أين السلام والإنسجام؟

إعداد وترجمة: محمود عباس مسعود


عندما تحاول اختبار معتقداتك الروحية ينفتح أمامك عالم جديد. المجهود الذاتي ضروري للتعرف على الله. قد تشعر أنك متدين للغاية ويكون عقلك راضياً بذلك. ولكن ما لم يقتنع كيانك بأن صلواتك تحصل على استجابة مباشرة فلا يمكن لأي مقدار من الشكليات الدينية تخليصك. وبالرغم من صعوبة الحصول على استجابة الله، غير أن ذلك مستطاع. ولكي تضمن وصولك الفعلي إلى السماء يجب أن تختبر قوة صلواتك حتى تتمكن من تفعيلها. عندما كنت لا أزال صبياً عقدت العزم على أن صلواتي ستستجاب كلما توجهت إلى الله بالدعاء. ذلك التصميم الراسخ هو الطريق. عندها سيأتي كل امتحان لفلّ عزيمتك وشل إرادتك، لكن قدرة الله في الاستجابة هي غير محدودة. متابعة الجهود والاستخدام المتواصل للإرادة سيجلبان استجابة الله.

يجب معرفة الطريقة الصحيحة لتركيز العقل. ومن المهم امتلاك الوقت الكافي للخلوة والتأمل على انفراد. الاختلاط الدائم بالآخرين يعيق النمو الروحي. معظم الناس كالإسفنج، يمتصون كل شيء منك ونادراً ما تحصل على شيء منهم. طبعاً من المفيد أن تكون مع الآخرين إن كانوا مخلصين روحياً وأقوياء. وإن كان كل واحد على درايةٍ بقوة وإخلاص وإرادة الآخر يتم تبادل المزايا الروحية النبيلة فيما بينهم.

يجب عدم صرف الوقت في الأشياء التافهة. كثيرون يشغلون أنفسهم بأمور عقيمة، وإذا سألت أحدهم عما كان يفعله يجيبك: "كنت مشغولاً كل الوقت!" ولكنه بالكاد يتذكر شيئاً من ذلك "الشغل"! كذلك فإن كثرة اللهو والتسلية توهن القوى النفسية. إن شاهدت كل يوم الأفلام السينمائية فأنها ستفقد جاذبيتها وستشعر بالسأم. فالأفلام هي ذاتها بأدوار مختلفة: أحباب، مغامرات، أبطال، أوغاد..الخ. قد نستمتع بمشاهدة أحداث قصةسينمائية، ولكن الحياة نادراً ما تكون كذلك. من ناحية أخرى، لو كانت واقعية لدرجة كبيرة، فمن الذي سيرغب في رؤية المزيد من فصول الحياة كما هي عندما يذهب ليرفه عن نفسه؟

الحياة مخادعة للغاية ويجب أن نتعامل معها على هذا الأساس. وإن لم نتغلب على خداعها وأوهامها أولاً فلن نتمكن من مساعدة أي شخص آخر. في خلوة العقل المركـّز يكمن مصنع كل الإنجازات العظيمة. تذكر ذلك. وفي هذا المصنع العجيب انسج أنماط إرادتك باستمرار من أجل التغلب على كل الصعوبات المعاكسة. درّب إرادتك ومرّنها على الدوام. لديك الكثير من الفرص للعمل في هذا المصنع ليل نهار ما دمت لا تضيّع وقتك وتهدر طاقاتك سدىً.

إنني أنسحب في الليل من مطالب الدنيا لأكون مع نفسي، بعيداً كل البعد عن العالم، وحيداً مع إرادتي في خلوتي الروحية، حيث أسيّر أفكاري في الاتجاه الذي أرغبه، وأتخذ القرار في قرارة نفسي . عندها أستحث إرادتي للقيام بالنشاطات السليمة النافعة تخلق لي النجاح. بهذه الكيفية استخدمت إرادتي استخداماً فعّالاً مرات عديدة. ولكن ذلك لا يتحقق ما لم يكن استخدام الإرادة متواصلا.

أي شعور رائع ستحس به عندما تتمكن من القول ومن التأكيد "إن إرادتي المشحونة بالإرادة الكونية ستحقق لي ما أبتغيه!" إذا تهاونت وأوكلت كل شيء للإرادة الإلهية دون استخدام إرادتك الموهوبة لك من الله فلن تحصل على النتيجة التي تتوخاها. القوة الإلهية تريد أن تساعدك من تلقاء ذاتها. لا حاجة لك للاستعطاف والتودد، بل ما ينبغي عليك هو استخدام إرادتك كي تطلب وتطالب – كوريث شرعي، وكي تتصرف كذلك. يجب أن تطرد من ذهنك التفكير بأن الله بجبروته وقدراته الخارقة بعيد عنك ومحتجب في أقاصي السماء، وبأنك وحيد وسط الهموم والمصاعب في هذه الأرض. هذا العالم ليس واحداً لكل الناس. فكل واحد يعيش ضمن نطاقه الشخصي الصغير..

