تاريخ المدرسة العلمية الدينية

نص الرسالة التي كتبها الشيخ احمد الراوي عن تاريخ  المدرسة العلمية الدينية في سامراء 

والمنشورة في كتاب تاريخ علماء سامراء / تاليف الشيخ يونس ابراهيم السامرائي ( 1966 م )

ــــــــــــ

العلامة الشيخ ماجد العبد ربه يتوسط مجموعة من طلاب المدرسة العلمية الدينية في سامراء - الصورة من منشورات مجلة العربي الكويتية العدد/64 سنة 1964

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ...

أما بعد :

فيقول الفقير إلى رحمة ربه القدير السيد احمد آل السيد محمد أمين الراوي قد سألني من لا تسعني مخالفته أن اذكر شيئا مختصرا عن تاريخ مدرسة سامراء العلمية حيث انني المدرس الأول فيها , والذي طلب مني ذلك صاحب المعالي مدير الأوقاف العام ووزير المعارف سابقا تحسين علي بك حينما زار هذه المدرسة قبل بضعة أسابيع وقد أعددت هذا الطلب من حسن أخلاقه ومحبته للعلم والدين وأهله ليطلع على المعاهد الدينية وما جرى فيها ومن تخرج منها فأقول وبالله التوفيق :

 أسست هذه المدرسة في زمن السلطان العثماني عبد الحميد الثاني رحمه الله في سنة 1309 هجرية على مهاجرها أفضل الصلاة وأزكى التحية حيث ان السلطان المشار إليه رحمة الله عليه اصدر ارادته بتعيين خمسة مدرسين براتب شهري يساوي الفي قرش صحيحة يعني تساوي عشرين دينارا عراقيا احدهم في كربلاء والثاني في النجف والثالث في الحلة والرابع في الهندية والخامس في السماوة وبقوا في هذه الأماكن إلى إعلان الحرب العامة الماضية التي أعلنت سنة 1914 ميلادية بل إلى انتهائها وذلك في سنة 1918 ميلادية ولما أقلعت الحكومة التركية عن هذه البلاد انسحبوا معهم حيث ان هؤلاء المدرسين الخمسة كلهم من أبناء الترك وقد استمر بقاؤهم بمحلاتهم المذكورة مدة تزيد على عشرين سنة ولكن لم تحصل منهم الفائدة المطلوبة التي دعا إليها السلطان المرحوم وكان قصده بذلك الفائدة العامة أولا وقمع بعض البدع الضالة ثانيا ولكون لسانهم لا يساعدهم على النطق بلغة أهل البلاد ولا يعرفون قواعدهم وعوائدهم ولا يعرفون من أين يدخلون ويخرجون لم تحصل منهم أي فائدة للبلاد ولا للعباد ولكن العامل مأجور لأنه اجتهد فاخطأ والمجتهد مأجور على كل حال إن اخطأ فله اجر واحد وان أصاب فله أجران كما هو مقرر في كتب أصول الدين المعتبرة والمتداولة بين أيدي العلماء وقد قيل :

على المرء أن يسعى لتحصيل مقصد   وليس عليه ان يكون موفقا

 ثم اصدر السلطان المشار إليه في ذلك العام نفسه أي سنة 1309 هجرية ارادته السنية بتعيين ثمانية مدرسين في أقضية ولاية بغداد براتب شهري لكل واحد منهم ثمانمائة قرش صحيحة تقابل ثمانية دنانير وكان هذا القدر في ذلك الزمن يعد راتبا ضخما ويمكن لمن يتقاضاه أن يعيش به خيرا مما يعيش الآن صاحب الخمسين دينارا والسبب في ذلك رخص الحوائج الضرورية وسذاجة العيش .

فعين إلى الرمادي الشيخ طه أفندي الشواف الذي عين أخيرا مفتيا إلى ولاية البصرة ...

والى عانة الشيخ إبراهيم أفندي الكردي ...

والى خانقين الشيخ محمد أفندي الكونداولي ...

والى العزيزية الشيخ محمود القره طاغي ...

والى الكوت عمر أفندي الجبوري ...

والى مندلي الشيخ غلام رسول الهندي العالم الشهير ولم يبقى فيها إلا شهرا ثم استعفى ورجع إلى بغداد وكان يقول رحمه الله القرى تضيع العلم ولا لوم عليه لأنه كان في بغداد يدرس عليه كل منته ومن جملتهم مفتي بغداد الحاج الشيخ يوسف أفندي عطا والشيخ عباس أفندي أمين الفتوى والسيد احمد أفندي آل السيد مراد الكيلاني والشيخ عبد الملك أفندي الشواف والشيخ قاسم أفندي القيسي والشيخ عبد الجليل أفندي جميل والحاج نجم الدين أفندي الواعظ وأمثالهم وكلهم يقرأون المادة الكبرى وهو رحمه الله له اليد الطولى في جميع العلوم والفنون حتى في الرياضيات والهيئة وغيرها من العلوم التي كان أكثرها لا يدرس في العراق فجميع من قرأ عليه فاز على أقرانه إلا النزر القليل هكذا كان رحمه الله واما في الأصول والحكمة والكلام وعلوم البلاغة فحدّث ولا حرج ...

ولما عين إلى مندلي لم يجد من يقرأ عليه سوى مقدمات علم النحو ومقدمات فقه الشافعية لا غير ومن حرصه رحمه الله على العلم والإفادة عاد إلى بغداد مستعفيا فعين بمحله الشيخ خطاب الجبوري...

