُ عينٍ لي ولكَ لا تقتلوهُ عسى أنْ ينفعَنا أو نتّخذَهُ وَلَدًا" ( القصص: ٨-٩)، فيطير عقلها من فرط الفزع والغم حين سمعت بوقوع طفلها في يد فرعون وتحدثها نفسها أن تسرع إلى قصر فرعون وتعترف بأنه ولدها لولا أن الله صَبَّرَها وثبَّتَها على الإيمان بصدق وعده بتخليص ابنها من الموت: "وأصبحَ فؤادُ أمِّ موسى فارغاً إن ْكادتْ لَتُبْدي بهِ لولا أنْ رَبَطْنا على قلبِها لتكونَ منَ المؤمنين" ( القصص: ١٠).
ويلقي الله تعالى محبته على هذا الطفل ويتعهده بالرعاية والعناية: "وألقيتُ عليكَ محبَّةً مني ولِتُصْنَعَ على عيني" ( طه: ٣٩)، فتأنس به زوجةُ فرعون وتحبه وتنجح في إقناع زوجها لا بالإبقاء على حياته فحسب، بل وبتَبَنِّيه أيضا. ولكن الله تعالى وعد أم موسى برد الرضيع إليها، فصار الطفل لا يقبل ثدي أي امرأة غير ثدي أمه: "وحَرَّمْنا عليهِ المَراضِعَ من قبلُ" ( القصص: ١٢). ويحار فرعون وزوجته ومن في القصر في حل هذه المعضلة فتعلم أخته بذلك وتدلهم على بيت أمها وهم لا يعرفون أن هذه المرأة هي أم الرضيع: "إذْ تمشي أختُكَ فتقولُ هلْ أدُلُّكُمْ على من يكفَلُهُ فرجعناكَ إلى أُمِّكَ كيْ تَقَرَّ عينُها ولا تحزن" (طه: ٤٠) و "لِتَعْلَمَ أنَّ وعدَ اللهِ حقٌّ ولكنَّ أكثرَهُمْ لا يَعْلَمون" ( القصص: ١٣).
ولنا أن نتصور عِظَمَ فرحة الأم بعودة ابنها إليها بعدما ظنت أنه سيكون في عداد الهالكين.
ولا بد أن الأم أرجعت ابنها بعد انقضاء فترة الرضاعة إلى القصر ليتربى هناك في كنف فرعون وزوجته كما يفهم من قول فرعون لموسى: " قالَ ألمْ نُرَبِّكَ فِينا وليدًا ولبثتَ فينا مِنْ عُمُرِكَ سِنين" (الشعراء: ١٨).
إلى هنا ينتهي بنا الحديثُ عن طفولة موسى عليه السلام وتخليصه من براثن الموت وتعهُّدِ الله له بالرعاية حتى يكبر ويبعثه رسولًا إلى فرعون ومَلَئِه لتخليص بني إسرائيل من الظلم والقهر وذُلّ العبودية في مصر الفرعونية.
٥. الفرق بين كلمتي " مَثْوَى" و"مَأْوَى" في السياق القرآني
كثُرَ الجدل والخِلاف في الآونة الأخيرة على شبكات التواصل الاجتماعي حول الفرق بين هذين اللفظين. وقبل إبداءِ الرأي في هذه المسألة الشائكة يحسُنُ بنا أن نرجعَ إلى كتاب الله لتحديد السياق الذي وردَ فيه هذانِ اللفظان.
ذُكِرتْ كلمة " مَثْوَى" في القرآن الكريم ١٣ مَرّةً منها ٨ مرّات ٍ في سياق الحديث عن جهنم أو النار، ومنها ٣ مرّات من غير إشارة إليهما. وهذه الآيات الثلاث هي: "وقالَ الذي اشتراهُ مِنْ مِصْرَ أَكْرِمي مَثْواهُ" (يوسف: ٢١)؛ "قالَ معاذَ اللهِ إنّهُ رَبّي أحْسَنَ مَثْواي" (يوسف: ٢٣)؛ "واللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ ومَثْواكُمْ" (محمد: ١٩). وجديرٌ بالذِّكرِ أنّ كلمة "مثوى" لم تَرِدْ ولو مَرّةً واحدةً في القرآن الكريم عند الحديث عن أصحاب الجنة.
أمّا كلمة " مَأْوَى" فذُكِرتْ في كتاب الله ٢٢ مَرّةً منها ٣ مرّات فيما يتعلق بالجنة و١٩ مرة فيما يتعلق بجهنّم أو الجحيم أو النار.
وبِناءً على ما تقدَّمَ يَرَى بعضُهم أنّ من الخطأ أن يُقال: "سَيُشيَّعُ جُثمانُ الفقيدِ إلى مَثواهُ الأخير" وأنْ يُدْعَى للميت بأنْ يكونَ مثواهُ الجنّة. وعِندَهم أنّ ثَواءَ الكافرين في نار جهنّم ينفي حركتَهم وتنقُّلَهم خِلافًا لما عليه حالُ المؤمنين في الجنّة.
وردًّا على هذه المزاعم نقول:
١- يجب ألّا يغيب عن الأذهان أنّ القرآنَ الكريم ليس معجمًا لغويًا يستوعبُ جميعَ مفردات اللغة العربية ودلالاتها واستعمالاتها الصحيحة.
٢- المَثْوَى لُغةً هُوَ مصدرٌ ميمي بمعنى الثَّواء (أي الإقامة) أو هُوَ إسم مكان بمعنى المُقام. والمثوى قد يكون حسنًا وقد يكون سيئًا. وعدم استعمال القرآن الكريم لكلمة "مثوى" عند الإشارة إلى أهل الجنّةَ لا ينفي صِحّةَ استعمالها ولا يُغيِّرُ شيئًا من مدلولها اللغوي.
٣- تقول معاجمُ اللغة : ثَوَى يَثْوي ثَواءً وثُوِيًّا بالمكان وفي المكان أقامَ فيه واستقرَّ. يقول الحارث بن حِلِّزة في مطلع مُعلَّقته:
آذَنَتْنا بِبَيْنِها أسماءُ
رُبَّ ثاوٍ لا يُمَلُّ منهُ الثَّواءُ
ويقول أبو تمّام:
ثَوَى في الثَّرَى مَنْ كانَ يَحْيا بهِ الثَّرَى
ويَغْمُرُ صَرْفَ الدهرِ نائِلُهُ الغَمْرُ
فالثّواء يُستعمل للحيّ وللميّت.
٤- مَنْ قالَ إنّ الثواء بالمكان يعني الإقامة فيه من غير تَحرُّك ولا تنقُّل؟ وإذا كان الأمرُ كذلك فكيف إذًا نفهم قولَهُ تعالَى مخاطبًا رسولَهُ الخاتم: "وما كنتَ ثاويًا في أهلِ مَدْينَ تَتْلو عليهِمْ آياتِنا ولكِنّا كُنّا مُرْسِلين" (القَصَص: ٤٥)؟ فالمنطقُ يقضي بأنّ تبليغ الرسالة يستلزمُ تَحرُّكَ الرسول وتنقُّلَهُ للتحدث إلى النّاسِ ومُحاورتهم ومحاولة إقناعهم بِصِدْق رسالته وبَيانِ مضمونها.
٥- استعملت في القرآن الكريم كلمة "مأوَى" في سياق الحديث عن الجنّة والنار على السواء، وليس من معاني الإيواء التنقُّل والحركة، بل العكس هُوَ الصحيح. والدليلُ على ذلك قولُهُ تعالَى: "إذْ أَوَى الفتيةُ إلى الكهفِ" (الكهف: ١٠)، وهل في الكهف حركة وتنقُّل؟ وقولُهُ تعالَى: "قال سَآوِي إلى جَبَل ٍ يَعْصِمُني مِنَ الماء" (هود: ٤٣). فالإيواء إذًا هُوَ الالتجاء إلى الشخص أو الشيء والاحتماءُ به، ولا علاقةَ له بالحركة والتنقُّل.
٦- التنقُّلُ والتحرُّك في النار ثابت بنص قرآنيّ قطعيّ الدلالة: "هذهِ جهنمُ التي يُكذِّبُ بها المُجْرِمونَ يطوفونَ بينَها وبينَ حَميمٍ آن ٍ" (الرحمن: ٤٣-٤٤).
٧- نقلَ ابنُ كثير في تفسيره للآية: "واللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ ومَثْواكُمْ" قولَ ابن عبّاس الملقَّب بتُرْجُمان القرآن وحَبْر الأُمَّة بأنها تعنى تقلُّبَ النّاسِ في الدنيا ومَثْواهم في الآخِرة إنْ كان في الجنّةِ أو في النار.
وخُلاصةُ القول في هذه المسألة أنّ لَفْظَ "المثوى" يصحُّ إطلاقُهُ على الإقامة في أي مكانٍ
طَيِّبًا كانَ أو سيِّئًا وأنّ الثواء لا ينفي الحركة والتنقّلَ فيه. ولا أرَى وجهًا للاعتراض على الدعاء للميت بأنْ يجعلَ اللهُ الجنّةَ مثواه أي مَنْزِلَهُ ومُستَقَرَّهُ.
وأخيرًا، فليس المُرادُ بعبارة "مثواهُ الأخير" أنْ لا حياةَ بعد الموت، وإنَّما يُرادُ بها آخرُ عَهْدِ الميت بعالَم الشهادة وأوّلُ عهده بعالَم البرزخ.
٦. الفروق بين القرآن الكريم والأحاديث القدسية
الحديث القدسي عند جمهور العلماء هو كلامٌ وَرَدَ على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن معناه وحيٌ أوحاه الله تعالى إلى نبيّه الكريم. فالحديث القدسي يختلفُ إذاً، من هذه الناحية، عن القرآن الكريم الذي نزلَ بهِ الروح الأمين على قلبِ محمد صلّى الله عليه وسلّم بلفظه ومعناه كليهما. وتحتلُّ الأحاديثُ القدسيّةُ التي ثَبتَتْ صحَّتُها منزلةً متوسطةً بين القرآن الكريم والحديث النبويّ من حيثُ حُجِّيّتها وأهميّتها. أما أهمُّ الفروق الأخرى بين الأحاديث القدسية والقرآن الكريم فبيانُها كالآتي:
١- الأحاديث القدسية ليست مُعْجِزةً في لفظها بِخِلاف القرآنِ الذي تَحدَّى اللهُ فيه الإنسَ والجنّ أن يأتوا بمثله أو بعشر سُوَر أو حتّى بسورة واحدة مِنْ مِثْلِهِ:
" قُلْ لَئنِ اجتمعتِ الإنسُ والجِنُّ على أنْ يأتوا بمِثْلِ هذا القرآنِ لا يأتونَ بمثلهِ ولو كانَ بعضُهُمْ لبعضٍ ظهيرا" (الإسراء: ٨٨).
"أَمْ يقولونَ افْتراهُ قُلْ فأْتُوا بعشر سُوَرٍ مِثْلهِ مُفْتَرياتٍ" (هود: ١٣).
"وإنْ كنتم في رَيبٍ مِمّا نَزّلْنا على عبدِنا فَأْتوا بسُورةٍ مِنْ مِثْلِهِ وادْعوا شُهداءَكمْ من دونِ اللهِ إنْ كنتمْ صادقين" (البقرة: ٢٣).
٢- القرآن الكريم هو كلام الله المنقول بالتواتر القطعيُّ الثبوت. والنصُّ أو الحديث المتواتر هو ما رواه جمعٌ غفيرٌ من الناس لا يُعقَلُ تواطؤهم على الكَذِب. أما الأحاديث القدسية فقد تكون خَبَرَ آحاد. فهي إذاً غير متواترة تَواتُرَ القرآن وهي ظَنِّيَّةُ الثُّبوت وقد تكونُ موضوعةً ويمكنُ أن يطرأ عليها ما يطرأُ على الأحاديث والأخبار من زيادة أو نُقصان.
٣- القرآن مُتَعبَّدٌ بتلاوتهِ في الصلوات المفروضة وفي النوافل ولا تجوزُ الصلاةُ إلّا به. أما الحديث القدسي فغيرُ متعبَّدٍ بتلاوته ولا تصحُّ الصلاةُ به.
