الاستاذ صباح هاشم احمد الراوي -  و ذكرياته عن جده

صورة نادرة للشيخ احمد الراوي مع فضيلة مفتي فلسطين الاكبر المجاهد الشيخ امين الحسيني ( عند زيارته لسامراء)

  ويظهر في الصورة بعض وجهاء سامراء، الحاج حسين العابد والحاج جاسم الحجي (المحسن الذي انشأ جامع السامرائي في بغداد الجديدة)  

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المدرسة العلمية الدينية في سامراء

( صفحات من مذكرات حفيد الشيخ احمد الراوي – الأستاذ صباح هاشم احمد الراوي([1]))

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 تأسست المدرسة العلمية الدينية في سامراء على عهد السلطان العثمانيّ عبد الحميد الثاني, وكان لها تأثيرها اﻹجتماعي الواسع في المدينة , وهنا لا بد لي أن أشير ﺇلى تأثير جدّي ( المرحوم الشيخ احمد الراوي) الذي باشر موعظته وﺇرشاده في سامراء منذ عام 1926  ( 5/ رمضان/ 1346هـ ) ولغاية وفاته في آذار من عام 1966, كان رحمه الله يخرج من البيت قبل صلاة الفجر، ليصلّي في المدرسة بالطلبة هناك والأهالي القريبين من المدرسة, بعدها يتجه ﺇلى غرفته لمراجعة ما سيلقيه من دروس ويبعث بـ (هيدو) ([2]) أو أحدهم ليجلب له الفطور من البيت, أقصد بيتنا القريب من المدرسة, أذكر أن خادم المدرسة المذكور يذهب بالفطور قبل أن نخرج ﺇلى مدارسنا, أمّا في أيّام العطل فيكون علينا نحن الأولاد أن نذهب  بالفطور وكذلك الغداء ﺇلى المدرسة العلميّة .

     بعد صلاة الظهر تكون هناك استراحة قليلة يتفقد فيها حديقة المدرسة ويتطلّع إلى أشجارها الّتي غرسها بنفسه, أذكر أنّ (البقچة) ([3]) كانت تضم ثلاث نخلات من تمر (الزهدي , الكسب , الخستاويّ) , كما كانت هناك شجرة ضخمة وقديمة لفاكهة (التين) , بالإضافة إلى القليل من الحمضيّات , كما كان فيها العديد من (عشش) الورود المختلفة الألوان, بناء المدرسة يميل إلى شكل المستطيل وهي ذات طابقين، طراز بناءها قريب من بناء الأضرحة المشرّفة (أضرحة الأئمة) حيث الغرف التي تتقدّمها (طارمة) صغيرة تحيط بالساحة, بناءها شرقي بالطبع مفتوح إلى الفضاء, غرف عديدة فوقها غرف مماثلة, كل غرفة ملائمة لطالبين أو ثلاثة إذا ما ازداد العدد, الحديقة وأمامها مصلّى صيفيّ تقعان في وسط ساحة المدرسة تقريباً, أمّا الساحة المتبقيّة والتي تقع أمام المصلّى فهي (للوعظ) حيث تصفّ الكراسي القديمة المغطّاة بشرا شف بيضاء نظيفة, تتوسّط هذه الجلسة (حبوب من الماء)([4]) يتدلّى عليها عدد من (المناشل)([5]) حيث كنّا أنا وابن خالي العزيز عبد السلام([6]) وإخوتنا زهير وباسم (المرحوم) ([7])  وليث وعبد العزيز (الحاج) ([8])  متناوبين على تلك المهمة .

    تبدأ دروسهم في الساعة الثامنة والنصف صباحاً , حيث يجلس الطلبة على شكل نصف دائرة أو أوسع حسب عدد الحضور, وهذا التقليد متوارث بالطبع منذ صدر الإسلام كما نراه اليوم في صفوف التدريس في جامعة الأزهر ,غالباً ما يقرأ أحد الطلبة المتقدمين ويقوم المرحوم جدّي بالشرح ويفاجئ الحضور أحياناً بتوجيه الأسئلة .

