3/عمله في القضاء خلال العهد العثماني

بسم الله الرحمن الرحيم

   يقول الشيخ احمد محمد أمين الراوي في مذكراته التي أملاها على بعض أولاده

وغالبها بخط ( نجله المرحوم السيد هاشم وكريمته السيدة فاطمة ( ام مولود)) وذلك في العام /  1949 م :

( الحلقة الثالثة )

 

  وبعد أن كملت هذه المعاملات انتهى لي القاضي المشار إليه عاصم بك المتقدم الذكر الذي كان رئيس هذه الهيئة على نيابة قضاء العزيزية فنظمت الأوراق حسب الأصول وأرسلت إلى الأستانة في البريد وقبل وصولها لمحلها عُين إلى هذا القضاء رجلا تركيا من أهالي الأستانة من خريجي (مكتب النواب) حالما وصلت الأوراق أعيدت إلى بغداد يقولون في الجواب أنه قبل وصول هذه الأوراق تعين لهذا المحل قاضيا وسافر لمحل وظيفته فأحفظوا هذه الأوراق عندكم إلى أن يوجد لديكم قضاء منحل فأنهوها ثانيا ، ولما ظهر الأمر بهذه الصورة ولم يكن قضاء منحل في ذلك التاريخ أستحسن المرحوم النائب أن ينهيها إلى ناحية فقال لي رحمة الله عليه :  ليس لدينا قضاء منحل ويوجد ناحية منحلة وهي (شوفه مليحة) تابعة للواء الديوانية ننهيك إليها لتكون مفتاح للقضاء خيرا من ان تبقى هذه الأوراق مطروحة ، فلم يسعني مخالفته فأنهاها رحمة الله عليه .

وبوصولها صُدقت وأعيدت. فذهبت إلى ذلك المحل وأقمت به ما يقارب سنة ثم تحولت  إلى ( المسيب ) التابع للواء كربلاء وبقيت في هذا المحل مدة تزيد على السنتين وأعلنت الحرب العامة وسقطت بغداد بيد الانكليز ، وقبل وصولهم إلى المسيب خرجنا منها مع قائد الجيش التركي ( احمد بك أوراق ) وجعل مركزه في الرمادي هو وعسكره وأنا ذهبت إلى ( عنه ) إلى محل وطني الأصلي وبقيت أتقاضى راتبي ومخصصاتي ما دامت الحكومة التركية هناك ولما سقطت الشام أقلع القائد الذي كان في ( عنه ) هو وعسكره واسمه ( جميل باشا ) ابن خيري باشا ، كان والده أمير لواء في بغداد وأصله تركي ولكن جميل باشا يحسن العربية تماما لأنه تربية بغداد ، ويقول قرأت في مكتب على أفندي الخوجه أنا وعبد الرزاق أفندي رئيس كتاب مجلس بغداد على تخته واحدة، ويعرف جميع أكابر بغداد ويقول من جملة من كان معنا في هذا المكتب عيسى أفندي آل جميل والسيد أحمد أفندي النقيب وأخوه السيد عبد الله وغيرهم. والحاصل انه يعرف أكثر أكابر أهل بغداد لأنه تربى في مبدأ عمره هناك ثم ذهب مع والده حين حول إلى الأستانة وتخرج من المدارس العسكرية وحين كان قائد الجيش في ( عنه ) رتبته العسكرية أمير لواء أيضا ، وكان رحمه الله من خيار الأمة صاحب دين وتقوى وشهامة وإنصاف وحزم ودراية ، تمكن أن يبقى في هذه الجبهة مع إن الانكليز احتلوا هيت ومبدأ عسكره في البغدادي ولم يكن بينهم مؤنهم وكثرة عدَدهم وعُدُدهم وهو بالعكس من جميع ذلك لم يتمكنوا من الزحف عليه بمهارته بالأسلوب الحربي حيث انه وزع عساكره بمحلات متفرقة لا يتمكنون من الهجوم عليه ، لأنه أبقاهم في حيره لا يعرفون جبهة العسكر في أي موضع هي لأنه مزقهم في الأودية والسهول والجبال والآكام ، فطيارتهم لم تتمكن على كشف حقيقة العساكر من أي جهة هي ، وبهذا الحزم أمكنه إيقافهم في هيت مدة تزيد على سنه ، ولما سقطت الشام كأنه قطع عليه خط الرجعة فأمر بالرجوع فأقلع هو وعساكره على جهة دير الزور ومن هناك عبر إلى رأس العين التي هي من بلاد الأتراك حتى الآن ، وكان رحمه الله ضابطا لعسكره غاية الضبط لم يتجاوز أحداً منهم في جميع هذه المدة على أحداً من الأهليين ولا على شيء من حاصلاتهم ، مع أنهم نزولاً بين حدائق النخيل وحوالي المزروعات ولم يحصل من أحدهم تجاوز على شيء جزئي أو كلي لشدة حزمه وعزمه ، جزاه الله عنا والمسلمين خيراً وكان رحمه الله شديد الثقة بي ، وكانت الحكومة في ذلك التاريخ تأخذ حصتها الأميرية عينات تعيين من جنس الغلة التي تحصل من المزروعات لتعيش بها الجيش مع خيوله ، فكلفني رحمه الله بأن أكون مأمور لجباية ذلك من جميع الحاصلات في ذلك القضاء فاعتذرت له وقلت له : إنني لم يسبق لي مثل هذه الخدمة ، فأنا أتمكن ولله الحمد أن أكون قاضيا أو مفتيا أو واعظا أو إماما أو خطيبا هذه الوظائف التي أتمكن على إجرائها بمعونة الله وأما مثل هذه الوظيفة فلم تسبق لي بمثلها خدمة ولم أتمكن بحلها ، فلم يفد العذر وقال لي رحمة الله عليه : إن هذا القضاء فيه من الرجال ما يزيد على ستة ألاف نسمه وقد انتخبتك من بينهم لأن الأوردي في حاجه إلى الأرزاق ولم أرى حسب اجتهادي من أأتمنه على هذه المسألة مثلك فلا أقبل عذراً ، فبعد هذا الإلحاح لم يمكنني التأخر عن أشارة مطلبه فاتكلت على الله وباشرت المسألة من أول القضاء إلى آخره ومعي هيئة أيضا وأنا رئيسها فأعانني الله على ذلك وخرجت فيها ولله الحمد مرضياً للأهليين كافة .