٤- القرآن الكريم، كما تقدّمَ، وحيٌ من الله إلى نبيّه الكريم بلفظه ومعناه. والحديث القدسي، على الراجح عند أصحاب الحديث، معناهُ من عند الله ولفظه من عند الرسول. ولذلك يرى جمهور العلماء أنّ رواية الحديث القدسي بالمعنى دون اللفظ جائزة ولا يصحُّ ذلك بخصوص القرآن.
٥- القرآن الكريم لا يُنسَب إلّا إلى الله تعالى. أما الحديث القدسي فقد يُنسبُ إلى الله فيقال: "قال الله تعالى فيما يَرْويه عنه الرسول"، وقد يُنسَبُ إلى رسول الله فيقال: "قال رسولُ اللهِ فيما يَرْويهِ عن ربّه".
٦- القرآن كتاب لا يمسُّه إلّا المُطَهّرون. وأما كُتُب الأحاديث القدسية فيجوز أن يمسها الطاهرُ وغير الطاهر.
٧- تُفْتَتَحُ تلاوةُ القرآن، سواء من أول السورة أو من أثنائها، بالإستعاذة والبسملة عملاً بقوله تعالى: "فإذا قرأتَ القرآنَ فاسْتَعِذ باللهِ منَ الشيطانِ الرّجيم" (النحل: ٩٨). أما في تلاوة الحديث القدسي فلا يُفْتَتَحُ بهما.
٨- القرآن مؤلف من آيات تشكّل بدورها سُوَراً، والأحاديث القدسية ليس فيها آيات أو سُور.
٧. أسماء يوم القيامة وأوصافه في القرآن الكريم
للقيامةِ التي ينخلعُ قلبُ المؤمن، فضلاً عن الفاسق والكافر، من وصف مشاهدها في القرآن الكريم أسماءٌ كثيرة منها:
القارعة، والواقعة، والطامة الكبرى، والغاشية، والزلزلة، والصاخّة، والحاقّة، والآزفة، والساعة.
ومن أسمائها ما يرتبط بكلمة " يوم" نذكر منها، على سبيل المثال، ما يلي:
اليوم الآخر، ويوم البعث، ويوم النشور، ويوم الخروج، ويوم الوعيد، واليوم الموعود، ويوم الوقت المعلوم، ويوم الحشر، ويوم الجمع، ويوم التلاقي، ويوم العَرْض، ويوم الفصل، ويوم الدين، ويوم الحساب، ويوم الجزاء، ويوم الحسرة، ويوم التنادي، ويوم التغابن، ويوم الخلود.
ومن أسمائها أيضا ما يرتبط بما يحدث أو يُرَى يومَ القيامة من مشاهد وأهوال وأحوال:
يومَ تُبَدَّلُ الأرضُ غيرَ الأرضِ والسمواتُ، ويومَ يفِرُّ المرءُ من أخيهِ وأُمِّهِ وأبيهِ وصاحبتهِ وبنيهِ، ويوم تَشْخَصُ فيهِ الأبصارُ، ويومَ لا ينفعُ مالٌ ولا بنونَ، ويوماً يجعلُ الوِلْدانَ شِيباً، ويومٌ لا بيعٌ فيهِ ولا خِلالٌ، ويومَ لا يُغني مولًى عن مولًى شيئاً، ويومَ يقومُ الأَشْهادُ، ويومَ تُبْلَى السّرائرُ، ويومٌ لا مَرَدَّ لهُ من اللهِ، ويوم لا ريبَ فيه.
٨.. تأمّلات في الآية ٢٣ من سورة الزُّمَر
يقول الله تعالى في هذه الآية الكريمة:
"اللهُ نَزّلَ أحسنَ الحديثِ كِتابًا مُتشابِهًا مَثانِيَ تَقْشعرُّ منهُ جلودُ الذينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلينُ جُلودُهمْ وقُلوبُهمْ إلى ذِكْرِ اللهِ ذلكَ هُدَى اللهِ يَهْدي بهِ مَن يشاءُ ومَن يُضْلِلِ اللهُ فَما لهُ مِنْ هادٍ".
أحسنُ الحديث هو كلام الله، وأحسنُ الكتب المنزّلة من كلام الله هو القرآن. وإذا كان كلام الله هو الأحسن فمعنى ذلك أنّ ألفاظَه أفصحُ الألفاظ وأوضحها، وأنّ معانيه أجلُّ المعاني وأعظمها.
و"كِتابًا متشابهًا" أي يُشبهُ بعضُه بعضًا في فصاحته وبلاغته، وفي نَظْمِه وإعجازه، وفي صحة معانيه وأحكامه، وفي صِدْق أخباره، وهداياته وإرشاداته إلى ما فيه سعادة النّاسِ في الدارَيْن.
و"مَثانيَ" أي تُثَنَّى وتُكرَّرُ فيه القِصَص والمواعظ، والأحكام والأمثال، وآياتُ الوعد والوعيد، وآيات الترغيب والترهيب، وصفاتُ الله وأسمائه الحُسْنَى، كما تُكَرَّر قراءتُه وتلاوتُه فلا يُمَلُّ منها ولا يَخْلُقُ على كثرة الرّد، ولا يشبع العلماء من إعادة النظر فيه وتدبّر آياتِهِ ومعانيه. ولفظ مثاني هُوَ جمعُ مَثْنَى. وقد سُمّيت سورة الفاتحة في القرآن الكريم "السَّبْع المَثاني" لأنها تُكرّرُ قراءتُها في كلّ صلاة مفروضة وغَيْر مفروضة.
واقشعرار الجلود كناية عمّا يُحس به المؤمن الصادق من رهبة وخوف شديد عند قراءة أو سماع آيات الترهيب والوعيد لِمَنْ يكفر بالله ويعصي أوامرَه ويُخالفُ أحكامَه. ولِينُ الجلود والقلوب كناية عمّا يشعر به المؤمن من ارتياح وطُمأنينة وسكينة حين يسمع أو يقرأ آيات الرحمة والمغفرة والثواب من الله في الآخِرة.
والخُلاصة أن المؤمنين الصادقين يجمعون عند قراءتهم أو سماعهم للقرآن الكريم بين الخوف والرجاء: الخوف من عذاب الله تعالى وعقابه والطمع في رحمته ومغفرته وثوابه.
٩ . من أسرار البيان القرآني
ورَدتْ كلمة "يسألونكَ" بمعنى يستعلمونكَ أو يستخبرونك في القرآن الكريم متبوعةً بكلمة "قُلْ" ١٤ مَرّةً في ٧ سُوَرٍ من الذِّكر الحكيم كما في قولِهِ تعالى: "يسألونَكَ عنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هيَ مواقيتُ للناسِ والحَجِّ" (البقرة: ١٨٩)؛ "ويسألونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّي وما أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إلّا قَليلا" (الإسراء: ٨٥)؛ "يسألونَكَ عن الشهرِ الحَرامِ قِتالٍ فيهِ قُلْ قِتالٌ فيهِ كبيرٌ " (البقرة: ٢١٧)؛ "يسألونكَ عن الخمرِ والمَيْسِرِ قُلْ فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافعُ للناسِ وإثْمُهُما أكبرُ مِنْ نفعِهِما" (البقرة: ٢١٩)؛ "ويسألونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ هوَ أَذًى فاعْتَزِلوا النساءَ في المَحيضِ" (البقرة: ٢٢٢)؛ "يسألونَكَ عنِ الساعةِ أَيّانَ مُرْساها قُلْ إنّما عِلْمُها عند ربّي" (الأعراف: ١٨٧).
ووردت مَرّةً واحدة غيرَ متبوعةٍ بكلمة "قُلْ" وذلك في قولِهِ تعالَى: "يَسْألونكَ عن الساعةِ أيّانَ مُرْساها فِيمَ أنتَ مِنْ ذِكْراها إلى رَبِّكَ مُنْتَهاها" (النازعات: ٤٢-٤٤). ووردت كلمة "يَسْألُك" متبوعةً بكلمة " قُل" في موضع واحد هُوَ: "يسألُكَ الناسُ عَنِ الساعةِ قُلْ إنّما عِلْمُها عندَ اللهِ" (الأحزاب: ٦٣).
أمّا الآية الوحيدة في القرآن الكريم التي وَرَدتْ فيها عبارة " وإذا سأَلَكَ" غَيْرَ متبوعةٍ بكلمة "قُلْ" أو " فَقُلْ" فهي الآية ١٨٦ من سورة البقرة: "وإذا سَأَلَكَ عِبادي عَنّي فإنِّي قَريبٌ أُجيبُ دَعْوَةَ الدّاعي إذا دَعاني". تُرَى ما السرُّ في عدم مَجيءِ كلمة "فقُلْ" في جواب الشرط في هذه الآية دُونَ سائر الآيات الآنفة الذكر؟ والإجابة على هذا السؤال، والله أعلمُ بِمُراده، أنّ الله تعالَى أراد أنْ يُنبّهَ عِبادَهُ إلى شدّة قُرْبِه منهم فتولّى بذاته العليّة مُهِمّةَ الإجابة عن السؤال بدلًا من أنْ يَكِلَها إلى وسيطٍ، وناهيكَ بِهِ مِن وسيطٍ، كالنبيّ محمّد صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليه. فسُبحانَ الذي خَلَقَ الإنسان وعَلَّمَهُ البيان.
١٠ . المدلول اللغوي لمادة "الوحي" في القرآن الكريم
حِينَ أطلقَ القرآنُ الكريمُ لَفْظَ "الوَحْي" على إعِلامِ اللهِ الخَفِيّ لِمَنِ اصْطَفَى من الأنبياءِ والرُّسُلِ لمْ يبتعدْ عن المدلول اللغوي الأصلي لهذا اللفظ. فالوحيُ في اللغة لهُ مَعانٍ ومدلولاتٌ عِدّة منها:
١-الإلهام الفِطْريّ للإنسان، كما في قولِه تعالَى: "وأوْحَيْنا إلى أمِّ موسى أنْ أَرْضِعيهِ فإذا خِفْتِ عليهِ فَأَلْقيهِ في اليَمِّ ولا تخافي ولا تَحْزَني إنّا رادُّوهُ إليكِ وجاعِلوهُ مِنَ المُرْسَلين" (القَصَص: ٧)؛ وقولِهِ: "ولقدْ مَنَنَّا عليكَ مَرَّةً أخْرَى إذْ أوْحَيْنا إلى أُمِّكَ ما يُوحَى أنِ اقْذِفيهِ في التابوتِ فَاقْذِفِيهِ في اليَمِّ فَلْيُلْقِهِ اليمُّ بالساحِلِ" (طه: ٣٧-٣٩)؛ وقولِه: "وإذْ أوحيتُ إلى الحَواريّينَ أنْ آمِنوا بي وبِرسولي" (المائدة: ١١١).
٢-الإلهام الغريزيّ للحيوان كالذي في قولِه تعالَى: "وأوْحَى ربُّكَ إلى النَّحْلِ أنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبالِ بيوتًا ومِنَ الشَّجَرِ ومِمّا يَعْرِشُون" (النحل: ٦٨).
٣-الإشارة الخاطفة كما في قولِهِ تعالى: "فَخَرَجَ على قَوْمِهِ مِنَ المِحْرابِ فأوْحَى إليهِمْ أنْ سَبِّحوا بُكْرَةً وعَشِيًّا" (مريم: ١١). ومعنى هذه الآية أنّ زكريّا عليه السلام أشارَ إليهِمْ إشارةً سريعة ولم يكلِّمْهم كما يتّضح من الآية التالية: "قالَ ربّي اجْعَلْ لي آيةً قالَ آيتُكَ ألّا تُكلِّمَ الناسَ ثلاثةَ أيّامٍ إلّا رَمْزًا" (آل عِمْران: ٤١)، أي بالإشارة فقط.