قد يعيش الواحد في مجال جمالي رائع حيث الموسيقى الراقية والأدب الرفيع، في حين يسكن الآخر منطقة كثيفة حيث الشهوات الزاعقة واللهاث المحموم خلف المادة.

مجال أحدهم قد يزخر بالسلام والوئام، في حين يعج مجال غيره بالمشاكسة والخصام.

لكن مهما كانت ظروف الشخص وبيئته التي يعيش فيها فإنها تشتمل على عالمين اثنين: باطني وظاهري.

عالمنا الخارجي هو الذي نعمل فيه ونتفاعل معه. أما عالمنا الباطني فهو الذي يقرر مدى سعادتنا أو تعاستنا.. لياقتنا النفسية أو عجزنا عن التعامل بمنطق وراحة مع الناس والأحداث من حولنا.

اليد غير المنظورة التي صنعت هذين العالمين دوزنتهما بحيث يعملان معاً بتناغم وانسجام. أما إن بدا هذان العالمان متنافرين فسبب النشاز مردّه أولئك الذين لا يحسنون التعامل مع القوى الممنوحة لهم، أو يسيئون استخدامها.

الناس قد أقنعوا أنفسهم أن مدركاتهم الشخصية هي حقائق لا تقبل الجدل إلى أن يبزغ برهان نقيض يثبت العكس.

من يستطيع إقناع المتزمتين برأيهم أن الكون بأسره يتحرك بإيقاع كوني أبدي وأن ما يبدو عدم تناسق هو سوء فهم أو تأويلٌ خاطئ ناجم عن رؤية المرء المحدودة والمشوهة؟

القادرون على السمع سيسمعون..

والقادرون على الرؤية سيبصرون..

ومن يملك قلباً حساساً سيشعر بالتناغم المقدس الذي يسري في مسامات وأنسجة الخليقة بأسرها.

معظم الفلاسفة والمفكرين يعاينون العالم من خلال مدركاتهم الحسية فتبدو الطبيعة بالنسبة لهم مليئة بالصراع والنشاز.

ففي العاصفة يقرأون غضباً..

وفي الزلزال يرون شقاءً تنوء تحته الأرض وما عليها..

ونظراً لحساسيتهم المفرطة يتألمون عندما يدركون أن الحياة بالنسبة للحيوان تعني موتاً للنبات، وأن دم الحيوان ولحمه غذاء للإنسان.

في كل ركن من أركان الطبيعة هناك صراع على الغلبة والبقاء.

فصيلة من الفصائل تقاتل غيرها..

وعرق من البشر يحارب عرقاً آخر..

وأمة تقوم ضد أمة..

فأين السلام والإنسجام؟!

بالنسبة للأذن غير الحساسة تبدو بعض الألحان ثرثرة وضوضاء.

وللعين غير المثقفة قد تبدو روائع الفن خربشات عشوائية من فرشاة الرسام.

أما الفكر غير المتناغم مع الكون وبارئه فلا يرى سبباً منطقياً لمفارقات الحياة.

وحتى نيتشه، بالرغم من ومضاته الفكرية المتألقة وعقله الثاقب عجز عن إدراك التناغم الباطني الذي يكمن في روح وقلب كل مظاهر الحياة. فلا عجب إن عجزت الأفكار الأقل انطلاقاً وتحليقاً عن معاينة هذه الحقائق.

الأشياء ليست كما تبدو. فعندما ننظر إلى مستقطع عرضي لشيء ما لا نرى الصورة كاملة. ولكن عندما نرى ذلك الشيء بكامل أبعاده تبزغ الصورة واضحة جلية.

وبالمثل، فإن رسوم الخليقة الرائعة تمتد عبر الفضاء والزمان اللا متناهيين.

إن كل شيء وكل حدث في الطبيعة هو لمسة بارعة من أنامل الرسام الكوني. لكن الناس يبصرون نتفاً مفككة وأجزاء مبعثرة لا يمت بعضها لبعض بصلة.

كل ما يحدث هو نوتة من سيمفونية العازف الكوني.

النوتات الفردية المستقلة تبدو لا معنى لها حتى تـُسمع ضمن المعزوفة الكاملة.

إن موسيقى الخالق دائمة العزف..

وكل ما يحدث في الحياة هو نوتة متممة لذلك اللحن الأكبر..

كلها تعمل معاً في إيقاع كوني متسق النغم..

تسمعه النفس عندما تصغي لسيمفونية الحياة المترددة أنغامها في أعماق الذات.

مع أن بعض النصوص الروحية تم تدوينها أو تلقيها منذ آلاف السنين لا زالت مع ذلك تشكل أساساً متيناً لفلسفة الحياة والوجود الإنساني، وتنطبق على ظروف الناس وأحوالهم في يومهم هذا.