   وفي الشتاء لا تفارقه القهوة التي تتوسّط الجلسة فوق (منقلة الفحم) ([9]) , وكان المرحوم قد سمح لنفسه بالتدخين أثناء الدرس, وإذا حضر طعام الفطور متأخّراً فلا مانع من أن يبدأ بفطوره يشاركه الطلبة ولا ينقطع عن الكلام في مادة الدرس, وإذا صادف أن زاره أحدهم يأمره بالجلوس والاستماع, وهٰكذا تذهب وجبة من الطلبة وتأتي أخرى حتى يقترب الوقت من الوضوء للتهيؤ لصلاة الظهر , وكان رحمه الله يأخذ وقتاُ طويلاً في الوضوء ويصلّي السنن .

  تصل وجبة الغداء إلى المدرسة وتنقطع جولة المرحوم جدّي في الحديقة والمدرسة, يأكل كل من تواجد في المدرسة من طلبةٍ أو ضيوفٍ ولا يهم المرحوم إن كان العدد أكثر من الوجبة, وقد ألف الجميع طبعه الذي لا يقبل الاعتذار , (طاسة)([10]) اللبن مسألة ضرورية جداً مع وجبة الغداء وكلّما نقص منها يزيده؛ رحمه الله، حتّى تصبح (شنينة) ([11]) خفيفة, وكان رحمه الله يراقب من يجلس على الغداء معه فإذا رآه (نازكاً) ([12]) قام بانتقاده حتّى وإن كان كبيراً في السنّ أو الوظيفة , كان رحمه الله لا يعير اهتماما لمن يتبطّر على النعمة كما كان ينصح دائماً أن يأكل المرء من الطعام الذي أمامه، ولا يستحسن تصرّف أولئك الذين يتطاولون ويمدّون أيديهم إلى الطعام البعيد عنهم, وكان ينصح ويعلّم الجالسين آداب المائدة ويذكر بيت (شمس بن مالك الأزديّ) الملقب بالشنفريّ حيث يقول:

         وإن مـدّت الأيـدي إلـى الـزاد لـم أكـن

                                           بـأعـجـلـهـم إذ أجـشـع الـقـوم أعـجـل

وهذا البيت من (لامية العرب) المشهورة وهي من قصائد الجاهلية .

  بعد الغداء عادةً ما يأخذ قسطاً من النوم في الجامع (المصلّى) الشتويّ، ليستيقظ قبل أذان العصر بحوالي النصف ساعة, بعدها يشرف بنفسه على ترتيب جلوس الزوّار للاستماع إلى الوعظ, كان مجلس الوعظ الذي يبدأ بعد صلاة العصر بحوالي الربع ساعة أو النصف ساعة أحياناً إلى أن ينتظم الحضور، من الطلبة والزوّار الذين يتوافدون من أقصى المدينة, وعادةً ما كان يحضر هذا المجلس قائم مقام القضاء ومدير الشرطة والحاكم وعدد من المدرّسين, أمّا أصدقاء جدّي المرحوم والملازمين له فلهم مقاعد خاصّة بهم أذكر منهم السيّد (مهدي العرنة) شيخ ألبو نيسان والسيّد (عبد النبيّ) من أعيان سامراء ومن أغنيائها ومن مقدمي (ألبو بدري) والسيّد (يوسف) من ألبو نيسان وهو من تجّار المدينة ومن الورعين المعروفين بالتقوى ومخافة الله عزّ وجلّ, والسيّد (حميد عرب) من وجوه (ألبو درّاج) والد صديقنا العزيز عبد المجيد والسيّد الأستاذ (محمود عرب) من محبّي اللغة العربيّة ومن هواة سماع الوعظ الدينيّ, والسيّد (طٰه العزّوز) من ألبو عبّاس ومن الرجال الورعين الذين يقتربون إلى الزهد في سلوكهم وملبسهم وتصرّفاتهم , كما كان السيّد (جميل) من الملازمين للحضور في المجلس الصباحي مع الطلبة, أمّا حضوره للوعظ فكان متقطّعاً, وقد يحضر أحياناً السيّد (حسن العليان) حياءً خصوصاً عندما لا تكون لديه تجارة .

    يستمر الوعظ الدينيّ إلى أن يحضر الملّا (فرج) الضرير قارئ القرآن ذو الصوت الرخيم والذي يجيد قراءة (الإبراهيمي), يأتي هذا الرجل رحمه الله في  موعده المحدّد (أي قبل صلاة المغرب بحوالي نصف ساعة) ليقرأ ما يتيسّر له من القرآن الكريم, ولا يفوتني أن أذكر المرحوم الحاجّ (مصطاف) مؤذن المدرسة الذي كان يجلس في مكانه المحدّد في أحد أركان المصلّى الصيفيّ .

