في ساعات التأملات

أو

من أعماق السكون

'خاطرات و خلجات '

محمود عباس مسعود


From the Depths of Silence

by

Mahmoud A. Masoud


جميع الحقوق محفوظة للمؤلف

لا يجوز إعادة طبع هذا الكتاب أو طبع أي من مخطوطات وكتب المؤلف، سواء الموضوعة أو المترجمة، أو إعادة طبع المطبوع منها، بدون إذن خطي من المؤلف.

تعريف بهذا الكتاب

منذ حوالي الثلاثين عاماً وقع في يدي كتاب بالإنكليزي عن تجربة تأملية عرفانية لباحث عن الحقيقة اكتفى بالتعريف عن نفسه بكلمة (مريد). التجربة حصلت له في مطالع القرن العشرين في أحد كهوف الهملايا وكان دون العشرين من عمره. أعجبت بالكتاب وقرأته مراراً ثم قمت بترجمته تحت عنوان

(في ساعات التأملات)، وكانت الترجمة شبه حرفية بحسب المتاح لي آنذاك من معرفة متواضعة باللغة العربية وبحسب الإمكانات والأدوات المتوفرة، وبذلك أعني القاموس العصري الذي استفدت منه مثلما استفدت من غيره من القواميس فيما بعد.

الترجمة أرسلتها في السبعينيات من القرن الماضي إلى قريب لي قصد الإطلاع عليها وليس طبعها وتوزيعها. وقد فوجئت منذ سنتين تقريباً عندما طالعت على الإنترنت مقتطفات من تلك الترجمة في إحدى المواقع العربية وعلمت فيما بعد أن الكتاب لاقى قبولاً واسعاً لدى المهتمين بالوجدانيات الروحية، وبأنه يتم تصويره وتداوله حتى اليوم. كما علمت أيضاً أنه تم تسجيل محتوياته على أشرطة كاسيت يتم تداولها إلى الآن.

الترجمة القديمة ربما حملت في تضاعيفها حماساً فتياً وطاقة شبابية واندفاعاً حاراً لنقل أفكار جديدة إلى لغتنا العربية لكن تلك الترجمة لا تعكس بالضرورة أسلوبي الحالي في كيفية تعميم ونشر تلك الأفكار. وقد لاحظت أن بعض الكلمات التي لم تكن واضحة على ما يبدو في المخطوطة تم استبدالها بكلمات أخرى لا تفي بالمعنى الأصلي المقصود.

لقد حاولت تحديث الترجمة لكن لم يكن بالمستطاع التقيد بالأصل لاعتبارات عديدة لا مجال لذكرها هنا. فقمت باستعمال ذلك الأصل كأساس لأبني عليه هذا الكتاب، إنما أعترف بأن محتويات (من أعماق السكون) غير مطابقة لمحتويات (في ساعات التأملات) بالرغم من بعض التشابه في عبارة هنا ومقطع هناك.

وبما أن (في ساعات التأملات) انطلق في مسيرته بغفلة مني أقول: على بركة الله ولا بد أن القارئ المشتاق سيجد فيه الكثير من الدفء الوجداني والتجربة الصوفية وتيارات غير عادية تهز وتهدهد حيناً وتزأر وتهمس أحياناً أخرى.

ومع ذلك أطلب من القراء الأعزاء لذلك الكتاب ولكتب أخرى من ترجمات قديمة لي طـُبعتْ دون معرفتي مثل (تأملات ميتافيزيقية) و (قانون النجاح) و(كيف يمكنك مخاطبة الله) و(القول المأثور في معارج النور) أن لا يقيّموا آرائي وأسلوبي في استعمال مصطلحات لغتنا العربية المحبوبة على ضوء تلك الترجمات التي لها مكانها في قلبي، إنما انطلقت في سبيلها فتيّة قبل أن أودّعها وأعدّها كما يجب لمشوارها الطويل.

وأود أن أشكر مُعد تلك الكتب الدكتور نواف الشبلي على الكلمات الطيبة التي قالها في المترجم.

لقد علمت أن المشتاقين إلى الثمار المباركة هم في تزايد مستمر وبحث متواصل عن المغذيات الروحية. وبما أن الحياة أنصفتني بكنوزها فلا بد لي من مقاسمة تلك الكنوز مع كل الراغبين في امتلاكها.

