5/عمله في القضاء بسوريا اثناء فترة الحكم العربي

بسم الله الرحمن الرحيم

   يقول الشيخ احمد محمد أمين الراوي في مذكراته التي أملاها على بعض أولاده ،  

وغالبها بخط ( نجله المرحوم السيد هاشم وكريمته السيدة فاطمة ) وذلك في العام /  1949 م :

( الحلقة الخامسة )

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

   وبعد هذه المدة جاء متصرف إلى هذا اللواء (مولود مخلص باشا) الذي هو الآن عضواً في مجلس أعيان العراق، وكان إذ ذاك قائداً للفرقة التي كانت في حلب وكان معه والياً لولاية حلب (السيد ناجي آل السويدي) وملك البلاد السورية المرحوم المبرور (الملك فيصل بن الحسين) فاستلم زمام الحكم من ( رمضان شلاش )، وصار رمضان شلاش كقائد للجيش العربي الذي كان في ذلك اللواء من الذين كانوا معه من تلك الواقعة، وجاء مع مولود باشا معاون له (مظهر رسلان) من أهلي حمص وهو الآن في البلاد السورية يستخدم في وظيفة وزير ،وقائد الدرك (تحسين العسكري) شقيق (جعفر باشا العسكري) وغيرهم من العراقيين،  كلاً منهم يشتغل بوظيفة خاصة .

   وبقي على هذه الحالة إلى أن ثارت فرنسا على البلاد السورية واستولوا عليها، فخرج منها المرحوم المبرور (الملك فيصل) ومن يتبعه، وصار حكم تلك البلاد بيد الفرنسيين، وخرج مولود باشا من ومن يتبعه من البلاد حين صار هذا الحال لما أحسوا بتوجه فرنسا نحو اللواء فصاروا في حيص بيص، وأتوني إلى تكية الراوي التي كنت أجلس فيها متحيرين من أمرهم يرومون الخروج ولا يقدرون عليه لأن عرب البادية قد هاجت هيجاناً لا مثيل له واشتغلت بالسلب والنهب في هذه الفرصة، فإذا مرّ بهم مثل هؤلاء (يهلسونهم هلساً) فقلت لهم لا بأس عليكم بمعونة الله نوصل كل واحد منكم إلى مقعده سالماً غانماً، لأننا ولله الحمد في تلك البقاع مسموعين الكلمة، فعرب البادية وغيرهم يحترمون هذه العائلة غاية الاحترام وهذا أمر مشهور معلوم لا ينكره إلا مكابر، فمنهم من اختار الذهاب على طريق الخابور إلى الموصل، ومنهم من اختار الذهاب إلى بغداد على طريق البادية الشامية، ومنهم من اختار الذهاب إلى جهة عنه وراوه على ساحل الفرات.

   فكتبت كتاب إلى المرحوم المبرور الشيخ (فهد الزعين) رئيس عشائر عنزة الذين يقطنون في بادية ذلك اللواء من جهة الشامية، وكتاب إلى الشيخ (أسعد البشير) رئيس عشائر (البكارة) والتمسهم أن يحضروا صباحاً فحضروا جزاهم الله عنا خير الجزاء، وكل من اختار الذهاب في طريق بادية الشام أخذهم الشيخ فهد معززين مكرمين فأوصلهم إلى كبيسة، ومن هناك الطريق آمن تواصلوا بأنفسهم إلى بغداد وغيرها من بلاد العراق.

   والذين اختاروا جهة الخابور ذهبوا مع أسعد البشير، ولكن قال ليّ لا يمكنني إيصالهم إلى الموصل لأن عشائر شمّر على طريقي ولا يمكنني التأثير عليهم، فكتبت معه كتاب إلى شيخ (مشعل الفارسي) أحد مشايخ شمّر الذين يقطنون في تلك الديار ورجوته أن يوصلهم إلى الموصل، فالشيخ أسعد البشير أوصلهم إلى الشيخ مشعل، والشيخ مشعل أوصلهم إلى الموصل بكل عز واحترام. وأما الذين اختاروا ساحل الفرات أرسلت معهم رجال من أقاربنا فأوصلوهم ولله الحمد بكل حفاوة وعز فأحمد الله على ذلك.