٤-الإيماء بالعين أو الحاجب أو الرأس. ومنه قول القاضي الفاضل:
نظرتُ إليها نَظْرةً فَتَحَيَّرَتْ
دقائقُ فِكْري في بَدِيعِ صِفاتِها
فأوْحَى إليها الطَّرْفُ أنّي أُحِبُّها
فأَثَّرَ ذاكَ الوَحْيُ في وَجَناتِها
٥-وَساوِسُ إبليس وشياطين الإنس والجِنّ وتَزْيينُهُم خواطرَ الشرّ للإنسان كما في قولِه تعالَى: "وكذلكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شياطينَ الإنْسِ والجِنِّ يُوحِي بعضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القولِ غُرورا" (الأنعام: ١١٢)؛ وقولِهِ: "وإنّ الشياطينَ لَيُوحُونَ إلى أوْليائِهِمْ لِيُجادِلوكُمْ" (الأنعام: ١٢١).
وقد أشارَ القرآن الكريم في آية واحدة إلى أنّ الوحيَ الذي يُلْقَى إلى أصْفياءِ الله من النبيّين والرُسُل قد يتخذُّ إحْدَى صُوَرٍ ثلاثٍ: الأولى نَفْثُ المعنى في رُوعِ النبيّ فَيَعِي ويحفظُ ما يُلْقَى في قلبه، والثانية تكليم اللهُ لأحد أنبيائه دُونَ أن يُرَى كما كَلّمَ اللهُ موسى وناداهُ على جبل سيناء، والثالثة أن يُلقي مَلَكُ الوَحْي جبريل إلى نبيّ من الأنبياء ما كُلِّفَ إلقاءَهُ إليه. وقد ينزلُ جبريل إمّا في صورته المَلَكيّة وإمّا في صورة بشريّة. يقول الله تعالَى عن صُوَرِ الوحي الثلاث هذه: "وما كانَ لِبَشَرٍ أنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إلّا وَحْيًا، أو مِنْ وراءِ حِجابٍ، أو يُرسلَ رسولًا فَيُوحِيَ بإذنِهِ ما يشاءُ إنّهُ عليٌّ حَكيم" (الشُّورَى: ٥١).
هذه هي المعاني التي تدور حولها مادةُ " الوحي" في اللغة العربية وفي لغة القرآن الكريم.
١١ . "أَعْيُن" و"عُيون" في السياق القرآني
وَرَدتْ كلمة "أعْيُن" مع الضمائر المتصلة بها في ٢٢ موضعًا من القرآن الكريم وفي كُلِّها جَمعًا لعضو الإبصار "عَيْن". ومن الأمثلة على ورودها بهذا المعنى قولُهُ تعالى: "لهمْ قلوبٌ لا يَفْقهونَ بها ولهمْ أعيُنٌ لا يُبْصرونَ بها ولَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعونَ بها" (الأعراف: ١٧٩)؛ "يَعْلَمُ خائِنةَ الأعيُنِ وما تُخْفي الصُّدور" (غافر: ١٩)؛ "تَرَى أعيُنَهُمْ تَفيضُ مِنَ الدَّمعِ مِمّا عَرَفوا مِنَ الحقِّ" (المائدة: ٨٣)؛ "ذلكَ أَدْنَى أنْ تَقَرَّ أعيُنُهُنَّ" (الأحزاب: ٥١)؛ "واصْبِرْ لحُكْمِ رَبِّكَ فإنَّكَ بِأَعْيُنِنا"(الطور: ٤٨).
أمّا كلمة "عيون" فقد وَرَدتْ في ١٠ آيات من كتاب الله وفي كُلِّها جَمْعًا لعَيْن الماء. ومن الأمثلة على مَجيئها في القرآن الكريم بهذا المعنى: "إنّ المتّقينَ في جنّاتٍ وعُيون" (الحِجْر: ٤٥)؛ "وفَجَّرْنا الأرضَ عُيونًا فالْتَقَى الماءُ على أمْرٍ قَدْ قُدِر" (القمر:١٢)؛ "وجَعَلْنا فيها جَنّاتٍ مِنْ نخيلٍ وأعنابٍ وفجَّرْنا فيها مِنَ العُيون" (يس: ٣٤).
ومن الغريب أننا لا نجد هذه التفرقة بين هذين الجمعين لكلمة "عَيْن" في لغة العرب ولا في دوواين الشِّعر العربي منذ العصر الجاهلي وحتى يومنا هذا. فقد دَرجَ العرب على استعمال جمع القلة "أعيُنُ" وجمع الكثرة "عيون" في المعنيين كليهما. فهذا امرؤُ القيس يقول:
كأنَّ عيونَ الوحشِ حولَ خِبائنا
وأرْحُلِنا الجَزْعُ الذي لم يُثَقَّبِ
(الجَزْع هُوَ خَرَزٌ فيه سواد وبياض تُشَبًَّهُ به العيون).
ويقول الإمام الشافعي:
سَهِرتْ أعيُنٌ ونامتْ عيونُ
في أُمورٍ تكونُ أو لا تكونُ
ويقولُ الشاعر العباسي عليّ بن الجَهْم:
عيونُ المَها بينَ الرُّصافةِ والجِسْرِ
جَلَبْنَ الهَوَى مِنْ حيثُ أدري ولا أدري
فما السرُّ إذًا في اقتصار القرآن الكريم على استعمال "عيون" بمعنى ينابيع الماء و"أعْيُن" لعضو الإبصار؟ لا بُدّ لنا من طرح سؤال كهذا لأنّ القرآن كلامُ اللهِ وكلامُهُ عَزَّ وجَلَّ لا يُقالُ عبثًا ولا يُلْقَى جُزافًا. ولكنني للأسف لم أعثُر في كلّ ما قرأتُ من تفاسيرَ ومراجعَ لغوية على جوابٍ مُقْنِع وشافٍ عن هذا السؤال.
١٢ . لماذا تُكتبُ "امْرأة" بالتاء المربوطة حينًا وبالتاء المفتوحة
"امْرأَت" حينًا آخرَ في القرآن الكريم؟
وَرَدتْ كلمةُ "امْرأة" (بالتاء المربوطة) في أربعة مواضعَ من القرآن الكريم وهي:
١- "وإنِ امْرأةٌ خافتْ مِنْ بَعْلِها نُشوزًا أوْ إعراضًا فلا جُناحَ عليهما أنْ يُصْلِحا بَيْنَهما صُلْحًا والصلحُ خيرٌ" (النساء: ١٢٨).
٢- "وإنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أوِ امْرأةٌ ولهُ أخٌ أو أُختٌ فَلِكُلّ واحِدٍ منهما السُّدُسُ" (النساء: ١٢).
٣- "إنّي وجدتُ امْرأَةً تَمْلِكُهُمْ وأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شيءٍ ولَها عَرْشٌ عظيمٌ" (النمل:٢٣).
٤- "وامْرأةً مُؤْمنةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَها للنبيِّ" (الأحزاب: ٥٠).
أمّا كلمة "امْرَأَت" (بالتاء المفتوحة) فقد جاءت في ستِّ آياتٍ من القرآن الكريم هي:
١- "إذْ قالتِ امْرأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إنّي نَذرتُ لكَ ما في بطني مُحَرَّرًا فَتقَبَّلْ مِنّي إنّكَ أنتَ السميعُ العليمُ" (آل عِمْران: ٣٥).
٢- "وقالَ نِسْوَةٌ في المدينةِ امْرأَتُ العزيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إنّا لَنَراها في ضَلالٍ مُبِينٍ" (يوسف: ٣٠).
٣- "قالتِ امْرأَتُ العزيزِ الآنَ حَصْحَصَ الحقُّ أنا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ" (يوسف: ٥١).
٤- "وقالتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لي ولكَ لا تَقْتُلوهُ عَسَى أنْ يَنفَعَنا أوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا" (القَصَص: ٩).
٥- "ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلّذينَ كَفَروا امْرأتَ نُوحٍ وامْرأتَ لوطٍ كانتا تحتَ عَبْديْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانتاهُما" (التحريم: ١٠).
٦- "وضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلّذين آمنوا امْرأتَ فِرْعَوْنَ" (التحريم: ١١).
الذي يقرأ هذه الآيات بتمعُّن يُلاحظُ أن كلمة "امرأة" تُكتبُ بالتاء المربوطة إذا كانت نكرةً لا تَدُلُّ على امرأة بعينها، وتُكتبُ "امْرأَت" بالتاء المفتوحة إذا كانت مُعَرَّفةً بالإضافة ودلَّت على امرأة بعينها، نحوَ: امْرأَتُ عِمْرانَ، وامرأتُ العزيزِ، وامرأتُ فرعونَ، وامرأتُ نُوحٍ، وامْرأتُ لوطٍ. وليس هناك بالطبع أيُّ فَرْق ٍ بين اللفظين في المعنى أو المدلول اللغوي.
ويُلاحَظُ أيضًا في الآية ٩ من سورة القَصَص أن كلمة "قُرَّة" كُتِبتْ بالتاء المفتوحة "قُرَّتُ" لكونها مُضافةً إلى كلمة "عين". ولعلَّ السببَ في ذلك - وهذا اجتهادٌ شخصي واللهُ أعلمُ بِمُراده - أنّه لمّا كانت قُرَّةُ العين تعني المَسَرَّةَ وشُيوعَ البهجة في النفس وانفراجَ أسارير الوجه ناسبَ أنْ تُكتَبَ الكلمة بتاءٍ مفتوحة انسجامًا مع هذه الدلالة اللغوية للعبارة، لا بتاءٍ مربوطة تُوحي بالانطواء على النَّفْس وانقباض الصدر.
١٣ . سبب تقديم السمع على البصر في القرآن الكريم
قَرَنَ اللهُ تعالى في كتابه العزيز بين لَفْظَي "السمع" و"البصر" ومشتقاتهما في ٣٨ آية من الذِّكْرِ الحكيم ولم يَسْبِقِ البصرُ السمعَ في الترتيب إلّا في آية واحدة لا غير. كذلكَ اقترنت كلمةُ "الصّمَم" ومشتقاته بكلمة "العَمَى" ومشتقاته في ٨ آيات من القرآن الكريم تقدمتْ في معظمها كلمةُ "الصَّمَم" على كلمة "العَمَى". من ذلك، على سبيل المثال، قولُهُ تعالى: "صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلون" (البقرة: ١٧١)؛ "أفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أوْ تَهْدي العُمْيَ ومَنْ كانَ في ضَلالٍ مُبين" (الزخرف: ٤٠)؛ "والذينَ إذا ذُكِّروا بِآياتِ رَبِّهِمْ لمْ يَخِرُّوا عليها صُمًّا وعُمْيانًا" (الفُرْقان: ٧٣)؛ "أُولئكَ الذينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فأصَمَّهُمْ وأعْمَى أبصارَهُمْ "(محمّد: ٢٣).
أمّا الآية الوحيدة التي سبَقَ فيها الإبصار ُ السمعَ فهي الآية ١٢ من سورة السجدة وفيها يقول المَوْلَى عزّ وجلّ: "ولَوْ تَرَى إذِ المُحْرِمونَ ناكِسواْ رؤوسهِمْ عندَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعَمَلْ صالِحًا إنّا مُوقِنون". والسبب في ذلك أنّ الآية تُصوِّرُ مشهدًا من مشاهدِ يوم القيامة يَرَى فيه الكفرةُ ومُنْكِرو البعث بأمّ أعيُنِهم وببصرٍ ثاقب واقِعًا جديدًا وحقيقةً أُخرَى طالما أنكروا وجودَها :"ونُفِخَ في الصُّورِ ذلكَ يومُ الوعيد وجاءتْ كُلُّ نَفْسٍ معها سائقٌ وشهيد لقدْ كنتَ في غَفْلةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عنكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ اليومَ حَدِيد" (ق: ٢٠-٢٢)، فناسبَ أن يتقدمَ الإبصار على السماع استثناءً في هذه الحالة بالتحديد.
ومن اللافت للنظر أنّ جميع الآيات في القرآن التي تطرقت لخلق الإنسان ونشأته تقدّمَ فيها ذِكْرُ السمع على البصر. ومن هذه الآيات قولُهُ تعالَى:
"واللهُ أخرجَكُمْ مِنْ بُطونِ أمّهاتِكُمْ لا تَعْلَمونَ شيئًا وجعلَ لكمُ السَّمْعَ والأبصارَ والأفئدةَ لعلّكُمْ تَشْكُرون" (النحل: ٧٨)؛ "وهوَ الذي أنشأَ لكمُ السَّمْعَ والأبصارَ والأفئدةَ قليلًا ما تَشْكُرون" (المؤمنون: ٧٨)؛ "وجعلنا لَهُمْ سَمْعًا وأبصارًا وأَفْئِدةً " (الأحقاف: ٢٦)؛ "إنّا خَلَقْنا الإنسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أمْشاجٍ نَبْتَليهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعًا بَصيرًا" (الإنسان: ٢).
