4/ عمله في القضاء بسوريا خلال فترة الاحتلال الاجنبي

بسم الله الرحمن الرحيم

   يقول الشيخ احمد محمد أمين الراوي في مذكراته التي أملاها على بعض أولاده

وغالبها بخط ( نجله المرحوم السيد هاشم وكريمته السيدة فاطمة ( ام مولود)) وذلك في العام /  1949 م :

( الحلقة الرابعة )

    فبقيت هذه الحكومة الأهلية تحكم هذا اللواء خمسين يوما ، وتشكلت الحكومة السورية وبويع الملك فيصل ابن الحسين ملك عليها فعين مأمورين وأرسلهم إلى هذا اللواء ، وكان المتصرف لهذا اللواء (مرعي باشا الملاح ) من أكابر مدينة حلب وقائد ( الجاندرمة ) ( أسعد بك ) والبيمباشي على هذه القوه ( مدحت بك السعدي )  من آل السعدي الذين يسكنون في بغداد ، وكان هناك جيش عربياً يقال لهم (ألهجانه) رئيسهم ( فهد بك العقيلي ) ورجلاً من أقارب الملك فيصل أسمه ( الشريف ناصر ) وظيفته كالناظر على هذه الحكومة ، وهؤلاء كلهم رأيتهم واجتمعت معهم حيث أنهم لما أحتل الانكليز (عنه) كلفوني بأن أقبل بعض الوظائف التي تناسبني فلم أقبل لأننا كنا مستوحشين منهم ، ونأمل أن تحتل هذه البلاد حكومة إسلامية ، أو تعود إليها حكومتها السابقة فلم يكن شيئا من ذلك وتولى الوظائف عندهم أناس لا خلاق لهم .

   وصاروا يسعونَ تحت أيديهم بالفساد واضطهاد العباد ، وضجرت من هذه المعاملات وقلت لآل عمنا ( السيد محمد شريف آل السيد أحمد الشيخ ) لنذهب إلى دير الزور لترويح النفس ولمشاهدة آل عمنا نقيب ذلك اللواء السيد ( عبد الوهاب آل الشيخ أحمد الراوي ) ونرى تلك الحكومة الإسلامية التي احتلت ذلك اللواء وكيف حالهم وسيرهم ، ووافقني على ذلك امتطينا صهوة خيولنا وتوكلنا على الله متوجهين إلى ذلك اللواء فلما وصلناه نزلنا ضيوفا عند آل عمنا السيد النقيب السالف الذكر ، فرحب بنا غاية الترحيب وانشرحنا بمشاهدته وطلعته وستأنسنا بذلك الرحاب العام والرباط المبارك ، وبعد أن استرحنا من وعثاء السفر ذهبنا إلى المتصرف السابق الذكر للسلام عليه ، فرأينا شيخا مباركا وقورا حازما أهلا لمثل هذا المقام وزيادة ، وبعد السلام عليه والاستراحة عنده ذهبنا لبقية الدوائر وتواجهنا مع رؤسائها فرأيناهم والحق يقال كلهم من الأخيار ومن علية القوم ، ففرحنا بذالك وانشرحنا لما هنالك ولكن مع الأسف لم تمضي برهة يسيرة من الزمن إلا وجاء حاكم (عنه)،  انكليزياً أسمه (كارميز)، وأوقف سيارته بباب قصر المتصرف ودخل عليه وبعد السلام والكلام قال له : إننا مع الملك فيصل أصدقاء ورفقاء وهذا اللواء ينبغي أن يكون تابعا للعراق ولكنكم حللتم به قبلنا فلا أرى لزوما بالمشاحنة عليه فيما بيننا بل نذهب معا إلى حلب فهناك يوجد القائد الانكليزي وابن عم الشريف الملك فيصل ( الشريف الناصر ) ونتذاكر معهما بهذا الخصوص ، فأن قررا أنكم تشغلانه فالمسألة على بابها و إلا فنحن نشغله فوافقه المتصرف على ذلك وذهب معه إلى حلب ، وبعد بضعة أيام رجع وحده ونزل رأساً إلى سراي الحكومة وصار يدخل بدائرة بعد أخرى ويحرر جميع ما فيها من الأثاث والأسباب ، ثم يخرج إلى الغرفة الثانية كذلك إلى أن أستوعب الجميع وسجل جميع ما فيها بدفتره ، وقال للموظفين كلا يذهب إلى أهله لا لزوم لي باستخدامكم ، وقد مضى من الشهر ثلاثة عشر يوما فطالبوه بدفع ما يستحقونه من هذا الراتب فلم يقبل أن يعطيهم بشيء ، بل وضع على القاصات لـُكاً وختمها وأخرج جميع الأسباب التي في تلك الدوائر من مفروشات وغيرها من الكراسي والمناضد وما هو في تلك الدوائر ووضعه في صحن سراي الحكومة ، وجمع عليه الناس وباعه بالمزاد العلني ، وصار مقره هو في البلدية ، وعنده محاسب هندي مسلم اسمه ( محمد عالم ) وجعل رئيسا للبلدية ( الحاج فاضل العبود ) فالحكومة عبارة عن ثلاثة أشخاص هو الحاكم المطلق وهذان الشخصان بمعيته ، فأقلع المساكين عن ذلك اللواء كلا إلى بلاده ، البغداديون توجهوا إلى بغداد ومن جملتهم ( مدحت باشا ) السالف الذكر وحاكم الصلح ( عبد الحميد أفندي ) الذي صار قاضياً في بغداد في زمن هذه الحكومة ، الحلبيون ذهبوا إلى حلب والشاميون إلى الشام والحاصل تفرقوا أيدي سبأ ولا حول ولا قوة إلا بالله .

 تنبـيه

  إنني اعترض على المتصرف السالف الذكر، حيث انه وافق هذا الحاكم بالذهاب معاً إلى حلب ، مع أنه بإمكانه أن يمتنع من ذلك ويقول له إنني معين من مركز الحكومة بأمر ملكي فلا أتحرك عنه ألا بأمر ملكي أيضا ، فأراه انه أخطأ في هذه الموافقة ، وأعترض أيضا على هذا الحاكم الانكليزي لأننا نسمع عنهم أنهم يراعون الحقوق ويحبون العدالة والإنصاف ، فمعاملته هذه مع هؤلاء المأمورين تأذن بالوحشية التامة ، وكان الواجب عليه على الأقل أن يبذل لهم ما يستحقونه من الراتب ولو أنصف معهم لبذل لهم ما يستحقون وأعطى لكل واحد منهم إكرامية توصله لصوب مقصده ، بل كان الواجب الذي عليه أن يهيئ لهم وسائط السفر من سيارات أو غيرها لأجل إيصالهم إلى بلادهم مرفهين ، فرأيت ذلك فيهم وحشيه تامة لا تنطبق على مأمور ينتسب لمثل هذه الحكومة التي تدعي العدالة والإنصاف وهذا كله جرى عن مشاهدتي وعلمي ، فنسأل الله السلامة والاستقامة وأن لا يعيد علينا  مثل هؤلاء الكوارث بمعونته ، آمين .