فلمثل أولئك الطامحين جمعتُ وترجمتُ ووضعتُ هذه الفرائد وسيتبعها غيرها بعونه تعالى ما دام لها من يقدّرها ويجد فيها إمتاعاً معنوياً وعوناً روحياً.

أما الذين يشعرون أن هذه الوجدانيات لا تتحدث إلى عقولهم ولا تحرك أوتاراً في قيثارات قلوبهم، فرجائي لهم عدم تكليف أنفسهم عناء مواصلة القراءة لأن هذا الكتاب غير مخصص لهم، ولعلهم سيجدون ضالتهم في غيره من الكتب.

محمود

من أعماق السكون

هناك ساعاتٌ ينسى خلالها الإنسانُ العالمَ ..

ساعات يقترب فيها من آفاق النعيم حيث تستقل النفس بذاتها و تكون في حضرة العلي القدير. فيهدأ صراخ الرغبات ويصمت ضجيج الحواس ويصبح الوجود الأوحد لله.

ما من محراب أقدس من الفكر النقي.. الفكر المركّز على الله.

أما آفاق السلام التي يؤمها الفكر عندما يستغرق العقل كلياً في الله وعندما تصعد الأفكار إلى بارئها الأعظم فتـُغـُـني عن المِسك والبخور وعن كل الطقوس والنذور.

النقاء – الفرح – السكينة – السلام.. تلك هي مرتكزات التأمل حيث يبزغ الوعي الروحي في تلك الساعات الصامتة المقدسة و تقترب النفس من مصدرها المبارك.

جدول الشخصية يتمدد ويتسع في تلك الساعات ليصبح نهراً متعاظماً ينطلق باتجاه الذات العليا التي هي الوعي الإلهي الأوحد الذي لا ثان له.

في ساعات التأملات تستقطب النفس كل طاقاتها التي تؤهلها للإحساس بالحق والخلود والتحرر من الهموم والمخاوف.

فيا أيتها النفس اعتصمي بحبل الله وثقي به وبذاتك وابحثي عن الحق في ساعات السكون.

واعلمي أيتها النفس أن ذاتك انبثقت عن جوهر الحقيقة وأن الله يسكن قلب القلب وروح الروح.

لا تخشي كل ما هو زائل لأنه ظِلٌ لا دوام له. المظاهر الوهمية دائمة التقلب بينما الحقيقة راسخة لا تخضع للتغيير ولا يتطرق إليها التبديل.

أيها المريد الباحث عن الحق والحقيقة.. اعلم أن شكلك هو حلم صغير ضمن الحلم الكوني الكبير، وثق أن روحك المتأصلة في الذات الإلهية لا شكل لها. فهي ليست الفكر أو مادته، والرغبات والأحداث لا تمس جوهرها النقي الذي هو من جوهر الله الخبير القدير.

وتذكـّر أن الحياة مسرحية ينبغي تمثيل أدوارها دون تحقق وارتباط.. وأن مادة الحياة الدنيا هي أحلام بأحلام بينما جوهر الروح لا يحلم كونه دائم الإستفاقة واليقظة خلف سراب الوهم ودخان الضلال.

فاكتسبْ تلك المعرفة وتحرر من قيودك التي تصدّك عن مواصلة السير وتشدّك إلى هذا المستوى الأرضي الكثيف.

وإذ تتناغم مع ذاتك الروحية ستحس بالسلام يغمر قلبك ويسري في عروقك فيوقظ خلايا دماغك ويفتح بصرك الروحي وتعلم أنك قريب من الله وهو منك قريب، وأن لا انفصال بين المحب والحبيب ما دام التواصل موجوداً والوجد متواصلا.

ويستطرد الصوت المبارك هامساً:

كن على يقين أنك ما دمت تؤمن بالله وبأنه يسكن روحك ستحس أنه معك دوماً، يلهمك، يواكبك، ويرد عنك الأذى أو يخففه عنك لدرجة الاحتمال. عندئذ ستدرك معنى الاتحاد واستحالة الإنفصال عن مصدرك الرباني الذي لا دوام إلا له ولا بقاء إلا به في الوجود.

لقد آن الأوان كي تهجر الأحلام وتبصر شمس اليقظة الروحية ساطعة قوية في كيانك.

ألا إن شعاعاً واحداً من تلك الشمس المباركة كفيل بتبديد ظلمة الدهر بمثل لمح البصر. ومع ذلك السطوع الفوري القوي يأتي الإحساس بشفاء القلب من الهموم والأوهام والمخاوف والآلام.