  فبعد يوم أو يومين وصل إلى هذه اللواء رجلاً فرنسياً اسمه (درنكَة) عسكري ومعه الشيخ (محجم ابن مهيد) شيخ عنزة الذين يقطنون في ضواحي الشام وحلب وما يليها وهو شيخ مشايخهم، ومعه جيش من عشيرته يمتطون الجمال يزيدون على ثلاثة الاف نسمه ونصبوا خيامهم في ضواحي البلاد كلها خيام بيض إلا المضيف فأنه من بيوت العرب السوداء، وحسب ما سمعت إن الفرنسيين أعطوه ثلاثة الاف بندقية وخمسين ألف مشط فشك وخمسين ألف ليرة ذهب لأجل أن يأتي معهم إلى هذا اللواء، وفي اليوم الثاني من وصوله أرسل إلى جميع مشايخ هذا اللواء من (هديدات) و(بكارة) و(حيور) و(حميم) وغيرهم ممن هم تابعون لهذا اللواء فاجتمعوا في سراي الحكومة، وأرسل عليّ فحضرت معه وصار يتكلم مخاطباً لهؤلاء الجمع قائلاً: إنني أعتقد إنكم تقولون أن ابن مهيد مال عن الحق وحاد عن الطريقة السمحاء حيث أنه تظاهر مع الكفار، فيا أيها الجماعة أعلموا أنني ابن مهيد الذي تعرفونني وأنا لله الحمد بصفتي السابقة مسلماً مؤمن بالله ورسوله أكره الكفار، ولكن قد وطئنا الحكم فرجائي أن لا تحركوا ساكني إلى أن نرى شمسنا من اين تطلع، فإن رأينا مجالاً لمجابهتهم ولم أكن أنا وعشائري من الصف الأول فقولوا ما تشاؤن أن تقولوا من حقي، وإن كنت في الصف الأول وطليعة القوم فأنا ابن مهيد الذي تعرفونه. فأجابه القوم بأننا تابعون لرأيك وممتثلون لإرشادك، فلما فرغ من مقالته هذه، قال أين مشايخ البو سراية لم أرى أحد منهم حضر المجتمع فأجابه بعض الحاضرين، ان البو سراية عشيرة رمضان الشلاش وهم لا يدينون لك، ويرون أنفسهم أنهم أكبر منك، ويخشى منهم وقوع حركات لا تحمد عقباها، فهيجوا الرجل، فقال ما رأيكم فيهم فأجابوه أنه يجب ضربه وتأديبه قال كيف ذلك، قالوا له تعبر أربعة أطواب إلى جانب الجزيرة ونضعها قبالتهم لأنهم يقطنون بالشامية ونضربهم فيها.

   وسبب هذا التحامل وبالأخص من سكنة نفس قصبة اللواء حيث إنهم حكموهم خمسين يوماً بعد خروج الإنكليز من اللواء وكان  حكمهم في تلك الأيام لم يكن طبق قانون ولا قواعد شرعيه، بل يشبه حكم عرب الباديه ومشايخهم فامتعضوا منهم، وهذا هو السبب الذي دفعهم الى التحامل، وبعد أن أطبقوا على ذلك التفت إليّ وكنت جالس لجنبة،

فقال: أرى السيد لا يتكلم ،

فقلت: له لأسمع ما يقول الجماعة،

فقال: قد سمعت فماذا تقول أنت،

فقلت: له نحن مسلمون أم لا ،

فأجابني بلغة البدوية (الله دخلك) ونفض ولزم طرف عباءته و..... حسب عادتهم في مثل هذه الحالة ،

وقال: كيف لا نحن مسلمون ولله الحمد،

فقلت له: المسلمون عندهم ميزان، متى حدث عندهم حادث يزنونه بذلك الميزان ويعملون بما رجح منه،

فقال: وما هو الميزان،

قلت له: ميزان الشرع لهؤلاء الناس على فرض أنك ملك وخرجوا عن طاعتك يقال لهم (بغاة) ، فالبغاة يجب على الملك أن يرسل إليهم رجالاً من أرباب الدين والصدق والأمانة والإخلاص يستفسرون منهم عن سبب خروجهم على الإمام، فان ذكروا مظلمة وجب عليه إزالتها، فإن أظهروا الطاعة بعد ذلك فقد انحل الإشكال، وإن أبوا إلا الخروج والعصيان حينئذ يجوز ضربهم للتأديب. لكن لا يضربون بعظيم كالمنجنيق ونحوه مما يشاكله من المدافع بل يضربون ضرب تأديب، فمتى انفلت شوكتهم يتركون ولا يدفف على جريحهم ولا يلحق على منهزمهم، وبعد أن تفل شوكتهم ويظهرون الطاعة يجب إرجاع أموالهم إليهم ولا تصادر كالغنائم التي تؤخذ من الكفار، هذا حكم (البغاة)، فمتى أرسلت إليهم من يستحث فكرهم ليعلم سبب تأخرهم، وعلى فرض أن رؤسائهم لم يحضروا فما هو ذنب الفلاح والمرأة والأطفال الذين ليس لهم علم بجميع هذه الأمور أن يضربوا بالمدافع على حين غفلة من دون جرم وذنب فهذا العمل لا يطابق شرعاً ولا قانوناً ولا نظاماً ولا عقلاً ولا وجداناً، بل هو مخالف لجميع ذلك.