  ولما أقلعت الحكومة العربية عن هذا اللواء صار لواء دير الزور ملحقا إلى العراق ، مع انه من قديم الزمان هو من البلاد السورية ولكن اليد الغالبة جعلته ملحقا إلى العراق قهراً وتحكماً ، وأصبح الحاكم المطلق فيه ذلك الرجل الإنكليزي ( كارميز ) ومعه رجل هندي اسمه ( محمد عالم ) كما أشرنا إلى ذلك جعله محاسبا ونصب رئيساً للبلدية ( الحاج فاضل العبود ) فأصبحت الحكومة في ذلك اللواء عبارة عن ثلاثة أشخاص وجميع المأمورين السابقين أقلعوا إلى ديارهم ، فحينئذ اضطربنا أنا ورفيقي السيد الشريف أفندي لأننا فررنا من ( عنه ) تاركين الأهل والبلاد لأجل أن لا نكون تحت حكم أجنبي ، وقصدنا محلاً فيه حكومة عربية إسلامية لننشرح بذلك فلم نلبث إلا وقد خيمت تلك الغيوم فوق ذلك اللواء فقال لي السيد شريف : لابد وأن نرجع في هذا اليوم لديارنا فقلت له لا بأس بذلك ولكن عندي ألبسة عند الخياط إلى خلاصها نذهب معاً إن شاء الله تعالى فلم يقبل وامتطى صهوة جوداه وعاد قافلا وحده إلى دياره وبلاه . وقد أحزنتني مفارقته ولكنني اضطررت للتأخر حيث إن البستي لم تكتمل وأحب أن آخذها معي لأن الألبسة القديمة التي لدي أشرفت على الاضمحلال وصرت كالمضطر إلى ذلك وودعته إلى طرف البلد ورجعت . ولم أشعر إلا وتلقيت تذكره من الحاكم المتقدم الذكر منطقها اقتضى حضوركم في ( الأوفيز ) في الساعة الثامنة نهاراً ، ولم أعلم لأي شيء طلب حضوري فحصل لي بعض الاضطراب ، ولكن لم يسعني التأخر لأن الأوقات كانت حرجه وعلى كل حال في اليوم الثاني حسب الوعد ذهبت إلى ( الأوفيز ) فرأيته جالساً بمحله وعند دخولي عليه رحب بي والحق يقال ، وبعد الاستراحة والسلام والكلام ،

  قال لي : من أين أنت؟

  قلت له : من أهالي راوه .

  فقال أين تكون رواه ؟

  قلت له : أما كنت في (عنه) ؟

  قال : بلا.

  فقلت : هي البلدة التي في جانب الجزيرة بمقابلة بلدة (عنه) تقريباً من الجانب القريب ،

  فقال : التي على جبلها القلعة ؟

  قلت له : نعم ،

  فقال: إذن لم أتيت إلى هنا ؟

  فأجبته : أن نقيب هذا اللواء السيد عبد الوهاب الراوي من آل أعمامنا وهو ولد في هذه البلاد ونحن في عنه وراوه ، ولم نره قبلاً ولا نتعارف إلا بالمخابرة فأحببنا زيارته ورؤياه .

  فسألني فيم كنت تشتغل فيما مضى من عمرك . 

  أجبته لم أشتغل بشيء سوى طلب العلم في بلدتنا حالة صغري ثم ذهبت إلى بغداد لإكمال تحصيلي ، وبقيت هناك مدة تقارب خمسة عشر سنه وبعد إكمال التحصيل عينت قاضيا شرعياً وآخر وظيفة لي في القضاء في بلدة المسيب ، ولما سقطت بغداد أتيت إلى بلادي وما دامت الحكومة العثمانية هناك أتقاضى راتبي ومخصصاتي ، ولما أقلعت الحكومة عن تلك البلاد بقيت بين ظهراني أهلي وأقاربي ونحن والحمد لله أهل زراعه وأملاك نكتفي بغلتها . والآن وجدت فراغاً عن اشتغالي بتلك الأملاك لأن الزرع والحاصلات لها أمد يزيد عن أربعة أشهر فأحببت زيارة آل عمنا كما ذكرته لك ،

 فحينئذ قال لي : تحب أن تذهب؟

 أجبته : بنعم.

 فخرجت من عنده وودعني الرجل إلى باب الغرفة، ولما وصلت قرب غرفة المحاسب قاصداً الخروج من سراي الحكومة رأيت كاتبه الخاص ( محمد بديع أفندي آل خضر أفندي ) مبعوث لواء دير الزور في زمن الحكومة العثمانية يسرع السير خلفي ، ويقول إن الحاكم يسلم عليك ويقول دعه يجلس برهة في غرفة المحاسب . فجلست بضعة دقائق ورأيت هذا الكاتب أتاني بكتاب من عند هذا الحاكم يقول فيه قد عُينت قاضياً إلى هذا اللواء ، والرجاء أن تباشر الوظيفة بهذا اليوم وتخبر القاضي السابق أن يحضر غدا إلى ( الأوفيز ) ليأخذ الإكرامية ، وقد كان قاضياً في زمن الحكومة السابقة ( محمد أفندي الطبال )  مفتي ذلك اللواء رجل عاجز متجاوز الثمانين . وقد قلنا حين جاء هذا الحاكم رخص جميع المأمورين السابقين فكلا ذهب إلى لبلاده وحيث إن هذا الرجل من أهالي دير الزور بقي بمحله فأحب إكرامه . أخذت هذه الورقة وخرجت مضطرباً حيث لم يكن يخطر بفكري وخلدي أن أُستخدم عند هذه الحكومة وقد كلفوني حين كنت في ( عنه ) أول احتلالهم تلك البلدة فلم أقبل . فعلى كل سكت لأنظر في الأمر فرجعت إلى محلي فرأيت آل عمنا النقيب المتقدم الذكر مع جماعته ينتظرون رجوعي بكل تلهف ، لأن والأوقات مضطربة في ذلك الحين والحكومة المحتلة ليس لها قوانين بل حاكم المحل حاكم مطلق بلا قيد ولا شرط ، فمثل هذا الحال يخشى منه ، فمن هذه الوجهة كان اضطرابهم ففرحوا برجوعي وسألوني ماذا كان فأخبرتهم الخبر ففرحوا كثيراً ، فقلت لهم إنني أروم الاستعفاء فلم يقبل واحد منهم ذلك وقالوا يجب عليك قبولها لتدفع إن شاء الله تعالى الضرر عنا وعن غيرنا ويمكنك إفهام هذا الحاكم بما هو الصالح للبلاد والعباد ، فسكت لكنني أقدم رجلاً وأؤخر أخرى.

