6/عمله في القضاء بالعراق خلال العهد الملكي

بسم الله الرحمن الرحيم

   يقول الشيخ احمد محمد أمين الراوي في مذكراته التي أملاها على بعض أولاده ،  

وغالبها بخط ( نجله المرحوم السيد هاشم وكريمته السيدة فاطمة ) وذلك في العام /  1949 م :

( الحلقة السادسة)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

     وبقيت برهة من الزمن في عنه وراوه بين الأهل والأحبة بكمال الراحة والاستراحة ولله الحمد، فورد الخبر أن ملك العراق فيصل الأول وصل بغداد ومعه الشيخ يوسف السويدي والسيد محمد الصدر، وطلبت الحكومة اجتماع وجوه البلاد ونقبائها من عموم أطراف العراق ليحضرون مبايعته، فشددنا الرحال أنا وآل عمي السيد محمد شريف أفندي آل السيد أحمد الراوي ومعنا جملة من أقاربنا ومن وجوه تلك البلاد، فوصلنا بغداد ونزلنا ضيوفاً على شيخنا وآل عمنا وعميد أسرتنا السيد الشيخ إبراهيم أفندي الرفاعي مدرس السيد سلطان علي ومرشد ذلك الرباط العامر، وتواجهنا مع سمو ذلك الأمير السيد الشريف قبل مبايعته وكان نازلاً في سراي الحكومة في الفرقة التي كانت هي ديوان مشير الأوردي في زمن الحكومة العثمانية فرحب بنا (رحمة الله عليه) غاية الترحيب، وصار يسألني عن دير الزور وملحقاته وكيف الوضع فيه بعد مغادرته لتلك البلاد حيث إنني كنت قاضياً في ذلك اللواء في زمن الحكومة لتلك البلاد السورية، فذكرت له ما جرى بعده حسب معلوماتي ثم خرجنا من عنده ورجعنا إلى محلنا.

   وبعد عدة أيام جرت المبايعة في صحن سراي الحكومة فحضرنا هناك مع من جاء معنا من تلك البلاد ، ومن جملة من حضر هذه المبايعة من السادة الرفاعية ما يزيد على ستين شخصاً، حيث أنه كان مع نقيب البصرة السيد هاشم بك الرفاعي ما يزيد على عشرين شخصاً، ومع نقيب الكاظمية السيد إسماعيل أفندي آل السيد إبراهيم الراوي الرفاعي عشرة أشخاص من أقاربه وذويه، ومع نقيب مندلي السيد الياس أفندي الرفاعي ما يزيد على عشرة، ومع نقيب سامراء السيد حمدي الرفاعي ما يزيد على عشرة، وأنا ومن معي كذلك فلم ارى ولله الحمد من عائلة من عوائل العراق من حضر منهم هذا المجتمع في قدر من حضر من هذه  العائلة الشريفة، وبعد أن تم الاحتفال حسب الترتيب المنظم جاء جلالة الملك فيصل وجلس على كرسي معداً له فوق منصبه كانت في وسط تلك الساحة، وجلس معه في أحد جنبيه السيد محمود أفندي آل السيد عبد الرحمن أفندي نقيب بغداد بالنيابة عن أبيه، حيث إنه لم يحضر الاجتماع لعجزه حيث أنه كان في ذلك التاريخ شيخاً كبيراً طاعناً في السن، وجلس بجنبه الآخر المندوب السامي البريطاني (السير هنري دوبس) وبجانبه قائد الجيش البريطاني، وكان  واقفاً خلف جلالة الملك المشار إليه رجل عسكري أغلب ظني أنه جعفر باشا العسكري، فنهض السيد محمود النقيب وقرأ خطبة بليغة تليق بمثل هذا الموكب، وبعد فراغه منها بايع جلالة الملك فيصل بأن يكون ملكاً على العراق وصافحه باليد اليمنى، وعند ذلك نادى الرجل العسكري الذي كان واقفاً خلف جلالة الملك بأعلى صوته قائلاً (من وافق على مبايعة جلالة الملك فيصل آل الحسين على العراق فليرفع يده) فرفعت الأيدي جميع تلك الجماهير مرحبين به، وداعين له بالموفقية وبعد ذلك نهض جلالة الملك قائماً وقرأ خطبة بليغة مناسبة للمقام ومن جملتها:  (إنني أشكر الشعب العراقي على أنه انتخبني أن أكون ملكاً على العراق، مع أنني أعتقد أن فيهم من له الكفاءة لذلك، وأن أشكرهم على ثقتهم بيَّ، وبحوله تعالى سأبذل قصارى جهدي لترفيه البلاد وراحة العباد حسب إمكاني، ومن الله التوفيق) هذا وإن لم يكن عين لفظه وهو بمعناه، وبعد فراغه من هذه الكلمات ذهب إلى محله الذي يجلس فيه وهو ديوان المشير الكائن في سراي الحكومة، وتبعه الجماهير للتبريك وكان واقفاً في غرفة لها بابان يدخل كل جماعة من باب يصافحونه ويباركون له ويخرجون من الباب الثاني، ومدير التشريفات واقفاً حوله يعرف الداخلين، وبهذه الصورة أنتهى هذا الاجتماع.