فقال: والله هذا هو الصحيح، بارك الله فيك حيث أنقذتني من هذه الورطة، ونبهتني على ذلك، وإلا فإني أردت أن أوافق الجماعة لولا أرشادك وتنبيهك.

فألتفت إلى القوم وقال : يجب أن يذهب إليهم (محمد أفندي آل الحاج عبد الفتاح وتركي بك آل الشيخ علي النجرس) ويستفسران حال القوم.

   والحق يقال إنه انتخب ونعم من انتخب، لأن الرجلان اللذان أنتخبهما من خيرة القوم ومن أرباب الديانة والأمانة، كلاهما من المستورين، فأما محمد أفندي فكان مبعوثاً إلى الإستانة عن هذا اللواء في زمن الحكومة العثمانية، وأما تركي بك فهذا خريج (مكتب العشائر) التي كانت في الإستانة وكانت رتبته العسكرية (بيمباش) حسب اصطلاح تلك الحكومة وهو من بيت عريق من المجد لأن والده رئيس أحد عشائر (العكيدات)، وكانا جالسين في المجلس، ومن حين وجه  إليهما الخطاب قاما من المجلس وذهبا إلى البوسراية، وكانت منازلهم قريبة من اللواء من الجانب الغربي لا تزيد عن أربعة ساعات، ومن اليوم الثاني عادوا ومعهما رؤساء تلك القبيلة، وتواجها معه وأظهرا الطاعة والممنونية كأمثالهم فأنحل الإشكال.  وحمدت الله تعالى على إطفاء هذه الفتنة وحقن دماء الأبرياء وهذا من فضل ربي. ولو أردت أن أشرح جميع ما جرى من الوقائع في هذا اللواء لطال بي المجال.

   ومن جملة ما جرى في تلك الأيام أننا كنا جلوساً في مجلس الإدارة الكائن في سراي الحكومة مع المتصرف وأعضاء الإدارة فدخل علينا مدير الشرطة واسمه (عبد المنعم) وقال: إن رجلان أتيا من الجزيرة مع بعض الأعراب، فاستغربنا هيئتهم وسألناهم عن هويتهم، قال أحدهما أنا (يوسف السويدي) والثاني (السيد محمد الصدر) وقالا نريد أن نكون ضيوفاً عند الحسن الجاسم، فأجلستهم في مركز الشرطة وتلطفت بهم وقلت لهم أجلسا هنا إلى أن أجد لكم حسن الجاسم فماذا تقولون، وكان حسن الجاسم جالس معنا في المجلس، حيث أنه إذ ذاك كان عضواً في مجلس الإدارة، فقال له المتصرف ما تقول قال دعوني أتفكر، وبعد ذلك رفع رأسه وقال لا أدري ماذا تقولون، وسبب التوقف من حسن الجاسم أنهما كانا فارين من العراق على أثر الثورة التي كانت في الفرات وهما متهمان بها، فلما أخمدت الحكومة تلك الثورة  فرا إلى جهة عنه وراوه ومن هناك إرتكبا طريق الجزيرة  إلى أن وصلا دير الزور. فتوقف حسن الجاسم من هذه الوجهة خوفاً من عواقبها وإلا فهو والحق يقال رجل كريم قلما يخلو بيته من الضيوف ولاسيمّا من مثل هؤلاء الرجال الكرام، وصارت خبصه في المجلس منهم من يقول كذا ومنهم من يقول كذا، فقال كاتب المجلس وهو علي فرحان ينبغي أن ننزلهما في الأوتيل وندفع معهما شرطيان بحسب الظاهر لخدمتهما وفي الباطن لمراقبتهما إلى أن نتخابر مع المندوب السامي الذي هو في دمشق بشأنهما، فأطبق المجلس على هذا الرأي فحينئذ تكلمت وقلت لهم إنكم لا تعرفون هذين الرجلين وأنا الذي أعرفهما حق المعرفة فأنهما من أكابر رجال العراق وقد فرا من تلك الطاغية والتجأ إلى هنا، فلا سبيل لكم على التحجر عليهما هل أتتكم بحقهما مخابرة أو لهم جريمة في حكومتكم، فبأي طريق ترتكبون هذا العمل فأنا الذي آخذهما عندي وأتحمل كل مسؤولية، فحينئذ ثار حسن أفندي الجاسم ووقع عليّ والتمسني أن يأخذهما عنده حيث إنهما قالا لمدير الشرطة ننزل عند فلان وتكون كسرة عليَّ فبعد اللتيا والتي قبلت منه هذا الالتماس، لأنني أريد خلاصهما بأي صورة كانت، فقام الرجل من المجلس وذهب مسرعاً مع مدير الشرطة وأخذهما عنده في منزله العامر وأكرمهما غاية الإكرام.