وفي سنة 1317 هجرية نقل الشيخ طه أفندي الشواف إلى إفتاء البصرة ترفيعا وعين بمحله محمد سعيد أفندي التكريتي وبقى فيها رحمه الله إلى أن توفي قبل بضع سنوات فمدة بقائه في الرمادي تزيد على أربعين سنة وقد أفاد رحمه الله واستفاد وتولى القضاء والإفتاء أيضا في ذلك اللواء وبعد وفاته رحمه الله عين بمحله الشيخ عبد الجليل أفندي آل السيد إبراهيم الهيتي وهو الآن حفظه الله قائم بأمور التدريس والإفتاء والإرشاد نسأل الله التوفيق لنا وله ولعموم المسلمين .

وفي ذلك العام أي سنة 1317 هجرية توفي المرحوم الشيخ محمد أفندي الكونداولي العالم الفاضل الذي شهد بفضله الأماثل فعين بمحله الشيخ قاسم أفندي القيسي رئيس جمعية الهداية الإسلامية الآن وأحد مدرسي (كلية الشريعة) الإسلامية في الاعظمية وبقي في خانقين سنة ثم جرى التبادل بينه وبين مدرس العزيزية الشيخ محمود أفندي القره طاغي لأمر ارتأته ولاة الأمور انه صواب حيث ان خانقين بلدة كردية والشيخ محمود يحس اللغة الكردية والشيخ قاسم لا يحسنها والعزيزية عربية صرفة والشيخ قاسم عربي بحت فناسب من هذه الوجهة تحويل احدهما بمحل الآخر لان كلا منهما أكثر فائدة من صاحبه لأهل محيطه وبقى كل منهما بمحله المذكور إلى تشكيل الحكومة العراقية فعين الشيخ قاسم عضوا في المجلس العلمي ثم عضوا في مجلس التمييز الشرعي إلى أن أحيل على التقاعد فعين مدرسا في مدرسة نائلة خاتون ومحاضرا في كلية الشريعة كما سبقت الإشارة إليه اسأل الله أن يمتع به الإسلام والمسلمين لأنه في جميع مناصبه التي تدرج إليها أفاد ...

واستفاد وارى انني قد خرجت عن الصدد أن استوعبت البحث عن جميع أولئك المدرسين عليهم رحمة رب العالمين فأريد ان اصد عنان القلم عن التطويل وارجع إلى الاختصار لأنها عجالة لا تتحمل ذلك فأقول :

عين لبقية الاقضية من علماء العراق الأفاضل من عرب وأكراد لا ميزة بينهم ولا شحناء بل من تأهل للوظيفة أسندت إليه من أي العنصرين كان .

وفي سنة 1317 هجرية اصدر السلطان المرحوم المشار إليه ارادته بتعيين عشرة مدرسين داخل ولاية البصرة براتب شهري قدره خمسمائة قرش صحيحة تساوي خمسة دنانير عراقية فعينوا حالا في جميع أقضيتها حتى في بعض نواحيها وقراها كالزبير والسبيليات وأفادوا واستفادوا وانني اعرف بعضهم وكانوا من أفاضل العلماء وأكثرهم درجوا إلى رحمة الله ولنرجع إلى المقصود الذي نحن بصدده الآن .

سبب تأسيس هذه المدرسة في هذا البلد حدوث أمر لا يسعني في مثل هذه العجالة ذكره بل اكتفي بالإشارة إليه وهو خشية تلاعب في الدين من بعض المنتسبين إليه ولم يوجد في ذلك التاريخ بهذه البلدة من العلماء من يقف لصد هذا التيار الجارف وكان إذ ذاك والي بغداد المرحوم الحاج حسن باشا وهو رجل من أهل الدين وأرباب اليقين فاخبر السلطان المشار إليه بذلك فاستفهم السلطان من الوالي إذ كما يقال صاحب الدار أدرى بالذي فيه وأنت الآن بين ظهرانيهم ولابد انك بهذه المدة قد وقفت على أحوال أهل البلاد وعرفت مراميهم فبأي طريقة يتلافى هذا الأمر ؟ فاخره الوالي المشار إليه بان انجح طريقة لتلافي هذا الأمر هو وضع مدرسة دينية بذلك الموضع فاصدر أمره العالي بإنشاء مدرسة دينية بهذا القضاء وأمره أن يعين فيها مدرسا يصلح لمثل هذا الأمر وان يكون من العلماء الأفاضل فطنا دينا سياسيا فانتخب الوالي رحمه الله المرحوم المبرور الشيخ محمد سعيد أفندي النقشبندي أبا بهاء الدين ونعم من انتخب فانه أهل ومحل لمثل هذا المنصب الرفيع فقد قرأت عليه رحمه الله السنين العديدة بعد عودته إلى بغداد حينما عين مدرسا في مدرسة الإمام الأعظم وفي مدرسة الفضل وقد كنت اقرأ في ذلك التاريخ على أفاضل عصره فكلهم رحمهم الله أفاضل أخيار رحمة الله عليهم وجزاهم الله عنا ومن المسلمين خير الجزاء ولكن لم أر منهم من يخالطه في أخلاقه وحس آدابه وأسلوب تدريسه وتعمق تحقيقه فكان رحمه الله نادرة من نوادر الزمان ولو أردنا سرد ما اتصف به لضاق بنا المجال فشد الرحال رحمه الله وتوجه إلى سر من رأى ( سامراء ) فاستقبلوه الاهلون بالتبجيل والترحيب المنقطع النظير وحسب ما سمع من الثقات كأنه ظهر المهدي عليهم بقومه فانكبت عليه الناس من كل حدب وصوب وانتسب إليه البعيد والقريب والنسيب والغريب واستأجر دارا مقابلة للجامع الكبير من الجهة الشمالية واتخذها مدرسة واشتغل بالتدريس والإرشاد والوعظ وصار يدرس الشبان والكهول في تلك الدار حيث انه لم تكن المدرسة مهيئة للتدريس في ذلك الوقت وصار هذا ديدنه من حين صدور الارادة السنية في تعيينه وذلك سنة 1309 هجرية إلى سنة 1312 هجرية فسافر رحمه الله تعالى إلى الحجاز لأداء فريضة الحج واشتهر اسمه في الحجاز وصار كالنجم الساطع فدرس من درس وأجاز من أجاز ولله الحمد .