   ومن اليوم الثاني صدرت إرادته بتعين السيد عبد الرحمن أفندي نقيب بغداد رئيساً للوزراء، وقد كان قبل ذلك في زمن الحكومة المؤقتة بهذا المنصب أيضاً فجدده له الملك فيصل (رحمة الله على الجميع) فتشكلت الوزارة فصار ناجي السويدي (رحمة الله عليه) وزيراً للعدلية، ولم اشعر إلا وقد وردني الأمر وأنا في السيد سلطان علي، والله بدون استدعاء أو مشاورة، لتعييني قاضياً إلى لواء الكوت بتوقيع وزير العدلية ناجي السويدي، ومنطوقه وهو موجود عندي الآن ومسجلاً في الوزارة المشار إليها (يسرني أن أبلغكم بتعينكم قاضياً إلى لواء الكوت، الرجاء أن تذهب لمحل وظيفتك بأسرع  ما يمكن وتبلغنا بمباشرتك ومن الله التوفيق) وحيث أنني مأذون من لواء دير الزور ولم تنتهي مأذونيتي فاستشرت آل عمنا ومرشدنا السيد الشيخ إبراهيم أفندي الراوي بذلك. فقال إنني أرى أن تذهب إلى الكوت خيراً من لواء دير الزور لأن تلك اللواء مختلة في هذه الآونة وحكومتها أجانب فهذه أولى وأحرى، فامتثلت أمره وذهبت إلى الكوت متكلاً على الله، وشكلت المحكمة الشرعية حيث إنه لم يكن بها قاضياً في تلك الآونة، وجاءنا متصرف في هذا اللواء (أحمد خالد بك) الذي هو الآن مندوب عن لواء الكوت في مجلس النواب، فانعم به من رجل حازم من أرباب الدين والديانة والرجاحة والرصانة، عادلاً في حكمه لين الكلام مع أرباب المصالح، شديد قوي الشكيمة على المتمردين الذين يتجاوزون الحدود الشرعية والنظامية، وخلاصة القول فيه إنه من خيار الأمة وفقه الله وحفظه، وبقيت في هذا اللواء سنة وستة أشهر حافظت ولله الحمد مقام الشريعة الغراء، وقمت بأعباء ما كلفت به حق القيام.

   وقد شرف المرحوم المبرور الملك فيصل إلى هذا اللواء بمركب خاص نهراً ، فكان تشريفه إلى هناك من أوائل سنة الثانية والعشرين ميلادية وكان بصحبته حاشيته الكريمة، ومن جملتهم (فهمي بك المدرس) حيث كان في ذلك التاريخ رئيساً للتشريفات واجتمع لاستقباله عموم مأموري ذلك اللواء مع أكابر الأهليين ووجوههم ورؤساء العشائر، وأقيمت على شرفه مأدبة عظيمة تليق بجلالته وقرأ الشعراء والخطباء ما يليق بذلك المحفل البهيج، وبات هناك ومن الصباح ركب السيارات الخاصة له والتي هيئت بذلك المحل ورجع قافلاً إلى بغداد.

   ومما يجدر بالذكر أن مفتش العدلية أتى إلى هذا اللواء في الزمن الذي كنت قاضياً هناك ولا أذكر اسمه، وهو الآن قيد الحياة متقاعداً، فصار يفتش حسب الأصول وينظر في السجلات والدفاتر اليومية وإخبارات الدعاوي وما تتعلق بذلك وبقي ثلاثة أيام يباشر هذه المهنة، ولا أدري ماذا يكتب ولا سألني سؤالاً شفوياً بل من اليوم الذي أراد السفر فيه إلى قضاء الحي ناولني ورقة فيها ستة عشر سؤالاً وقال جاوبني عن هذه الأسئلة وأعطني الجواب عند رجوعي من الحي. وسار في مركب صغير يسمونه في ذلك التاريخ (استنبوط) ينقل الركاب نهراً ما بين لواء الكوت وقضاء الحي، وركب في هذا الزورق وسار قبل أن أقرأ الأسئلة لأنه ناولني إياها عند ركوبه.  ولما قرأتها رأيت فيها الغث والسمين،

·       فأول سؤال فيها يقول إن السجل ليس منمر وهذا خلاف الأصول مع إنني نمرته بيدي وشرحت من أوله وآخره، إن هذا السجل محتوي على ثلثمائة وثلاثة صحائف، وختمته بختم الدائرة وأمضيته فوق ذلك الختم بإمضاء المطبعة المعروف. وعند رجوعه سألته عن سبب ذلك، أجاب إن الأصول أن يكتب فيه بالخط الصحيفة الأولى الصحيفة الثانية إلى آخره، وأنت واضع عليه رقم من العدد الهندي بإشارات الحساب فقلت له هذا هو المتعارف في جميع محاكم العراق حتى في نفس محكمة بغداد في القديم والحديث فإذا كنت تريد ذلك فكان يمكنك أن تقول أكتب نمر الصحائف خطاً، فسكت.

·        والسؤال الثاني يقول في العدد الفلاني صحيفة الفلانية حكمت بنفقة للزوجة نفقة الكفاية مع إن نفقة الكفاية تكون بالأصول والفروض ونفقة الزوجة تكون بحسب حال الطرفين، ويكتب من آخر السؤال فهذه أغلاط لا يجوز غض النظر عنها.

·       والسؤال الثالث يقول فيه من الصحيفة الفلانية حكمت بالصداق المقدم وهذا خلاف الأصول لأن الصداق المقدم يؤدي نقداً فلا تسمع عليه الدعوى.

·        وفي سؤال آخر يقول حكمت في الصحيفة الفلانية بالبيع وأن البيع خارج دائرة الدفتر الخاقاني ممنوع ،والإدارة السنية الصادرة سنة الثامنة والتسعين هجرية إلى آخر ما يقول كله من هذا القبيل .

·       ونظر من اليومية فرأى شهراً من الأشهر ناقصاً (آنه) وقد وقع غلطاً في الجمع، وقطع سؤالاً عن هذه الآنة، يقول أين الآنة الناقصة، إلى غير ذلك من قبيل هذه الأسئلة.

 

  فأعطاني أوراقاً مطبوعة ذات أربعة ستونات الأول للسؤال، والثاني للجواب، والثالث لمطالعة المفتش العام، والرابع لإجراءات الوزارة،

 

ü    فجاوبته عن سؤاله الأول: بأن السجل منمر كما تقدمت الإشارة إليه، وعند مجيئه عاتبته بذلك فاعتذر الاعتذار الذي قدمناه.