طب نفساً ولينشرح صدرك. ومتى التهبتْ نيران الشوق في أعماقك ستحس من جديد بالحضور السعيد وستدرك أنك على اتصال مع محقق الأماني والآمال. أجل، ستسمع عندئذ صوت الحق هامساً، مشجعاً، ومباركاً.

هو الله ساكن الأعماق ينتظر منك دعوة صادقة كي يزور قلبك ليغمره بغبطته وسلامه، ويغسله بمياه المعرفة المقدسة.

لا تجزع من صروف الدهر ولا تتصدع أمام لكمات الحياة ولطمات التجارب مهما كانت عنيفة عاتية.

وكالبوصلة التي كيفما حركتها تتجه إبرتها نحو الشمال، هكذا ليتجه عقلك دوماً نحو قطب الحق السرمدي ولينبض قلبك بحب الله وأنبيائه وأوليائه وقديسيه والبشرية جمعاء، وستخف أثقالك وتثقل موازينك في نظر الرحمن.

فتوكل على الله وانتظر الوعد الحق، فكل آتٍ قريب ووعد الله لا يخيب.

وعليك السلام أيها المريد.

وفي ساعات التأملات وأعماق السكينة يسمع المريدُ الصوتَ المبارك – صوت السكون – يهمس لروحه:

انظر وتأمل! هناك عالمٌ باطن مثلما يوجد عالمٌ ظاهر. هناك كونٌ روحي مثلما يوجد كونٌ مادي.

أي بني! إنْ كان العالم الخارجي يحوي عجائبَ وخفايا واتساعاً وجمالاً وعظمة فهناك عظائمٌ لا تُقدَّر وقوىً لا متناهية ونعيمٌ لا يوصف وسلامٌ لا يُستقصى وحقيقة لا تتزعزع أسسُها في العالم الروحي الباطني.

العالم الخارجي ليس سوى ظل للعالم الداخلي. وفي هذا العالم الباطني تكمن طبيعتك الحقة. هنا تحيا في الأزل غير المحدود بينما العالم الخارجي مقيد بالزمان ومحدود بالمكان.

هنا توجد غبطة روحية لا تـُسبر أغوارها ولا ينضب مددها، بينما في العالم الظاهري لا توجد سوى أحاسيس من اللذة ممزوجة بالكثير من الألم.

وهنا أيضاً يوجد ألم! ولكن أتعلم طبيعة ذلك الألم؟ إنه ألم الروح، ومبارك حقاً هو ألم الروح! إنه غصة الشوق ولوعة الحنين التي يحسها الطالب المريد بسبب عدم إدراكه التام للحقيقةً. لكن هذا الألم هو الطريق إلى السعادة الكبرى والنعيم الدائم.

تعالَ وأغمر نفسك في سكون العالم الباطني.

تعالَ على أجنحة الحب الجارف والشوق المتعاظم.

يا بني! الصمت هو طبيعة الحب الذي لا يمكن التعبير عنه إلا بالصمت!

أجل، الحب هو ذلك الشيء الذي لا يمكن وصفه أو التعبير عنه أو النطق به. وفي أعمق أعماق الصمت يوجد الله.

دعكَ من الدنيا وأوهامها واهرع إلى قلب الله. وبالله عليك لا تغفل التفكير به ومداومة ذكره القدوس الذي تطمئن به القلوب والنفوس.

ثق أن محبته قادرة على تخليصك من كل الهموم والمتاعب.

كثيرة هي الهياكل التي يتعبد فيها قلب المريد، حيث ترتفع أفكاره لله كالند والبخور في أقدس أقداس الروح.

ألا فلتفعل كل شيء بقلب محب ونية صافية وستبصر نور الله بك ومن حولك وفي كل الكائنات والموجودات.

واعلم زادك الله علماً أن الله هو نبع الجود وأعظم ما في الوجود!

هناك في قلب العالم الباطني، الذي يدخله المريد بفضل وفعل المحبة الوقادة أو الدعاء الحار، عوالمٌ تلوها العوالم من الألوهية يستبصرها ذوو الأشواق ويختبروها في الرؤى والإلهام.

الله قريب كل القرب لا من الناحية المادية وحسب، بل الروحية أيضاً، لأنه هو روح النفس ونفس الروح.. روح الحق وحقيقة الروح!

هو الذي يَعْلم أفكار المرء ونواياه وطموحاته وأسرار قلبه.