  وكان في ذلك التاريخ والدنا المرحوم المبرور في قيد الحياة وكان هذا القائد في أغلب الأيام يأتي لزيارة المرحوم الوالد في ديوانه هو وثلة من ضباط الجيش لأن المحل الذي يسكن فيه قريباً من دارنا وقلنا أنه رحمه الله من أهل الدين فكان يستأنس في مثل هذا المحل ، ولما كلفني بالقضية التي مر ذكرها ولم يقبل لي عذراً استشرت المرحوم الوالد ، فقال : لا بأس وأنت أن شاء الله مأجور بذلك لأن الأهالي ضعفاء والأوردي محتاج ويخشى إن سلمت بيد غيرك هذه الوظيفة أن يغدر الجهتين أو ينفع جهة ويغدر الأخرى ، والراجح أن أكثر أهل هذا الزمان يميلون لأطماعهم لا يراعون مصالح غيرهم ولا سيما في مثل هذه الأيام العصيبة ، ولكنني أعرفك لين القلب رقيق العاطفة فإذا قالوا لك هذا مال أيتام أو هذا للوقف الفلاني أخشى أن تترك ذلك كله ولا تستوفي الحصة الأميرية فهذه الخصلة في الآونة لا ترتكبها لأن الطرفين محتاجون ، الأهالي ضعفاء والحكومة تحتاج إلى مصارف ناهضة لعسكرها فيجب عليك محافظة حقوق الطرفين بكل دقه وعدالة .

    فنفعتني وصيته رحمه الله وسرت على ضوء هذه الإشارات وخرجت منها ولله الحمد كما سبقت الإشارة إليه مرضياً للجهتين ومن الله التوفيق.

   ومن جملة حسن أخلاق هذا القائد ورأفته أنه لما ورده الأمر بالانسحاب لم يخبر أحداً حتى رئيس أركان جيشه وقال لنا المسألة هكذا ولكني سأتأخر ثلاثة أيام لأجل أن تجمعوا حاصلات ملككم وتضعوها في بيوتكم من تمر وغيره من الحبوب لأنني أخشى إن انسحبت أن تصير غوغاء في البلاد ويوجد من سكان البوادي أناس كالوحوش لا يرقبون الاً ولا ذمه فيتغلبون عليها وتبقون بغير قوت ، فقلنا له: أن أخبر أصحاب الأملاك ليجبوا غلتهم أيضا فقال : لا ، لأنني أخشى أن يشيع الخبر ولا أحب إشاعته إلا في اليوم الذي أسير فيه ، وهذا أيضا من حزمه ودرايته وقال رحمه الله : لا يحتاج الأمر في ذلك لأخبارهم لأنكم تقتدي الناس بأقوالكم وأعمالكم كما إنني أشاهد ذلك ، فبناءً عليه إذا جبيتم حاصلاتكم وشاهدوكم الناس فمن المحقق إنهم لا يتأخرون عن ذلك فيحصل المقصود بدون إشاعة الخبر . ومن صباح اليوم الثاني ابتدأنا بما أشار إليه فهبت الناس كالعطاش الذين يتواردون على الماء فكلاً منهم جبى حاصلات أملاكه ووضعها في بيته ، وفي اليوم الثالث جاء صباحا إلى ديوان المرحوم الوالد كعادته السابقة ولكنه مودعاً ، وفاه  بالخبر حين إذن ، فحزنت كثيراًً والحق يقال فلما شاهدني لهذه الحالة رحمه الله

