مولود مخلص الراوي والدراسة عند الملا ياسين البدري

الدراسة في الكتاتيب وذكرياتي عنها

دراستي لرواية القران العظيم على يد المرحوم الملا ياسين الحاج شهاب السامرائي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

         يسمونها  ( بالكتاتيب ) في مصر ويسميها أهل العراق  ( بالكُتاب أو المَكتب ) ويسميها العوام بالدراسة عند - الملا     

   بدأت قصتي معها وعمري خمس سنوات ( أي قبل دخولي المدرسة الابتدائية ) ، فقد اعتادت والدتي وفي كل عطلة صيفية أن تذهب بي و إخوتي من دار والدي ببغداد إلى دار جدي ( لامي ) المرحوم الشيخ احمد الراوي في سامراء ، نقضي معظم أيام العطلة الصيفية مع أخوالنا في ذلك البيت الكبير الذي يجمع العائلة المباركة من أولاد وأحفاد وأسباط الشيخ الجليل  )عليه رحمة الله تعالى ) .

   كان ذلك في صيف العام / 1963 ، حين طلبت والدتي من ابن خالي ( المرحوم السيد باسم هاشم – وهو : حفيد الشيخ احمد الراوي ) أن يلحقني بالدراسة عند ( الملا المرحوم ياسين الحاج شهاب السامرائي ) وهو الملا الذي درس عنده جميع شباب العائلة .

    أخذني المرحوم ( باسم ) عصرا وعلى دراجته الهوائية ( وكان حينها في مرحلة دراسته الثانوية ) إلى دار ( الملا ياسين ) الكائنة في زقاق جانبي وسط شارع الشواف بالمدينة ،  دخلنا الدار التي خصصها الملا للدراسة فقط فيما كانت عائلته وأولاده وأحفاده يسكنون الدور القريبة منه ، كان الملا جالسا وسط الدار وهو مهيب الجانب وعليه سيما الصلاح والتقوى ، قدمني إليه المرحوم باسم واخبره برغبة والدتي ، فرحب بنا ، وقال : ليباشر من صباح الغد ، ويجلب معه { جزء ( عم ) وكراس ( الأليفات ) – وهو الكراس الخاص بتعليم حروف الهجاء } ، ويجلب معه وسادة ( مندل ) ليجلس عليها كما هو المعتاد .

   خرجنا من عنده عائدين إلى دارنا وصورة الملا مرتسمة في مخيلتي ، فقد رأيته شديد الشبه بجدي ( الشيخ احمد الراوي )، ذو بياض مشرب بحمرة ، وذو وقار ومهابة ، وكان قد ناهز الثمانين من عمره .

اليوم الأول

     صباح اليوم التالي ذهبت إلى دار الملا مستصحبا معي مستلزمات الدراسة ، كان الطلاب الذين لم يكن عددهم يزيد على العشرين يتوزعون المكان ، واغلبهم بعمر المرحلة الابتدائية  ، وكان ( الملا عليه رحمة الله ) معتمدا على نفسه في كل شئ رغم عوقه ( في ساقه ) فكان يدرس الطلاب واحداً واحداً ، ويعد الطعام لنفسه ويخدم ضيوفه ورواد مجلسه من أقاربه وأولياء أمور الطلاب وأصحابه وأحبابه . كان الطلاب في حركة ونشاط وكأنهم خلية نحل ، فيبدأون يومهم بتنظيف الدار ، وهي دار شرقية فيها بضعة غرف داخل طارمة وصحن واسع تحيطه حديقة بسيطة . ويسعى كل منهم في خدمة يقدمها لمعلمهم ( الملا ) فهذا يجلب ( لوح الثلج ) من المعمل القريب ، حيث كان اغلب الناس ومنهم ( الملا ) يستعملون الصندوق الخشبي لتبريد الماء وحفظ الطعام فيه ، فيما كان بعضهم يهيئ أواني الفخار ( الحب والتنكه ) ويضيف إليها الماء ليشرب منه الطلاب ، وبعضهم يجلب ( للملا ) ما يحتاجه من الخضار والفواكه والحاجيات من السوق القريب .