    بعد صلاة المغرب بقليل يحضر طعام العشاء، وينصب على مائدة قريبة من الحديقة ومن سياجها الخلفيّ يقف عليها من يريد أن يأكل مع المرحوم (للبركة), أمّا الطلبة الذين يفدون إلى المدرسة من مناطق بعيدة عن مركز مدينة سامراء فهم ضيوف هذه المائدة الدائمين يتقدمهم ضيف الشرف (الطالب التركيّ) الذي لم يحضرني اسمه الآن مع الأسف إلّا إنّني أعتقد أن اسمه الأول (مصطفى) .

    بعد صلاة العشاء وإقامة حلقة الذكر يتوجه المرحوم جدّي إلى البيت، ويبدأ مشواره مع العائلة, كانت المرحومة جدّتي (زكيّة نوري بك) ([13]) تنقل له كلّ صغيرةٍ وكبيرةٍ تحدث أثناء النهار, وكان رحمه الله يستدعي من يقصّر لينصحه أو ليوبخه أحياناً, كما كنت أراجعه أحياناً للاستفسار عن بعض قواعد اللغة العربيّة, كان رحمه الله يوجه عمّتي الكبيرة (خديجة) ([14]) حفظها الله بخصوص إعداد طعام اليوم التالي خصوصاً إذا ما كان على موعد مع بعض الذين يزورونه (لفضّ مشاكلهم العشائريّة) أو أخذ رأيه رحمه الله ببعض الفتاوى, وغالباً ما كان ينظر في هذه الأمور قبل صلاة الظهر بوقت مناسب, أمّا إذا كانت المسألة معقّدة وقد تؤدي إلى ما لا يحمد عقباه فيفضّل عندها قطع درسه والتوجّه إلى حلّها, وكثيراً ما كانت تحدث النزاعات بين العشائر المحيطة بسامراء وغالباً ما تكون حول حصص المياه والأراضي الزراعيّة, كانت هذه (الفصول) موضع احترام وطاعة ونادراً ما كنت أسمع أن بعضهم قد نقض ما أتفق عليه , وكثيراً ما كان يحضر (الأوالسة) من تكريت وكذلك (الجبور) من الضلوعيّة بالإضافة إلى الراويّين والعانيّين في حال استحالة حلّ بعض مشاكلهم المستعصية, أمّا بيت (الندا) وكذلك بيت (مخلص باشا) فكانوا من زوّار المرحوم جدّي الدائمين خصوصاً أيّام الأعياد .

   وقد كانت عمّتي العزيزة (أم عبد السلام) هي مدبّرة البيت، وكان جدّي المرحوم يستدعيها في المهام الصعبة وكانت لا تزعجه وتوافقه الرأي حتى في التفاصيل الدقيقة وفي ملاحظاته عن الطبخ, كان المرحوم دقيق الملاحظة في أنواع الطعام وكيفية طبخها، وكان يحدّثنا عن أيّام دراسته في بغداد هو وأخيه جدّي المرحوم عبد الغفور الذي كان يقضي معظم وقته نائماً كسولاً.

    يقول جدّي المرحوم أحمد، بأنّه كان ينهض بعد صلاة الفجر ليقرأ ما يتيسّر له من القرآن الكريم, ثم يقوم بإعداد الفطور له ولأخيه الذي يفضّل النوم على الدرس والواجبات الأخرى, وبعد المحاولة في إيقاظه يتركه لمتابعة دروسه أولاً في جامع الشيخ عبد القادر الگيلاني, حيث كانا يسكنان في دار قريبة منه في منطقة باب الشيخ, وأعتقد أنّه ذكر لي تلقيه الدروس في حلقة الشيخ الهنديّ([15]) , ثمّ يذهب بعدها  لتلقّي درس آخر في جامع (السيّد سلطان عليّ) وشيخه هناك السيد الشيخ ابراهيم ابن الشيخ محمد الراوي عميد أسرة آل الشيخ  رجب الراوي في ذٰلك الوقت (أي مطلع القرن العشرين) وحال انتهاء الدرس يتوجّه إلى جامع (الحيدرخانه) لتلقي درس آخر, بعد كلّ هذه المسافات التي يقطعها المرحوم سيراً على الأقدام, يعود إلى البيت لإعداد طعام الغداء وجدّي الآخر لا يزال نائماً ولذٰلك لم يتمكّن جدّي عبد الغفور إكمال دراسته العلمية بل قطعها واكتفى بشهادة دراسة تؤهله للوظيفة آنذاك .