  وكانت العادة في تلك البلدة انه يجتمع أكثر رؤساء هذا اللواء وعلماؤه بعد العصر في رباط آل عمنا النقيب المشار إليه ، فأخبرهم  إن المسألة وقعت كذا وأن فلان أراه لم يرغب بها بل يروم الاستعفاء ، فهاج عليَّ الجميع ملتمسين قبولي بذلك لأنهم لا يعرفون حالة هذه الحكومة ويحبون أن يكون أحدا من أقربائهم ومحبيهم مستخدم فيها ليتمكنوا على مراجعة أمورهم والتفاهم بمصالحهم بواسطته ، فأجبتهم بالقبول متكلاً على الله ومستمداً من روحانية رسول الله r أن يعينني الله ببركته على إحقاق الحق ونفع الإسلام والمسلمين إن شاء الله تعالى ، ومن الصباح ذهبت إلى المحكمة ورأيت فيها كاتباً ( سعيد العرضي ) الذي هو الآن مفتي اللواء وقلت له أخبر القاضي السابق إن شاء الله  فليذهب إلى الحاكم فأنه يجب مواجهته فأخبره ولكنني لا أدري هل ذهب أم لا . ورأيت هذا الكاتب لم يكن مستريحا بهذه الوظيفة ويحب التخلي عنها فقلت له : لا بأس عليك إن شئت فأستعفي فأراه فرح بذلك ظاهراً ولا أدري ما في قلبه لأن الله علام الغيوب فعينت رئيس للكتاب الرجل الصالح الشيخ (حسين الرمضان )  الذي هو الآن مدرساً في ذلك اللواء يدرس العلوم الدينية والعربية والحق يقال أنه رجلاً من أفاضل العلماء ومن أرباب الديانة والتقوى وعلى جانب عظيم من الورع له خصال حميدة بكل معنى الكلمة ، مستقيم الحال منذ عرفته إلى يومنا هذا فنسأل الله لنا وله ولجميع المسلمين السلامة والاستقامة ، وعينت كاتباً ثانياً ( حسين الجبين )  وكاتب ثالث ( محمد نجيب ) خطيب جامع السراي في ذلك اللواء وهو من عائلة عُرفت بالعلم ، وهو عم رئيس مجلس التمييز الشرعي الحالي في بغداد ( محمد شفيق أفندي ) وإخوانه أيضا في بغداد أحدهم ( محمد بديع ) سكرتير وزارة المعارف و (مصطفى شريف أفندي ) طبيب الشرطة ، وأما الكاتب الثاني وهو حسين أفندي وهو من أهالي دير الزور وكان مستخدم قبلاً في هذه المحكمة وهو رجل يعد أيضا من خيار الموجودين في ذلك الزمن وباشرت بالأحكام متكلاً على العليم العلام طبق الأصول الشرعية والقواعد المرعية ولله الحمد لا يؤثر عليّ الرجاء ولا ألالتماس ولا القوة بالميل عن طريق الحق قيد شعره ، وكانت الدعاوي متراكمة  جداً بواسطة تلك الانقلابات ولم تكن محكمة في ذلك اللواء غير محكمتنا فكنا نرى فيها الدعاوي الشرعية والصلحية والحقوقية ورئاسة الأجراء وكتابة العدل ، ولم تتشكل إذ ذاك  دائرة الطابو وكانت البيوع تجري من المحكمة أيضا وتسجل بحججٍ شرعية بدفتر خاص، وقمت ولله الحمد بأعباء هذه المحاكم كلها مدة تزيد على سنة ثم تشكلت دائرة الطابو وصارت المبيعات فيها وتشكلت محكمة الصلح وطرحنا ما يتعلق بالصلحيات إليهم وبقى الباقي يرى في هذه المحكمة فنحسم منها في كل سنة ما يزيد على أربعة ألاف دعوة ، كلها ولله الحمد مطابقة للأصول المرعية والقواعد الشرعية ، فجاءني الحاكم يوما من الأيام بعد زمن اشتغالي بهذه المحكمة فقال : إنني مسرور بمرساك وممنون من أحكامك وأنا حاضر لتنفيذ ما تشير إليه ، فقلت له : ما السبب الذي دعاك إلى هذا القول ، قال : إنني عينت جاسوسين يرقبان سير هذه المحكمة مدة ثلاثة أشهر ويصحب في المحكمة وخارجها فلم يريا عليك شيء يخالف الصواب والحق فصرت ممنون بذلك ، كما تأمر به فهو يكون إجراء ، فحينئذ فطنت الرجلين يتعاطيان المحاماة في الحقيقة لا يفارقاني لا في المحكمة ولا في غيرها إلا النزر القليل ولم أستغرب من ذلك من ملازمتهما لأنهما محاميان والمحامي شغله مربوط عند الحاكم فلا يستغربوا كثرة تردده  للمحكمة ولا مصاحبة  الحاكم حين يخرج منها ويجلس في ديوانه أو يسير عند بعض إخوانه ، فظهر لي حينئذ إنهما جاسوسان وأنا ولله الحمد لا أبالي بهما ولا بغيرهما لأنني والحمد لله رب العالمين ثابت على منهج الموافقة للحق والصواب كيف ما كلف الأمر وتمكنت ولله الحمد بفضل الله وبمدد روحانية رسول الله r أن أكمل أعمالاً مفيدة للدين والدنيا نافعة للعباد والبلاد مع اضطراب تلك الأحوال في زمن الاحتلال وان الحاكم رجلٌ كافر مطلق الحكم ليس لدية قوانين يسير عليها بل أمره نافذ وكأنه هو القوانين كلها ويعبرون عنه وعن أمثاله بذلك التاريخ بالحاكم العسكري ، وهذه هي القاعدة التي يسيّرون عليها حكومات الاحتلال في مبدأ الأمر لا يربطونه بقوانين بل كأنه هو القانون وكلاً منهم يعمل بمنطقته في رأيه وكثيراً ما يسير منهم في ترتيباته ورأيه وأحكامه بضد ما يسير عليه حاكم المنطقة الأخرى المجاورة له ، حتى أن الحاكم العام الذي يعبرون عنه ( بالمندوب السامي )لا يقبل شكاية على حكام المناطق كيف ما فعلوا ، ولما يراجعونه أرباب المظالم المغدورة حقوقهم فيشكون حالهم من حاكم منطقتهم إليه يقول لهم هو أعرف بمنطقته ولا يحرك معه ساكن ولا يكتب له شيء بخصوص هذه الأمور بل كلاً منهم يفعل ما يشاء ويختار حسب ما يوحيه رأيه وشيطانه وهذا أمر يعرفه كل من أدرك زمن الاحتلال ، ومع هذه الحالة مكنني الله أن أعمل أعمالاً خيريه كثيرة وذلك الحاكم يساعدني عليها وينفذها بدون توقف وليس ذلك إلا من فضل الله والسير على جادة الحقيقة السمحاء بصدق نية وإخلاص ، فمن جملة ما أجريته في ذلك اللواء من هذا القبيل إن رجلين من أهالي بغداد جاءوا من الأستانة وهما ( خضر العجاج ) من أهالي محلة الفضل كان إماما عسكرياً في الجيش التركي والثاني (عبد الرحمن أفندي ) من أهالي محلة الحيدرخانه كان مستخدما في ذلك الجيش كاتباً في الأركان الحربية وبعد الهدنة  رغبوا العودة إلى بلادهم ، فاسترخصوا من تلك الحكومة وجاءوا متوجهين نحو مسقط رؤوسهم ولما وصلوا دير الزور وباتوا فيه تلك الليلة ، وفي الصباح يعني قبيل الفجر أقلعوا في عربة تجرها الخيل فلما صاروا خارج البلدة بمقدار يسير هاج عليهم أشقياء وسلبوا جميع ما عندهم فعادوا إلى اللواء وأتوني كالطير المهلوس ريشها وقصّا عليّ القضية وأخبرت ذلك الحاكم فقال لي : حلفهم بالقران العظيم عن جميع ما سلب منهم وقدره بقيمته ، وأخبروني بذلك فحلفتهم بالله وبكلام الله أن يذكروا ما سلب منهم بدون زيادة ولا نقصان ويقدر له قيمه مناسبة لذلك لا يشطون بذلك عن الحق والصواب فحلفوا يمين وذكروا الأسباب التي سلبت منهم وقدرنا قيمتها بمناسبهِ التي هي موافقة للحق والصواب ، وهما رضيا بذلك أيضاً ظاهراً وباطناً بكل انشراح ، وبلغ ذلك حسب ما أتذكر خمساً وسبعين ليرة ذهب عثمانية أو خمساً وثمانين فأخبرته بذلك فأداه لهما حالاً وأركبهما بتلك العربة ورافق معهما رجالاً من الشبانه الذين كانوا يقومون بوظائف الشرطة بهذا الزمان فأوصلوهما إلى ( عنه ) وكتب إلى حاكم (عنه) أن يوصلهما صوب مقصدهما ، ثم بعد ذلك صار يعقب الفاعلين فجمع كل من عليه شبهة من مثل هذه الأمور وبلغ عددهم أربعين رجلاً وأودعهم السجن وصار يذهب إليهم ليلاً ويتهددهم بالتهديدات الشديدة ولعله كان يؤذيهم بالضرب حسب ما سمعت بعد ذلك فشهد بعضهم على بعض أن الفاعلين لذلك فلان وفلان وظهروا خمسة وأقروا بذلك وتعهدوا بتأديته ولم يقبل ذلك منهم وأبقى هؤلاء الخمسة السجن وأخرج الباقين ، ولم يحول أمرهم إلى المحكمة لننظر فيها حسب الأصول المرعية بل صار سراً يتخابر مع المندوب السامي ويشرح له القضية ويستأذن منه بإعدامهم ، فوافقه على ذلك ولا علم لي بجميع هذه المخابرات لأنها سرية ولكن ظهرت لي بعد وقوع الأمر وكانت توجد عرصه بجوار محل المحكمة رأيت أناس ينصبون فيها أخشاب ومعهم رجال من الإنكليز ، فسألتهم عن سبب ذلك قالوا هذه لأجل أن يتعلمون عليها العسكر (  )  هذه مسألة تتعلق بالعسكرية وخدمتهم بذلك ، ثم ظهر لي بعد ذلك أنها مصلبة حيث أنني لم أشعر ذات يوم ألا وباب دارنا تطرق وقت الفجر ، وخرجت إلى الباب فرأيت شرطياً وفي ذلك التاريخ يعبرون عنه بالشبانه ،