   وعند الضحى جاء دوري لأتعلم درسي الأول من الملا وكان في سورة الفاتحة وبعض الحروف ، بعدها أعطاني الملا  (عليه رحمة الله ) كيساً ورقياً فيه نحواً من عشر بيضات وقال : خذه إلى جدك في المدرسة العلمية ( و كولتن / أي : وقل له  ) إن الملا ياسين يسلم عليك وأرسل لك هذا الكيس .

   ذهبت إلى المدرسة العلمية الدينية ( وكانت في مدخل أول زقاق عند بداية شارع الشواف من  جهة الساحة المواجهة لمرقد الإمام علي الهادي عليه السلام ) ، وجدت جدي )عليه رحمة الله ( جالساً  ( على اريكة ذات غطاء ابيض ) في صحن المدرسة أمام المصلى الصيفي ، وحوله بعضا من طلابه وبعض رواد مجلسه من وجهاء سامراء ، تقدمت نحوه وقبلة يده ( كما هي عادتنا في البيت حين تأخذنا والدتي للسلام عليه ) وقلت له : إن الملا ياسين يسلم عليك وأرسل لك هذا الكيس ، قال لي انتظر ، وقام من مجلسه ليدخل الغرفة الصغيرة التي خلفه وعاد لي بقطعة من الفطائر ( كعكة ) وقال : هذه لك ، وابلغ الملا سلامي .

   عدت إلى دار الملا لإبلاغه بذلك ولإكمال يومي الأول ، حيث كنا ننصرف عند أذان الظهر حيث يستمع لنا الملا الدرس للمرة الأخيرة واحدا واحداً ، بعدها نضع وسائدنا في المكان المخصص لها .

   مصير البيض

   وبعد أسبوع من ذلك  وحين عاد جدي من المدرسة العلمية إلى البيت بعد المغرب ، سمعت جدي ينادي على خالتي الكبرى (خديجة – أم سلام ) وكان يكنيها ( خدوج ) وهو واقف في طارمة الطابق الثاني من الدار عند مدخل غرفته ( التي نسميها – الارسي – وهي غرفة تطل على الزقاق بشناشيلها ، كما تطل من الجهة الأخرى على صحن الدار الشرقي ) ، كانت خالتي تكلمه وهي واقفة في صحن الدار ، وصادف أن كنت أقف لجنبها ، قال جدي لها : خذي( يا خدوج ) كيس البيض هذا الذي أرسله لي الملا ياسين ، ويبدوا أني نسيته ففسد ، خذيه والقيه في الأوساخ .

    عندها همست قائلا لخالتي: يا خالة أنا أوصلت هذا الكيس لجدي ! ، تعجبت وقالت : انت ؟ قلت : نعم . رفعت رأسها نحو جدي قائلة : ( يابه ) هل تعرف الذي أوصل الكيس لك ؟ ، قال :لا ،ولكنه احد طلاب الملا ياسين ! . قالت : انه ( مولود ابن فاطمة ) ! تعجب جدي وقال: ولكنه لم يخبرني ! واستدار داخلا غرفته . نظرت لي خالتي متعجبة وقالت :ولماذا لم تخبرنا في البيت ؟.. على الأقل كنا ذكرنا جدك به قبل أن يتلف ! ... .و لم اجب بشئ !!! .....

  

منهج الملا وأسلوبه التعليمي

   يبدأ الملا يومه بتدريس كل طالب ( أو مجموعة لا تزيد عن الثلاثة غالبا )على حده لمدة ربع ساعة أو نحوا من ذلك لكل منهم ، يقرا عليهم مقررهم لذلك اليوم الذي لا يتجاوز بضع آيات ، يقرأ الملا ويقرأ الطالب بعده ، ويصحح له سواد القراءة ، ويعيد الطالب المقرر عدة مرات حتى يحسن لفظ الحروف وصحة الحركات ، ثم يحيل  الملا المجموعة إلى احد الطلاب المتقدمين ( الخلفات ) ليعيد قراءة الآيات أمامه طيلة الصباح ، ويعاود الملا استدعاء المجاميع لتكرار القراءة أمامه عدة مرات حتى يطمئن إلى إتقانهم لها ، فان تحقق ذلك نقلهم في اليوم التالي إلى حصة جديدة ، وان لم يتحقق كررها عليهم في اليوم التالي حتى يتقنوها .