 

وسبب هذه الشهرة كما سمعته منه رحمه الله قال :

كان في مكة رجل هندي مجاور هناك اسمه ملا تواب وهو رئيس علماء الحجاز في ذلك التاريخ وعلاوة على غزارة علمه فهو في الوقت عينه طبيب حاذق غاية الحذاقة بفن الطب وله اليد الطولى في علم التصوف وقد التمس مني ان اقرأ وعظا في الحرم الشريف فلم أوافق وجاوبته انه بوجود حضرتكم ووجود هؤلاء العلماء الأفاضل لا حق لي بذلك . وكنت اجلس في حلقة تدريسه بكمال الأدب كطالب من الطلاب وفي تلك الأثناء جاء رجل من علماء الهند قد شد الرحال بعد أخذه الإجازة العامة من علماء بلده لأجل ان يقرأ عليه كتاب الفصوص للشيخ الأكبر محي الدين العربي في التصوف وكنت اجلس لاستماع هذا الدرس خاصة لأني مغرم بعلم التصوف وخاصة بهذا الكتاب ومن كثرة مطالعتي له قد حفظته عن ظهر قلب تقريبا وكان الكتاب الذي يقرأ به الرجل الهندي خط يد لا طبعا فمرت عليه عبارة قد سقط عليها ماء فمحا بعضها فلم يتمكن على قراءتها ولكونها لم تقرأ كما ينبغي تحير الشيخ التواب في حلّها فحينئذ قلت أظن ان العبارة كذا وكذا فأمر الشيخ بإحضار نسخة أخرى فظهرت العبارة كما قلت أنا فطار عجب الشيخ التواب وقال:

ان هذا الرجل من أكابر العلماء فانكب عليّ الطالبون انكباب الجياع على القصعة فمدة بقائي هناك قرأت من قرأت وأجزت من أجزت ولله الحمد .

وبعد ان قضى رحمه الله مناسكه وتضلع من زيارة سيد الوجود ركب البحر متوجها إلى الاستانة التي هي دار الخلافة في ذلك التاريخ وكان معه رحمه الله كتاب والي بغداد وكتاب والي الحجاز إلى ( المابين ) يعرفان به ويصرحون بان يكون ضيفا على مائدة السلطان وكان ذلك السلطان رحمه الله يقبل الضيوف من أي قسم كانوا فقط يحتاج إلى إيصاله بواسطة من الوسائط اما بانهاء من والي تلك الولاية او وصية من حكومة أخرى او بواسطة احد الأمراء .

وكان عند ذلك السلطان رحمه الله ثلاث محلات للضيافة احداها للعلماء وثانيها للأمراء وثالثها للأجانب فنزل الشيخ رحمه الله ضيفا في المحل المهيء للعلماء واحتفل به من قبل حاشية السلطان غاية الاحتفال ثم في الوقت المعين ادخلوه عليه فاستأنس به كثيرا وكان رحمه الله يحسن اللغة التركية وكلامه رقيق لطيف فسر السلطان بذلك وأراد إكرامه وزيادة راتبه فاعتذر له رحمه الله بان راتبه خمس عشرة ليرة ذهبا وهذا المقدار بالنسبة لمثلي كبير فلا أريد زيادة راتب ولكني استرحم ان تأمر ببناية مدرسة في سامراء تضم الطالبين وان تخصص لهم شيئا يقتاتون به فاصدر ارادته رحمه الله بتخصيص ( 1200 ) ألف ومائتي ليرة ذهبية عثمانية من الخزينة الخاصة لبناء هذه المدرسة وخمسين ليرة ذهبية لمائة طالب لكل طالب منهم نصف ليرة شهريا وهي أيضا من الخزينة الخاصة وهي جارية حتى الآن من الخيرات المدورة تصرف بواسطة الوقف وكذلك جامع سميكة وجامع الإسكندرية وجامع بندر بوشهر وجامع بندر عباس وجامع لنجه كلها من الخيرات المدورة فاما جامع سميكة والإسكندرية فحتى الآن يصرف عليها من الخيرات المدورة واما بقية الجوامع المذكورة فإلى آخر زمن العثمانيين يصرف عليها من هذه الجهة وأما الآن فلا ادري أهي جارية أم قطعت ؟

ثم ان المرحوم الشيخ محمد سعيد قدم إلى العراق ضافرا بمقصده ولما قدم إلى سامراء حاملا هذه الارادة السنية ارتجت لها أركانها واستقبل استقبالا رائعا لم يسبق لغيره وكان موضع هذه المدرسة دورا للاهلين , وحيث انه ملاصق للجامع الكبير وفي قرب الحضرة الشريفة وفي وسط البلدة أحب ان تكون المدرسة بهذا الموضع لهذه المعاني فاقنع أهل الدور بمعرفته وحسن سيرته وأخلاقه واشتراها منهم بالثمن الذي أرضاهم به عن طيبة نفس وأعمرها هذا التعمير البديع الرصين جزاه الله على المسلمين خيرا فإنها خدمة تذكر وتشكر وقد ابتدأ في بنائها سنة 1314 هجرية وانتهى منها في سنة 1316 هجرية وكتب التاريخ المذكور على بابها وهو هذا :