   ولما انتهى المجلس قلت للمتصرف ينبغي أن نذهب إليهما ونسلم عليهما ونرحب بهما لأنهما ضيوف أعزاء، فوافق الرجل وذهبنا جميعاً إلى منزل حسن الجاسم فرأيته محتفلاً بهما غاية الاحتفال وسلمنا عليهما ورحبنا بهما وسُرا بذلك، وذهب عنهما ما كانا فيه من الكرب والتعب وانشرحا لذلك غاية الانشراح .

   وفي اليوم الثاني دعوتهما مع الجملة من المأمورين وكبار الأهليين إلى منزلي لتناول طعام الغداء فحضر واستأنسنا بهما وأجرينا لهما ما قدرنا الله عليه في تلك الآونة، فحينئذ ذكرا ليَّ أن عشيرة الشحيطات سلبت أموالهما حين فرا من تلك القبيلة، وكانت الأمور مضطربة والحكومة لم توطد الأمن في طريق البادية ولم تتمكن على ضبط عشائر الخارج، لأنها قريبة عهداً بتشكيل الحكومة بذلك اللواء، ونحن ولله الحمد لنا الكلمة المسموعة في تلك الأطراف من الخارج والداخل، وعشائر البادية تحترم هذه العائلة غاية الاحترام من فضل الله وبركة رسوله (r) والأسلاف الطاهرين، فأرسلت إلى عمنا السيد محمد شريف آل السيد محمد سعيد آل الشيخ أحمد المرحوم المبرور الذي كان نقيب ذلك اللواء ومرشده وشيخ مشايخ طرقه، فذهب ونزل عند شيخهم وأخبره الخبر فأهتم الرجل بجمع ذلك السلب، ولم يفقد منه سوى محبس فأحضروه بعد خمسة أشهر وجاء بأسلابهم كاملة إلا ذلك الخاتم الذي أشرنا إليه، فَسُرَّ بذلك كثيراً. ومن جملتها كانت عصا (للصدر) محفور جوفها وفيها مقداراً من الليرات الذهبية ولها في رأسها مقظب يفتل فتلاً ففتحها فوجد فيها ذلك الذهب كاملاً، وأظن أن هذه العصا لو علموا أن فيها ذهب لما اخرجوها، ولكن أخفاها الله عن أعينهم، فحمدت الله على ذلك الذي مكنني من مسرورية هؤلاء الجماعة ، وبعد يوم أو يومين أستأجرنا لهم عجلة تجرها الخيل إلى حلب فذهبا إلى هناك سالمين غانمين ولله الحمد ولم يعودا إلى العراق إلا مع الملك فيصل الأول (رحمه الله) حين أتى إلى العراق، وهذا ما يسره الله على يدي من الخير في ذلك اللواء ، وقد قلت سابقاً لو أردت شرح جميع ما جرى لأحتاج إلى مجلدات ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله ومن الله التوفيق.

    وحين طال بي المقام في ذلك اللواء مدة تقارب ثلاث سنوات أحببت زيارة أهلي ووطني وكلمت الحاكم بذلك اللواء في هذا الخصوص، وقال أخشى إن ذهبت إلا ترجع،

 قلت له: إن شاء الله أرجع حسب الامكان، فوافق على أن تكون رخصتي شهراً واحداً،

وقلت له: الشهر لا يكفيني للذهاب والإقامة والإياب

قال: إذن شهران

 قلت له: الشهران مناسبة، ولكنها تنتهي في وسط رمضان وإنني لا يمكنني السفر وأنا صائم، ولكن ثلاثة أشهر موافقة للحال حيث إنها تنتهي بعد انقضاء شهر الصيام المبارك ويتبعها أيام العيد، وبعد ذلك إن شاء الله أعود.