   كنا نعيد الآيات من الصباح حتى نهاية الدوام عند أذان الظهر ، إما أمام الملا نفسه أو أمام احد زملائنا المتقدمين ، ورغم هذا التكرار الذي يثمر الحفظ الأكيد إلا إن الملا لم يكن يطالبنا بالحفظ مطلقا ، وإنما كان مطلبه ومقصده هو صحة القراءة وصحة الهجاء ( الحركات ).

   وكان الدوام عند الملا يبدأ من اليوم الأول للعطلة الصيفية حتى أخر يوم فيها ، ولا يتمتع الطالب باستراحة إلا يوم الجمعة من كل أسبوع ، ويتقاضى الملا عن كل طالب مبلغا بسيطا هو ( نصف دينار شهريا – كان سعر مثقال الذهب حينها دينار ونصف ) أو ( كيلوغرام واحد من السكر وربع كيلوغرام من الشاي ) ، ويعفي الملا من الأجر المتقدم جميع الأولاد من أقاربه وذوي رحمه وأولاد أحبابه ، فكنت أنا وجميع أشقائي الذين باشروا الدراسة بعدي وأبناء أخوالي وخالاتي الذين درسوا معي وقبلي معفين من الأجور إكراما من الملا ( عليه رحمة الله) لجدنا ( الشيخ احمد الراوي ) ، الذي كان يكن له حباً وتقديراً عظيماً.

أدوات الدراسة

   كان الملا ( عليه رحمة الله ) يجلس على فراش له في الأرض وخلفه أريكة خشبية ، ويضع أمامه رحلة خشبية ارتفاعها لا يتجاوز (30) سم ، وفيها درج ( جرار ) يضع فيه أقلام خشبية  ومقص ، وقطع من الورق السميك ( كارتون ) مقصوصة على شكل سهم ( كان يسميها التباعة ) يعطي كل طالب واحدة منها ليستخدمها الطالب في التأشير على الكلمة التي يقرأها من المصحف ، وكان حريصا على أن يستخدمها الطالب ليتأكد انه يتابع القراءة بشكل سليم ، وكان الطالب ( الذي يأتي دوره للقراءة أمام الملا ) يجلس على الجانب المقابل من الرحلة .

   ويضع الملا إلى جانبه عصى يؤدب بها الطالب المشاكس أو الكسول ، والواقع إنها عصى غير حقيقية فهي لفافة من الورق السميك كان يطلبها من باعة الأقمشة ، ( وهي اللفافة التي تأتي داخل أطوال الأقمشة المستوردة )  ، كما ترى الفلقة الشهيرة معلقة على عمود الطارمة الخشبي ، ويبدوا لي إن هذه الفلقة كانت للتخويف والوعيد لأني لم أرى الملا عاقب أحدا بها طيلة مدة ملازمتي له .

السنين التالية

      استمرت دراستي عند الملا بدون انقطاع وفي كل عطلة صيفية طيلة سني دراستي الابتدائية ( من العام 1963 إلى العام 1969) . وكانت أمي وخالتي الكبرى يمنونني بأنهم سيعملون لي احتفالا كبيرا حين اختم القران ، كما هي العادة في مدينة سامراء وباقي مدن العراق في تلك السنين ، حيث يزف الطالب يوم ختمه القران من دار الملا إلى دار أهله ويحمل زملائه باقات الورود وأوراق الياس وأواني الحلوى والفطائر وتنثر هذه الحلوى على جميع النظارة وأهل الحي ، كما يعمل الأهل وليمة يدعون إليها الملا وطلابه والجيران والأقارب والأحباب ، احتفاءً وفرحاً بختم ولدهم للقران العظيم .

   ولكني ورغم مواظبتي وطول صحبتي للملا لم اختم عنده ولم أرى أحدا ختم عنده طيلة السنين السبعة تلك ، وما ذلك إلا بسبب دقة الملا وحرصه الشديد على أن يتقن الطالب أقصى الإتقان . في حين كنا نسمع إن غيره من الملالي يختم الطالب عندهم في عطلة صيفية واحدة . ولكني وبفضل الله تعالى قرئت عنده ما يزيد على نصف القران العظيم .