يقول : إن الحاكم ومعاونه والطبيب ورئيس البلدية الآن هم في سراي الحكومة يطلبون حضورك ، فاستغربت ذلك غاية الاستغراب لأنه لم يسبق انه أرسل عليّ في مثل الوقت ،

فقلت: لهذا الرجل ما الذي حدث وما هو السبب لطلبي في مثل هذه الساعة.

قال: لا أدري، مع أنه يدري وأظنهم أوصوه بذلك.

فقلت له : أصلي الصبح أن شاء الله وأذهب إليهم . فذهب ورجعت إلى الدار وتوضأت وأديت الفريضة ولله الحمد ، وقبل أن أرتدي ملابسي طرق الباب أيضا ، فأكملت ملابسي وخرجت ، فرأيت شرطياً أخر على الباب ،

يقول : الجماعة يستعجلونك ، فسألته عن الأسباب أجاب لا أدري ، فسرت معه وفي أثناء الطريق لقينا رجل أخر من هذا القسم يستحثني بالسير ويخبر أن الجماعة يطلبون حضورك بسرعة ، فسألته أيضا ، قال لا أدري . فلما وصلت قرب سراي الحكومة رأيت مدرعات في بابها ، والعسكر محيط بسراي الحكومة حاملاً السلاح فاستغربت ذلك ، فلما دخلت السراي رأيته واقفاً في صحنها ومعاونة بجنبه والطبيب بجنب المعاون ورئيس البلدية وكان إذ ذاك ( الحاج فاضل العبود ) أيضاً واقفاً ، لكنه تنحى عنهم قليلاً فذهبت رأساً إليه ،

 وقلت له : ما حدث وما هي الأسباب لهذا الاجتماع ،

أجابني : أن الرجال الخمسة الذين سلبوا أصحاب تلك العربة ورد أمرا بشنقهم وآلان تحامل المشنقة ولكسر القاعدة يحضر القاضي أو المفتي لآجل تلقينهم الشهادة وسماع وصيتهم أن كان عندهم وصية ، فقلت في نفسي العياذ بالله من هذا الصباح ،

فقلت لرئيس البلدية : أن يكلم الحاكم بتأخير ذلك إلى المذاكرة بشأنهم ، حيث أن عملهم هذا لا يوجب شنقاً لأنهم لم يقتلوا الأنفس بل الأخذ من الطريق وسلب المال فلا ينطبق هذا الحكم على جريمتهم التي ارتكبوها .