أحببْ إكراماً للحب أيها المريد. اعمل محبة في العمل واعتكف في محاريب الصمت لتتقرب من جوهر الحقيقة.

وكلما تعمَّقت في داخلك كلما زاد اقترابك من الله الرحيم و المقيم في سويداء القلب.

الله هو المغناطيس الذي يجذب لنفسك الرؤى الصادقة والإلهامات العليا. إنه الروح الكوني الذي لا تمسُّه الأفكار ولا تحده الصور والأشكال. هو الحصن الذي لا يُقحم والأساس الذي لا يتزعزع! هو عنصر الوجود الأزلي والديمومة التي ليس لها انتهاء.

لكم هي رائعة ومدهشة الإلهامات القدسية التي يحسها المريد في ساعات السكينة والتأمل!

وهنا يتوجه المريد إلى الروح المرشد هامساً بشوق عظيم:

أيها المبارك المغبوط، بالحق والحقيقة إنك على معرفة وثيقة بالله وإنك واحد مع جوهر التعاليم التي تتحفني بها. حقاً أنك على صلة أكيدة وعميقة بالله الواحد الأحد الذي هو الكل في الكل في العوالم المظهرية، البادي منها والمحتجب!

إن طبيعة الله هي الوحدة بالرغم من وجود الخداع الكوني الذي يضفي على الأشياء وهْمَ التعداد.

الروح جوهره واحد لا يتجزأ. هو فيض النور النقي الذي يراه الناس من خلف عدسات كثيرة متعددة الألوان.

أيها المرشد الحبيب، بالله خذني إلى الأعتاب الإلهية لعلني أبقى قرب الله طوال الأبد.

عندئذٍ امتدت يدٌ خفية ورُفعتْ نفسُ المريد إلى السماء السببية فأبصر جوهر الألوهية الكامنة في البشر، وأدرك المجد العظيم ما وراء الضعف البشري، ورأى أن كل شيء كان مقدساً. وفي وسط تلك الرؤية البهيجة البهية أظهر له الروح الكلي قمة جبل المعرفة، فقال وقد اعتراه الذهول:

ما هذه الروائع يا مولاي وكم يحلو لي التأمل على الجمال الإلهي؟!

ألا ليت تأملاتي على نور الحق الأقدس تدمغ حواسي بخواص الروح وتأتي بالطمأنينة إلى قلبي وعقلي.

فبسكينة العقل أبصر روح السلام وبطمأنينة القلب أحس بسلام الروح.

وما هذا الوهج والإنبلاج؟!

ليتني أمتلك القدرة على وصف مشاعري والتعبير عن بهجتي المتعاظمة!

يا ذا النعمة والمعرفة الكلية، باركني بالأفكار الجميلة النبيلة علني أستجمع قوى الخير وأتجه إليك بكليتي.

يا مصدر منابع الغبطة، خذني إليك لأروي ظمأ روحي من ماء الحياة المنسكب من رياض الأزل.

لن أسألك بعد اليوم عن طبيعتك وكيفية التحدث إليك والتواصل معك. فطبيعتك هي الحب النقي وبلغة القلب يمكن مخاطبتك والتقرب منك.

ومع أن الكون بأسره لا يتسع لحضورك المديد، إلا أن قلوب محبيك قادرة على احتوائك وهي المكان الأثير لديك والمحبب إليك.

هناك في أعماق النفس تكمن دنيا التأملات التي هي أرحب من الفضاء الخارجي وأعمق. لا توجد ظلمة هناك لأن السيادة للنور، ولا جهل لأن الوجود للحكمة.

هناك لا الموت يتبختر، ولا النار تحرق..

لا الريح تجفف، ولا الماء يُغرق..

هناك الأفلاك الربانية العليا. وخلف الحياة وما فيها يكمن الكائن اللانهائي الذي لا تبلغه العقول ولا تسعه المدارك.

في ذلك البهاء الذي يعصى على الوصف خاطبَ الصوتُ الملائكي المريدَ قائلاً:

يا بني، هذا الإرث السماوي هو لكَ بعونه تعالى. وهذه القوة اللانهائية التي لا تُقهر لك فيها نصيب. فما أنت بالواهن ولا الضعيف ما دامت قوى الكون في متناولك!

صحيح أن الجسد يصبح جثَّة هامدة عندما تمسُّه يد المنون، لكن الروح حرٌ على الدوام لأنه بلا قيود وحدوده فقط عند خط اللانهاية.