وحتّى في الآيات التي لا تُشير إلى خَلْق الإنسان ونشأته تقدَّمَ ذِكْرُ السمع على البصر بشكل مُطّرِد كما في قولِهِ تعالى: "إنّ السمعَ والبصرَ والفؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عنهُ مسئولا" (الإسراء: ٣٦)؛ "قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السماءِ والأرضِ أَمَّنْ يَمِلِكُ السَّمْعَ والأبصارَ" (يونُس: ٣١)؛ "قُلْ أَرأَيْتُمْ إنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وأبصارَكُمْ وخَتَمَ على قُلوبِكُمْ مَنْ إلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتيكُمْ بهِ" (الأنعام: ٤٦)؛ "ولَوْ شاءَ اللهُ لذَهبَ بِسَمْعِهِمْ وأَبْصارِهِم" (البقرة: ٢٠)؛ "يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ ولا يُبْصِرُ ولا يُغْني عنكَ شيئًا" (مريم: ٤٢)؛ "أسْمِعْ بِهِمْ وأَبْصِرْ يومَ يَأْتونَنا لكنِ الظالمونَ اليومَ في ضَلالٍ مُبِين" (مريم: ٣٨). ومِمّا يستوقفُ النظرَ في هذا السياق أيضًا أنّ الله تعالى حِينَ أراد التنويهَ بأهميّة بعض الحواسّ في تَلقّي الكلام وفَهْمِه خَصَّ بالذكر السمعَ وجهازَهُ ولمْ يأتِ على ذِكْرِ البصر في مِثْلِ قولِه تعالى: "وجَعَلْنا على قُلوبِهِمْ أَكِنَّةً أن يَفْقَهوهُ وفي آذانِهِمْ وَقْرًا" (الإسراء: ٤٦، والأنعام: ٢٥، والكهف: ٥٧)؛ و"إنّا لَمَّا طَغَا الماءُ حَمَلْناكُمْ في الجارِية لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرةً وتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَة" (الحاقّة: ١١ و١٢).
ويَتَّضحُ مِمّا سَلَفَ أنّ تقديم السمع على البصر باطّراد في القرآن الكريم لمْ يأتِ عَبَثًا وأنّه ليس من باب الصُّدفة، وإنّما هُوَ مقصود لإقامةِ الدليل على صِدْقِ نُبوّة محمّد صلّى الله عليه وسلّم وعلى أنّ القرآن وحيٌ أوحاهُ اللهُ إليه. تُرَى، ما الأسباب التي دعت إلى تقديم السمع على البصر في القرآن الكريم؟
تؤكّد الأبحاث الأخيرة في عِلْمِ الأجِنّة أنّ الجهاز السمعي للجنين يتكوّن قبلَ جِهازه البصري ويتطوّر ويتكامل نموُّه حتّى يبلغَ حجمُه في الشهر الخامس الحجمَ الطبيعي له عند البالغين. ومن المعروف أنّ الجنين يبدأ وهو في بطن أُمّه بسماع الأصوات، وبالذات صوتَ دقّات قلب أُمّه وكذلك بعض الأصوات من خارج الرَّحِم، وهو في الشهر الخامس من حياته الجنينيّة، ولكنهّ لا يُبْصرُ النور ولا يُميّز الألوان والأشكال والصّور إلّا بعد ولادته بعدة أسابيع أو حتّى أشهر. ومن الثابت أيضاً أنّ لوظيفة السمع في الطفولة المبكرة أهمية خاصة في التعلُّم وتلقّي المعلومات والنمو الفكري. ولذلك يستطيع الطفل الذي يولد أعمى أن يتعلّم ويتطوّر وينبغ في مجالات عديدة. أمّا الطفل الذي حُرِمَ من حاسّة السمع أو فَقدَها عند ولادته فيكون في العادة أبكمَ أيضا، الأمر الذي يُعيق أو يُعطّل على نحو خطير عملية التعلُّم والتطور والنماء الذهني عندَهُ.
فسبحان الذي يعلم من خلق وهو السميع البصير.
١٤. معنى "علم اليقين" و "عين اليقين" و "حقّ اليقين"
يقول اللهُ تعالى في الآيات ٥-٧ من سورة التكاثُر: "كَلّا لوْ تعلمونَ عِلْمَ اليَقِين لَتَرَوُنَّ الجَحِيم ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ اليقين". ويقول في الآيات ٩٢-٩٥ من سورة الواقعة: "وأمّا إنْ كانَ مِنَ المُكذِّبينَ الضّالِّين فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيم وتَصْلِيَةُ جَحيم إنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ اليقين"؛ ويقول في الآيات ٤٩-٥١ من سورة الحاقّة: "وإنّا لَنَعْلَمُ أَنَّ منكُمْ مُكَذِّبين وإنَّهُ لَحَسْرَةٌ على الكافرين وإنّهُ لَحَقُّ اليقين".
هذه هي المواضع التي وَرَدتْ فيها العباراتُ الثلاثُ مدارُ البحث. ويحسُنُ بنا قبل الخوض في هذه المسألة تعريف كلمة "اليقين". فاليقين في اللغة هو العلمُ المستقرُّ في القلب الذي لا يتغير ولا يتطرّقُ إليه أدنَى شكّ. ولذلك، سَمَّى اللهُ تعالَى الموتَ يقينًا لأنّ أحدًا من الأحياء لا يشكُّ مُطلقًا في حَتْفِهِ المحتوم، فقال مخاطِبًا نبيَّه الكريم: "واعْبُدْ رَبَّكَ حتّى يأتِيَكَ اليقين" (الحِجْر: ٩٩). ووردتْ كلمة "يقين" في القرآن الكريم كصفة على لسان الهدهد مخاطبًا سليمان عليه السلام: "أحطتُ بِما لم تُحِطْ بِهِ وجئتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبأٍ يقين" ( النمل: ٢٢)، أي بخبر مؤكَّد وثابت لا شَكَّ في صِحّته.
أمّا الفرقُ بين الأنواع الثلاثة من العلم فبيانُهُ كالتالي:
عِلْمُ اليقين هُوَ العِلْمُ بالشيء من مصدر ثقة لا تشكُّ في صِدْقِه أو معلوماته أو كفاءته أو خبرته في مجال من المجالات، وهذا هُوَ أدنَى مراتب العِلْم، يليه عينُ اليقين وهو معاينةُ ما أُخبرتَ به ورؤيتُهُ رأيَ العين. وأمّا حقُّ اليقين فهو أعلى مراتب العِلْمِ لأنّه يقوم على التجربة الشخصية المباشرة للشيء أو للحدث المعني. ولتوضيح الفرق بين هذه الأشكال الثلاثة للعلم ضربَ الإمام ابن القيّم الجوزيّة المثال التالي:
إذا أخبرَكَ مَنْ لا تشكُّ في صدقه أنّ عندَهُ عسلًا فعلمُك بوجود العسل عندَهُ هُوَ عِلْمُ اليقين، ثُمّ إذا زرتَه في بيته ورأيتَ العسل بأُمِّ عينَيْك فعلمُكَ هذا هُوَ عينُ اليقين، فإذا أذاقَكَ شيئًا من عسله صار عِلمُك حقّ اليقين.
ولنضربْ مثالًا آخرَ: عِلْمُ المؤمنين بوجود الجنّة عِلْمُ يقين نابع من ثقتهم بكلام الله في كِتابه العزيز، ورؤيتُهم لها في الآخرة قبل دخولها هُوَ عينُ اليقين، ودخولُهم الجنّةَ والتمتُّعُ بنعيمها هُوَ حقُّ اليقين.
١٥ . الكون والخلق من العدم
اللهُ جلّ جلالُهُ يخلُق ما يشاءُ من العَدمِ، وعلى غير مثال سابق، بِمُجرَّد الإرادة يقول للشيء كُنْ فيكونُ هكذا بلا مُقدّمات ولا مُسْتلزمات وبلا مَشَقّةٍ ولا عناء. يقول الله تعالى: "ولقدْ خلقْنا السماواتِ والأرضَ وما بينَهما في ستةِ أيامٍ وما مَسّنا من لُغُوب" ( ق: ٣٨). ويقول في موضع آخر: "ما خلقُكمْ ولا بَعْثُكُمْ إلّا كنفسٍ واحدةٍ" ( لقمان: ٢٨).
الكونُ الذي خلقَه الله منذ ما يزيد على ١٧ مليار سنة، بحسب أحدث تقدير لعلماء الفيزياء الفلكية، برزَ إلى الوجود من العدم بكلمة "كُن" فكان كما شاء اللهُ له أن يكون بقوانينه ونواميسه المعروفة، ولا يزال يتمدد منذ لحظة الخلق الأولى بسُرَع تفوق الخيال. يقول ألبيرت آينشتاين، أبرز علماء الفيزياء الفلكية في كل العصور وصاحب نظرية النسبية، إنَ أكبر عقول علماء الفيزياء الفلكية عاجزة عن فهم حقيقة الكون وعن تخيُّل أبعاده وحجمه واتساعه.
وإذا كان كبار علماء الفلك والفيزياء الفلكية عاجزين عن فهم الكون وسَبْرِ أغواره والكشف عن جميع أسراره فكيف لنا أن نفهم الخالق الذي لا أوَّلَ له ولا آخر ولا يحدُّهُ زمان ولا مكان لأنه خارج حدود الزمان والمكان.
يتضاءَلُ الإنسانُ ويتصاغرُ أمام هذا الخالق الذي ليسَ كَمِثْلِهِ شيءٌ، وأمام قدرته العجيبة على الخلق والإيجاد من العدم، وأمام هذا الكون المادي الذي لا يُحيطُ بأبعاده حتى الخيال.
فمَن يَزعمُ أنّه يفهم الله ويملكُ الحقيقة المُطلقة في أمور الدين والآخرة فَلْيَأتنا بدليل واحد على صحة زَعْمه.
١٦ . لطيفة قرآنية
لماذا جِيء في الآية ٧٣ من سورة ص بتأكيدينِ (كُلُّهُمْ أجْمَعونَ) وكانَ يكفي أن يُقال " كُلُّهُمْ"؟
قالَ بعضُ كِبار المفسرين واللغويين إنّه لو اجْتُزِئ في الآية بلفظ " كلّهم" لَكان مِنَ المحتمل أن يُظَنَّ أنّ سجودَ الملائكة ربّما لم يحدثْ في آنٍ واحد، فأُضيفَ لفظُ "أجمعون" دلالةً على أنّ السجودَ لآدم كان مِنَ الملائكة كلهم مجتمعين في وقت واحد.
١٧ . الفرق بين "الرحمن" و"الرحيم"
الرحمن صفة من الرحمة على زِنة "فَعْلان" ومعناها "ذو الرحمة الواسعة". نَستبينُ معنى هذه الصفة في قوله تعالى: "عذابي أُصيبُ بهِ مَنْ أشاءُ ورحمتي وَسِعَتْ كُلَّ شيء ٍ" (الأعراف: ١٥٦). وصيغة فعلان في اللغة تُفيدُ الإمتلاء بالوصف، نحوَ : شَبْعان، وملآن، وفَرْحان، وغَضْبان، ونَدْمان، وحَيْران .
أمّا الرحيم فهي أيضًا صفة من الرحمة على زِنة "فَعِيل"، ولكنّها تدلُّ على ثُبوت الصفة في الموصوف، نحوَ: قصير، وطويل، وجميل، ودميم، وكَريم، وبخيل، وحكيم.
لذلك، جاءَ القرآنُ الكريم بالصفتين كلتيهما في فواتح السُّوَر وفي مَتْن الكِتاب للدلالة على سِعَة رحمة الله تعالَى ودوامها.
١٨ . تأمّلات في الآية ٥٤ من سورة الروم
يقولُ اللهُ تعالى في هذه الآية الكريمة:
"الله الذي خَلَقكُمْ مِنْ ضَعْف ٍ ثُمَّ جَعلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْف ٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّة ٍ ضَعْفًا وشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يشاءُ وهُوَ العَليمُ القدير" .