ü     وجاوبته عن السؤال الثاني: إنني لم أحكم بنفقة الزوجة نفقة كفاية بل أحضرت رجلين من أهل الخبرة وسألتهما عن حال الطرفين فاخبرا على طريق الشهادة أن هذا الرجل شرطي فراتبه ثلاثون ربية، ومصرف جواده عليه ،وهكذا كان في ذلك التاريخ، فالمناسب لحال الزوجين أن يكون راتبه أثلاثاً عشرة ربيات له وعشرة لزوجته وعشرة لجواده ،هذا هو المناسب لحال الزوجين ،فقدرت النفقة بهذه الصفة وهذه هي فذلكة الحكم وهو رأي لفظه كفاية في تقرير المرأة حيث قالت في تقريرها أن زوجي فلان الفلاني تركني بدون نفقة ولا منفق شرعي فاسترحم أن تقدروا ليَّ عليه نفقة تكفيني، فهذه اللفظة في تقرير المدعية فلا نقدح في هذه الحجة بأن يقال قدرت نفقة الكفاية بل التقدير جرى كما أسلفناه، والحجة مسجلة معلومة من هذه الصفة، فكيف يسوغ لك أن توجه هذا الاعتراض، وعلاوة عليه تقول هذه أغلاط لا يجوز غض النظر عنها. فغلطك الذي لا يجوز غض النظر عنه.

ü     وجاوبته عن السؤال الثالث: بأنه إذا جرت العادة والعرف بتأخير الصداق المقدم فلا بأس به وتجوز المطالبة به قبل الدخول وبعده، ولا تسقط المطالبة به إلا بعد الطلاق أو الموت بخمسة عشر سنة، فيكون حكمه كحكم المؤجل كما صرح بذلك في الكتب الفقهية المعتبرة المتداولة بأيدي العلماء، وعلاوة على ذلك قد ورد منشوراً من الوزارة العدلية وعمم إلى جميع المحاكم الشرعية في العراق بناءً على سؤال وقع عن ذلك من قاضي (عنه) ناجي أفندي الذي كان كاتباً في شرعية بغداد سنين عديدة، ثم عين قاضياً إلى ذلك القضاء وحيث أن أهل تلك الجهات لا يؤدون المقدم إلا بعد حين فأقيمت لديه دعوة من هذا القبيل فسال من الوزارة عن كيفية ذلك فأحالته الوزارة إلى مجلس التمييز الشرعي وكان إذ ذاك رئيس هذا المجلس نائب الباب السابق الشيخ عبد الوهاب أفندي النائب ومعه عضوين أحدهما خضر أفندي والد منير القاضي والثاني عبد الملك أفندي الشواف، فأعطوا الجواب للوزارة ، والوزارة بلغته لعموم المحاكم الشرعية، وهذا نصه وكتبته بحروفه، خلاصته كما أسلفناه في الجواب المتقدم ، وبعد أن فرغت من تحريره قلت مع الأسف أن القضاة الذين هم من الخارج لهم معلومات بمناشير الوزارة ويسيرون على ضوئها والمفتش المقيم بين ظهرانيهم لا علم له بشيء من ذلك.

ü     وجاوبت عن السؤال الرابع: بأن هذا ليس مبيعاً بل هو تخارج، حيث أن رجلاً توفي عن زوجة وثلاثة بنات من غيرها وهذه الزوجة مرأة متقدمة في السن تزوجها في آخر عمره ولم يكن لها منه ولد لا ذكر ولا أنثى، وليس له من التركة سوى داراً خربة، فرجعت إلى أهلها بعد وفاته، واشتكت على البنات تطلب ثمنها من هذه الدار ولدى الكشف لم يكن صالحاً للقسمة، وحيث إن البنات يسكنون فيه رغبوا أن يدفعوا لها شيء من النقود ويبقون في دارهم، فقبلت المرأة ذلك وتراضوا معها في المقدار الذي دفعوه إليها، فحررنا المسألة على طريق التخارج الذي هو من وظائف المحاكم الشرعية، ونفهم من ذلك أنك لم تدقق المسألة، بل لما رأيت أنه دفع لها دراهم ظننت أن ذلك بيعاً، ومع الأسف أنك تدعي بأنك خريج مدرسة النواب في الإستانة ومستخدم في القضاء سنين عديدة والآن تحرز وظيفة التفتيش الشرعي ولا تفرق بين البيع والتخارج.

ü     وجاوبته عن السؤال الخامس: أن هذه الآنة وقعت سهواً من الكاتب، ولما دققت اليومية عثرت على هذا الغلط أمرته بأن يقدم الآنة على دائرة المالية ويأخذ بها وصلاً، فاعتذرني وقال لا تساوي هذه المعاملة، فقلت له نعم إنها الآن جزئية ولكن يمكن أن تكون في وقت من الأوقات كلية، فلابد وإن نقدمها ونأخذ بها وصلاً، فذهب الرجل إلى المالية وقدمها وأخذ بها وصلاً بالنمرة الفلانية وهي مسجلة في الدفاتر المالية، فأن شئت فراجعها، ودورناها على الشهر الثاني في الصحيفة المقابلة لهذه الصحيفة، ففي الشهر الثاني زيادة آنه، فَلِمَ أدركت النقصان ولم تدرك الزيادة هل كان في عينيك عمش ولكن الأمر كما قال الشاعر:

وعين الرضا عن كل عيب كليلةٌ     كما إن عين السخط تبدي المساويا

 ولعل الناظر لكتابي هذا يظن أن مثل هذا الكلام يستشهد له بالأشعار لا يمكن أن يكون في الأوراق الرسمية، فأقول والذي لا إله إلا هو هذا نص عبارتي من هذا الموضوع.