وإذ اندمجت نفس المريد بروح المرشد قال وقد غمرته نشوة من الفرح العظيم:

كم هو مدهش يا مولاي! إذاً لا يوجد موت!

فأجاب الصوت المبارك:

ولا وجود للإحساسات الخشنة أو المشتهيات الكثيفة. فالذين يتعطشون لإرواء أشواقهم المادية دون الروحية يصرفون أيامهم لاهثين وراء سراب الجشع وأوهام المطامع. طريقهم طويل ومحفوف بالمخاطر. ألا فلتترفـّع يا بني عن كل ما يعيق تقدمك ويصدّ مسيرتك نحو رب الأرباب.

انظر للأعلى! نحو الكائن السرمدي.. نحو الأنوار الأزلية، وهذه الشهب الكريمة ستخترق ظلمة نفسك وتنيرها بضياء الله.

وإذ أصغى المريد بانبهار لهذه الكلمات، تذكر أن طبيعة الروح هي القداسة والنقاء، وأن الغاية هي التحرر هنا الآن، في هذا المكان وليس بعد الموت! وغاية النفس هي معرفة الذات، حيث يمحّي الزمان ويتلاشى الوعي المادي، وحيث النور والحق والسلام في سطوع أبدي دائم. وحيث تنتهي كل الأحلام، وتذوب كل الرغبات في المعرفة اللانهائية.. تلك المعرفة المقدسة التي هي البحر الكوني.

ويا له من إحساس عظيم بالاتساع الشامل!

بالحرية القصوى!

وبالذوبان في المطلق اللانهائي!

بعد بلوغ السكينة الداخلية تحدّث الصوتُ الهادئ الهادي قائلا:

الخير يا بني أقوى من الخطيئة وجذوره في النفس أعمق من جذور الشر.

الخير هو نسيج العالم وعنصره الجوهري، هو الصلاح الذي لا شبيه له ولا يقع تحت مقارنة. وما الشر سوى شيء نسبي لا حقيقة مطلقة له، ومع ذلك يجب تلافيه لأن البعد عنه خير.

بحار النفس يا بني تزخر أعماقها بصخور الحكمة والحقيقة التي لا تتزعزع ولا تتفتت. وعلى هذه الصخور يجب أن تتكسر دوَّامات الظلمة والشر والخطيئة. صحيح، على السطح قد تعصف رياح التجارب العنيفة وتتلاطم أمواج العواطف والشهوات .. ساعات هوجاء من الظلمة والخداع.. لكن المعرفة هي كلية القدرة، تجرف جانباً كل صنوف الشرور مهما بدت مستفحلة، وتقضي على جذور الشهوات الخبيثة مهما زحفت وامتدت في تربة النفس.

لذلك، حتى في قلب الظلمة تذكر النور ووسط صراخ الخطايا استعن باسم الله! والله سبحانه وتعالى سيصغي لصلواتك ويستجيب، وسيرسل إليك ملائكة الرحمن ليشدُّوا أزرك ويرفعوا عنك وزرك.

ما من قوة أعظم من قوة النفس المستمدة من قوة الله. ففي أعماق نفسك تكمن روح الألوهية. إن ومضة واحدة من تلك الروح المباركة كفيلة بدحر جحافل الديجور وتبديد فلول الأضداد والتعداد. في جوهرك أنت متحرر يا بني ونقي وطاهر لأنك صورة الكائن الأقدس.

قوى الكون بأسرها تعمل معك ولأجلك. فضع هذه المعرفة نصب عينيك ولتكن أسمى غاياتك تحصيل جواهر العلم العرفاني المبارك. إن شعاعاً واحداً من لهب الرؤية البديعة كفيل باجتثاث جذور الشر من القلب مهما كانت دقيقة وعميقة.

اعلم أنك انبثقتَ عن روح الله الحي القيوم وحياتك ليست محصورة بهذا المكان أو ذاك! إنها راسخة في الأبدية. أما الإحساس بالخطيئة والشعور بالندم والتحسر على ما فات فكلها من ثمار الجهل ومادّتــُها الأحلام والأوهام.

طبيعة الخطيئة هي الضعف فكُن قوياً! إن لمحة واحدة من كيانك الجوهري ستزيل آثار الخوف من نفسك وتوقظك من سباتك العميق.