    أمّا عن سبب اهتمام جدّي المرحوم في كيفية طهي الطعام (وتطييبه) فيعود ذٰلك إلى ملازمته لعمّته التي كان يمدحها ويترحّم عليها ويقول بأنّها مستشارة المحلّة في المسائل المتعلّقة بأنواع الأطعمة وطهيها, كنت أحياناً أتساءل وأستغرب عن سبب اهتمامه هٰذا وهو أقرب ما يكون للتصوّف والزهد, إلّا أنّني فهمت بعد ذٰلك بأنّه يحب أن يكون أيّ عمل بأحسن وجوهه, كان رحمه الله لا يطلب أنواعاً معينة من الطعام إلّا أنّه كان يغضب عندما لا يكون الطعام شهيّاً ومقبولاً.

   أحياناً كنت أسأل عمّتي خديجة فيما إذا كانت ملاحظات جدّي بخصوص طهي الطعام في محلّها, فتجيبني بأن ما يقوله هو الصحيح وأنّها تهمل أحياناً بعض تلك الملاحظات وتطهي الطعام (كيف ما اتفق) .

    ولعلّنا ابتعدنا كثيراً عن المدرسة العلميّة الدينيّة، ولٰكنّني أردت أن أعرج على شخصيّة ذٰلك الشيخ المؤثّرة في الحياة الاجتماعية في بيته وفي المجتمع الذي يعيش فيه، وفي طلبته على وجه الخصوص, وكما ذكرت سابقاً بأنّ هذه السيرة الذاتيّة استمرت على نفس المنوال طيلة (40) عاماً , ويمكن للقارئ أن يتصوّر مدى التأثير الديني والاجتماعي .

    كانت مدّة الدراسة في المدرسة الدينيّة في سامرّاء (12) عاماً بعد الدراسة الابتدائية , وكانت تشمل الدروس النقلية والعقليّة، معتمدين في تدريسهم على تفاسير القرآن الكريم لابن جرير الطبريّ والثعلبيّ الزمخشري والرازيّ .

   أمّا الحديث فقد كانت الدراسة تعتمد على المصادر التالية :

1. البخاريّ : صاحب كتاب (صحيح البخاريّ) الذي جمع فيه تسعة آلاف ومائتي حديث, منها ثلاثة آلاف مكرّرة بوجوه مختلفة .

2.   مسلم : صاحب كتاب (صحيح مسلم) الذي يضم أثنى عشر ألف حديث .

3.   الترمذيّ : صاحب كتاب (الجامع الكبير) .

4.   ابن ماجة : صاحب كتاب (السنن) .

  ولعلّ الفقه الذي كان يدرسّه جدّي المرحوم الشيخ أحمد الراويّ كان يعتمد على الأئمة الأربعة :

1. أبو حنيفة النعمان : وهو صاحب المذهب الحنفيّ في الفقه، وقوامه الاعتماد على الرأي والقياس في استنباط الأحكام .

2. الإمام مالك بن أنس : صاحب كتاب (الموطأ) ومؤسس المذهب المالكي، الذي يعتمد أصحابه على الحديث والتقليد دونما اعتداد بالرأي والقياس .

3. الإمام الشافعيّ : يعتمد مذهبه على الحديث والتقليد ولٰكنّه لا ينبذ الرأي والقياس, انتشر مذهبه في مصر وسوريا ولبنان والعراق, يقول جدّي المرحوم الشيخ أحمد بأنّنا (آل الشيخ رجب) على مذهب الشافعيّ .

4. ابن حنبل : صاحب كتاب (المسند) الذي ضمنه (40) ألف حديث, وكان في أحكامه يتشبث بالحديث ولا يعتمد على الرأي والقياس .

  وهؤلاء بالطبع هم أساطين الفقه الإسلاميّ .

     كانت دراسة النحو تعتمد على ألفية ابن مالك وهي أرجوزة من ألف بيت مطلعها :

        قـال مـحـمّـدٌ هـو ابـن مـالـك                         أحـمـدُ ربّـي الله خـيـر مـالـك

    وقد حفظها أحد الطلبة البارزين في المدرسة العلميّة الدينيّة، وكان يحضى بالمديح والإطراء من المرحوم الشيخ وهو الدكتور (هاشم جميل الهيتي) أستاذ اللغة في كليّة الشريعة في بغداد سابقاً، والأستاذ في أحد الجامعات في ماليزيا حاليّاَ .