   وجاوبته عن الأسئلة الباقية بمثل هذه الأجوبة ، وأجبت اعتراضاته بأسرها وفي آخر كل جواب أضع في ذيله تقيداً تشبه هذه الكلمات، فلما رجع من الحي طلب مني الأوراق فقدمتها له ولما رأى الأجوبة بهذه الصورة اضطرب (وشاش وطاش) فلم أعبئ ولله الحمد بتشويشه ولا بطيشه، لأنني ولله الحمد محقاً وهو مبطل، والحق يعلو ولا يعلى عليه، فأراد حينئذ أن يجد له طريقاً يؤذيني فيه فذهب إلى البلدية وقال لهم إن القانون يصرح بأن البلد الذي أكثر سكنته من الطائفة الجعفرية ينبغي أن يكون القاضي فيه جعفرياً وإن كان أكثر سكنته من أهل السنة يكون سنياً، وأنا أعلم أن أكثر سكنة هذا اللواء هم جعفريين فاكتبوا ليَّ تقريراً بذلك لأعرضه للوزارة لأعين لكم قاضياً جعفرياً ، فأجابه رئيس البلدية وكان إذ ذاك الحاج (علي أفندي آل حسن الشبوط) يا حضرة الأفندي إننا لا نعتقد أن يأتينا قاضياً خير من هذا القاضي لا من الجعفريين ولا من غيرهم وإن عموم أهل اللواء داخلاً وخارجاً ممنونين من حكمه وسيره فنرجوا أن تكفف هذا الكلام وتودعنا بخير.

   فلما آيس منهم قام وذهب إلى السوق يقف على حانوت البزار وعلى حانوت العطار يعاملهم على بعض الأشياء صورة، وفي أثناء ذلك يقول لهم أنا مفتش العدلية فإن كان لديكم شكاية على القاضي فأخبروني أنفذها لكم، فيجاوبه الجميع بمثل ما جاوبه رئيس البلدية. فلما يئس من ذلك ذهب إلى بغداد وقدم عليَّ شكاية عند وزيرها بأن قاضي الكوت حقرني فأطلب مجازاته، والدليل على تحقيره ليّ ما كتبه في هذه الأجوبة، وقدم له الأوراق فأمر الوزير بتعيين لجنة من خمسة حكام لتدقيق هذه الأوراق وبيان الحقيقة وعرضها على الوزير، وكان إذ ذاك وزير العدلية عبد المحسن السعدون (رحمه الله) . فدققت الأوراق الهيئة وبالنتيجة أعطت القرار بأن القاضي محقاً والمفتش مبطلاً فأمر بعزله عن التفتيش، وقال له: إننا نرسلك للمحاكم لتصحح غلطاتهم، فظهر الأمر أن القضاة يصححون غلطاتك، فلا تليق للتفتيش، وبقي المسكين بدون وظيفة مدة غير يسيرة إلى أن احتاج لبيع أسباب بيته، ثم بالرجوات عُيّن  قاضياً إلى قضاء الحي بتنزيل رتبته وراتبه حيث كان راتبه بالتفتيش خمسمائة رُبيه وعُيّن إلى الحي بثلثمائة رُبية وهبطت درجته إلى هذا المقدار مع أنه نقل إلى أمكنة متعددة ثم أحيل إلى التقاعد في زمن وزير العدلية محمد زكي بك البصري، وهو الآن حياً يرزق عفى الله عنه، وهو موهوب مسامح من قبلي، وهو الآن ولله الحمد من أصدق أصدقائي وأحب أحبابي، نسأل الله اللطف والتوفيق لنا وله ولجميع المسلمين. ولو أردت أن اشرح جميع ما جرى من هذا القبيل وغيره في هذا اللواء، ومكنني الله على تصحيحه والظفر بالمطلوب لطال بنا المجال، فلا أرى حاجة لذلك.

   وبعد مدة حول المتصرف أحمد خالد بك إلى لواء ديالى، فأتانا متصرف ناجي شوكت وكان حاكم الصلح في ذلك اللواء إبراهيم أفندي الشابندر الذي هو الآن رئيس الاستئناف في بغداد، وجاء بمحله رجلاً لا أحب ذكر اسمه لأنه قضى نحبه رحمة الله عليه وكلاهما من رجال هذا الزمان بعكس المتصرف السابق، فحالهم يوافق حالي وسيرهم يوافق سيري وكنا كأصدقاء أحباء بعكس هذين الرجلين الأخيرين فكرهت المقام معهما ولا أتعرض لحالهما وما كانا عليه لأنني لا لزوم ليَّ بذلك وطلبت التحويل، فصدر الأمر الوزاري بتحويلي إلى خانقين براتبي ورتبتي وعين وظيفتي فذهبت إلى هناك وبقيت بهذا المحل ما يقارب سنتين والحق يقال أنني استأنست وانشرحت هناك غاية الانشراح لأن أهل هذا المحل كلهم بل أكثرهم من أرباب الديانة والأمانة ومن أهل السنة والجماعة منقادين للأحكام الشرعية غاية الانقياد، ففيهم علماء أفاضل والشيخ صالح أفندي القرداغي مدرس المدرسة الكبيرة ، والده المرحوم المبرور الشيخ محمود حيث كان إذ ذاك على قيد الحياة، والشيخ ملا محمد أيضاً من المدرسين والشيخ عارف والشيخ الحاج غالب أيضاً كان مدرس في مندلي، والشيخ عبد الرحمن الكواندولي إمام وخطيب جامع السراي، وغيرهم من الأفاضل وفيهم من أكابر وجوه تلك البلدة عبد الله بك شقيق (مصطفى باشا الباجلان) وسعد أفندي، وغيرهم من أصحاب الدواوين المفتوحة أبوابها للضيوف والزائرين ، فاستأنست بالجميع وكلهم ولله الحمد يحبوني وأحبهم ويوقروني وأوقرهم، والى الآن المخابرات وأواصر الموجة جارية بيني وبينهم، وأفراد الحكومة في ذلك التاريخ لا بأس بهم لأن أكثرهم من القدماء المتمسكين بالأخلاق الحميدة والأدب، ولا يوجد لديهم ما سرى عليه أرباب هذا الزمن المنحوس من الزلل والزيغ والتجاهر بالمحارم وترك الآداب والمجاملات، بل كلهم أو جلهم على النمط الذي أشرنا إليه، وبسبب ذلك انشرحت واستأنست كثيراً وبقيت هناك أيضاً ما يقارب سنتين حافظت ولله الحمد مقام الشريعة الغراء، وأجريت ما ورد لدي من الدعاوي حسب القواعد الشرعية والأصول المرعية ولم ينفض ليَّ إعلام ولله الحمد  من جميع هذه المدد، ولو أردت شرح بعض ما جرى من الأمور لرأيته خارجاً عن الموضوع فلا حاجة لنا به.