لقد أشرقت بالعلم مدرسة الهدى     فلاحت شموس واستهل سعود

وقد جاورت أبنــاء بنت نبيـــنا      فبــالقرب من آل النبي تســود

بأمر أمير المؤمنيـــن إمامنـــا      خليفة خير الخلق وهو حميـــد

فاما مفيد العلم فيها فأرخوا       فيـــم واما حظها فســـعيد

                                                     1316 هجرية

وذلك من نظم الفاضل الشيخ مصطفى أفندي الخطيب الشهربنلي الذي هو عم عطا أفندي الخطيب مدير منطقة الوقف سابقا وسجل بها مائة طالب يتقاضون الراتب وكان فيها في ذلك التاريخ ما يزيد على عشرين مداوما بغير راتب وكان رحمه الله حازما عارفا ومن جملة حزمه انه سجل في هذه المدرسة عموم أولاد رؤساء هذه البلدة وقد سجل فيها أولاد السيد علي سادن حضرة العسكريين برمتهم وأولاد الشيخ عباس صاحب التكية الرفاعية وشيخ سجادتها في هذا البلد وأولاد السيد عبد الله العابد صاحب التكية القادرية وشيخها وأولاد السيد عباس المحمد الحمد رئيس عشيرة البو عباس وأولاد السيد جاسم رئيس عشيرة البو باز وأولاد السيد حسب الله رئيس عشيرة البو نيسان وبقية أولاد رؤساء العشائر وغيرهم فضبطهم وضبط آبائهم بذلك عن تلاعب أيدي المبتدعين بهم لان تلك الطائفة التي سبقت الإشارة إليها قد لعبت دورا قويا بهذا البلد وبذلت الأموال الطائلة والهدايا الجسيمة لعموم الاهلين ولا سيما للرؤساء فاستمالت قلوبهم وأنطقت بالمدح والثناء ألسنتهم ولو لم يقيض الله إنشاء هذه المدرسة وان يكون مدرسها ذلك الحازم الفاهم لطاحوا في الشبك واصطادهم الفخ كما صاد كثيرا من أبناء العراق وجرفهم التيار وبهذا الموقف الكريم الذي وقفه المرحوم الشيخ محمد سعيد أفندي النقشبندي توقفت حركة المتحركين وشلت أيدي المبتدعين فتفرقوا أيدي سبا ولم ترتفع لهم راية ولم يثر لهم ثائر وكل منهم رجع إلى كوخه وعشه بعد ان كانت لهم الكلمة المسموعة ويؤيدهم الرأي العام وما أحلى انطباق هذا البيت الجليل عليهم :

كان لم يكن بين الحجون إلى الصفا     أنيس ولم يسمر بمكة سامر

 

وبقي مثابرا على التدريس – بعد ان نجح في مقصده النجاح الباهر- والوعظ والإرشاد من حين تعيينه بهذه الوظيفة إلى نهاية سنة 1316 هجرية وبهذه المدة تقدمت المدرسة تقدما باهرا ونبغ فيها جمع لا يستهان بهم ومنهم من تأهل للوعظ والإرشاد والتدريس .

وهنا اذكر جملة من أسماء الطلاب الذين دخلوا المدرسة منذ تأسيسها إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى بعدة سنين :

عبد الوهاب المدرس البدري , طه الياسين , توفيق الخطيب , حسن النقي ,عبد القادر الشيخ حسين , عبد الجبار القاضي , حسني الالوسي , محي الدين الالوسي , محمد الحسين , محمد سعيد الشيخ احمد , حسين علي , الشيخ احمد السلطان , محمد سعيد الراوي المدرس , عبد الله بك القصاب , احمد الراوي المدرس , ناجي القشطبني , جمال الالوسي , شمس الدين الالوسي , كمال الدين الالوسي , الشيخ عبد الحق شبيب , رشيد توفيق , عبد الحميد عبد الوهاب , عبد الحميد السلمان , غنام محمد , عبد الرحمن مهدي , عبد الوهاب محمد الياسين , يونس محمد الحسن , عبد الرحمن جاسم , سعيد محمود فايز , عبد النبي محمود الساقي , إبراهيم مهدي , عبد الرحمن محمود الدهيمش , رشيد عزة , حميد عزة , عبد الفتاح رشيد , شاكر التكريتي , صالح الصفو , صالح مهدي , عبد اللطيف سالم , كمال عبد الوهاب صالح مهدي , عبد الحميد عباس , جاسم الملا محمد , الحاج صالح الملا محمد , جاسم السيد محمد , محمد صالح عبد اللطيف , محمود محمد صالح , حسين خضر , علي حسين الياسين , الحاج علي السليم , حسين الحاج علي السليم , طه الحاج احمد , حسين علي الكاظم , يوسف اليعقوب, عبد النبي الحاج شهاب , علي الحاج محمود , صالح حسين , عبد الحميد الحاج محمد , احمد عبد الله الموسى , لطيف الحاج محمود , مصطفى الحاج عبود , رشيد العابد , عبد المجيد عبد الرحمن , عبد اللطيف مهدي السعود , محمد عبد الله الموسى , عبد اللطيف عبد الله وكان هذا إماما في مسجد حسن باشا بسامراء , كامل العباس , صالح بن علي الشيخ حسن , لطيف مهدي الاحمد , حسن علي الحبيب , محمود بن شيخ غلام , عبد المنعم بن شيخ غلام , شاكر بن شيخ غلام , محمود بن ساقي , حسن عبد الرزاق, محمد بن دولة , حسين الشيخ علي , انصيف بن جاسم , محمود بن علي الخلف , مصطفى مهدي الشاهري , إسماعيل الجاسم , عباس الحاج حمادة , عزة السيد عباس , مهدي بن هاشم , شامل بن عباس, عبد الكريم بن عباس , عباس بن عبد الكريم القاضي , فاضل عباس , مهدي بن حسين اللطيف , عباس بن عبد الحسين , حسن بن علي السليم , عباس بن صالح الكاظم , احمد محمد الاسماعيل , ارزوقي بن عواد , مهدي بن حسين الخلف , حمدي بن فهمي أفندي , رؤوف بن قسام , محمد سعيد بن خطاب , نوري بن عبد القادر , نوري عبد الحميد الالوسي , صالح بن مهدي الوحيد , محمد مهدي السليم , نوري بن سيد علي , ياسين الحاج شهاب , عبد العزيز الحاج إبراهيم , ياسين علي النجار , عبد اللطيف بن حسين الياسين , شاكر السيد حسن , جاسم محمد الاسماعيل , مهدي بن هندوش , مهدي العلوش , الحاج إبراهيم اليعقوب , محمد صالح العكيد , إبراهيم بن عبد الرزاق , يحيى بن حسن الصباغ , جلال بن سيد علي الكليدار , رجب السيد عبد الوهاب , ملا محمد بن الحاج عبد الله , محمد بن ياسين , علي ارميض , حسن بن الحاج علي , احمد بن علي السليم , محمود ضرار بن عبد الله , عبد الحميد بن داود , حسن محمد اغا , شاكر بن احمد بك , عبد الحميد بن توفيق أفندي , محمد فخري بن محمد سعيد , احمد بن خضر , عبد الرزاق إبراهيم , محمد جابر بن عبد الله , توفيق قسام , عبد الكريم بن منصور , ياسين الحاج محمد , احمد حفيد الشيخ عبد الواحد , محمد ناجي بن عبد الرزاق , محمد بن فهمي أفندي , فليح بن حسن , علي الحاج حمادة , محمود العواد, محمد علي الملا هيبه , حساني الحاج عبد النبي , عبد الباقي آل حسب الله , محمد النقيب , احمد النقيب .