     شُرحت اللاميّة مراراً، ومن أشهر الشروح شرح بهاء الدين ابن عقيل , وقد طبعت اللاميّة مراراً على حدا أو مع شروحها , كما وترجمت إلى اللغة الفرنسيّة , والألفية هٰذه في الواقع هي مختصر أرجوزة طويلة في النحو تسمّى (الكافيّة الشافيّة) نظّمها ابن مالك في (1757) بيتاً .

    أذكر أنّ الطالب المرحوم (مخلص حمّاد الراويّ) قد درس في المرحلة المتقدمة كتاب (قطر الندى وبلّ الصدى) وهي مادة تدرّس في معظم المدارس العلميّة الدينيّة ومنها (الأزهر الشريف) .

    أمّا الأسماء اللامعة التي تخرّجت من هٰذه المدرسة وكان لها تأثير في مجتمعها وكانت علامةً إيجابيّةً يشار لها بالبنان فكان أبرزهم ( العلّامة الشيخ عبد العزيز السالم السامرّائي) الذي تمكّن من فتح مدرسة علميّة في الفلّوجة كانت حاضنةً للدين الحنيف وخرّجت نخبة من خيرة علماء العراق منهم (آل السعديّ) , وقد تمكّنت هٰذه المدرسة من نشر ثقافة دينيّة في عموم المحافظة التي تحترم رجال الدين إلى درجةٍ لا نجدها في أيّة محافظةٍ أخرى, وقد كنت أزور هٰذا الشيخ المحترم يوم كنت مدرّساً في قضاء الفلّوجة عامي 1968/1969 , وذات مرّة حضرت له حلقة درس في قواعد اللغة العربيّة والنحو معتمداً كتاب (المقدمة الآجروميّة في مبادئ علم العربيّة) التي عوّلت عليه المدارس الدينيّة في التعليم ردحاً طويلاً من الزمن .

    وقد وقعت عيناي ولأول مرّة في مكتبة مدرسة الفلّوجة العلميّة على كتابين مهمّين هما كتاب (الجمع بين العقل والنقل) وكتاب (القدر) , وهما كتابان فلسفيّان مهمّان في الفكر السلفيّ يعتمدان آراء الإمام ابن حنبل, قلت مهمّين لأنهما كما تبيّن فيما بعد مادّة أساسيّة في الفكر السلفيّ , أمّا التطرّف في الفكر فعلى ما يبدو أنّه اقتضته أو فرضته الظروف السياسيّة والاجتماعية التي أحاطت بالدين الإسلاميّ, ولٰكنّي عند الرأي الذي يقول بأنّ ابن الجوزيّة وأستاذه كانوا ملخّصين لآراء أئمة المذاهب الأربعة وقد يكونون شارحين للبعض منهم .

    يلي الشيخ عبد العزيز السالم من ناحية التأثير في المجتمع ( العلامة الشيخ  أيّوب الخطيب) , لم يوفق الشيخ أيّوب في دراسته الابتدائية وتعثّر فيها، كما يروي لي زميله في الدراسة خالي المرحوم عبد الصمد الراويّ، إلّا أنه توفّق بقدرة الله عزّ وجلّ، بل وبرز بعد التحاقه للدراسة في المدرسة العلميّة الدينيّة في أواخر العشرينات من القرن المنصرم .