  وأمر كاتب المجلس وهو (علي الفرحان) بكتابة، فكتب وجعل هذه العبارة في آخرها، وهي إن شاء الله بعد انقضاء هذه المدة يعود السيد إلى محل وظيفته والعود أحمد وكان هذه الكاتب طالب علم وهو ملم إلماماً بالعلوم العربية . فقال ليّ حين ناولني إياها جعلت من آخرها تورية تفاءلاً بأنك تعود إن شاء الله.

   فتوجهت إلى عنه بطريق النهر حيث إنه كانت معي عائلة، وأناساً منهم مَنْ أعرفهم ومنهم مَنْ لا أعرفهم يرمون السير معي لاختلال الطريق بذلك التاريخ لأجل أن يتخلوا من السلب والنهب، ظناً منهم إننا محترمون عند أهل البادية والحاضرة، فلم يمكنني اعتذارهم فاتكلت على الله وركبت في تلك السفينة، المعبر عنها باصطلاح أهل تلك البلاد (بالشختور)، فصار معي من هذه السفينة ما يزيد على (24) نسمة وسرنا في نهر الفرات إلى أن وصلنا الميادين فلم نرى من ساكني الجانبين ما يكدر الصفو، وبتنا هناك عند رجل من أصدقائنا كريم الخصال اسمه شيخ محمد من قبائل العرب الكرام فقام بخدمتنا حق القيام ، ومن الصباح ركبنا السفينة وسرنا ولم نتجاوز أميالاً قليلة عن البلد  إلا ورأينا الأعراب الساكنين على الشاطئ يأمرونا بأن نرسي حولهم، فلم نسمع كلامهم فصاروا يرموننا بالرصاص فأمرت ربان السفينة أن يتقدم إليهم، فلما وصلنا حولهم عرفوني فندموا على ما جرى منهم وصرت أوبخهم وأتكلم عليهم بالكلام الغليظ وأقول لهم ما هذه الأحوال الرديئة وما هذه المعاملات السيئة بالذين يمرون في الطريق، فاعتذروا إننا لم نغرقكم أنتم الذين في السفينة، فقلت لهم سواء كنت أنا أو غيري ماذا تريدون منهم فقالوا حفظك الله والله لو كان غيرك (لهلسناه هلساً) هو ومن معه وما عنده، فقلت لهم قبحكم الله وقبح هذه الأعمال فضحكوا وسلموا عليَّ وذهبوا خجلين فاشلين، ثم سرنا ولا حاجة لنا بطول الكلام فقد جرى معنا طيلة هذه الطريق هذه المعاملات من الجانب الشامي والجزيرة متى مررنا قبالة أناس من هؤلاء العشائر صاحوا فبمجرد إشارتهم ترسوا السفينة عندهم فيعتذرون بمثل ما أعتذر من قبلهم ويذهبون، إلى أن وصلنا البوكمال فمللت من هذه المعاملات وأردت أن أبقى في ذلك القضاء وكنت نازلاً عند أحد اقاربنا في ذلك القضاء وهو السيد شريف الأصيل، فجاءني الشيخ مشرف الدندل شيخ عشائر الحسون الذين يقطنون من الجانبين من ذلك القضاء إلى قرب راوة، وبعد السلام والكلام

قال ليَّ: سمعت أنك تحب الإقامة في بلدنا،

فقلت له: نعم،

فقال: والله إننا نتشرف بذلك ولكن لابد أن يكون لهذه المسألة سبب،

فقلت له: عذبونا الكلاب كل ما نمر بأناس يشيرون علينا بأن نرسي نحوهم، وبعد أن نتفاهم مع سكان الجانب الغربي ونسير صاحوا علينا سكنة الجانب الشرقي وهكذا، فهذا عذاب وتضييع وقت بدون جدوى،

فأجابني: أن القصور من الرؤساء فلو ضغطوا على عشائرهم لامتنعوا من هذه المعاملات، ولكن الرؤساء لهم رضى بذلك، ولكني أقول لك سر محفوظاً فإذا صاح عليكم بشر من الجزيرة أو الشامية من هنا الى أن تصل رواة فأبصق بلحيته.وسلم عليَّ وخرج.

   وبعد خروجه سألنا من الجماعة الذين يفهمون ذلك، قالوا نعم الأمر كما قال، لأنه ضابط بعشائره غاية الضبط ، ومن الصباح سرنا متكلين على الله، وظهر الأمر كما قال الشيخ المشار اليه إلى أن وصلنا أهلنا سالمين غانمين ولله الحمد فجزاه الله عنا وعن المسلمين خيراً.

  

ـــــــــــ  

                                                      عودة الى الصفحة الرئيسية