وفاة جدي وانتقالنا للسكن في سامراء

      في شتاء العام / 1966 توفى جدي ( الشيخ احمد الراوي ) فارتأى أخوالي أن يحل أبي محله للتدريس في المدرسة العلمية بسامراء ، وكان خالي ( العقيد الشهيد كمال احمد الراوي ) الأشد إلحاحا على أبي في ذلك حرصا منه على أن لا ينقطع الأثر العلمي للعائلة في سامراء ذلك الأثر الذي أشاده وبناه جدي طيلة أربعين سنة متواصلة ، ولما كان يراه أخوالي في أبي ( الشيخ مخلص الراوي ) من كونه الابن الروحي لأبيهم ( الشيخ احمد الراوي ) حيث لازمه أبي طالبا في مدرسته عشر سنين وأكرمه جدي بتزويجه من ابنته لما رأى فيه من النجابة والصلاح والخلق الكريم .

   وهكذا نقل أبي من وظيفته ببغداد ( إمام وخطيب جامع رشيد دراغ بمحلة الرحمانية في جانب الكرخ ) إلى المدرسة العلمية بسامراء مدرسا وإماما لمسجدها . وانتقلنا في صيف ذلك العام للسكن في دار جدي نفسها ، كنت حينها في الصف الرابع الابتدائي .

   فرح الملا ياسين باستقرارنا في سامراء ، واقترح على والدي أن أواظب على الدراسة عنده طيلة السنة أي في أيام الدوام المدرسي إضافة للعطلة الصيفية ، وافق والدي على ذلك ، و ناسب أن يكون دوامي الإضافي هذا عند الملا يومي الاثنين والخميس بعد الظهر ، ذلك إن الدوام المدرسي ( في مدرسة سامراء الابتدائية الأولى التي باشرت فيها ) كان يتوزع على فترتين الأولى تشتمل على أربع دروس صباحية ننصرف بعدها إلى بيوتنا للغداء ثم نعود بعد الظهر للفترة المسائية المكونة من درسين ليبلغ عدد الدروس اليومية ستة حصص ، عدا يومي الاثنين والخميس المقتصرة على الدوام الصباحي فقط .

  وهكذا بذل الملا ياسين ( عليه رحمة الله ) جهده وحرصه على حسن اتقاني لقراءة القران العظيم . وكان يذكر جدي دائما ويترحم عليه ويتأسف لفقده ، وطلب مني حينها أن اذهب عصر كل يوم جمعه لزيارة قبره الشريف ( وكان قبره في الرواق المجاور للجامع الكبير بسامراء – عزل في السنين الأخيرة بجدار وغرفة بعد أن الحق ذلك الرواق بالجامع في إحدى التوسعات ) ، وان اقرأ عند قبره سورة ( يس – ياسين ) ، وحيث إنني لم أكن حينها قد بلغت عنده تلك السورة ، فقد نقلني لدراستها ، كي تكون قراءتي لها عند القبر سليمة وصحيحة .

    صحبني زميلي ( الأخ عبداللطيف عبد المجيد الملا طه الصباغ ) وأنا اذهب لزيارة جدي وقراءة السورة الشريفة كما طلب مني الملا ، وذلك بعد صلاة العصر مباشرة من يوم الجمعة فأحسست ونحن جالسين إلى القبر بالعلامة الشيخ أيوب الخطيب ( كبير علماء سامراء ) و الحاج عبد المجيد ( والد زميلي عبداللطيف ) وبعضا من المصلين الخارجين من صلاة العصر  يقفون عند نهاية الرواق رافعين أيديهم لقراءة الفاتحة لجدي ولمحت في عيونهم نظرات الفرح بصنيعنا . وفي اليوم التالي وحين كنت ذاهباً مع زميلي عبد اللطيف إلى دارهم التي كانت مجاورة للمدرسة العلمية ، سألني والده عن صنيعنا فأخبرته فاستحسن ذلك وقال لولده : وأنت يا بني تواظب على الذهاب مع زميلك وتقرأ السورة الشريفة عند قبر جدك ( وجده هو الملا طه الصباغ – عليه رحمة الله – عالم من علماء سامراء ومؤذن الجامع الكبير فيها ، وكان قبره في نفس الرواق على يسار قبر جدي – عليهم رحمة الله جميعا ) .