هؤلاء هم الرعيل الأول من طلاب المدرسة العلمية الدينية في سامراء الذين بلغ عددهم 146 طالبا وفي نهاية سنة 1316 هجرية توفي المدرس الأول بمدرسة الإمام الأعظم الشيخ احمد أفندي السمين فطلب مكانه جم غفير من أفاضل العلماء ومن جملتهم الشيخ عبد السلام أفندي الشواف والشيخ عبد الرحمن أفندي القره طاغي والشيخ غلام رسول الهندي وطلبها الشيخ محمد سعيد النقشبندي فرجحوا الأخير على الجميع فقفل راجعا من سامراء إلى بغداد فاضطربت لذلك المدرسة وأهلها بل عموم سكان هذا المحيط وحزنوا على فراقه بقدر ما فرحوا بقدومه ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا .

وصل بغداد واستلم زمام المدرسة وكان معه المدرس الثاني الشيخ حسين أفندي البشتري العالم الفاضل ولا سيما في علوم الأفلاك فكان رحمه الله يدرس تشريح الأفلاك كما يدرس غيره الاجرومية فازدهرت مدرسة الاعظمية بوجود هذين الشيخين الجليلين فيها .

وبعد بضع سنوات توفي الشيخ حسين أفندي البشتري وعين بمحبه ولده معروف وبقي المرحوم الشيخ سعيد أفندي مدرسا فيها إلى حين وفاته حوالي سنة 1340 هجرية وقد تخرج عليه الجم الغفير واشغلوا المناصب العالية وقد تشكلت في زمنه كلية الإمام الأعظم التي سميت الآن ( بكلية الشريعة ) وكان هو مديرها رحمه الله علاوة على وظيفته الأصلية فتخرج فيها الجم الغفير فأفادوا واستفادوا ولما تنحى عنها لم نشاهد من تخرج فيها واشغل اقل وظيفة دينية بل أكثر خريجيها يستخدمون في الكمارك وما شاكلها وقد أشرفت في هذا العام على الانقراض ولم يبق فيها سوى صف واحد تخرجوا وذهبوا إلى حيث القت رحلها ام قشعم . فتداركها بعض أفاضل العصر وقلبوا اسمها إلى كلية الشريعة الإسلامية وعين مديرا لها الرجل الفاضل الشيخ حمدي الاعظمي ومدرسا الشيخ محمد محمود الصواف الموصلي خريج الروضة الأزهرية بمصر المحمية ومحاضرين الشيخ قاسم أفندي القيسي والشيخ نجم الدين الواعظ والشيخ عبد القادر خطيب جامع الإمام الأعظم والحق يقال ان الجميع من خيرة القوم ومن أفاضل علماء هذا العصر ولنا الأمل الوطيد بهم ان ينهضوا بهذه الكلية المباركة ويخرجوا منها رجال دين تستفيد منهم البلاد والعباد ولا سيما اذا عاضدتها مديرية الأوقاف العامة المحترمة ونظرت إليها بنظر الاعتبار والله الموفق والميسر .