من المعروف في اللغة العربية أنّ الإسم المُعَرَّف إذا تكرَّرَ في السياق الواحد أفادَ معنًى واحدًا فحسب، وأنّ النَّكِرة إذا تكررت أفادت في كُلّ مَرّةً تُكرَّرُ معنًى جديدًا يختلفُ عمّا سبقه من المعاني. ولعلَّ خيرَ مثالٍ على ذلك في كِتاب الله قولُهُ تعالى في الآيتين ٥ و٦ من سورة الشرح: "فإنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا إنَّ مَعَ العُسْرِ يسْرًا". وبناءً على هذا الفهم اللغوي قال المفسّرون كلمتهم المشهورة: " لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ".
وبالمثل، قال المفسرونَ بخصوص الآية ٥٤ من سورة الروم أعلاه إنّ المُراد بالضَّعْف الأول مرحلة النُّطْفَة وتكوُّن الجنين في رَحِم ِ المرأة، وبالضعف الثاني مرحلة الطفولة التي يحتاج فيها المولود الجديد إلى الرضاعة المستمرة والرعاية الخاصة حتّى يجتاز مرحلة المراهقة ويصل إلى سِنّ البلوغ. وأمّا الضعف الثالث فهو مرحلة الشيخوخة والهرم لأنّ الإنسان في هذه المرحلة الأخيرة من حياته يصبح كالطفل من حيثُ عجزُهُ، وضعفُ بُنْيَتِه الجسدية وحواسّه، واضمحلالُ ملكاته العقليه .
كما أنّ كلمة "قُوّة" جاءت نكرةً وذُكرتْ مرّتين في الآية. وفي ورودها في المَرّة الأولى إشارةٌ إلى فترة الصِّبا التي تتميز بكثرة الحركة ووفرة النشاط البدني. وأمّا ذِكرُها في المَرّة الثانية فيتضمّنُ إشارةً إلى مرحلة الشباب والرجولة التي تَتَّسمُ بقوة البُنْية، والنُّضْج العقلي والفكري، وصلابة الإرادة والعزيمة.
١٩ . لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ
قال المفسرون في تفسير قوله تعالى: "فإنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً. إنَّ معَ العُسْرِ يُسْراً" (الشَّرْح: ٥ و٦) إنّهُ لن يغلبَ عُسْرٌ يُسْرَيْن. فما معنى هذا الكلام وقد وردت كلمةُ "العسر" في الآيتين مرتين وكلمة "اليسر" مرتين أيضا؟
والجواب على ذلك أنّ الإسمَ في اللغة العربية إذا اتَّصَلَتْ به أَلْ التعريف لمْ يُفِدْ إلا شيئا واحداً، بينما إذا لمْ تتصل بِهِ ألْ التعريف أفادَ شيئين اثنين مختلفين أو أكثرَ. فالعُسْرُ المُكَرَّرِ في الآيتين هُوَ عُسْرٌ واحِد، واليُسْرُ المُكَرَّرُ فيهما يُسْرانِ اثْنانِ مُخْتلفانِ.
٢٠ . لطيفة قرآنية
المتدبرُ لِكتابِ اللهِ يُلاحظُ أنّه حيثما وَرَدَ لفظُ "رَبِّ" أو "رَبَّنا"، في مَعْرِضِ النِّداء والدُّعاء، لم يسبقْ هذا اللفظَ حرفُ النداء "يا" أو غيره من حروف النداء المعروفة في اللغة العربية إلّا في آيتين اثْنتين هما: "وقالَ الرسولُ يا رَبِّ إنَّ قَوْمي اتَّخذوا هذا القرآنَ مهجورا" (الفُرْقان: ٣٠)؛ "وقِيلهِ يا رَبِّ إنَّ هؤلاءِ قومٌ لا يُؤمنون" (الزُّخْرف: ٨٨).
والذي ينبغي التنبيهُ إليه أنَّ كُلًّا من لفظِ "رَبِّ" ولفظِ "رَبَّنا" وَرَدَ عشراتِ المَرّات في القرآن الكريم بدون أيٍّ من حروف النداء نحوَ: "رَبِّ اجْعلْني مُقيمَ الصلاةِ ومِن ذُرَّيني رَبَّنا وتَقَبَّلْ دُعائي" (إبراهيم: ٤٠).
أمّا سِرُّ حذفِ حرف النداءِ قبل هذين اللفظين، واللهُ أعلمُ بِمُراده، فهو على الراجح عندي أنّ اللهَ تعالَى أقربُ من أنْ يُحتاجَ في مناداته أو دُعائه إلى أي واسطة بينَهُ وبينَ العبد. مصداقُ ذلك قولُهُ تعالَى: "وإذا سَأَلَكَ عِبادي عنّي فَإنّي قريبٌ أُجيبُ دعوةَ الداعي إذا دعاني" (البقرة: ١٨٦)، وقولُهُ تعالَى أيضًا: "ولقدْ خلقْنا الإنسانَ ونعلمُ ما تُوَسْوِسُ بهِ نفْسُهُ ونحنُ أقربُ إليهِ مِنْ حَبْلِ الوَريد" (ق: ١٦).
٢١ . عقوق الوالدين في القرآن والسُّنُّة
يُعتَبر عقوق الوالدين من أكبر الكبائر التي حذّر اللهُ المؤمنين من ارتكابها في العديد من الآيات القرآنية. كما حذّر رسول الله صلى الله عليه وسلم من خطورة هذه الكبيرة في أحاديث صحيحة كثيرة رواها علماء الحديث في كتبهم الموثوقة. ومما يدل على أهمية بر الوالدين أن الله تعالى قَرَنَ في أكثر من موضع واحد من القرآن الكريم عبادتَهُ عز وجل بواجب رعاية حقوق الأبوين من الطاعة وحُسن المعاملة والإكرام والإحسان والعطف حتى ولو كانا ممن لا يؤمنون بالله ورسوله واليوم الآخر.
يقول الله تعالى: "وقَضَى ربُّكَ ألّا تعبدوا إلّا إياهُ وبالوالدين إحساناً إمّا يبلغَنَّ عندكَ الكِبَرَ أحدُهما أو كلاهما فلا تقلْ لهما أُفٍّ ولا تنهرْهما وقل لهما قولاً كريماً. واخفِضْ لهما جناحَ الذُّلِّ من الرحمة وقل ربّي ارحمْهما كما ربّياني صغيرا" (الإسراء: ٢٣-٢٤). ويقول عز وجل في آيات أخرى: "واعبُدًوا اللهَ ولا تُشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً" (النساء: ٣٦)؛ "ووصّيْنا الإنسانَ بوالديه حُسْناً" (العنكبوت: ٨)؛ "ووصّينا الإنسانَ بوالديهِ حملته أمُّه وَهْناً على وَهْنٍ " (لقمان: ١٤)؛ "ووصّينا الإنسانَ بوالديه إحساناً حملته أُمُّه كُرْهاً ووضعته كُرْهاً" (الأحقاف: ١٥).
يُستفادُ من مُجمل هذه الآيات الكريمة وغيرها في هذا الباب أنّ الله تعالى يريد أن يغرس في نفس المؤمن واجب الإحسان والإكرام والشكر والطاعة لمن كان سبباً مباشراً في وجوده. فإذا استقر هذا الواجب في قلب المؤمن طابت نفسه بعبادة الله وطاعته وشكره وامتثال أوامره واجتناب نواهيه لأنه الموجد الأول للكون وللخلق أجمعين.
أما الأحاديث الشريفة الصحيحة التي حذّرت من مَغَبَّة عقوق الوالدين فكثيرة نكتفي منها بما يلي:
١- ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثًا؟ قلنا بلى يا رسول الله. قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان مُتّكئاً فجلس فقال: ألا وقولُ الزور وشهادة الزور.
٢- الكبائر هي الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغَمُوس (اَي اليمين الكاذبة التي تغمس صاحبَها في النار).
٣- إنَّ الله حَرَّمَ عليكم عقوقَ الأمهات.
٤- كل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين فإنّ الله يُعجّله لصاحبه في الحياة قبل الممات.
٥- ثلاثةٌ لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاقّ لوالديه، ومُدمن الخمر، والمَنّان عطاءَه.
٦- ملعونٌ مَنْ عقَّ والديه.
نخلص من هذه الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة إلى أنّ عقوق الوالدين سببٌ من أسباب الشقاء والخسران في الدنيا وفي الآخرة.
٢٢ . تأملات في الآية ١٧ من سورة الرعد
يقول الله تعالى في هذه الآية الكريمة:
"أنزلَ من السماءِ ماءً فسالتْ أوديةٌ بقَدَرِها فاحتملَ السيلُ زبداً رابياً، ومما يوقدون عليه في النارِ ابتغاءَ حِلْية أو متاعٍ زَبَدٌ مثلُهُ، كذلكَ يَضْرِبُ اللهُ الحقَّ والباطلَ فأمّا الباطلُ فيذهبُ جُفاءً وأمّا ما ينفعُ الناسَ فيمكثُ في الأرض كذلكَ يَضْرِبُ اللهُ الأمثالَ".
آية جليلة من آيات القرآن المعجز تصور الصراع الأزلي الدائر بين الحق والباطل تصويراً حياً ومبسطاً يفهمه كل إنسان عادي، بعيداً عن الجدل الكلامي والمُحاجّات الفلسفية والمنطقية التي لا يَتَأَتَّى فهمُها إلّا لفئة قليلة من الناس.
يقول الله سبحانه إن الباطل أشبه بالزبد الذي يعلو مياه السيول وينتفخ فوقها ولكن المياه سرعان ما تطرحه على جانبي الوادي فيتلاشى لأنه لا حقيقة له ولا تماسُكَ فيه، أو بالزبد الذي يعلو المعادن المُحمّاة في النار لتنقيتها من الشوائب، كما يُصنع مع الذهب والفضة لأغراض الزينة، أو بالحديد والرصاص لصنع الأدوات والأواني المنزلية. وأما الحق فيظل ثابتاً قوياً كثبات الماء الذي يستقر في الأرض فيحييها وينتفع به الناس أو كثبات المعادن النفيسة كالذهب والفضة أو المعادن الصريحة كالحديد والرصاص بعد تطايُر خَبَثها وتنقيتها من الأوساخ والأدْران.
وكذلك هي الدعوات الباطلة والاعتقادات والعبادات الفاسدة التي تؤول في نهاية المطاف إلى الاضمحلال والتلاشي لأنها لا تقوم على أساس ولا تملك مُقوّمات البقاء.
٢٣ . تأملات في الآيات ٢٤-٢٧ من سورة إبراهيم
"أَلمْ تَرَ كيفَ ضَربَ اللهُ مَثلاً كلمةً طيّبةً كشجرةٍ طيّبةٍ أصلُها ثابتٌ وفَرْعُها في السماء. تُؤْتي أُكُلَها كلَّ حينٍ بإذنِ ربّها ويضربُ اللهُ الأمثالَ للناسِ لعلّهمْ يتذكّرون. ومَثَلُ كلمةٍ خبيثةٍ كشجرةٍ خبيثةٍ اجْتُثَّتْ مَن فوقِ الأرضِ ما لها من قرارٍ . يُثبِّتُ اللهُ الذينَ آمنوا بالقولِ الثابتِ في الحياةِ الدنيا وفي الآخرةِ ويُضِلُّ اللهُ الظالمينَ ويفعلُ اللهُ ما يشاء".
أربع آيات عِظام تلخص عقيدة الإيمان والتوحيد وثمارها الطيبة وعقيدة الكفر والشرك ووبالها وسوء عاقبتها. أجمع كِبارُ مفسّري القرآن الكريم على أن المُراد بالكلمة الطيبة هي كلمة التوحيد "لا إلهَ إلّا الله" وبالشجرة الطيبة المؤمن نفسه. فالكلمة الطيبة إذاً هي كشجرة النخل الطيبة التي رسخت جذورها في أعماق التربة وأغصانها تُناطح عنانَ السماء وتعطي ثمرها الطيب في كل وقت بتيسير خالقها. وكذلك هي كلمة التوحيد الخالص. فهي مستقرة وراسخة في قلب المؤمن وعمله الصالح يصعد إلى السماء وتناله بركتُه وثوابُه في كل حين.