   ولكن مما يجدر بالذكر مسألة واحدة جرت عندي هناك ومكنني الله من إزالتها، ولم أحب ذكرها افتخارا لا والله ولكن تنبيهاً لمن هو من أمثالي ان يتفطن لمثل ذلك ويتصدى له لعل الله أن يمكنه من إزالة المنكر، وهي أنني لما كنت في خانقين أحسست أن هناك محل دعارة والعياذ بالله تعالى من ذلك، ومن المعلوم أنه محلاً بمأذونية من الحكومة كما هي العادة في هذا الزمن المنحوس، ووجود مثل هذا المحل بمحلٍ أنا قاضي الشرع فيه يصعب عليَّ كثيراً، ولا زلت أحيل النظر لأجد طريقاً في سده ورفعه من هذا المحل، ففكرت شيئاً هو أنني أرسلت إلى المختار لتلك المحلة اسمه (مولود آغا) فكان الرجل من أهل الديانة ويحب عمل الخير ويتمثل أمر مثلي وأمثالي فقلت له أريد منك أن تذهب كل يوم إلى هذا المحل ولا يستنكر ذلك عليك لأنك مختار المحلة لك النظر في مثل هذه الأمور، وتعظهم بأن هذا العمل ليس من شأن بنات الأجواد وليس له نتيجة إلا الوبال والعار في الدنيا والآخرة فأنهم إلى جهنم وبئس المصير، ولعله يوجد منكم من ندمت على ارتكاب هذا الحال السيئ وتحب أن تتوب إلى الله وتخرج من هذا العار المورث للدمار، وأنا متعهداً أن أذهب مع من تطيعني إلى المحكمة الشرعية وتظهر توبتها إلى الله أمام حاكم الشرع، فإنه رجل ولله الحمد من أرباب الدين والديانة ويستر بمثل ذلك، فحينئذ يسجل توبتها في المحكمة الشرعية ويعطي بيدها صورة الحجة المسجلة، وأنا متعهد بزواجها لرجل تحتشم عنده ويقوم بمئونتها وحشمتها، إلى غير ذلك من الألفاظ المرعية لهن لما اشرنا إليه، فأجابني الرجل باهلاً وسهلاً أنا ساعٍ حسب أمرك فذهب الرجل إلى ذلك المحل المشؤوم وألقى عليهم بعض هذه المواعظ فأثرت والحمد لله، فأتى من اليوم الأول ومعه اثنتين أظهرتا التوبة إلى الله تعالى والإقلاع عن هذا الخزي والعار وعادهتا الله على ذلك وسجلناها في السجل حسب الأصول المرعية وأعطيناها ورقة بيدها تُقِرّ بذلك وأحضرنا رجلين كانا يشتغلان في شركة البترول الموجودة هناك، فأعقدنا لهما عليهما في المحكمة الشرعية وسجلنا ذلك، واوصيناهما بالإحسان معهما والمحافظة عليهما، فتعهدا بذلك. ولا حاجة لنا بطول المسألة فبقي الرجل المختار السالف الذكر من كل يوم يذهب لهذا المحل ويأتي بالواحدة والاثنتين والثلاثة، ونجري هذه العملية بعينها نزوج كل واحدة لرجل يتعهد بالمحافظة عليها والأنفاق حسب طاقته والستر، ويسجل ذلك إلى ان انتهت المسألة ، ولم يبق  في هذا المحل سوى عجوزاً إيرانية هي التي كانت تدير هذا العمل، فأمرته بإحضارها خشية أن تجمع جمعاً آخر فحيث أنها ليست من أهل البلد بل هي من البلاد الإيرانية أمرتها أن تذهب إلى بلادها وإلا أنكل بها، فذهبت في ذلك اليوم لا ردها الله ، وسُد المحل واسترحنا من هذه البؤرة السيئة النتنة، والحمد لله رب العالمين الذي أعانني على دفع هذا الشر والعار من بلاد المسلمين.

   وبعد يوم أو يومين من انتهاء هذه المسألة أتاني القائمقام وهو الآن حي متقاعد يسكن في بغداد، لا أحب ذكر اسمه، ومع أنه من بيوت العلم والدين، أبوه قاضٍ وجده قاضٍ وجد أبيه مفتي وكان (رحمه الله) من أكابر علماء بغداد، ومع الأسف هو سارٍ مسرى أفندية هذا الزمان،

فقال ليَّ: ماذا صنعت،

قلت له: عن أي شيء تسأل،

قال: عن المسألة الفلانية فقلت له ما صنعت إلا الخير والإحسان ورفع العار عن المسلمين فقال: في نفس بغداد يوجد هذا الحال رسماً،

فقلت له: وإذا كان يوجد في بغداد أو غيرها أيكون ذلك مادة يجب علينا إتباعها ونترك ما يأمرنا به الشرع الشريف،

فقال: إذن سأكتب ذلك للوزارة وأخبرهم أن القاضي عمل كذا و كذا،

وقلت له: لا بأس عليك اصنع ما أنت صانع، فأنا لست أبالي بكتابتك وبأقوالك فيما أصنع شيء يأمرني به الشرع الشريف.