ولنرجع إلى مدرسة سامراء فلما انحل التدريس فيها وذهب المرحوم الشيخ سعيد إلى مدرسة الاعظمية بقيت وظيفة التدريس فيها شاغرة فطلب التدريس فيها المرحوم المبرور الشيخ قاسم أفندي الغواص احد تلامذة شيخ العراق في زمانه الشيخ عيسى أفندي البندنيجي ذلك الفاضل الذي يشار إليه بالبنان علما وزهدا وتقوى ورياسة . والمرحوم الشيخ قاسم الغواص من خيرة تلامذته ولأجل ذلك سمي الغواص حيث انه يستخرج المعاني الدقيقة البعيدة المنال كما يستخرج غواص البحر الدر واللآلئ من قعره ولو أردنا التطرق إلى رحمة حاله لشذ بنا البحث ولكن هذا ليس محله وقد كان رحمه الله في ذلك الحين قائما بالتدريس في مدرسة الاعظمية بالوكالة عن مدرسها الأول الشيخ احمد أفندي السمين حيث انه ابتلي في آخر عمره بداء الفالج , وقبل ان يعين الشيخ قاسم الغواص للتدريس في مدرسة سامراء شاحنه على ذلك الشيخ عباس أفندي القصاب وهو كذلك من خيرة القوم ومن أفاضلهم علما وزهدا وتقوى والحق يقال ان كلا منهما أهل لمثل هذا المنصب الشريف وكان المرحوم عباس أفندي إذ ذاك أمينا للفتوى في بغداد والمفتي حينئذ الرجل الزاهد العابد الشيخ محمد سعيد أفندي الزهاوي فطرحت المسالة للمذاكرة في مجلس الوالي وكان الوالي حينذاك نامق باشا الذي كانت له مصاهرة مع آل الالوسي وكان النقيب السيد عبد الرحمن أفندي الكيلاني يميل إلى جانب الشيخ قاسم أفندي الغواص لأنه شريكه في الدرس على المرحوم الشيخ عيسى أفندي البندنيجي . والمفتي يميل إلى جانب الشيخ عباس أفندي حيث انه أمين للفتوى عنده , وبعد الرد والبدل جعلوا المسالة كالصلح بين الطرفين فقرر تعيين مدرسين لهذه المدرسة براتب المدرس السابق ووزع الراتب بينهما أثلاثا ثلثان للمدرس الأول وثلث للمدرس الثاني فكان المرحوم الشيخ عباس هو المدرس الأول والشيخ قاسم الغواص المدرس الثاني – فقدما إلى سر من رأى واشغلا المدرسة بالتدريس وأعادا مجدها كما كانت في زمن المرحوم الشيخ سعيد وزيادة وتخرج عليهما الجم الغفير ولم يلبث المرحوم الشيخ قاسم أفندي الغواص الا بضع سنوات فانتقل إلى رحمة الله ودفن في سامراء في المقبرة العامة المقابلة لباب الناصرية خارج البلد وقبره مشهور يزار ويتبرك به إلى الآن فأعلن شغور وضيفته واستدعى فيها خلق كثير فوضعت المسالة في الامتحان في مجلس إدارة ولاية بغداد وكانت العادة هكذا في ذلك الزمن ومن جملة من طلب هذه الوظيفة السيد عبد الوهاب أفندي البدري السامرائي احد خريجي هذه المدرسة فأحرز الأهلية في الامتحان وفاز على عموم من امتحنوا معه فعين فيها سنة 1318 هجرية وهو إلى الآن مدرس في هذه المدرسة والحق يقال انه من خيرة المدرسين الموجودين في العراق الآن وله أسلوب حسن في التدريس وله اليد الطولى في جميع العلوم والفنون المعقولة والمنقولة ولا سيما في العلوم العربية وفروعها نسأل الله التوفيق والثبات لنا وله ولعموم المسلمين آمين .

ولنرجع إلى ذكر المرحوم المبرور الشيخ عباس أفندي المدرس الأول في هذه المدرسة فانه كان رحمه الله من خيرة علماء عصره وحصّل على أكابر علماء دهره كالشيخ عبد السلام أفندي الشواف والشيخ عبد الرحمن أفندي القره طاغي والشيخ غلام رسول الهندي وأمثالهم من الأفاضل ونال الإجازة العامة في المعقول والمنقول من يد الشيخ عبد السلام أفندي الشواف شيخ الكل في الكل في زمانه . أحرزها هو والشيخ يوسف أفندي عطا مفتي بغداد الحالي والشيخ محمد سعيد أفندي التكريتي مدرس الرمادي الذي سبقت الإشارة إليه في يوم واحد سنة 1315 هجرية وكان إذ ذاك هو أمين الفتوى في بغداد ووكيلا عن المرحوم نعمان أفندي مدرس مدرسة الشيخ صندل فكان يشتغل بالتدريس في تلك المدرسة في الصباح إلى الظهيرة وبين الظهر والعصر يذهب إلى مدرسة السليمانية لاستخراج نصوص الفتوى وتخرج عليه جم غفير وأفاد واستفاد قبل مجيئه إلى سامراء ولما قدم هذه البلدة أواخر 1316 هجرية واستلم زمام تدريسها هو والمرحوم المدرس الثاني الشيخ قاسم أفندي الغواص رفع مستواها وانكب عليه طلابها واشتغلوا في التحصيل ليلا ونهارا وانتفع منهم جمع لا يستهان به واشغل المناصب الدينية كثير منهم ومنهم من اشغل القضاء والإفتاء ومنهم من اشغل التدريس والوعظ والإرشاد واما الذين اشغلوا وظائف الإمامة والخطابة والتعليم في المدارس الرسمية فحدث ولا حرج وكان رحمه الله رغابا في التدريس لأنه اشتغل به من حداثة سنه واما ما اتصف به من مكارم الأخلاق وطيب النفس والرأفة بطلبة العلم والفقراء والمعوزين فان له الكأس المعلى في هذا الباب وبقي على هذه الحالة منكبا على التدريس والإفتاء حيث أحيل له منصب الإفتاء أخيرا في سنة 1322 هجرية مشتغلا بالوعظ والإرشاد والإصلاح بين الناس إلى ان انتقل إلى رحمة الله سنة 1328 هجرية .