أجابني : انه لا تتكلم لأن هذه الحكومة بعد أن يقرروا شيئاً لا يرجعون عنه والمسألة قد انتهت وأخشى أن يكون كلامك سدى .

  وأنا كنت أحب أن يعاضدني على ذلك فلما رأيته بهذه الفكرة تركته وأتيت إلى الحاكم فقلت له:ماذا تريد ؟ فأخبرني الخبر طبق ما شرحه رئيس البلدية .

فقلت له :لمَ لم تشاورني في ذلك قبل وقوعه.

 أجابني : أن هذه مسألة سياسية ولا تتعلق بالمحاكم ، وإلا فأنت تعرف حالي عن المسألة التي تتعلق بالمحاكم لا أتعرضها بل أحيلها عليك ، وبما يصدر حكمك أنفذه .

وأجبته : بأن هذه المسألة من أهم ما يتعلق بالمحاكم فلو أخرتها لنتذاكر بالموضوع لكان أولى وأحرى .

 فقال : أننا هيئنا العسكر والأسباب اللازمة  لأجراء ذلك .

وقلت له : أن هيئان العسكر وغيرهم سهلاً ، لأنه موقوف على كلامك أن إمرتهم بالانصراف انصرفوا وأن أمرتهم بالاجتماع والحضور اجتمعوا وحضروا ، وليس هو أمر صعب على مثلك ، فرأيته أغمض عينيه وهز رأسه كأنه ثقل عليه ذلك ، ولكنه استصعب رد كلامي ، فهداه الله أن آمر بالانصراف وأعاد هؤلاء المساكين إلى السجن ، واوعدته بأن أحضر عنده في الساعة الثامنة عربية بعد الظهر لنتذاكر بالموضوع،  فانصرفنا كلاً لمحله ، وذهبت للمحكمة عند الدوام فلم أتمكن أن أرى دعوى في ذلك اليوم وصرفناهم وذلك لانشغال فكري واضطرابي في هذه المسألة ، ولم أتمكن أن أتناول طعاماً في ذلك اليوم . وبعد أداء فريضة الظهر ذهبت إلى مفتي اللواء إلى بيته وكان أذ ذاك الشيخ ( حسين العزي الأزهري ) وهو رجل من أهل العراق من بني عز ولكن تحصيله كان في الأزهر الشريف حيث بقي فيه ثلاثين سنة طالباً ومدرساً ، وبعد هذه المدة عاد إلى العراق ، وصار يدرس في المدرسة الاحمدية الكائنة في جامع الميدان ، وبعد مدة عاد إلى دير الزور فنصب مفتياً فيها ومدرساً وتأهل هناك وأقام بقية عمره في ذلك اللواء إلى أن توفاه الله ، وتخرج عليه جم غفير من أهل ذلك الزمن رحمة الله عليه ، كان عالماً فاضلاً ديناً تقياً من خيار الآمة ولكنه فقير وضعيف الإرادة ، وسبب ذهابي إليه أحببت أن اخبره بالحادثة ليذهب معي إلى الحاكم لنتفاهم معه ونثنيه عن هذا الحكم المجحف ، ويحيل المسألة إلى المحكمة لتصدر حكمها بعد الإثبات طبق القواعد الشرعية والأصول المرعية ، ولما دخلت عليه رحمة الله عليه رأيت بيده كتاباً يطالع به ووضعه حوله وأبقاه مفتوحاً ن وقام بالمصافحة معي وبعد السلام والكلام جلسنا ، فتناولت الكتاب ورأيته الدر المختار وانه كان يطالع في بحث القصاص وقطع الطريق ، فلما رأيت هذا البحث التفت إليه ،

وقلت له : كأنك سمعت بهذه الحادثة اليوم وتطالع في البحث المتعلق بها .

قال: نعم .

 وقلت له : أذاً أنا آتيك بهذا الخصوص ، لابد أن نذهب معاً إلى الحاكم ونتفاهم معه لعلنا يمكننا أن نعدله عن هذا الحكم المجحف . فلم يقبل أن يذهب معي .

وقلت له : لم قال إنني بقيت في مصر ثلاثين سنة وهؤلاء الحكومة لهم نفوذ هناك فلم أشاهد منهم أنهم قرروا شياً وتمكن احد إن يعدلهم عنه بل متى قرروه نفذوه .

فقلت له : أن سياسة هذه الحكومة تختلف باختلاف المواطن وباختلاف السكان ، فالعراق غير مصر فلم يفد به العذر وقلت له أنت لا تتكلم وأنا الذي أتكلم ولكنه حضورك معي له موقع ، فلم يفد فتركته وخرجت من عنده رحمة الله عليه ، لأنه كان من الأخيار كما سبقت الإشارة إليه ولكنه ضعيف  فقير .

  ولما حان وقت الموعد الذي حدده الحاكم المتقدم الذكر ذهبت إليه في محله الذي يجلس فيه ، وكان إذ ذاك يجلس في دوائر البلدية ، حيث انه اتخذه ديواناً لمحل حكمه . ولما دخلت عليه رأيته ينتظرني فبادرته بالكلام .

وقلت له : حكمك على هؤلاء المجرمين في هذه الصفة يسمونه الناس حكماً قرقوشياً. فسألني عن معنى هذه الكلمة ، فشرحتها له كما هو مشهور على السنة الناس ، وقلت له هذا العمل يجلب اضطراباً لجميع المسلمين فضلاً عن أهل هذا اللواء ، لأنه لم يستند إلى حكمٍ شرعيٍ أو نظامي. فالواجب عليك أن تحول هذه المسألة إلى المحكمة فإذا صدر أمر من المحكمة الشرعية بأي صورة كان من شنق أو قطع يد أو حبس ونفذته ينشرح له صدر عموم المسلمين لأنه مطابق للشرع ، وان قلت أن الحكومة السابقة العثمانية لم تكن ترى مثل هذه المسائل في المحاكم الشرعية بل في المحاكم النظامية فلا بأس ، فنظام تلك الحكومة موجود وان شئت فأحضر معنا في المحكمة لترى الدعوة على أصولها بمحضرك وبما يصدر الحكم تنفذه فلا يضطرب احد لذلك ، وأما أن نفذته بهذه الصورة فأنه موجب للاضطراب والقيل والقال ، وأنني ناصح لك بذلك ولا أحب أن يكون في منطقك إخلال .

أجابني قائلاً :إنني ليس لي مع هؤلاء بغض ولا منازعه في شيء ولكنني أريد حزم الفساد .