    فقد رأيته خطيباً مفوّهاً في الجامع الكبير في سامرّاء، وعالماً كبيراً وأستاذاً في التفسير, كان رجلاً وقوراً محترماً مهاباً لا يغادر غرفته الخاصّة في المدرسة العلميّة الزاخرة بنفائس الكتب إلّا في أوقات الصلاة , كما رأيته تلميذاً نجيباً وفيّاً لشيخه المرحوم جدّي، يعرف ما يراد منه ويطّلع على أسرار جدّي ويحرّر رسائله الشخصيّة والعامّة, يرافقه في زياراته لأهالي سامرّاء في مناسباتهم, كما يرافقه إلى بغداد وكافّة مدن العراق, لا يحضر المرحوم جدّي مؤتمراً علميّاً أو دينيّاً إلّا والشيخ أيّوب معه, كان يرى في المرحوم جدّي والده الروحيّ وكان جدّي يرى فيه ابنه وضالّته بعد أن خاب أمله في والدي المرحوم هاشم, والعجيب أنّ المرحوم جدّي لم يجبر أولاده على إتّباع طريقه في الحياة كحال بقية علماء الدين الكبار بل تركهم على هواهم, وكنت أتساءل لمَ تركهم هٰكذا علماً بأنّهم كانوا يقضون جلّ أوقاتهم وهم طلّاب في المتوسّطة في المدرسة العلميّة الدينيّة خصوصاً عمّي الأصغر المرحوم عبد الله, ولٰكنّي بعد ذٰلك وجدت الإجابة فينا نحن الجيل الثاني الذين سلكنا نفس طريقهم وابتعدنا عن طريق دراسة العلم الشرعي، وعلى أيّة حال كنّا نرى أنّ طريق المرحوم جدّي طريقٌ صعب وطويل ولا يتقبّله إلّا من كان الله عزّ وجلّ قد وفقه إليه, فلو افترضنا أنّ المرحوم كان قد أجبر أحد أولاده على إتّباع طريقه، لما كان قد أفلح، ولبقي كما يقال (بطركَ الجبّة والعمامة) لا يفقه شيءً ، والأمثلة كثيرة على ذٰلك, وعلى ما يبدو فإنّ التجربة المريرة مع أخيه جدّي المرحوم عبد الغفور قد جعلته مقتنعاً بأنّ من لا يهوى طريقاً يبقى متعثراً فيه.

     وفي يوم وفاة جدّي المرحوم الشيخ أحمد الراويّ في سامرّاء (وعلى ما أذكر في اليوم الخامس عشر من آذار سنة 1966) أسرعنا وعمّي المرحوم كمال([16]) الذي تلقى النبأ هاتفيّاً في مكتبه في معسكر الوشّاش ( موقع منتزه الزوراء حالياً)  حيث كان في حينها يشغل أمرته (إضافةً إلى آمريّة كتيبة الإستمكان الوحيدة في الجيش العراقي آنذاك، حيث كان تعدادها يعادل لواءً في الجيش) إلى سامرّاء، وكان في نيّة عمّي المرحوم دفنه في مدينتنا راوه تحت قبّة جدّنا الشيخ رجب أو في مدينة عٰنه مسقط رأسه بالقرب من والده السيّد محمّد أمين إلّا أنّ أهالي سامرّاء عامّةً لم يوافقوا عمّي الرأي وكانت المسألة موضع جدلٍ إلى أن حضر الشيخ أيّوب الخطيب رحمه الله، وقال بالحرف الواحد: (كان المرحوم الشيخ يقول لي بأنّ هٰذا المكان مناسب يا أيّوب ولم أفهم قصده في بادئ الأمر, إلّا أنّه كرّرها بعد فترة ٍ من الزمن وفي مناسبةٍ أخرى ففهمت قصده), وهٰكذا أتّفق على حفر القبر الذي يقع تحت قبّة (المهديّ) ولا يبعد إلّا أمتاراً معدودة عن المكان الذي كان يصلّي فيه المرحوم جدّي صلاة الجمعة.

     ومرّت السنين وسمعت بوفاة الشيخ أيّوب الخطيب وأنا في طرابلس الغرب عاصمة ليبيا، (حيث كنت عضواً في البعثة التدريسيّة هناك للفترة ما بين 1998 لغاية   2000)  من أحد أقربائه الملحق الثقافي في السفارة يومها والذي كان قد صوّر التشييع المهيب الذي توجّه إلى نفس القبّة التي دفن فيها المرحوم جدّي, وكان الشيخ أيّوب رحمه الله قد أوصى بأنّ يدفن بجانب شيخه رحمهما الله وأسكنهما فسيح جنّاته وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

    يلي القطبان مجموعة من الطلبة يمكن تسميتهم وحسب دوراتهم على ما أذكر :

1. الشيخ مخلص حمّاد الراويّ : وهو زوج عمّتي فاطمة (أم مولود) , عمل إماماً وخطيباً في جوامعٍ عدّة في بغداد منها جامع الاحمدية في الميدان (قبالة وزارة الدفاع) , وقد كان رحمه الله عالماً في علم المواريث, وقد وافاه الأجل رحمه الله عام 2005 , وكان أحد أولاده المرحوم الأستاذ (أحمد مخلص حمّاد الراويّ) في كليّة الشريعة / جامعة بغداد الذي أختطف واغتيل من قبل العصابات الطائفيّة عام 2006 ، رحمه الله، له ولدان, بعد اختطافه كنت قلقاً على مصيره وكانت هناك اتصالات بين أهله والخاطفين الذين طلبوا (ثلاث دفاتر) أي 30,000 دولار تمكّن أهله من جمعها لهم وتسليمها بالفعل، إلّا أنّ الأنذال لم يفوا بوعدهم .