  قال لي : ما شأنك ولم حل بك ما حل ؟

  فقلت له : لم أتخطر أنها مرت عليًَ ساعة أضيق من هذه الساعة لأن الحكومة التي ربينا تحت رايتها نحن وأسلافنا مدة تزيد على سبعمائة سنة ، وقد خدمت الدين والدنيا وخدمت الإسلام والمسلمين ، حتى إن المسلمين الذين هم ليسوا تحت سيطرتها لهم عزاً بواسطتها وتحترمهم الحكومات الذين يقطنون في بلادها لأجل هذه الخلافة ، آخر ساعة نفارقها فيها فلم لا يعتريني الكدر والارتباك فقال لي رحمة الله عليه : متى أحاطت بك هذه الأفكار فتذكر قوله صلى الله عليه وسلم : ( لو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع ) فسبحان الله العظيم صار لي هذا الحديث الشريف كالدواء لذلك الداء ، فما ارتبكت عليَ الأمور تذكرته وتفكرت في معانيه فتقلع عني تلك الهموم والأحزان وهذا دليل قطعي على صلاح هذا الرجل وإخلاصه ، نسأل الله أن يجعله غريق رحمته ورضوانه ويسكنه فسيح جناته آمين .

  وبعد أن جلس برهة من الزمن وقدمنا له ولرفقائه من الطعام والفواكه ما يسره الله في تلك الساعة ، قام وسلم على جميع الحاضرين وودعهم كسلام المحب للأحباب ، وامتطى صهوة جواده وسار مع عساكره متوجها إلى جهة دير الزور كما سبقت الإشارة إليه ، ومن جملة إنصاف هذا الرجل أنه لا يسير من محل إلا وينصب حاكما فيه  وهو نفوذاً وقوه من رؤساء العشائر، ويعطيه راتب سنه من الأرزاق التي كانت لديه ويأمر أن لا تتقاضى شيئاً من الأهليين من رسوم ولا غيرها وتأمن الداخل والخارج حسب إمكانك إلى حين عودتنا ليموه عليهم بالعودة لأجل ركودهم وسكونهم مع أنه يعلم أن لا عودة له ، وفعل ذلك في قضاء البوكمال وفي قضاء الميادين وفي لواء دير الزور وما يفضل لديه من أرزاق يبيعه إلى الأهليين ولم يأخذ بمقابله دراهم بل يكتب عليهم ورقه بالقيمة ويضع عليها طابعا ويمضيهم فيه ، ويقول لهم : لا أريد الدراهم الآن بل إلى أن أعود لأن ذهابي هذا مؤقتا بأمور عسكرية اقتضت ذلك . مع انه كما قلنا يعلم انه لا يعود ، كل ذلك من حزمه ودرايته لأنه لو أعطاهم إياه بدون هذا الترتيب يخشى أن تحصل غوغاء بالمسألة ووزع ذلك للمحتاجين كلاً على نسبته بهذه الصورة الحكيمة ، ولما وصل دير الزور رتب حكومة أهليه قبل إقلاعه عنها ووزع الأرزاق بهذه الصفات وأفهمهم كما أفهم غيرهم وأخذ دفاتر الطابو معه لئلا يكون تجاوزاً من المتنفذين على أملاك الضعفاء ، وبعد الهدنة وتشكيل الحكومات أرسلها من ديار بكر إلى لواء دير الزور فحفظت في دوائرها حتى الآن  . ولم يحصل ارتباك ولا تجاوز وهذا من إنصافه وعدالته .

  ومن جملة درايته وحزمه أنه لما شكل حكومة أهلية في دير الزور وعين لجميع الدوائر مأمورين يقوم بإدارتها في دير الزور وأراد توجيه المتصرفية إلى أحد رؤساء تلك البلدة حصل تمانع حيث إن دير الزور ينقسم إلى ثلاثة أقسام على اختلافهم شرقيين وغربيين ووسط ، فكان كل مجتمع من هذه المجتمعات قبيلة على حالها ولكل قبيلة رئيساً ، وكل رئيسٍ منهم يطمع في المتصرفية فلما رأى ذلك قال لهم إن مقام المتصرفية يشغله مجلساً متشكلاً من ثلاثة أشخاص في كل يوم يترأسه واحد منهم وتدور الرئاسة بين هؤلاء الثلاثة ، رضوا بذلك فعين فيه رؤسائهم الثلاثة وهم ( شلاش المنديل ) و( الحاج فاضل العبود ) و( أحمد بك العبد المحسن ) فرضوا بذلك واشتغلوا بما هنالك ورتب الأمور ووزع الرزاق حسب الترتيب الذي أشرنا إليه ، وقلع عن هذه البلدة متوجهاً إلى جهة الخابور إلى أن وصل بلاد الأتراك بكمال العز والسلامة رحمة الله عليه وعلى جميع المنصفين من المسلمين، آمين والحمد لله رب العالمين .

                                                     عودة الى الصفحة الرئيسية