وحيث ان والده عبد الله بك القصاب الذي أحرز منصب وزارة الداخلية مرتين في زمن هذه الحومة كان صغيرا لا يمكنه إحراز منصب والده عين وكيلا عنه في هذه المدرسة الشيخ محمد سعيد أفندي الجبوري وكان رحمه الله من الأفاضل أيضا وبقى يشغل هذا المنصب بالوكالة منذ وفاة المرحوم الشيخ عباس أفندي إلى سنة 1926 ميلادية وكان وزيرا للأوقاف إذ ذاك حمدي بك الباجه جي فعمل طلاب هذه المدرسة مضبطة وقدموها لصاحب المعالي الوزير المشار إليه يسترحمون فيها جعل مخرج لمدرستهم وقالوا فيها اذا لم يكن لها مخرج فلا فائدة بها وعلى هذه الكلمة اصدر أمره بالغائها وسدّها كأنه متعطش إلى ذلك فشمر عن ساعده الجد والاجتهاد كل من وكيل المدرس الأول الشيخ محمد سعيد الجبوري والشيخ عبد الوهاب المدرس الثاني لهذا الأمر الخطر وساعدهم بعض أهل الدين ومحبي العلم والخير من السامرائيين وغيرهم . وراجعوا البلاط الملكي ومقام رياسة الوزراء وغير ذلك من المقامات التي لها تعلق بهذا الأمر فأعانهم الله على إصدار الأمر بإرجاعها بعد أن أغلقت أبوابها ستة أشهر وفي تلك الأثناء عين الشيخ محمد سعيد الجبوري المتقدم الذكر مدرسا في المدرسة النجيبية في بغداد واما المدرس الثاني فعاد إلى منصبه في سامراء وكان صدور أمر فتحها في زمن وزارة أمين عالي باش أعيان البصري العباسي للأوقاف - حيث كانت وزارة في ذلك التاريخ – ومدير الأوقاف حينئذ عطا أفندي الخطيب وقد جعلوا عدد طلاب المدرسة خمسة عشر طالبا بعد ان كان عددهم قبل إلغائها خمسة وعشرين طالبا .

وبقي محل المدرس الأول شاغرا فيها وقد صادف في ذلك الحين إلغاء أربعة عشر محلا من القضاء الشرعي وعينوا بمحل أولئك القضاة حكام صلح من خريجي مدرسة الحقوق وأضافوا لهم القضاء الشرعي عكس ما كان في السابق حيث كان في هذه المناصب قضاة شرع تحال لهم حاكمية الصلح علاوة على وظائفهم الأصلية .

وكان صدور هذا القرار من وزارة العدلية في أواخر سنة 1926 ميلادية وكان يشغل وزارة العدلية حينذاك ناجي بك السويدي وكان الداعي احد القضاة الذين ألغيت وظائفهم حيث كنت في شهربان قاضي شرع وهي وظيفتي الأصلية وأحيلت لي علاوة عليها حاكم صلح وحاكم جزاء ورئيس إجراء وكاتب عدل وعين بمحلي عبد الرحمن خضر وقرر استخدامي لحاكمية شرع صرفة عند حدوث أول منحل فأتيت إلى بغداد وكتبت استدعاء إلى رئيس الوزراء وكان إذ ذاك جعفر باشا العسكري رحمه الله وحاججته بان المأمور لا يجوز عزله إلا بمادة توجب ذلك ولا سيما ان كان من قسم الحكام كما يصرح به القانون إلى غير ذلك من المحاججات النظامية وأردت من القضاة الذين ألغيت وظائفهم معي ان يشتركوا في الموضوع فلم يشاركني احد من أولئك المساكين وبعد تقديم هذا الاستدعاء ببرهة اقتضى ذهابي إلى الديوانية لأمور عائلية فذهبت إلى هناك وفي اليوم الخامس من وصولي تلقيت برقية من وزير الأوقاف وكان حينئذ أمين عالي باش اعيان البصري العباسي منطوقها : ( قرر تعيينك مدرسا أول إلى مدرسة سامراء العلمية فالرجاء التحاقك بمحل وظيفتك بأول فرصة ممكنة ) وكان ذلك بدون طلب مني ولكن من عادة الحكومات إذا رأوا رجلا يطالبهم بحق وفيه روح ينحونه عن وجوههم ويقنعونه بشيء يسكتونه به فأتيت إلى بغداد وبحثت عن المسألة وإذا راتب هذا التدريس لا يقابل نصف راتبي الذي كنت أتقاضاه في القضاء فلم اقبل واعتذرت منهم عن ذلك وخرجت من عندهم وكنت نزيلا عند عمي المرحوم المبرور الشيخ إبراهيم الراوي فجاء الوزير المشار إليه ومعه مدير الوقف عطا الخطيب رحمهما الله إلى منزل عمي المشار إليه وصاروا يكلمونني في هذا الخصوص ويلحون علي بالذهاب فلم اقبل واعتذرت لهم بقلة الراتب فقالوا الآن لا يمكننا أكثر من هذا ولكن بمعونة الله سيعدل الراتب .وكان من جملة الجالسين في ذلك المجلس قاضي بغداد في ذلك الحين محمد سعيد أفندي الحديثي ومفتيها يوسف أفندي عطا ورئيس التمييز الشرعي عبد الملك الشواف فانطبقت كلمة الجميع علي بلزوم قبولي لهذه الوظيفة الشريفة وعمي المرحوم أيضا وافق معهم فأعطيتهم جوابا بأنني سأسافر غدا ان شاء الله وفي صباح ذلك اليوم ركبت بالقطار واتيت إلى سامراء متكلا على الله وباشرت بالتدريس والوعظ والإرشاد وفي اليوم الثاني من وصولي لهذا البلد المقدس .