2. الشيخ الدكتور حسيب السامرّائيّ : سبق أن تحدثنا عنه وعن دراسته في الأزهر الشريف ولٰكنّي أضيف أنّه أوّل متخرّجٍ من المدرسة العلميّة الدينيّة أقدم على تلك المغامرة مدفوعاً بطموح الحصول على شهادة عالية , وقد واجه الكثير من المصاعب ولٰكنّه أفلح بالنهاية وكان موضع تقدير الجميع.

3. الشيخ يونس إبراهيم السامرائي : إمام وخطيب جامع السامرّائيّ في بغداد الجديدة , له كتب عديدة أهمّها (تأريخ مدينة سامرّاء) .

4. الشيخ غازي السامرّائيّ : ينتمي إلى عشيرة (ألبو رحمٰن) , قام ببناء جامع عرف باسمه في مدينة الشرطة على الخط السريع , يقع الجامع بين مدينة العدل ونهاية شارع مدينة الشرطة الثانية , وهو من العلماء المجتهدين هو وأولاده .

5. الشيخ أحمد حسن الطٰهٰ :إمام وخطيب جامع الإمام الأعظم يمتلك شخصيّة قويّة ومؤثّرة , ينتسب إلى (ألبو درّاج) وهو من عائلة دينيّة طيّبة, يمتهن أقرباؤه مهنة التجارة سابقاً.

6.   الشيخ ماجد عبد ربّه : من العلماء المعتدلين, لم يغادر سامرّاء طيلة حياته, على جانب كبير من الأدب والحياء .

7. الشيخ حسين محمّد عرب : من العلماء المخلصين, صريح لا يخاف في الله لومة لائم, ابن عمّ الشيخ أحمد حسن الطٰه.

8. الشيخ الدكتور هاشم جميل الهيتيّ : الذي سبق أن ذكرته , عالمٌ جليلٌ وذكيّ , درّس في كلّيّات الشريعة في بغداد ودول عربيةٍ عديدة , حصل على الشهادة العليا من الأزهر الشريف , له كتب دينيّة عديدة في العقائد والفروض , يدرّس الآن خارج العراق وعلى ما أعتقد في إحدى جامعات ماليزيا .

9. الشيخ الدكتور عبد الله جاسم الجبوريّ : من جبور (الضلوعيّة) أستاذ في كلّيّة الشريعة , كان من طلبة المدرسة العلميّة الدينيّة المجتهدين , من عائلة رجال دين لهم احترامهم في المجتمع.

         وهناك من درس ولم يكمل مشواره في المدرسة العلميّة الدينيّة وفضّل الوظيفة التي كانت مصدر رزق محترم في نهاية العشرينات , أذكر منهم :

1. عبد الرزّاق شُكر : أبو عدنان وهو من (ألبو بدري) كان معلّماً للّغة العربيّة ثمّ أصبح أميناً للمكتبة المركزيّة في المدينة , له قلمٌ سيّالٌ وفصاحةٌ بالغة تعلمها في المدرسة العلميّة بالطبع , له مقالات في الصحف آنذاك.

2. سعيد البدريّ : شيخ عشيرة (ألبو بدري) ترك المدرسة العلميّة وأصبح صحفياً وهو والد المعتصم وواثق وهما من رفاقنا القدامى .