وأما الكلمة الخبيثة فالمقصود بها كلمة الكفر والشرك التي شَبَّهها الله تعالى بشجرة خبيثة قِيلَ هي الحنظل لا ثباتَ لأصلها ولا امتدادَ لفروعها نحو السماء ولا يُنتَفعُ بثمرها المر. وكذلك هي حالُ الكافر المشرك. فليس لعقيدته أصل راسخ ولا نفعٌ يُرْتَجَى منها فلا يُرفَعُ له عملٌ صالح ولا تُجابُ له دعوة.
والله سبحانه وتعالى يُثبّتُ المؤمن على التوحيد وعلى كلمة الحق وشهادة الصدق في الحياة الدنيا فلا يزيغُ إيمانُه ولا يتزلزل ويُثبّته بها أيضاً حين يكابد سكرات الموت وعند سؤال الملكين له في القبر وحينما يقوم لرب العالمين. وأما الكافر فلا يُوفّقُه الله لقول كلمة التوحيد ولا يُلهمه الصوابَ ولا يهديه للجواب الصحيح. ويفعل اللهُ ما يشاءُ من هداية المؤمنين وإضلال الكافرين ولا يُسأل عمّا يفعلُ وهم يُسألون.ِ
٢٤ . كلمات الله
"قُلْ لَوْ كانَ البحرُ مِدادًا لِكلمات ربّي لَنَفِدَ البحرُ قبلَ أنْ تَنْفَدَ كلماتُ ربّي ولَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَدا" (الكهف: ١٠٩)؛
"ولوْ أنَّما في الأرضِ مِنْ شجَرةٍ أقلامٌ والبحرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سبعةُ أبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كلماتُ اللهِ إنّ اللهَ عزيزٌ حَكِيم" (لقمان: ٢٧)".
قُلتُ في منشور سابق إنّ الله تعالى يخلقُ ما يشاء وكيفَ يشاء ومتى يشاء بمُجرِّد الإرادة بلا مقدّمات وبلا كيفيّات: "إنّما أمرُهُ إذا أرادَ شيئًا أنْ يقولَ لهُ كُنْ فيكون" (يس: ٨٢). وإرادةُ اللهِ وأوامره نافذة في الكائنات والمخلوقات جميعًا. خَلَقَ اللهُ الكونَ الماديَّ وأوجدهُ من العدم على غير مِثالٍ سابق ٍ بإرادته وأمره مثلما خَلَقَ آدمَ والملائكةَ والجنّةَ والنارَ وكلَّ ما نعرفه وما لا نعرفه من مخلوقات مرئية وغير مَرْئية في هذا الكون الفسيح الذي يعجز الخيالُ عن الإحاطة بحجمه وأبعاده. يقول الحقُّ تبارك وتعالى: "ثُمّ اسْتَوَى إلى السماءِ وهيَ دُخانٌ فقالَ لها وللأرضِ ائْتِيا طوعًا أو كَرْهًا قالتا أتَيْنا طائعين" (فُصِّلت: ١١). ويقول في مسألة خَلْقِ آدم وعيسى عليهما السلام: "إنّ مَثَلَ عيسى عندَ اللهِ كَمَثَلِ آدمَ خَلَقَهُ من تُرابٍ ثُمَّ قالَ لهُ كُنْ فيَكون" (آل عِمْران: ٥٩). ويقول عن خلق عيسى عليه السلام تحديدًا : "إنّما المسيحُ عيسى بنُ مَرْيمَ رسولُ اللهِ وكَلِمتُهُ ألقاها إلى مريمَ وروحٌ منهُ" (النساء: ١٧١). فالمسيحُ تَشكّلَ في رَحِم ِ البَتول من غير أب بيولوجي بكلمة "كُنْ" فكانَ كما شاءَ اللهُ له أن يكونَ هو وأمُّهُ مريم آيةً (أي عَلامةً) للعالَمينَ على قدرة الله العجيبة على الخلق والإيجاد، كما قال تعالى أيضاً: "وجَعلنا ابْنَ مريمَ وأُمَّهُ آيةً" (المؤمنون: ٥٠)؛ "والتي أحصنتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنا فيها مِنْ رُوحِنا وجعلناها وابْنَها آيةً للعالَمين" (الأنبياء: ٩١).
نفهم من هذه الآيات ومن مُجمل آيات القرآن الكريم أن "كلمات" الله تعني، إضافَةً إلى مدلولها الحرفيّ المُعْتاد (فقدْ ثَبَتَ أنَّ اللهَ تعالى كَلّمَ موسى تَكليماً وأنّ القرآن نفسه هو كلامُ الله)، إرادتَهُ ومشيئَتَهُ وأوامرَهُ وأفعالَهُ وقُدْرَتَهُ الطليقة من كُلِّ قَيْدٍ على الخلق والإيجاد من العدمِ المَحْض بلا مُقَدِّمات وبلا عَناء وبلا حدود.
٢٥ . تأمُّلات في الآية ٣٥ من سورة النور
"اللهُ نورُ السماواتِ والأرضِ مَثَلُ نوره كمِشْكاةٍ فيها مصباحٌ المصباحُ في زجاجةٍ الزُّجاجةُ كأنها كوكبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ من شجرةٍ مُبارَكةٍ زيتونةٍ لا شرقيّةٍ ولا غربيّةٍ يكادُ زيتُها يُضيءُ ولوْ لمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نورٌ على نورٍ يَهدي اللهُ لنورهِ مَن يشاءُ ويضرِبُ اللهُ الأمثالَ للنّاسِ واللهُ بكُلِّ شيءٍ عليمٌ" .
آية مُشرِقة من كتاب الله الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خَلْفه ترسمُ صورةً حسّيّةً هي من أروع ما يكون للنور المعنوي الذي يقذفه اللهُ في قلب مَنْ شرحَ بالإيمان صدراً فبَرِئَ من لَوْثةِ الكفر والإلحاد والشرك والضلال والشك والتخَبُّط.
فاللهُ إذاً هو مُنَوِّرُ السماوات والأرض وبنوره تستضيءُ المخلوقاتُ كلها لأنه نورٌ وكُُتُبه المُنزَّلةُ نورٌ ورُسُلُهُ نورٌ يُهتَدَى بهم في ظلمات الكفر والشرك وسائر المعتقدات الفاسدة والأضاليل والأباطيل والخرافات.
يقول الله عز وجل في هذه الآية: مَثَلُ نور الله الذي يهدي به، وهو القرآن، في قلب المؤمن كمثل كُوَّة في حائط غير نافذة فيها سراجٌ تَجْمَعُ الكوةُ نورَهُ فلا يتشتتُ، والسراجُ في زجاجة كأنها لشدة صفائها كوكبٌ مُضيٌ كالدُرّ، وزيتُ السراج مُسْتخرَج من ثمارِ شجرة زيتون مباركة مغروسة في مكان مكشوف لا يُظلُّها جبلٌ ولا يُغطّيها شجرٌ تُشرق عليها الشمسُ وتغيب، مما يزيد من جودة زيتها، ويوشك زيتها من شدة صفائه أن يُضيءَ بذاته من قبل أن تمسه النارُ، فإذا مَسَّتْهُ توهَّج وسطع. وباجتماع نورِ المصباح ودُرّيّةِ الزجاجة وصفاءِ الزيت يكتملُ هذا النورُ المُشَبَّه بنور الله الذي يغمر الكائنات كلها.
اللهم اهْدِ قلوبَنا ونوّرْ أبصارَنا وبصائرَنا بنور وجهكَ الذي أشرقتْ له الظلمات. اللهم آمين!
٢٦ . قسوة القلوب
يقول اللهُ تعالى في القرآن الكريم مُخاطِباً اليهودَ:
"ثُمَّ قَسَتْ قُلوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلكَ فهيَ كالحجارةِ أو أشدُّ قَسْوَةً وإنَّ مِنَ الحِجارةِ لَمَا يَتفجّرُ منهُ الأنهارُ وإنَّ منها لَمَا يَشَّقَّقُ فيخرجُ منه الماءُ وإنَّ منها لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيةِ اللهِ وما اللهُ بغافلٍ عَمّا تَعْمَلون" (البقرة: ٧٤). ويقولُ أيضاً مُخاطباً نَبيَّهُ الكريم: "فَبِما رحمةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ ولوْ كنتَ فَظّاً غليظَ القلبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ" (آل عِمْران: ١٥٩).
قسوة القلبِ وغِلَظُهُ بَلاءٌ لا يُشْبهُهُ بَلاءٌ. وأيُّ بلاءٍ أعظمُ من أنْ لا يَرِقَّ قلبُ إنسانٍ فيعطف على مسكينٍ أو فقيرٍ أو مُحتاجٍ أو شخص أقعدَهُ المرضُ عن كسب الرزق، أو شيخٍ علا الشيبُ رأسَهُ واحدودبَ ظهرُهُ، أو أرملةٍ فقيرة أو يتيم ٍ فقدَ حنانَ أحد أبويه، أو طفلٍ ألجأتْهُ ظروفه الصعبة للتسوّل بحثاً عن لقمة العيش، أو لاجئ غادرَ وطنَهُ خوفاً على حياته وحياة أفراد أسرته أو فِراراً من ظُلمِ الحاكم أو بحثاً عن رِزْقٍ حُرِمَهُ في مسقط رأسه. وقائمةُ مَنْ يستحقون مِنّا كُلّ عطفٍ وحنانٍ وعونٍ تطولُ ولا يستوعبها منشور بهذا القِصَر.
الذي نُزِعت من قلبه الرحمة والرأفة والحنان والحُبّ والعطف على هذه الفئة الضعيفة والمستضعفة من الناس إنسان شَقِيٌّ ومُفْلِسٌ، ولو مَلكَ الدنيا بأجمعها.
لقد أوصانا النبي صلى الله عليه بالتراحم فيما بيننا بقوله: "الراحمون يرحمهمُ الرحمن، ارحموا مَن في الأرضِ يرحمْكُمْ مَن في السماء" (رواهُ التِّرْمِذيّ). ومن لا يعرِفُ الرحمةَ فليس هو من الإسلام ولا من الإنسانية في شيء.
٢٧ . معنى كلمة "سُبْحان" في القرآن الكريم
"سُبْحان" اسمٌ على وزن "فُعْلان" قامَ مَقامَ المصدر، وهي منصوبة على أنها مفعول مطلق لفعل محذوف تقديرهُ " أسبّح". ومن المصادر التي جاءت على زِنَةِ "فُعْلان" شُكْران وكُفْران ونُكْران وغُفْران.
ويتفقُ علماء اللغة وأئمة النحو وكبار المفسرين على أنّ الأصل اللغوي لكلمة "سبحان" يدُلُّ على البُعْد والإمعانِ فيه، ثم استعملت السِّباحةُ والسَّبْحُ بمعنى العَوْم والجري السريع. يقول اللهُ تعالى: "لا الشمسُ ينبغي لها أن تُدْركَ القمرَ ولا الليلُ سابقُ النهارِ وكُلٌّ في فَلَكَ يسبحون" (يس: ٤٠). فالسبح في الفضاء يعني الجريَ والدورانَ السريع. والسابح هو الحصان السريع الجري. يقول المتنبي:
أعَزُّ مكانٍ في الدُّنَى سَرْجُ سابحٍ
وخيرُ جليسٍ في الأنامِ كِتابُ
أما اصطلاحاً فكلمة سبحان تُسْتَعمَلُ لتَنْزيهِ اللهِ عزّ وجلّ عن السوء والنقص والعيب، وعن كُلِّ صفة أُخرَى لا تليق بِجلالِهِ من صفات مخلوقاته، وعن الأوهام الفاسدة والظنون الكاذبة، وعن المِثْلِ والنِّد والشريك والصاحِبة والوَلَد . فليس لله شبيهٌ لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله: "ليس كَمِثْلهِ شيءٌ وهوَ السميعُ البصيرُ" (الشورَى: ١١). فالتسبيح يقتضي التنزيهَ، والتنزيهُ يَسْتَوْجبُ التعظيمَ، والتعظيمُ يستلزمُ الحَمْدَ والثناءَ على اللهِ بِما هُوَ أهْلُهُ.