وتلك النصوص ذات الطابع العلمي هي ذات طابع عالمي أيضاً وترتكز على خمسة محاور جوهرية هي:

أولاً: شمولية العنصر الإلهي. فالخليقة بأسرها بدءاً من هذه الذرة الكونية الصغيرة التي ندعوها عالمنا ووصولاً إلى مليارات المجرّات الممتدة امتداداً لامتناهياً في رحاب الأبدية والفضاء السحيق هي واحدة في جوهرها. ولدى التحليل الدقيق يتضح أن نفس القوة الإلهية تعمل في هذه الظاهرة الكونية العجيبة.

وبالرغم من تعدد المظاهر في هذا المشهد الزماني – المكاني المدهش لا يوجد مع ذلك أي انفصال جوهري ما بين العقل والروح، أو المادة والطاقة، أو البشري والإلهي.

المحور الثاني هو أن هذا العنصر الإلهي الشامل موجودٌ – إنما محتجب - في ما ندعوه وعياً، لا سيما الوعي البشري الذي يبدو لنا ذروة التطور وأعلى مستوياته. وكما تقول بعض الأسفار فإن الله يسكن في قلب كل الكائنات. وهذا يعني أنه بالرغم من كل الفوارق المتعلقة بالطبقة والمعتقد والعرق والدين والقومية والإيديولوجية فإن الجنس البشري بكامله متماسك برباط جوهري عميق هو الرباط الروحي.

ومع هذا الرأي يمكننا الإنتقال إلى المحور الثالث وهو أن جميع أعضاء الجنس البشري ينتمون إلى أسرة واحدة ذات امتدادات.

وبمراجعة تاريخ البشرية على مدى آلاف السنين نجد صفحاته ملطخة بالدم لاعتبارات شتى. ولذلك ما لم يتم تبني فكرة الأسرة العالمية الواحدة فالأمل ضئيل في استمرارية الحضارة البشرية كما نعرفها على المدى المنظور. المحاولات الآلية لتوحيد الإنسانية سواء عن طريق الأمم المتحدة أو اليونسكو أو أي من المؤسسات الأخرى كلها فشلت لانعدام فلسفة باطنية موحِّدة.

المحور الرابع هو وحدة كل الأديان والمعتقدات. فالحقيقة واحدة مع أن الحكماء يدعونها بمسميات متعددة. صحيح أن تاريخ الإنسانية حتى هذه اللحظة غارق بالفتن والمذابح الرهيبة والصراع المحموم ليس فقط بين المجموعات الدينية بل بين مجموعات مختلفة ضمن الدين الواحد والقومية الواحدة.

الملايين قضوا على طرفي الصراع حاملين معهم حتى النفس الأخير القناعة بأنهم كانوا يقاتلون في سبيل الحق والعدالة وفي سبيل الله بحسب مفهومهم لتلك المصطلحات. لكن التعاليم الروحية تقدم سيناريو مختلفاً. فهل يجوز أن تكون تلك الفوارق أجزاء متممة لحقيقة توحيدية واحدة منبثقة من خلفيات أثنية، اقتصادية، جغرافية، وسياسية متباينة؟

ألا يشبه الناسُ العميانَ الذين لامسوا أجزاء مختلفة من الفيل ثم ثارت ثائرتهم ضد بعضهم لأن أوصافهم للفيل لم تكن متطابقة بالرغم من أنها كانت دقيقة بالنسبة لكل منهم؟

أما المحور الخامس والأخير فهو محور التعاطف نحو البشر وباقي مخلوقات الله. لقد انقرضت آلاف الفصائل وتصحرت مساحات شاسعة من الغابات وتسممت الأرض ومعها الهواء.. حتى خزانات العالم - البحار نفسها – تلوثت بشكل لم يسبق له مثيل. هذا يحدث بسبب عجز الإنسان عن إدراك روح التعاطف ورفضه النظر إلى الأرض لا بصفتها جرماً مادياً ينبغي استغلاله بالقوة بل ككائن روحي غذى وما زال يغذي الوعي منذ بلايين السنين، بدءاً من قاع المحيطات إلى ما نحن عليه اليوم.

هذه الآراء هي بمثابة فلسفة بديلة للعصر الذري، وهي عالمية الطابع ويمكن أن تقدم رؤية صحيحة للوعي العالمي الجديد الذي يجاهد ليبزغ بالرغم من كل النزاعات والخلافات التي تعكر سماء هذا العالم وتسمم أجواءه.

وليس آخراً لا تنس أن الإرادة الإلهية تكمن خلف إرادتك البشرية، ولكن تلك القوة الجبارة الشبيهة بالمحيط الزاخر في مدها ومددها لن تأتيك ما لم يكن عقلك متفتحاً وقلبك متقبّلاً.

والسلام عليكم