فقلت له : إجراء الحكم بهذه الصفة هو عين الفساد لأنه لم ينطبق على قاعدة شرعية ولا نظامية . والحاصل كثر الكلام بيني وبينه وهو يحاول ويدافع ، فأتيته بمسألة سياسية أدهشته ، وهنا لآن ونزل عن تجلده وتعصبه .

وذلك إنني قلت له :المشهور عند الناس إن الحكومة الانكليزية تحب العدالة والوئام ، وتراعي العناصر والبلاد التي تحتلها طبقاً لعوائدهم وقواعدهم ، حتى أن اللسان الرسمي يختلف باختلاف البلاد التي يحتلونها ، فلسانهم الرسمي في الهند ( الأوردو ) ولسانهم في انكلترا وما يليها ( الانكليزي ) ولسانهم الرسمي في العراق ( العربي ) حتى أنهم بلغوا المنطقة الكردية أن يكون اللسان الرسمي ( الكردي ) واعتذروا أن اللغة الكردية لا تكتب بل مخابراتهم وتقاريرهم تكون باللغة الفارسية فلم يقبلوا ألا أن يكون اللسان الرسمي في تلك المنطقة اللغة الكردية ، وساروا عليها في المحاكم وغيرها ، إلى هذه الدرجة يراعون قواعد البلاد وعوائد أهل البلاد ، هكذا هو المشهور عن هذه الحكومة ، وأنت تريد أن تقلب اعتقاد الناس في حكومتك وتضربها ضرباً قاضياً على دماغهم ، حيث انك تكلم قلب ما يزيد على مئة وخمسين ألفا من رعايا دولتك في عملك هذا . فأندهش لذلك غاية الاندهاش وقال كيف يكون ذلك فأجبته أن في مستعمراتكم خمساً وثمانين ألف مسلم في الهند وهنا في العراق  قد وضعتم إصبعكم عليها وإحصائيته الرسمية لمسيرتكم خمسة ملايين ، ولكن العراق يزيد على عشرة ملايين لان أكثر سكانه من أهل البادية لم يجري عليهم التحرير حتى الآن ، وهذه مصر وما يليها لكم فيها أصبع وهي تزيد على أربعة عشر مليوناً ، وفي جنوب افريقية لكم رعايا من المسلمين أيضا ، فمجموع المسلمين الذين في بلادكم ومستعمراتكم يزيد على مائة وخمسين مليوناً ، فأعلم أن جميع هذا المجموع لم يرتضى عملك هذا ، وهذا خلاف سياستكم التي تسيرون عليها ، وهنا اندهش وطأطأ رأسه وأمر كاتبه أن يكتب  إعلانا بالعفو عن هؤلاء المجرمين بناءً على التماس القاضي ، وأمره أن يضعه بمحل الإعلان السابق القاضي بإعدامهم ، وكان معلقاً في باب البلدية وسراي الحكومة . فما أحببت أن اذكر له أن هذا خطأ أيضا بل ينبغي مجازاتهم بما يطابق جريمتهم من القواعد الشرعية أو النظامية  خشية أن ينقلب عن هذه الفكرة ، فتركته وخرجت من عنده ولله الحمد .

   ومن جملة ما تمكنت على إجراءه ولله الحمد إنني شاهدت من الجامع الحميدي الذي هو ملاصق لسراي الحكومة متهدم بعضه والبعض الأخر مائلاً إلى الانهدام لان الحكومة السابقة لم يمكنها الالتفات إلى مثل هذه الأمور في زمن الحرب ولما اقلعوا عن البلاد بقيت حالها ، فذكرت له ذلك فأمر بأعماره حالاً وصرف عليه سبعمائة ليره ذهب ، ثم رأيت منارة الجامع العمري قد أنهدم رأسها فذكرت له ذلك فأمر بأعمارها حالاً ، وكذلك مسجد أبي عابد وغيرها من المساجد فرمم جميع نقصانها ، فحمدت الله على ما يسره لمسعاي .

   ومن جملة ما مكنني الله على إجراءه إنني ذات يوم مررت في السوق الكبير في طريقي إلى المحكمة ، وكان معي رجلاً يسير خلفي فرأيت عشرة دكاكين متلاصقة وكلها فيها زجاجات في تلك الزجاجات شيء يشبه شراب الرمان وبعضها يشبه شراب البرتقال  فظننت أنها من هذا النوع لأنهم كانوا يجلبون مثل ذلك من بلاد الشام ، فسألت ذلك الرجل وهو محمد بن جابر آل الحاج رياح ،

فقلت له : متى جلبوا هذا الشراب من الشام ،

أجابني : أن هذا ليس بشراب بل خمراً كله من المسكرات ،

 فتعجبت من ذلك ولاسيما في ذلك التاريخ في مثل هذه البلدة والتي سكانها كلهم مسلمون ومن العرب الاقحاح الذين لم يوجد في بلادهم مثل هذه الأمور . فذهبت لذلك الحاكم قبل أن أصل المحكمة وأخبرته الخبر ،

فأجابني : أن هذا أمر مستحسن وهذا من أعلى أنواع التمدن الحاضر .

فقلت له :أن هذه بالنسبة للمسلمين من أقبح الإعمال لان مرتكبه  فاسق ، ويعبرون عنه بأم الخبائث ، وكل مسكر حرام استعماله في الشريعة الإسلامية ،

فأجابني : إن في بغداد محلات كثيرة في الأسواق وغيرها يباع فيها هذا الشيء ،

 وقلت له : أن بغداد بلدة كبيرة وفيها من اليهود ما يزيد على خمسين إلف نسمة ومن النصارى ما يزيد على اثني عشر ألف نسمة ومن الأجانب ما يزيد على اثني عشر ألف نسمة ، فيمكننا تأويل ذلك بأن هذه الأشياء لهؤلاء الناس الذين لم يعتنقوا الدين الإسلامي ولعله مباح عندهم بالنسبة لدياناتهم ، ولكن هذه البلدة كل سكنتها مسلمون وكلهم من العرب الاقحاح الذين يعتقدون حرمة هذا ، ومستعمله بنظرهم من افسق الفاسقين ومستحله كافر ، فلا يمكن بقاءهم في هذا البلد وان بقوا يخشى عليهم من الاغتيال ، وأنا لا أحب أن يكون في منطقتك ما يكدر الصفوة ويرث الاضطراب . فأمر  بإحضار مدير الجمرك ، وحضر حالاً وأنا عنده ، فقال له من ارخص باعة الخمر ، قال له أنا ، فقال له على أي استناد ، فأخرج له نظام كان بيده وأظهر له المادة التي تخوله لذلك وقال له المدير المار الذكر أرخصتهم بموجب هذه المادة واستوفيت منهم الرسوم مائة ليره ذهب ، فأجابه الحاكم أنا القانون فلا التفت إلى قانونك ، فأعد لهم الرسوم وامنعهم عن البيع بشرط أن لا يبقوا بهذه البلدة من هذا اليوم ، فقال المدير أن هذه الرسوم دخلت في القيد فأمره بإحضاره ، فلما أحضره شرح تحته بقلمه أن هذه الرسوم أعيدت إلى أصحابها بأمر الحاكم ، وأمضاه ودفعه له ، فأعيدت لهم ومنعوا وأقلعوا عن البلد في ذلك اليوم ولله الحمد.