فخرج من عندي مغبراً  ولا أدري أكتب أم لا لأنني لم أتلقى لا من الوزارة ولا من غيرها بهذا الشأن، فأنني ولله الحمد متكلاً على الله  أجري الأحكام الشرعية بدون اكتراث من وزارة ولا من غيرها ومن الله العون الإعانة، وقد أردت أن أعرض عن ذكر هذه المسألة لأنني لا أحب أن أسود كتابي بمثل ذلك، ولكنني كما ذكرت سابقاً رأيت فيها حثاً لأمثالي أن يتصدى بدفع ما تصله يده من الضرر والشر ومن الله التوفيق.

  وقد طالت مدة البقاء في هذا المحل فأحببت التحول إلى غيره، وكتبت للوزارة بذلك وكان الوزير إذ ذاك السيد أحمد الفخري قاضي الموصل سابقاً، فأصدر أمرهُ بتحويلي إلى شهربان فأتيت إلى هذا المحل وجلست في دار (حسن آغا الزنكة) الذي كان قائداً للطابور (الجاندرمة) في لواء ديالى، وكانت داراً فسحة من خيار دور هذه البلدة محتوية على دائرة حرم واسعة وديوان خانة منتظم والنهر يجري من أمام هذه الدار وتحف به بعض الأشجار فاستأنست كثيراً بذلك، لأن محل السكن للإنسان من أهم المهمات. ووجدت أهلها والحق يقال من خيار الناس من أرباب الدين والديانة والنزاهة والأمانة، وأخص منهم الشيخ محمد الخطيب، والشيخ خورشيد جلبي، والشيخ علو العيادة، وعمران آغا وكيل آل النقيب على أملاكهم، وغيدان أفندي وكيل لهذه العائلة أيضاً، والحاج محمد دحروح وولده ملا حسين، وحميد العجاج ورئيس البلدية حسين أفندي والسيد سلطان وغيره من الأخيار، في كل ليلة يجتمعون عندي هؤلاء ويصلون معي العشاء، وبعد ذلك اقرأ لهم في التفسير الشريف فيستأنسون بذلك غاية الاستئناس، حيث أنهم محرومون من مثل ذلك، وكان إذ ذاك مأمور البرق والبريد عبد الوهاب أفندي، الذي هو الآن بعين هذه الوظيفة في بلدة الكاظمية، فإنه  في أهل الدين والديانة ومن خيار المأمورين الذين رأيتهم هناك وكان يحبني (حفظه الله) محبة جمة ويلتقي أكثر أوقاته عندي ويقوم بحوائجي عندما يأتيني ضيوفاً أو غير ذلك من مثل هذه العوارض وهو ولله الحمد إلى الآن ثابتاً على محبته  وإخلاصه جزاه الله عني خير الجزاء ووفقه لخير الدنيا والآخرة أمين.

   وبقيت في هذا المحل مستأنساً بهؤلاء الجماعة الأخيار مدة تزيد على ثلاث سنوات عقب النهار في المحكمة وفي الليل مع هؤلاء الجماعة إلى أن ينفض المجلس في الساعة الرابعة أو الخامسة عربية وبعض الليالي نجتمع في ديوان خورشيد جلبي (رحمة الله عليه) وبعض الأحيان عند حميد العجاج (رحمه الله)، وبقيت طيلة هذه المدة أزاول ما كلفت به حسب طاقتي بكل دقة وأمانة ورأفت على عباد الله مهما أمكنني، أصلح بين الأقارب وبين أهل الدعاوي التي ترد إلى المحكمة، ولاسيمّا في الخصومات الواقعة بين الأقرباء فإذا لم يركنوا إلى الصلح أحسم المسألة طبق القواعد المرعية بالمطابقة للشرع الشريف، لا يؤثر عليَّ ولله الحمد التماس ملتمس كبر أم صغر فلا يمنعني من ذلك عن إحقاق الحق ولله الحمد، زعل الخصم عليَّ أم رضيَ ،واعتبر الملتمس أم إمتعظ لا أبالي بذلك، وبعد أن زاولت الأحكام الشرعية مدة في هذا المحل، وردني أمراً وزاري بتعييني حاكم صلح من الدرجة الأولى علاوة على وظيفتي الأصلية الشرعية، فقبلته لأنها وظيفة شرعية أيضاً ولأنها مطابقة للشرع، ثم وردني أمراً آخر بأنني رئيس الأجراء، فقبلتها أيضاً لأنفذ ما أحكم به بنفسي خير من أن ينفذه غيري فلعله يتجاهل فيه، فأن صاحب الدار أدرى بما فيه، ثم وردني أمر بأنني حاكم جزاء من الدرجة الثانية، فلم أقبله، فكتبت للوزارة جواب عن ذلك واعتذر بأنني رجل من أرباب العلم الشرعي متخرج من المدارس الدينية الشرعية، متربياً بين ظهراني علماء الدين فلا يمكنني أن أحكم بقانون ملفق من قانون السودان وقانون الهند وقانون الأتراك، رتبهُ قائداً إنكليزياً في زمن إحتلال تلك الحكومة لهذه البلاد ولفق مواده من هذه القوانين الثلاثة حسب ما يناسبه في ذلك الحين، فلم يمكنني أن أقبل هذه الوظيفة وأحكم بمثل هذا القانون، فورد ليَّ الجواب من الوزير المتقدم الذكر يقول فيه: أرجوك أن تقبل هذه الوظيفة، وأرجوا أن تعتقد أنك تؤجر في ذلك لأنك إن لم تقبلها فبحكم الضرورة أن يساق المدعي والمدعي عليه والشهود إلى مركز اللواء لترى دعاوهم هناك، وكثيراً ما يوجد في أرباب هذه الدعاوي الضعيف والعاجز والامرأة المخدرة وغيرها، فيصعب عليهم ذلك غاية الصعوبة فإذا قبلتها ورأيت الدعاوي في محلهم رفعت عنهم هذه الكلفة التي لا تطاق، فإنك تؤجر بذلك الأجر الجزيل. فبعد ورود هذا الأمر بهذه الصورة لم يسعني الاعتذار، فقبلتها، وباشرت بها مع غيرها من الوظائف المتقدمة الذكر متكلاً على الله، فأعانني الله على ذلك ولله الحمد، ولكنني مهما أمكنني أطبقها على الأحكام الشرعية والقواعد المرعية، ولو أردت استقصاء ما ورد ليَّ من الدعاوي في هذه المدة والخصومات، وما حكمت به وأجريته ولله الحمد طبق الشرع الشريف رغمً على معارضة الوزارة وغيرها لضاق بيَّ المجال، وقد أعرضت عن ذلك خشية الإطالة والملل، ولعله يشم منه رائحة الافتخار فلهذه الأسباب قضيت عن ذلك كشحاً. 