اعمل على تبديد الجهل الذي يقيد الإنسان بروابط وتعلقات شخصية كثيرة تحدّه وتصدّه عن إدراك وحدته الجوهرية مع الذات الكلية.

واعلم أن الجسد هو رداء وقتي معرّض كل حين للتبدّل والتقلـّب. إنما جوهرك الروحي ثابت لا يتغير طوال الأبد. فأنت الذات المطلقة غير الخاضعة لعناصر المادة ومؤثرّاتها.

تأمّل مجد الحقيقة السرمدية التي عنها انبثق الكون وفي بحرها يعوم، وتفكر بروعتها المشرقة ذات الأنوار الإلهية المتفجرة من أعماق الحق لعلك تدرك أن الذات العليا تسكن بك مثلما تحيا فيها.

ولا تنسَ أن معرفة الذات تعني الوحدة الكونية والوعي بالوجود الكلي، ومعها تأتي فيوض النور وأفراح السماء.

واعلم أن في السكينة قوتاً روحياً وقوة باطنية. فلتنشد تلك السكينة علك تتواصل مع كيانك المعنوي وتتصل بذاتك الجوهرية. أما الرغبات الجامحة والتعطش للتملك والملذات فهذه الأمور التي احتلت مكاناً ومكانة من شخصيتك في مرحلة من مراحل عمرك قد آن لك أن تتخطاها أو تزيحها من درب روحك الوثابة المتشوقة للإنطلاق إلى رحب الآفاق.

عندما ترسخ قدماك على الطريق لن تبالي بالفشل ولن تتأثر بمغريات النجاح. بل ستجد نفسك مشحوناً بوعي الحرية إذ تمشي وتواصل السير الوئيد الأكيد نحو مشارف الإنعتاق الذاتي.

لقد صاغ الحق الأعلى جسمك هيكلا له ورصّعه بأقباس نوره الأبهى. فكل القوى الكامنة في كيانك هي هِبات من خزانة الله الكونية الزاخرة دائماً وأبداً بكل ما هو جديد ومجيد. إنه الله سبحانه الذي يتربع على عرش روحك ويوحي لك الأفكار الأصيلة والمزايا النبيلة.

لقد أبدعك نفساً حية من كيانه وأودع فيك قوى لا متناهية وها هو يأتي بك إلى مجد تجلياته ويشحن كيانك بإلهام حبه الأبدي علك تبصر صورتك النقية معكوسة في مرآة الروح ذات الصدق والصفاء.

يا من أنت قطرة من أوقيانوس الوعي الكوني الذي لا ساحل له. لم تكن تعرف شيئاً عن وجودك قبل أن يوقظك الإلهام العُلوي ويسكب طاقاته الحية في شرايين كيانك. فتذكر منشأك واعمل على تقطيع القيود وهدم الحواجز والسدود التي تعيق مسيرتك وتحول دون بلوغك غايتك القصوى.

وإذ أصغى المريد بلهفة للصوت المقدس راح يخاطب نفسه قائلا:

لقد قيّدتَ نفسكَ أيها المريد بالخوف والمشتهيات والغرائز وحب النوم والأفكار المحدودة. وبمحض إرادتك ألقيت ذاتك في مجاهل الجهل وغياهب الظلمة. وها أنتَ ما زلت تحلم يا صاح! فهلاّ بددت الأحلام ومعها أفكار اللذة والألم؟ عندئذ سيُزاح الستار الحديدي الصفيق للوعي الجسدي مرة وإلى الأبد.

المهمة التي في انتظارك هي جسيمة وهائلة. والوهم الكوني هو أوهى من نسيج العنكبوت وأكثر صلابة من الصوان والجلمود.

أيتها النفس! ألا هبِّي لنجدة ذاتك! هذه الأحبولة الجسدية صنعتها يداكِ وبمقدورك الإفلات منها، وما عليكِ إلا أن تعرفي ذاتك وتدركي طبيعتك التي لا يقدر الفضاء بما فيه من شموس ونجوم على محوها من سجل الوجود.

يا نفس اهجري صحاري الظلمة وودعي أصقاع الجهل. كل شيء هو من صنيعك.

الألم قد يكون أفضل من اللذة والحرمان أشهى من المتعة. لأن بالألم والحرمان يفتش العقل عن الحلول ويجدّ في البحث عما هو حقيقي وثابت في الحياة؟

يا نفس لا ترهبي شيئا في الحياة وعندها ستبصرين الخلود حتى في رهبة الموت.