   ولما اقبل رمضان قلت له قد اقبل شهر رمضان فينبغي أن تضرب مدفعاً عند الإفطار ومدفع وقت السحور ومدفع قبيل الفجر حينئذ يجب الإمساك كما هي العادة في زمن الحكومة السابقة ، فأجابني ليس لدينا مدفع في هذا البلد أما نسد مسده ( ) فقلت له لا ، قال ايمكن علي إحضار مدفع من بغداد ، قلت له نعم ، لأنه بقي خمسة أيام ويمكنك إرسال سيارة كبيرة من سيارات الحمل تنقله من بغداد , فأمر بتسيير سيارة في ذلك الحين وكتب مع سائقها كتاب في هذا الخصوص ، وحضر المدفع قبل حلول شهر رمضان المبارك وصاروا يطلقونه في هذه الأوقات التي اشرنا إليها .ثم قلت له ينبغي أن تعين من كل جامع واعظ يرشد الناس إلى أمور دينهم ودنياهم بعد صلاة العصر كما هي العادة في مثل هذا الشهر لأكثر البلاد الإسلامية ، فناولني ورقة وقال لي اكتب هذه اللفظة بخط جلي ، فكتبتها له فأخذها وجعل يكررها مراراً ، ثم التفت إليّ وقال :هل يكون تجمع كبير حوله ؟ قلت له نعم ، وعلمت إنهم لا يحبون التجمعات لأنهم يخشون من حدوث شيء ، فقلت له إنا الضمين بهذه المسالة ولا يُخشى حدوث شيء مما تتخيله ، بل هو تجمع ديني صرف حيث إن المسلمين صياماً  في هذا الشهر المبارك ، فيجتمعون بعد العصر حول إمامهم أو خطيبهم يرشدهم إلى الأمور الدينية الصرفة لا غير، فوافق على ذلك ، وقال لي عين من شئت وأنا ابذل لهم الراتب بما تقرره . فعينت عشرة وعاظ ، في كل جامع من جوامع هذا اللواء واعظاً ، وفي آخر الشهر المبارك دفع لهم رواتبهم .

   فلما اقبل العيد جاءني وقال : إنني اجلس بمحلي في يوم العيد وتأتوني للمعايدة أنت والمأمورين ووجوه البلد ،

فقلت له : هذا الأمر لا لزوم فيه .

فقال لي : إنني سمعت إن المتصرف  في الزمن السابق يجلس في محله ويأتون إليه المأمورين وغيرهم لأجل المعايدة ، وأنا الآن اشغل مقام المتصرف .

فقلت له : ذلك المتصرف مسلماً وفي مثل ذلك اليوم هو عيداً عنده حسب اعتقاده ومذهبه فيذهبون الناس لمعاديته ، وأما أنت فليس هو عندك عيد ، فلم يكن معنى للمجيء إليك ومعايدتك ، ولكن أنت ينبغي أن تأتي لمعايدتنا فنحن بعد صلاة العيد نذهب إلى النادي الذي هو عائد للبلدية ، البلدية هي دائرة الأمة ونهيئ الترتيبات اللازمة هناك والمناسبة ليوم العيد من حلويات وغيرها مما يناسب مثل هذا اليوم بالنسبة لعوائد المسلمين ، وأنت تأتينا إلى هناك ، فأنه محل يشبه الدوائر الرسمية ، هذا هو المناسب لهذا المقام فوافق على ذلك . وأخبرت رئيس البلدية وترتبت الأسباب اللازمة وبعد صلاة العيد ذهبنا جميعاً إلى هذا المحل وجاءنا هناك وعايدنا وقد انفض الاجتماع وكلاً ذهب إلى محله وجلسوا فيه حسب عاداتهم وصاروا يتزاورون كعادة المسلمين في مثل هذه الأيام ، وخلاصة الأمر لو أردت شرح جميع ما دار في تلك المدة من هذا القبيل لطال بنا المقال فلا أرى لزوماً  لشرحه ، فأحمد الله تعالى على أن مكنني من نفع الإسلام والمسلمين ودفع كثيراً من الضرر عنهم ، عكس ما كنت أتخيله في مبدأ الأمر وكرهت هذه الوظيفة ورمت الاستعفاء منها لولا إلحاح المحبين ظناً مني أنني لا أتمكن على أن اشتغل مع مثل هذه الحكومة ولا أتمكن على دفع ضررها ، حيث إنها حكومة ظافرة احتلت البلاد قسراً وعينت حكاماً في مناطقنا بدون قانون يسيرون عليه ،  بل كل حاكم منهم كأنه مستقل في منطقته يفعل ما يشاء ويختار ، وكبيرهم كالمندوب السامي وأمثاله لا يسمع عليه شكوى فمتى راجعه أحدا لرفع مظلمته التي أجراها عليه حاكم منطقته ، يجاوبه المندوب بأن هذا الحاكم اعرف لمنطقته من غيره  ، فإذا كان الأمر كذلك فلا يمكن للرجل المسلم مثلي أن يستخدم في مثل الحكومة ولكن هذا الحاكم ذلله الله لي بفضله ومنه وببركه روحانية الرسول الأعظم r وبإخلاصي ولله الحمد بإحقاق الحق فصار لي كمأمور الإجراء للحاكم ، وان جميع ما أكتبه له ينفذه بدون تدقيق واعتراض لأنه كما سبقت الإشارة إليه تتبع في مبدأ الأمر أحوالي وأحكامي فظهر لديه الحق والصواب واعتمد علي اعتماداً تاماً والحمد لله رب العالمين .                                                             