 

حرب فلسطين عام /1967 – ومشاركة الملا ياسين في التبرع لمجهودها

  وفي صيف العام التالي شن الصهاينة الغاصبين اعتدائهم على العرب و المسلمين في مصر وفلسطين ، وكان أهل مدينة سامراء يتوقدون حماساً للمشاركة في رد ذلك العدوان ، وكان مكبر الصوت في الجامع الكبير  يذيع أخبار المعارك ، ويعلن أسماء الرجال الذين تبرعوا بأموالهم والنساء اللواتي تبرعن بحليهنَّ للعمل الفدائي . وتحولت المدرسة العلمية الدينية إلى مخزن للحبوب ، حيث امتلأت صفوفها وغرفها وساحاتها بأكياس الحنطة التي جلبها الفلاحين من القرى المحيطة مساهمة منهم في هذا الواجب الجهادي الديني .

   وقد شكل علماء الدين وشيوخ العشائر جمعية يرأسها (الشيخ العلامة أيوب الخطيب ) لحصر التبرعات وجمعها وإيصالها إلى قادة العمل الفدائي الفلسطيني ، { ويبدوا لي إن عمل هذه الجمعية كان على غرار جمعية مشابهة شكلت عام /1948 في سامراء ، أثناء حرب فلسطين الأولى ، وكان يرئسها جدي (المرحوم الشيخ احمد الراوي ) حيث كنت أجد سجلاتها وأختامها ودفاتر إيصالاتها في مكتبته ( عليه رحمة الله ) } . وكانت الجمعية تتخذ من المدرسة الدينية مقرا لها لاستقبال المتبرعين وإذاعة أسمائهم في مكبر الصوت بالجامع الكبير ( لتشجيع وتحفيز الآخرين ) ، وتتخذ أحيانا من إحدى المقاهي مقرا لها لتكون قريبة من المتبرعين ، وهي مقهى جارنا المرحوم المبرور ( الحاج فاضل حسون السامرائي ) والكائنة في الساحة المقابلة لمرقد الإمام علي الهادي عليه السلام ( والحاج فاضل هو والد الأستاذ نزار السامرائي المحلل السياسي المعروف هذه الأيام ،  و شقيق الدكتور شامل السامرائي وزير الصحة حينها )

   كان الملا ياسين يتابع الأخبار بمذياعه القديم ذو البطارية الكبيرة ، ويسألني عن نشاط العلماء والأهالي  ، ودفع لي كيسا فيه خمسة عشر دينار وقال لي أوصله لوالدك  ليضمه إلى التبرعات ، واخبره باني لا اقبل أن يذاع اسمي ، ونفذ والدي رغبته ( حيث أذاع مكبر الصوت قائمة أسماء المتبرعين وذكر بينهم رجلا لا يرغب في ذكر اسمه ) .

   ويومها و حين ذكرت لخالتي الكبرى تبرع الملا ياسين ، فرحت كثيرا وقالت لي :هذا مبلغ عظيم البركة فهو جهد مقل قضى عمره في خدمة كتاب الله العظيم .

الطلبة الأتراك

   لطالما سألني الملا ياسين عن والدي والمدرسة العلمية وما يستجد فيها لما يعلمه من ملازمتي وإخوتي لوالدنا فيها ، فأخبرته مرة إن مجموعة من الطلاب الأتراك ( الجدد) قدموا من تركيا للالتحاق بالدراسة فيها ، وكان يسألني دائما عن أحوالهم وطلب مني أن ادعوهم لوجبة إفطار عنده لرغبته في رؤيتهم ونيل شرف إكرامهم  ، ذهبت إلى الطالب المكلف من المدرسة بمتابعة أمورهم وهو ( الملا مصطفى التركي - طالب تركي  قديم في المدرسة ،قضى فيها اثني عشر سنة متواصلة – وكان يومها في سنواته الأخيرة من الدراسة .) وأخبرته برغبة الملا ياسين ، فاستجاب لذلك فاصطحبته في اليوم التالي ومجموعة الطلاب الأتراك (وعددهم أربعة ) إلى دار الملا ياسين ،   فرح الملا ياسين بهم كثيرا وقدم لهم الإفطار الذي أعده بنفسه ، وسألهم عن بلدهم وأحوالهم ، ومن الأمور التي لاحظتها منه انه أدار قرص المذياع على الإذاعة التركية فأشعرهم بأنس بالغ منه .