وحيثما وردت في القرآن الكريم كلمة "سْبحانَ" أو " سُبْحانَه" أو " سُبْحانَك" فهي تنزيهٌ لله العليّ الكبير عن النقص والعيب وعن أفعالِ مخلوقاته وصفاتهم وذواتهم وإشعارٌ منه تعالى بأنّ ما يتبعها من أفعال اللهِ إنمّا يَختصُّ بقدرته الفريدة والمطلقة التي لا تُشبِهُها قدرةُ المخلوقات في شيء. ومن الأمثلة على ذلك قولُهُ تعالى: "سُبْحانَ الذي أسْرَى بِعَبْدِهِ ليلًا منَ المسجدِ الحرام إلى المسجد الأقصى" (الإسراء: ١)، وقولُهُ: "سُبحانَ الذي خَلَقَ الأزْواجَ كُلَّها مِمّا تُنْبِتُ الأرضُ ومِنْ أنفُسِهِم ومِمّا لا يعلمون" (يس: ٣٦)، وقوله: "فَسُبْحانَ الذي بيدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شيءٍ وإليهِ تُرْجَعون" (يس: ٨٣). أمّا الآية: "رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَك" (آل عِمْران: ١٩١) فمعناها تَنَزَّهْتَ يا رَبّ في خَلْقِكَ السمواتِ والأرضَ عن العَبَث واللَّعِبِ واللَّهْو كما قال تعالى في آية أخرى: "وما خَلَقْنا السماءَ والأرضَ وما بينَهما لاعبين لوْ أردْنا أنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنّا إنْ كُنّا فاعلين" (الأنبياء: ١٦ و١٧).
٢٨ . تأملات في الآيتين ٧١ و٧٢ من سورة القََصَص
"قُلْ أرأيْتُم إنْ جعلَ اللهُ عليكمُ الليلَ سَرْمداً إلى يوم القيامةِ مَن إلهٌ غيرُ اللهِ يأتيكم بضياء ٍ أفلا تَسْمعون. قُلْ أرأيتُم إنْ جعلَ اللهُ عليكمُ النهارَ سَرْمَداً إلى يوم القيامةِ مَنْ إلهْ غيرُ اللهِ يأتيكُمْ بليلٍ تَسْكنون فيهِ أفلا تُبْصِرون".
يشيرُ الله تعالى في هاتين الآيتين إلى نِعْمتين من نِعَمهِ الكثيرة التي تَجِلُّ عن الحصر: "وإنْ تَعُدّوا نِعْمةَ اللهِ لا تُحْصوها" (النحل: ١٨ ).
أمّا النعمة الأولى فتتعلقُ بضوء الشمس وما يُتيحُهُ للناس من حرية الحركة والتنقُّل والسعي طلباً للرزق وجَلْباً لمنافعَ أخرى كثيرة ودفعاً لِمضارّ عديدة لا يَتَسَنَّى تفاديها لولا حاسةُ البصر.
وأمّا النعمة الثانية فتتعلقُ بما يُهَيِّئُهُ ظلامُ الليل من سكون وهدوء ونوم وراحة للأبدان تُمكّن الإنسان من تجديد نشاطه وطاقاته البدنية والذهنية حتى يستطيعَ أن يقومَ بأعباء الحياة ومَهامّها الكثيرة.
وعبارة " أرأيتم" في كلتا الآيتين تعني: أخبروني ماذا تصنعون لو أدمتُ عليكم الليلَ أو النهار؟ والحقيقة التي لا مِراءَ فيها هي أنه يصعبُ، إنْ لم يتعذَّرْ، تصوُّرُ الحياةِ كما نعيشها لولا تعاقبُ الليل والنهار.
والسؤال الذي يطرحُ نفسَهُ هو: لماذا اختتمَ اللهُ تعالى آية الليل بعبارة "أفلا تسمعون" وآية النهار بعبارة " أفلا تُبصِرون"؟
والإجابة على هذا السؤال أنّ حاسّةَ البصر يقِلُّ عملُها ووظيفتها ونفعُها في الليل في حين يَزيدُ عملُ حاسّة السمع ونفعها. أمّا في النهار فالعملُ يكون للعين وتقلُّ فعّالية حاسة السمع في صَخَبِ الحياة وضَوْضائها واختلاط الأصوات. ولذلك، ناسبَ استعمالُ عبارة "أفلا تسمعون" مع ذِكْرِ الليل وعبارة " أفلا تُبْصرون" مع ذِكْر النهار.
فأيُّ بلاغةٍ وأيُّ إعجاز؟
٢٩ . دلالة كلمتي "الريح" و "الرياح" في القرآن الكريم
قال أبو منصور الثعالبي في كتابه فِقهُ اللغة وسِرُّ العربية: "الرياحُ ثَمانٍ فَأَربَعٌ رحمةٌ وأربعٌ عَذاب. فأمّا التي للرحمة فهي المُبَشِّرات والمُرسَلات والنّاشِرات والذّاريات. وأمّا التي للعذاب فهي الرّيح الصَّرْصَر والعَقيم وهما في البَرِّ، والعاصِف والقاصِف وهما في البحر" (انتهَى كلامُه) .
وردت كلمة "ريح" (وتُجمعُ على رِياح وأَرياح وأرواح) في ١٨ سورة من سور القرآن الكريم وهي: آل عِمران: ١١٧؛ يونُس: ٢٢؛ يوسُف: ٩٤؛ إبراهيم: ١٨؛ الإسراء: ٦٩؛ الأنبياء: ٨١؛ الحجّ: ٣١؛ سبأ: ١٢؛ ص: ٣٦؛ الشُّورَى: ٣٣؛ الأَحقاف: ٢٤؛ الذّاريات: ٤١؛ الحاقّة: ٦؛ الرُّوم: ٥١؛ الأحزاب: ٩٦؛ فُصِّلَتْ: ١٦؛ القمر: ١٩؛ الأَنفال: ٤٦.
واللافتُ للنظر في هذه السُّور أنّ كلمة "ريح" لم تُستعمل قطُّ في الخير وجلب المنفعة للناس، وإنما غَلبَ استعمالُها في الإهلاك وفي سياق إنزال شَتَّى العقوبات بالأقوام والجبابرة الذين كذّبوا رُسُلَهم ونَكّلوا بالمستضعفين مِمَّن اتّبعهم وأصرّوا على الاستكبار والكُفرِ باللّه والوقوف في وجه دعوة المُرسَلين كقوم عادٍ وثمودَ ولوط وشُعيب ونوح وفِرعون وكُفّار قُريش وغيرهم. وفي ذلك يقول اللهُ تعالى عن أنواع العقاب الذي أُنزِلَ بتلك الأمم: "فَكُلّاً أَخذنا بِذَنبِهِ فمنهُمْ مَن أرسلنا عليهِ حاصباً ومنهُمْ مَن أخَذَتهُ الصيحةُ ومنهُم مَن خَسَفنا بهِ الأرضَ ومنهُم مَن أغرَقْنا وما كانَ اللّهُ لِيَظلِمَهُم ولكنْ كانوا أَنفُسَهُم يَظْلِمون" (العنكبوت: ٤٠) . ومِمّا يُؤيّد ما ذَكَرناهُ ما جاءَ في الحديث من أنّ النبيَّ صلّى اللّهُ عليه وسلَّم كان إذا هبّت الريحُ يقول: "اللّهُمَّ اجْعَلْها رِياحاَ، ولا تجعَلْها رِيحاَ".
ومن الأمثلة الكثيرة على استعمال الريح في الإهلاك والتدمير قولُه تعالى: "وأمّا عادٌ فأُهلِكوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَة. سَخَّرَها عليهِمْ سَبْعَ ليالٍ وثمانيةَ أيامٍ حُسوماً فَتَرَى القومَ فيها صَرْعَى كأَنّهُمْ أعجازُ نَخْلٍ خاوِية. فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِن باقِية" (الحاقَّة: ٤-٨)؛ "وفي عادٍ إذ أرسَلْنا عليهِمُ الرِّيحَ العَقِيم. ما تَذَرُ مِن شيءٍ أتَتْ عليهِ إلّا جَعَلَتْهُ كالرَّميم" (الذاريات: ٤١-٤٢)؛ "كَذّبتْ عادٌ فكيفَ كانَ عذابي ونُذُرِ. إنّا أرسلنا عليهِمْ ريحاً صَرْصَراً في يومِ نَحْسٍ مُستَمِرّ. تَنْزِعُ النّاسَ كأنّهم أعجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِر" (القمر: ١٨-٢٠)؛ "يا أيّها الذين آمنوا اذكروا نعمةَ اللّهِ عليكًمْ إذ جاءتكمْ جنودٌ فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لمْ تَرَوْها" (الأحزاب: ٩)؛ "اَمْ أَمِنْتُمْ أنْ يُعيدَكُمْ فيهِ تارةً أُخرى فيُرسِلَ عليكم قاصِفاً من الرِّيحِ فَيُغْرِقُمْ بِما كَفرتُم" (الإسراء: ٦٩)؛ "هوَ الذي يُسَيِّرُكُم في البرِّ والبحرِ حتّى إذا كنتمْ في الفُلْكِ وجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طيِّبَةٍ وفَرِحوا بِها جاءَتْها ريحٌ عاصِفٌ وجاءَهُمُ الموجُ مِن كُلِّ مكانٍ وظَنّوا أَنَّهُمْ أُحيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللّهَ مُخْلِصينَ له الدّينَ لَئنْ أَنْجَيْتَنا مِن هذهِ لَنَكونَنَّ مِن الشّاكرِين" (يونُس: ٢٢)؛ "مَثَلُ ما يُنْفِقونَ في هذهِ الحياةِ الدنيا كَمَثَلِ ريحٍ فيها صِرٌّ أصابَتْ حَرْثَ قومٍ ظَلموا أنفُسَهم فأهلَكَتْهُ" (آل عِمران: ١١٧).
وبالإضافة إلى ذلك، وردت كلمة "ريح" بمعنىً مُحايد في سياق تسخير اللّهِ الريحَ لسليمان عليه السلام (سبأ: ١٢، وص: ٣٦، والأنبياء: ٨١)، ثُمَّ في الآية ٣٣ من سورة الشورَى: "إنْ يشأْ يُسْكِنِ الرّيحَ فَيظْلَلْنَ رواكدَ على ظهرِهِ". كذلك وردت كلمةُ "رِيح" بمعنى "رائحة" في الآية ٩٤ من سورة يوسف: "إنّي لَأَجِدُ رِيحَ يوسُفَ لولا أنْ تُفَنِّدونِ"، وبمعنى "القوة والبأس" كما في الآية ٤٦ من سورة الأنفال: "ولا تَنازَعوا فَتَفْشَلوا وتَذْهبَ رِيحُكُمْ".
هذه هي جميع السياقات التي وردت فيها كلمةُ الريح في القرآن الكريم.
أمّا كلمة "رياح"، وهي صِيَغة الجمع الوحيدة لكلمة "رِيح" التي جاء بها القرآن الكريم، فوردت في ١٠ سُور من كتاب اللّهِ وكلُّها في الرحمة والخير وجَلْبِ المنفعة للناس ولسائر المخلوقات والكائنات الحَيّة. والسُّوَرُ العَشْرُ التي ورد فيها لفظُ "الرياح" هي: البقرة: ١٦٤؛ الأعراف: ٥٧؛ الحِجْر: ٢٢؛ الكهف: ٤٥؛ الفُرقان: ٤٨؛ النمل: ٦٣؛ الروم: ٤٦ و٤٨؛ فاطر: ٩؛ الجاثية: ٥. ومن الأمثلة على ورودها بهذا المعنى قولُهُ تعالى: "وهو الذي أرسلَ الرياحَ بُشْْراً بينَ يدَيْ رَحمتِهِ وأنزلنا مِن السماءِ ماءً طَهوراً" (الفرقان: ٤٨)؛ "ومِن آياتِه أن يُرسلَ الرياحَ مُبَشِّراتٍ ولِيُذيقَكُمْ مِن رحمتِهِ ولِتَجريَ الفُلْكُ بِأمرِهِ ولِتَبتَغوا مِن فَضْلِهِ ولَعَلَّكُمْ تَشْكُرون" (الروم: ٤٦)؛ "وأرسَلْنا الرِّياحَ لَواقِحَ فأَنزَلْنا منَ السماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُموهُ وما أنتمْ لهُ بِخازنين" (الحِجْر: ٢٢).