    ومما يجدر بالذكر في هذا المقام أن مفتش العدلية أتاني إلى هذا المحل، وكان إذ ذاك هو (إبراهيم بك الشابندر) الذي هو رئيس الاستئناف العام في نفس العاصمة وصار يفتش حسب الأصول المرعية فينظر في الدفاتر والسجلات والقيود والإضبارات ،والواردات وما حسم من الدعاوي وما علق وما رفض إلى غير ذلك مما يتعلق بوظيفتي، فرأى أنه قد حسم كل سنة أربعة الآف دعوة ما بين شرعية وصلحية وجزائية، وسجلات كاتب العدل مملؤة بالحجج المسجلة ظاهر ذلك، وبقي أسبوعاً فلم يظفر ولله الحمد بشيء يمكنه الاعتراض عليه، فذهب إلى السجن وسأل المساجين كيف حالكم وكيف طعامكم وكيف مرتباتكم، وهل عندكم شكاية على الحاكم أم لا فلم يسمع منه كلمة تخدش الفكر، ونبه من له اعتراض على دعواه أو على حكمه فليراجعني، أو يقدم ليَّ عريضة، فلم يراجعه أحد لا جزئياً ولا كلياً في جميع هذه المدة، فبعد ذلك كله جاءني، وقال ليّ: سؤال، ورجائي أن تجاوبني الحقيقة،

فقلت له: اسال،

قال: هل (تحسن السحر)؟

فعرفت السبب الذي دعاه إلى هذا السؤال، فقلت له: نعم،

قال: أرجوك أن تعلمني !

فقلت له: أهلاً وسهلاً أعلمك لكن بعد أن تشرح ليَّ السبب الذي دعاك إلى هذا السؤال،

 فقال: رأيت أنك قد حسمت من الدعاوي في كل سنة ما يزيد على أربعة الآف دعوى، وهذا الحبس مكدس بالمساجين، ولما كنت في القطار كان معي من أهل البلد أناس سألتهم عنك ،كلهم السنة ثناء، وهذا ليَّ أسبوع هنا لم يراجعني أحد بكلية ولا جزئية، واجتمعت مع وجوه هذه البلدة ومأموريها فلم أرى من ذَكركَ بسوء، بل الجميع يطرون بذكرك بالثناء الحسن، وطللت على المساجين وكلمتهم فأردت أن أسمع من يقول حكمت ظلماً، أو أرزاقنا غير منتظمة، فلم أسمع شيء من ذلك مع أن ابن الوردي يقول:

        إن نصف الناس أعداءً لمن            وليَّ الأحكام هذا إن عدل

فكيف يكون ذلك؟ فما هذا إلا سحراً ،

فقلت له: نعم هذا هو السحر الحلال، ولله الحمد، وهو العدالة بأحقاق الحق وردع الظلم وإغاثة المظلوم وإيصال الحق لأهله، فو الله لو تخاصم رجلاً مع والدي الذي أحترمه غاية الاحترام وظهر الحق عليه لحكمته ولا أبالي فأن تمكنت أن تسري هذا المسرى وهو السحر الذي أعرفه وتسالني عنه.

هذا الذي جرى بيني وبينه، وهو ولله الحمد حياً يرزق فمن شك في كلامي هذا فليراجعه ويسأله، ليقف على الحقيقة غاية الوقوف، فأحمد الله وأشكره على هذه النعمة التي أنعمها عليَّ والحمد لله رب العالمين.

   وبعد برهة من الزمن قررت الحكومة الموقرة إلغاء القضاء الشرعي فصدر الأمر الوزاري إلى أربعة عشر قاضياً وأنا من جملتهم، وهذا منطوق الأمر: ( بناءً على الصعوبة المشهودة بقيامكم بأمور الجزاء علاوة على وظيفتكم الأصلية، فقد عُين بمحلكم (عبد الرحمن خضر) وقرر تعينكم إلى محكمة شرعية صرفة). وبعد بضعة أيام جاء عبد الرحمن خضر فسلمته المحكمة وذهبت إلى بغداد، وهذا قرار الحكومة الموقرة من جهة يلغون القضاء الشرعي ومن جهة أخرى يخاطبونا بأنه سيعين إلى وظيفة شرعية صرفة، فأين أبقيتم وظيفة شرعية لأجل أن تعينوا فيها من قررتم فصاله ؟ فالسكوت أولى عن هؤلاء الناس.