وفي سنة 1929 ميلادية صار وزيرا للأوقاف الشيخ احمد آل الشيخ داود ومديرها عبد اللطيف ثنيان فصدر قرارهم بإدماج المدرسة العلمية بالمدرسة الابتدائية في سامراء فراجعتهما في هذا الخصوص وحاججتهما بان هذا الإدماج لا فائدة به سوى ضياع المدرسة العلمية لان المدرسة الابتدائية مربوطة بالمعارف ولها مدير ومعلمون كافون لها ولتدريسها فلا أرى فائدة بذلك سوى ضياع المدرسة العلمية بدون جدوى فكان الجواب منهما اننا نريد إدماج جميع مدارس الأوقاف بمدارس المعارف ومع انني واجهت كل واحد منهما على انفراد فخرج الجواب منهما حرفيا وكأنهما متواطئان على ذلك عليهما من الله ما يستحقانه على هذه الجرأة وهذا الإقدام الذي لا يرضى به الله ولا رسوله ولا المؤمنون فانا لله وإنا إليه راجعون .

وحينئذ ذهبت أنا وعمي المرحوم المبرور السيد الشيخ إبراهيم الراوي إلى البلاط الملكي وواجهنا المرحوم الملك علي وكان اذ ذاك وكيلا عن المرحوم أخيه فيصل حيث كان غائبا في بعض أسفاره فوعدنا الرجل خيرا وبقيت أثابر بهذا الخصوص في البرقيات والمضابط ومراجعة المقامات الخاصة مع ان راتبي جار وكلفوني بالدروس الدينية في مدرسة المعارف بسامراء ولما أكثرت عليهم اللحاح أصدروا أمرا بأنني مدرس ديني في المدرسة العلمية وبإعطائي ثلاث غرف فيها وبقيتها تشغلها المعارف . واما المدرس الثاني والفراشان فبقوا في المدرسة الابتدائية . وفعلا وضعوا في هذه المدرسة الصف الأول والثاني وأرادوا بهذه العمليات إسكاتي فلم اقبل ولم اسكت وبقيت مثابرا على ذلك والحق يقال انه قد ساعدني على هذا المطلب الغيارى من أهل هذا البلد بالمطالبة وآخر برقية كتبتها إلى رئيس الوزراء من هذا الخصوص حينما كان نوري السعيد في سنة 1930 وهذا نصها :

( فخامة رئيس الوزراء عجزناكم وعجزنا فهذه آخر برقية تأتيكم من عندنا في هذا الباب فاما ان ترجعوا المدرسة على محورها السابق وإلا فاخبرونا على لسان الحكومة المحلية . دع هؤلاء السقعاء يتركون هذه الخرافات لننزح إلى دولة يمكننا ان نستظل تحت رايتها لنأمن على ديننا ودنيانا ) وفي صباح اليوم الثاني او الثالث من إرسال هذه البرقية ورد الأمر من رئيس الوزراء المشار إليه مخاطبا به وزير المعارف وصورة منه للفقير وكانت خلاصته (سلموا المدرسة حالا بأثاثها إلى المدرس الأول ) هذه خلاصة الأمر فسلموها لي حالا واقلعوا عنها وفي تلك الليلة المباركة هيأت طعاما للفقراء والمساكين وأقمنا حفلة كبرى بهذه المناسبة قدم فيها أنواع الحلويات وما شاكلها وقرانا منقبة المولد النبوي الشريف في صحن المدرسة المذكورة وقد حضر هذه الحفلة جم غفير من المواطنين والأهليين وكان القائممقام في ذلك الوقت محمود بك السنوي والقاضي السيد صالح الراوي وكل منهما قد حضر الحفلة مع حاشيته فكانت حفلة تذكر وليلة سعيدة لا تنسى مدى الأجيال .

ومن ذلك التاريخ إلى الوقت الحاضر باشرنا فيها بتدريس العلوم الدينية والعربية بأصولها وفروعها . وقمنا بتعمير ما تداعى من بنائها وهي الآن ولله الحمد كالروضة الغناء عامرة مادة ومعنى مشغولة بالتدريس والوعظ والإرشاد والإفتاء وهي مرجع الكل في الكل تقام بها الصلوات الخمس والتوحيد الشريف في كل ليلة جمعة والاثنين والوعظ يبث فيها طيلة السنة كل يوم بعد العصر والدروس تدرس فيها من طلوع الشمس إلى الظهر وقد تخرج ولله الحمد منها الجم الغفير واشغلوا الوظائف الدينية المتعددة وهذه المدرسة ولله الحمد فائقة على عموم مدارس العراق العلمية بهذا الترتيب المذكور ومن شك في ذلك فليسأل من له علم وخبرة بهذه المدرسة أو فليأت بنفسه ولو على حين غفلة وفي أي وقت شاء من السنة ليشاهد بعيني رأسه ما ذكرناه ويشاركنا في هذا الشعور الواقعي بعد ان تتجلى له الحقيقة كما يجب . ولا أنسى فضل المدرس الثاني السيد عبد الوهاب أفندي البدري في مساعدته لي بمهمة التدريس فالحق يقال انه مثابر على أداء وظيفته مؤد لها على أحسن وجه وأكمله وسع طاقته عارف لأصول التدريس كما ينبغي , له اليد الطولى في جميع العلوم والفنون الدينية والعربية نسال الله الرحمة والتوفيق لنا وله ولعموم المسلمين آمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وحسبنا الله ونعم الوكيل ) .

الشيخ العلامة ايوب الخطيب وسط جمع من طلاب المدرسة العلمية الدينية في سامراء ( اواسط الستينيات من القرن الماضي )

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