   وبمناسبة ذكري للطلبة الأتراك الذين أحببناهم أنا وإخوتي وأحبونا ، حيث كانوا يحاولوا أن يتعلموا من خلالنا لغة الحديث والتواصل مع العرب ، إلا إنهم وللأسف لم يطل مكثهم في المدرسة من جراء حادث مؤلم حدث لأحدهم ، وهو السيد إبراهيم ، فقد كان الطلاب المقيمين في المدرسة العلمية ينامون صيفا عل سطحها  الملاصق لسطح الجامع الكبير ، وفي ضحى احد الأيام وحين أشرق شعاع الشمس على السيد إبراهيم أراد أن يستمر في نومه فحمل فراشه وانتقل الى سطح الجامع الكبير مستظلا بظل قبته الكبيرة ، ويبدوا انه عاد إليه شعاع الشمس ولم يشعر به و تحول نومه إلى ما يشبه الغيبوبة ، وما شعر به زملائه لعدم معرفتهم بمكانه وهكذا أصيب بضربة شمس ، فمرض على أثرها مرضا شديدا ، وكان زملائه وطلاب المدرسة يطببونه بالكمادات الباردة والأدوية المناسبة ، وكنت أعود إلى البيت وأقص على والدتي أخباره ، فكانت ترسل معي الحساء والطعام الذي يناسب حاله .

   ولما اشتد به المرض وعجز الطبيب في سامراء عن علاجه ، أرسلته إدارة المدرسة إلى مستشفيات بغداد ، ولكن المنية عاجلته ،  ووقع أجره على الله ( عليه من الله رحمة واسعة ) وهكذا ترك زملائه مدرسة سامراء وانتقلوا إلى إحدى مدارس بغداد الدينية .

  وأما الملا مصطفى التركي فقد أكمل دراسته بسامراء في أوائل السبعينات وأقامت له المدرسة احتفالا كبيرا بتخرجه وإتمامه السنة الثانية عشر . وسافر إلى تركيا ثم استقر بعدها في احد جوامع ألمانيا، وكان يراسل والدي ويطلعه على أخباره ومما جاء في إحدى رسائله قوله ( إنني الشخص الوحيد الذي يرتدي العمامة في ألمانيا ).

 

الخاتمة

    كان للملا ياسين ( عليه رحمة الله تعالى ) الفضل البالغ عليَّ وعلى اشقائي في اتقان قراءة الكتاب العزيز فقد التحق بالدراسة عنده في تلك السنين اخوتي ( السيد مازن ووالسيد معن والمرحوم ايمن )

   واما شقيقنا الاصغر ( الشهيد الاستاذ احمد مخلص ) فانه لم يدرك تلك المرحلة من حياتنا ، حيث دخل المدرسة الابتدائية بعد انتقالنا من سامراء وعودتنا للسكن في بغداد عام / 1975 ، ولكنه كان من اوائل الطلاب الذين التحقوا بالدوراة الصيفية لتعليم القران في المساجد  ، فقد كان من طلاب اول دورة تقام ببغداد وفق هذا المنهج الحديث ، وذلك في جامع البنية عام /1976 ، ايام نشاط الشيخ المصري الجليل ( محمود غريب ) .

   بقي ان اذكر ان الملا ياسين ( عليه رحمة الله ) وفي السنين الاخيرة من اقامتنا بسامراء ارسل إلى والدي رسالة يقترح عليه فيها ان يتفرغ اخي  ( السيد معن ) لدراسة القران عنده ويترك الدراسة في المدارس النظامية ، لما وجده فيه من الحرص والامانة والاجتهاد ، فرد عليه ابي بالاعتذار والتلطف ، ذلك ان ابي ( عليه رحمة الله ) كان يقول : ان هذه الدراسة على عظيم شرفها ولكنها لاتحقق للطالب مستقبلا معاشيا مناسبا .

   رحم الله الملا ياسين رحمة واسعة وجزاه الله عني وعن اخوتي وذوي رحمي  خير الجزاء .