٣٠ . الفرق بين كلمتي "زوج" و"إمرأة" في القرآن الكريم
الناظر في كتاب الله بتدبُّر وأَناة يلحظ جوانبَ متعدّدة ومتنوعة من الإعجاز البياني فيه ويدرك أنّه ليس من السهل إبدال المفردة القرآنية والإتيان عِوَضًا عنها بمرادف لها يُوفّيها كاملَ حقَّها من المعاني والصور البلاغية التي ترسمها في مُخَيِّلتنا. ومن هذه المفردات التي لها دلالاتها وإيحاءاتها وظلالها الخاصة كلمة "إمرأة" و "زوج".
وعند استقراء جميع الآيات القرآنية التي وردَ فيها هذانِ اللفظان نلاحظ أَن القرآن الكريم يستعمل كلمة "زوج" عندما يكون، أو ينبغي أن يكون، هناك وِئام وانسجام وتوافق مِزاجي وفكري وعقائدي بين الزوجين، ومودّة ورحمة ووفاء، وإنجاب للذريّة حتّى تتحقّق الزوجيّة في أتمِّ معانيها وصورها وحالاتها. ونورد فيما يلي أمثلة من القرآن الكريم على تحقُّق أو افتراض تحقُّق هذه الشروط، أو بعضها على الأقل، في الحياة الزوجية الطبيعية. يقول المولى عزّ وجلّ:
"ومِنْ آياتِهِ أنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أنفُسِكمْ أزواجًا لِتَسْكُنوا إليها وجعلَ بينَكُمْ مودَّةً ورحمةً إنّ في ذلكَ لآياتٍ لقوم ٍ يَتفكَّرون" (الروم: ٢١)؛ "والذين يقولونَ رَبَّنا هَبْ لنا مِنْ أزواجِنا وذُرِّياتِنا قُرَّةَ أعْيُن ٍ واجْعَلْنا للمُتّقينَ إمامًا" (الفرقان: ٧٤)؛ "واللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكمْ أزواجًا وجعلَ لَكُمْ مِنْ أزواجِكُمْ بَنينَ وحَفَدَةً" (النحل: ٧٢)؛ "يا أيّها الناسُ اتَّقوا ربَّكُمُ الذي خَلقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحدةٍ وخَلقَ منها زوجَها وبَثَّ منهما رِجالًا كثيرًا ونِساءً" (النساء: ١)؛ "النبيُّ أَوْلَى بالمُؤْمِنينَ مِنْ أنفُسِهمْ وأزواجُهُ أُمّهاتُهُمْ" (الأحزاب: ٦)؛ "وقُلْنا يا آدمُ اسكُنْ أنتَ وزوجُك الجَنَّةَ وكُلا منها رَغَدًا حيثُ شِئتُما" (البقرة: ٣٥).
ويستفاد من مُجمَل الآيات القرآنية التي تطرّقت للعلاقة الزوجية بين الرجُلِ والمرأة أن القاعدة هي إطلاق لفظ "زوج" على المرأة المتزوجة ما لم يكن هنالك مانعٌ من الموانع المبيّنة أدناه. فإن وُجِدَ أحدُ هذه الموانع سُمِّيت المتزوجة "امرأة"، لا زوجًا:
١-الإختلاف العقائدي والديني
(أ) كأنْ تكون الزوجة كافرة أو مشركة والزوج مؤمن كما في حالة نوح وامرأته ولوط وامرأته: "ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا للذين كَفَروا امْرأتَ نُوحٍ وامْرأتَ لوطٍ كانتا تحتَ عبدَيْنِ مِنْ عبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما" (التحريم: ١٠). وقد ذُكِرتْ امرأة لوط تحديدًا في ستة مواضع أخرى من القرآن الكريم وكُلّها بلفظ "امرأة" (هود: ٨١؛ العنكبوت: ٣٢؛ العنكبوت: ٣٣؛ الأعراف: ٨٣؛ الحِجْر: ٦٠؛ النمل: ٥٧).
(ب) أو تكون الزوجةُ مؤمنةً والزوجُ كافرًا كما في حالة فرعون وامرأته: "وضربَ اللهُ مَثَلًا للذين آمنوا امْرأتَ فِرْعَوْن" (التحريم: ١١).
(ج) أو يكون الزوجُ وامرأتُهُ كِلاهُما كافِرَيْن بالله كما في حالة أبي لهب وامرأته: " تَبَّتْ يَدَا أبي لَهَب ٍ وتَبّ ... وامْرَأَتُهُ حَمّالَةَ الحَطَب" (المسد: ١ و ٤).
٢- عدم إنجاب الأولاد
كانت سارة زوجة إبراهيم الخليل عليه السلام حِينَ بُشِّرَتْ بمولد اسحق عجوزًا عاقِرًا. ويصفُ الله دهشتها عندما سمعت الخبرَ الصاعق فيقول: "وامْرأتُهُ قائمةٌ فَضحِكتْ فَبشّرْناها بإسحاقَ ومِنْ وراءِ إسحاقَ يعقوبَ وقالَتْ يا وَيْلَتا أَأَلِدُ وأنا عجوزٌ وهذا بَعْلي شَيْخًا إنَّ هذا لَشيءٌ عَجيبٌ" (هود: ٧١-٧٢). لاحِظْ أنّها لمْ تَقُلْ "وهذا زوجي شيخًا"، والَبَعْل في أصل اللغة هُوَ المالِك (كما في الكلمة العبريّة בעל وتعني المالِك والزوج). ويقول الله تعالَى في موضع آخر عن ردة فعلها إزاء هذه البشارة الغريبة: "فأقْبَلتِ امْرأتُهُ في صَرَّة ٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وقالتْ عجوزٌ عَقيمٌ" (الذاريات: ٢٩). والصرَّة هي الصَّيْحَة، وصَكَّت وجهَها أي لطمته.
وشبيهة بهذه القِصَّة العجيبة قِصّةُ زكريا عليه السلام الذي نادَى ربَّه مُبْتَهِلًا إليه أن يهبَ لهُ الولدَ وكان يومَئذٍ شيخًا طاعنًا في السنّ: "وإنّي خِفْتُ المَوالِيَ مِنْ ورائي وكانتِ امْرَأَتي عاقِرًا فَهَبْ لي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّا" (مريم: ٥). ويسأل زكريّا عليه السلامُ حينَ بشّرتْهُ الملائكة بِيَحْيَى متعجِّبًا من هذه البُشْرى: "أَنَّى يكونُ لي غُلامٌ وقدْ بَلَغَنِيَ الكِبَرُ وامْرأتي عاقِرٌ" (آل عِمْران: ٤٠). ومن اللفتات البيانية الرائعة في القرآن أنّ اللهَ تعالَى بعدَ زوال المانع البيولوجي وحَمْلِ امرأة زكريّا بيحيى يخلع عليها صِفةَ "الزَّوْج" فيقول: "وزكريّا إذْ نادَى رَبَّهُ لا تَذَرْني فَرْدًا وأنتَ خيرُ الوارِثينَ فاسْتَجَبْنا لهُ ووَهَبْنا لهُ يحيى وأصْلَحْنا لهُ زَوْجَهُ" (الأنبياء: ٨٩-٩٠). فأيُّ بَيانٍ وأَيُّ إعجازٍ !
٣-الخيانة الزوجية
الذي قرأَ قصة يوسف عليه السلام يعرفُ ما كان من امرأة العزيز مع يوسف الصّدِّيق ومحاولة إغرائه في بيتها لِيفْجُرَ بها: "وراودَتْهُ التي هُوَ في بيتِها عَنْ نَفْسِهِ وغَلَّقَتِ الأبوابَ وقالتْ هَيْتَ لكَ" (يوسف: ٢٣). ولهذا السبب لم تستحقْ بالمقياس القرآني أنْ يُطلَقَ عليها صِفةَ "الزوج"، واكتفى القرآن بالإشارة إليها بامرأة العزيز: "وقالَ الذي اشتراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرأتِهِ أكرِمي مَثْواهُ" (يوسف: ٢١)؛ "وقالَ نِسْوَةٌ في المدينةِ امْرأَتُ العزيزِ تُراودُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفها حُبًّا" (يوسف: ٣٠)؛ "قالتِ امْرَأتُ العزيزِ الآنَ حَصْحَصَ الحَقُّ أنا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ" (يوسف: ٥١).
وأخيرًا، أتساءلُ بكلِّ جديّة وبكلّ أسف: كم من نسائنا المتزوجات، ومن رجالنا المتزوجين أيضًا، في هذا العصر الذي نعيش فيه تستحقّ أن يُطلقَ عليها ويُطلَق عليه صفة "الزوج" بالمفهوم القرآني الضيّق لهذه الكلمة؟
٣١ . تأمّلات في الآيات ٣١-٣٣ من سورة الأنفال
يقول الله تعالَى في هذه الآيات عن موقف كُفّار قريش من القرآن الكريم:
"وإذا تُتْلَى عليهمْ آياتُنا قالوا قدْ سَمِعنا لوْ نشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إنْ هذا إلّا أساطيرُ الأَوَّلين. وإذْ قالوا اللهُمَّ إنْ كانَ هذا هُوَ الحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فأَمْطِرْ علينا حِجارةً منَ السّماءِ أوِ ائْتِنا بِعذابٍ أليمٍ. وما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وأنتَ فيهِمْ وما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وهُمْ يَسْتَغْفرون".
ما يسترعي الانتباهَ في هذه الآيات الثلاث:
أولًا- زعْمُ كُفّار قريش بأنّ في مقدورهم لو شاؤوا أن يأتوا بمثل هذا القرآن، وهو ادّعاء كاذب لأنّ الله تعالى تحدّاهُم، وهم أرباب الفصاحة والبلاغة المشهود لهم بالسَّبْق في هذا المجال، أن يأتوا ولو بسورة من مِثْله فعجزوا عن ذلك، وما كانوا لِيتجاهلوا هذا التحدي لو استطاعوا أن يفعلوا ذلك. والأعجب في هذا التحدّي الربّاني أنّه لم يُعرف منذ نزول القرآن وحتى يومنا هذا، وهي فترة تزيد على أربعة عشر قَرْنًا، أنّ أحدًا من البشر قَبِلَ هذا التحدّي وأتى بشيء يُشبهُ ولو من بعيد القرآن شكلًا أو مضمونًا.
ثانيًا- بلغَ مِن تعنُّتِ كُفّار قريش وعِناد صناديدهم وساداتهم، رغم عجزهم الظاهر عن محاكاة القرآن، أن سألوا الله تعالَى أن يُسقط عليهم حجارةً من السماء تُهلِكُهم إنْ كانَ محمدًا صلّى الله عليه وسلّم صادقًا في دعواهُ أنّ القرآن وَحيٌ من عند الله، وأنّ يُعذّبَهم أشدَّ العذاب. وكان أَوْلَى بهم لو كانوا يبحثون عن الحقيقة أن يقولوا: اللهُمّ إن كان القرآن من عندك فاهْدِنا ووفّقنا إلى اتّباع الهُدَى الذي جاءَ به. ولكنّه الكِبْر والعناد ورفْض الإذعان للحقّ الأبلج.
ثالثًا- المعروف أنّ الله تعالَى أنزلَ ألوانًا من العذاب بالشعوب التي كفرت بأنبيائها والتي سبقت البعثة المحمديّة كثمود وعاد وفرعون وغيرهم. ولكنّ الله تعالَى لم يَشَأْ، إكرامًا لنبيّه محمد ورحمةً بقومه، أن يُنزلَ بهم عذابه رغمَ طلبهم ذلك، كما صنع مع الشعوب الأخرى لأنّه أراد لهؤلاء العرب أن يكونوا حُماةَ هذا الدين في نهاية المطاف وأن يحملوا عقيدةَ التوحيد الخالص إلى شعوب الأرض قاطبةً.