3. عبد الحميد عبد الوهّاب البدريّ : من مدراء المدارس الابتدائية القدامى, كان مديراً ووالدي (المرحوم )وعمّي( المرحوم) لا يزالان طلّاباً, وهو من المدراء المعروفين بشدّتهم وصرامتهم وحزمهم, وهو ابن الشيخ عبد الوهّاب البدريّ رحمه الله والذي سبق وأن ذكرته , أذكر أنّ إبناً له كان معنا في الصف السادس الابتدائي , وكان يلاحظ مستواه المتدنّي إلى ما بعد نصف السنة الدراسيّة، فوجئنا ذات يوم بقرار المدير بإرجاعه إلى الصف الخامس، المبرّر بأنّ المعلّمين كانوا وراء نجاحه مداهنةً , كان رحمه الله حريصاً على دوام المعلّم قبل التلميذ , مهاباً يتجول في المدرسة ويلاحظ سير التدريس, كما أذكر أنّه كان يلاحظ حديقة (المدرسة الابتدائية المركزيّة الأولى) الواسعة ويحدق حتّى عدد الورود فيها, يعاقب الطالب المذنب أمام المدرسة في الاصطفاف اليوميّ , وقصارى القول فإنّ المدرسة كانت منضبطة وكأنّها ثكنة عسكريّة .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ملاحظة / الهوامش السفلية – من تعليق السيد مولود مخلص الراوي

([1]) الأستاذ صباح هاشم احمد الراوي: وهو اكبر أحفاد الشيخ، ( من مواليد 1943م) نشأ في دار جده بسامراء، من رجال التربية والتعليم، مدرس لغة انكليزية، وشغل منصب مدير للعديد من المدارس الثانوية في بغداد وعنه وغيرها قرابة نصف قرن. كما عمل في السلك الدبلوماسي، بالسفارة العراقية في الهند أوائل السبعينات من القرن الماضي. كتب مذكراته هذه عام /2012.  

([2]) هيدو: وهو السيد مهدي صالح خادم المدرسة  العلمية ( وهكذا كان يكنيه الشيخ والطلاب ) - وخاله المدرس الثاني في المدرسة الشيخ عبدالوهاب البدري.         

([3]) بقجة: مفردة تركية ، وهي الحديقة الصغيرة ، التي تتوسط المكان عادةً         

([4]) حِبّ : وهو زير الماء ( المصنوع من الفخار )         

([5]) المنشل : قدح شرب الماء ( المصنوع من الخوص المطلي بالقير )         

([6]) المحامي عبدالسلام عبدالصمد عبدالغفور الراوي: سبط الشيخ احمد الراوي م ن ابنته الكبرى خديجة،مواليد سامراء 1944، ووالده السيد عبد الصمد ابن السيد عبدالغفور، شقيق الشيخ احمد الراوي.            

([7]) الدكتور زهير ، والطيار المرحوم باسم، أبناء السيد هاشم ، وأحفاد الشيخ احمد الراوي

([8]) السيد ليث، والسيد عبدالعزيز، أبناء السيد عبدالصمد عبدالغفور الراوي، أسباط الشيخ احمد الراوي.            

([9]) منقلة: الموقد المتنقل

([10]) طاسة: إناء الشرب ( المصنوع من المعدن  أو الفرفوري)         

([11]) شنينة: مزيج اللبن مع الماء الكثير.         

([12]) نازكا: المتكلف المتصنع لعدم الرغبة بالطعام.

([13]) زكية نوري مصطفى: ( أم هاشم) من عشيرة البيجات التكارته. تزوجها الشيخ أيام عمله بالقضاء، توفت عام 1976 ودفنت في مقبرة الشيخ معروف ببغداد. انجبت للشيخ جميع اولاده عدا السيد عبدالله والسيدة فخرية، فهما من زوجته الثانية (بدرية الجاف) توفت في الاربعينات من القرن الماضي ودفنت في مقبرة السادة البو مليس في سامراء.          

([14]) خديجة احمد الراوي: ( أم سلام) كريمة الشيخ الكبرى، كان يكنيها بـ (خدوج). زوجها هو ابن أخيه المرحوم المحامي عبدالصمد  عبدالغفور الراوي

([15]) غلام رسول الهندي : القرشي نسبًا والهندي موطنًا، من الأئمة المشهورين في العلم ببغداد وهو من مدرسيها المعروفين بطول الباع بالعلوم العقلية، وكان مجلسه في جامع حبيب العجمي.(ت/1912)

([16]) العقيد الشهيد كمال احمد الراوي : نجل الشيخ احمد الراوي، آمر القطعات العراقية في الأردن على الجبهة الشرقية مع العدو الإسرائيلي ،.اتهم بالاشتراك في محاولة انقلابية عام 1970 ، وقتل أثناء محاكمته في قصر النهاية سيئ الصيت.

   

                                                                          عودة الى الصفحة الرئيسية