   ولم أتخطر انه عارضني في مسألة إلا مرة واحدة لما اقبل رمضان قلت له ينبغي أن تصدر أمرا وتعلنه إعلانا بأن تسد المقاهي في النهار وكذلك المطاعم وما يتعلق بها وان يمنع الإفطار علناً ، ومن شوهد انه مفطراً يجازى بالحبس الشديد شهراً ، وبجزاء نقدي خمسين روبيه ، فقال لي هذا لا يمكن ، فقلت له لم ؟ قال لأنها مسألة ديانة . والديانة ينبغي أن يندفع إليها الإنسان بطبعه ، فإذا كانت بالجبر والقهر فلا يقال لها ديانة ، فقلت له هذا كلام معقول يرتضيه أرباب العقول السليمة ولكن هذا يكون للمتفقه المنور ولكن أكثر الناس عواماً لا يدركون هذا الإدراك فينبغي ردعهم عن الضلال إن خرجوا عن قواعد دينهم ، وحاججته بالأدلة العقلية والنقلية فلم ينثني عن فكرته ، فلما ايست منه قلت له : إذاً هذه مسألة دينية مرجعها إلى حاكم الشرع فأنا اعمل هذا الإعلان ، ولكن إن سألك سائل عن هذه القضية فلا تتكلم معه بمثل ما تكلمت به بل الجواب منك يكون لهم إن هذه مسألة دينية مرجعها حاكم الشرع ، فوافق على ذلك . فكتبت الإعلان وعلقت نسخة منه في باب البلدية ونسخة في باب دار الحكومة ونسخة على باب المحكمة الشرعية ونسخة في السوق الكبير فحمد الناس ولله الحمد حموداً .  ولم يظهر في عموم ذلك الشهر المبارك من خالف منطوق ذلك الإعلان .

  وفي مدة بقائي هناك كنت اجلس بعد أداء الفريضة الصبح للدرس في تكية آل عمنا نقيب ذلك اللواء السيد عبدالوهاب الراوي وأبقى مشغول بالتدريس إلى إن يصير وقت الدوام في المحكمة فأذهب إليها وأجلس هناك أزاول الأحكام طبق الشرع الشريف والقواعد المرعية إلى بعد الظهر عند انتهاء الدوام فأرجع إلى البيت لتناول الغداء والاستراحة ، وبعد صلاة العصر في تلك التكية المباركة اجلس للدرس العام ويجتمع فيها خلق كثير من أكابر البلدة ورؤسائها وغيرهم إلى الساعة الحادية عشر عربية ينتهي الوعظ ، وفي هذه الساعة إلى الغروب نتكلم مع الجماعة الحاضرين في ما يناسب ذلك المقام ، وبعد أداء فريضة المغرب نجلب الطعام من البيت إلى هذا الرباط المبارك ونتناوله مع من حضر من الفقراء والمساكين والغرباء ، وبعد صلاة العشاء مع ما يتعلق بها من السنن والأوراد ، نقيم الذكر المبارك حسب عادة السادة الرفاعية في كل ليلة جمعة واثنين ، وهكذا قضيت جميع المدة التي بقيتها في ذلك اللواء ما يقارب ثلاث سنوات ولله الحمد .

  وقد مضت سنة من هذه المدة بهذا اللواء تحت حكم الحكومة الانكليزية ولم نشعر ذات ليلة إلا وقد هجم على هذا اللواء ( رمضان شلاش ) رئيس عشيرة ( البو سراية ) مع عشيرته المذكورة واحتلوا سراي الحكومة ومحل الحاكم وأخذوه  أسيراً هو وتسعة أنفار معه من الانكليز ، واتوني رؤسائهم في الليل إلى داري وطرقوا على الباب فخرجت عليهم وقالوا ماذا تأمرنا أن نصنع ، فقلت لهم مع إنني لا علم لي بهذه الحادثة قبل ذلك ولم يشاورني بها احد والله على ما أقول وكيل ، ولكن لما وقع الأمر بهذه الصورة ، قلت لهم أرجوكم أن تبعثوا أناس يحافظون على الكمرك لأنني أخشى أن تنهب الأموال التي فيه ظناً من هؤلاء الجمع إنها أموال للحكومة مع إنها ليس منها شيء للحكومة بل هي أموال التجار يضعونها هناك لتستوفي الحكومة رسومها منها وبعد ذلك كلاً يأخذ ماله ، وان ترسلوا أناس يحافظون على السوق لأنني أخشى عليه  أن يتجاوز بعض هؤلاء الجمع في مثل هذه الساعة المنفلتة أن يتجاوزوا على أموال الناس ، وترسلون أناساً للمحافظة على المحاسب (محمد عالم ) لأنه رجل مسلم هندي ، وتوصوا جيشكم أن لا يتجاوزوا على احد ويسيروا السير الحسن مع الناس . ففعلوا جميع ذلك وأصبح الصباح ولم يفقد لأحد شيء من المحلات التي ذكرناها وغيرها فذهبت إلى محل ( رمضان شلاش ) الذي كان جالساً في دائرة البلدية ، ورأيت الحاكم ورفقائه التسعة عنده جالسين وعليهم أثر الكآبة ، وفي تلك الأثناء جاءت طيارتان انكليزيتان وحامتا فوق البلدة وصارتا تقذفان قنابلها ، ولكنهما ( سبحان الله العظيم ) لم تؤثرا شيئا، والله لم يفقد بأثر قنابلها شخص واحد ولا هدم أدنى جدار وبعد أن أفرغت قنابلها عادت من حيث أتت ،

فصار رمضان الشلاش يخاطب الحاكم ويقول له : إن الطيارات لا تزعجنا بل نحن نراها بمقام الطبل الذي يضرب بالأعياد والأفراح ، ولكنها تزعج الأطفال والنساء ومن على شاكلتهم فأن أتت مرة أخرى أقتلكم بهذا السيف ، وسحب سيفه من غمده إلى وسطه ثم ادخله فيه ،

فأجابه الحاكم : ماذا اصنع هي لم تكن برضائي ولا علم لي بها ،

فقال له : اكتب لمرجعك إن أتت الطيارات مرة أخرى فنحن في خطر ،

فقال له : ومن يصل الكتاب ،

قال له : أنا أوصله ، فكتب في تلك الساعة كتاباً شرح فيه هذه الحالة فدفعه إلى رمضان الشلاش ، ورمضان أرسله مع رجل عربي أوصله إلى الحاكم الذي في ( عنه ) . وبعد إن انتهت هذه القضية بما ذكرناه رأيتهم بمحله ذليلين وهؤلاء بمقام الأُسراء ، والأسير ينبغي أن يعامل باللطف حسب ما يناسب الحال ، فكلمت رمضان شلاش بأن يرسلهم إلى القلعة التي هي بطرف البلد من الجانب الغربي ليستريحوا هناك ويجعل عليهم حرساً ، ويهيئون لهم أسباب الراحة بما يناسبهم من فراش ومأكل ومشرب إلى أن ينظر في حال أمرهم ، فأمتثل الرجل كلامي وعاملهم بما أشرت اليه ، وبعد بضعة أيام أرسلهم في عربة إلى ( عنه ) عند جماعتهم وبقي يحكم بهذا اللواءً . 

ـــــــــــ  

 تحميل الملف بصيغة وورد                                                       عودة الى الصفحة الرئيسية