   ولما وصلت بغداد راجعت دائرة التقاعد وأبرزت لهم أوراق استخدامي وأجريت المعاملة طبق الأصول، وأجريَ ليَّ التقاعد طبق القانون المأذون بذلك ، وقدمت استدعاء إلى رئيس الوزراء وكان إذ ذاك (جعفر العسكري) رحمه الله، وأردت من المساكين الذين ألغيت وظائفهم معي أن يشاركوني بهذا الاتفاق فلم يقبلوا، فقدمته بإمضائي وحدي، وكان شديد اللهجة، ومن جملة ما درجت فيه أن القانون الأساسي يصرح بأن المأمور لا يجوز عزله إلا بمادة توجب ذلك، وكان الوزراء في تلك الليلة المقبلة مدعوون عند جلالة المرحوم الملك فيصل وقد حكي ليَّ من كان معهم أن جعفر باشا (رحمه الله) صار يخاطب وزير العدلية، وكان إذ ذاك (ناجي بك السويدي)، وقال له: إذا كنتم قد لغيتم القضاء الشرعي فأوجدوا وظائف للقضاة المعزولين وشكلوا في كل قضاء ولواء مفتياً واجعلوهم مفتين يستمد منه حكام الصلح المسائل الشرعية عند الاقتضاء، وإلا فأخشى أن يظهر شيء لا يحمد عقباه ، فأجابه بعض الحاضرين هؤلاء لا أهمية لهم، فأجابه جعفر باشا (رحمه الله) لا تتكلمون بهذه الكلمات المسمومة أمام سيدنا، فمن الذي دعا ملك الأفغان أمان الله خان يدور من البلاد وتخلى عن عرش مملكته غير هذا القسم، هكذا نقل ليًّ من كان حاضراً معهم والعهدة عليه، وقد أنفض المجلس ولم يقرروا هيئة .

  فأنظر أيها القارئ الكريم أنني عينت قاضياً إلى الكوت بدون طلب مني بزمن هذا الوزير، الذي يكتب ليًّ يسرني أن أبلغكم بتعيينك قاضياً إلى لواء الكوت، وبعد مدة من الزمن أيضاً في زمن وزارة من وزاراته أعزل عن منصبي بدون سبب، بإمضاء ذلك الوزير فأنظر إلى عمل أهل هذا الزمان، من أول تشكيل الحكومة كانوا يتدرعون بالعلماء وأهل الدين، فأسندوا منصب رئاسة الوزراء إلى المرحوم المبرور السيد عبد الرحمن النقيب، مع أنه رجلاً كان يناهز التسعين من عمره ولا يخرج من قصره بل كان يتشكل مجلس الوزراء في داره العامرة والسجلات والقيود العائدة لهذه الرئاسة كانت في قصره، ورئيس الكتاب كان (حسين أفنان) وما عنده يتلقى أوامره وينفذ ما يأمره به، وأسند منصب أكثر الوزارات بأرباب العلم والدين، ومن جملتهم مصطفى أفندي الآلوسي، ومحمد علي أفندي الموصلي، والسيد محمد بحر العلوم، وإبراهيم أفندي الحيدري شيخ الإسلام سابقاً في الأستانة، والشيخ أحمد داوود، ورئيس مجلس التمييز الشرعي نائب الباب الشيخ عبدالوهاب، ورئيس المجلس العلمي السيد إبراهيم الراوي، ورئيس الأعيان الشيخ يوسف السويدي، وقاضي بغداد الحاج علي أفندي الآلوسي، ومحمد درويش أفندي الآلوسي، ثم عين بهذا المقام الشيخ عبد الملك الشواف، وأعضاء المجلس العلمي الشيخ قاسم القيسي، وأمين أفندي، وأمثالهم كلهم من أهل العلم والدين، وسارت الحكومة في زمنهم السير الحسن الذي رضي به الخاص والعام ولم يكن للرشوة في ذلك التاريخ اسم يذكر وعينوا قضاة للخارج في عموم الأقضية والألوية من أرباب العلم والدين، وأحالوا لهم حاكمية الصلح والجزاء، ولما رسخ قدمهم في الحكم أسقطوا تلك الوزارة، وعينوا في جميع هذه الوظائف من هم على شاكلتهم، فكثر القال والقيل، وتتابعت الثورات والمظاهرات بالداخل والخارج، وصارت الرشوة علناً بدون اكتراث وكثر الخلق والخبط إلى هذه الساعة، ولا زالت تمشي إلى الوراء، فنسأل الله أن يستر هذه الحكومة وهذه الملة من سوء المنقلب ويمن عليهم من فضله ورحمته لإرجاعهم إلى ما يصلح دينهم ودنياهم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

ومن هذا المقام يقول الشاعر:

        إن لام هذا ولم يحدث له عبر      لم يبكى ميت ولم يفرح بمولودِ

  وبعد أن أكملت أوراق التقاعد أقتضى ذهابي إلى الديوانية لصلة رحماً، فذهبت إلى ذلك اللواء وكنت جالساً ذات يوم في سراي الحكومة عند صديق ليّ وهو مدير الطابو عبد الستار أفندي الذي هو الآن متقاعد يسكن كربلاء، فجاءني موزع البريد وسلمني كتاباً، ففتحته فرأيته من نقيب البصرة السيد هاشم بك آل السيد أحمد باشا، يقول فيه إنني فهمت انفصالكم من القضاء فأرجوك أن تأتي إلينا لتكون مدرساً في جامع جدنا الأكبر السيد يعقوب دفين البصرة، وقد قرر راتبك من هذا اليوم وقد حولت لك خمسمائة ربية على البنك العثماني في بغداد مصرفاً للطريق، وأفرزت لك داراً من ممتلكاتي، وأمرت العمال يصححونه ويكملون نواقصه قبل مجيئك، ورأيت ورقة الحوالة داخل الكتاب .  وبعد برهة ذهبت إلى البيت الذي أنا ضيف فيه والذي ليًّ معهم صلة رحم وهو بيت شاكر بك مفتش المالية الحالية، وبعد برهة قصيرة طرق الباب، فخرج صاحب الدار إليه، فأتاني ببرقية من وزير الأوقاف، يقول فيها إنك قد عينت مدرساً أولاً إلى مدرسة سامراء العلمية الدينية فالرجاء أن تحضر بأسرع ما يمكن.

 

ـــــــــــ  

                                                      عودة الى الصفحة الرئيسية