الحياة المادية أفضل ما فيها أحلام. لكن يوجد عالم آخر عظيم. وفي نهاية المطاف ستبصرين الوحدة في كل مكان وزمان.. أجل الوحدة القدسية الكلية الشمول.

الشمس واحدة مهما تعددت حبالها! الشمس هي الشعاع مثلما الشعاع هو الشمس. وأنتِ أيتها النفس واحدة مع شمس المعارف الكلية. فاعلمي أنه حتى في قلب الظلمة يسطع النور.

احفظ يا رب بصري مشدوداً إليك ودعني ألمس قدسية كمالك علني أحظى بنعمتك وأفرح برؤية مجدك المتجلي في الخليقة.

وباركني كي أعثر على الإلهام والشجاعة في القوة الروحية المنبثقة عن التناغم معك والتعرف على حضورك في أعماق الروح.

ساعدني كي أتخلص من القناعات الواهمة والأقنعة الواهية للزهو والكبرياء علني أبصر نور الوعي النقي في كل الصور والأشكال، وألمس الحضور السعيد في الحقيقة المتحررة من كل الأشكال والصور.

ألا فلأدرك وعيك الأسمى في كياني بتوجيه عقلي وقلبي إليك في شوق مذيب .

ولأدرك أنك الكلُّ في الكل في الوجود المطلق والمحدود، وأنني واحد معك الآن وإلى الأبد..

ساعدني كي لا أرى بعد اليوم نفسي منفصلا عنك، بل أحس على الدوام بأنني أحيا بوعيك الكلي وروحك الإلهي.

يا من أنت التناسق الكلي وروح الحب وجمال الجمال..

دعني أدرك أنه بالتأمل عليك والتوجه القلبي إليك تتفتح ورود البصيرة في بساتين القلب وتهب نسائم الغبطة على رياض الروح!

لقد انبثقتُ من قلب الأزل لمعاينة مجدك اللانهائي.. وها أنا ما زلت مسافراً على دروبك، مدركاً في قرارة ذاتي أنني سأعود إليك.. إلى أبدية اللانهاية بعد اكتمال رحلتي ومغادرتي شواطئ هذه المحطة الأرضية بنفس رضية.

إنني دائم البحث عما يمكنني العثور عليه في أعماقي..

اللانهاية تغمر روحي وتملأ كياني..

وتكشف لي الرؤى عن الوجه الكوني الفائق الجمال.

لقد تجسدتُ على هذا المستوى الأرضي علني أدرك وحدتي مع الوعي اللانهائي وأحس بحضوره الأبدي في الخليقة المتناهية..

إن نفسي تجوز عبر مراحل عديدة في مسيرتها نحو منابع العرفان..

وفي تأملي أطمح إلى تعميق إحساسي بوحدتي مع الذات الكلية..

وتتملكني رغبة قوية في تكريس طاقاتي وأشواقي للبحث عن ذلك الجوهر الفرد الذي لا وجود إلا له ولا حياة إلا به.

وإذ سمعتْ نفسُ المريد هذه النداءات والإيحاءات الذاتية دخلتْ مراحلَ عميقة ومتقدمة من التأمل فأدركَ فعلا أن الشعاع هو الشمس والشمس هي الشعاع.

مرة ثانية يشعر المريد بالحضور الرباني في ساعات التأملات وأعماق السكون ويسمع هاتفاً إلهياً يقول:

في الصمت الأقوى من كل صوت، وفي السلام الأزلي تسكن طبيعتك بعيداً عن صخب الحواس وعن ويلات الألم والفاقة والحرمان...

خلف الشعور بالخطيئة والخوف تكمن الألوهية الموجودة حقاً.

الحلم شيء رائع وأروع منه الحالم!

نفسك خالدة ونقية أيها المريد.. وهي دائمة الحياة خلف بوابات الموت.. وأبدية الرسوخ في روح الرب الأعظم.

الخير والشر نسبيان، لكن نفسك موجودة ما وراء العقل والتصورات.. واحدة مع الضياء الأبهى والسناء الأسمى!

روائع طبيعتك تفوق كل شيء! فهي لا تخضع للقياس ولا تقع تحت المقارنة.

وهنا يرفع المريد قلبه لله ضارعاً:

رباه.. يا أيها الكائن السماوي الأقدس. يا من أنت متوج على عرش السموات! هب لي المعرفة الصحيحة لنفسي واليقظة الأبدية لروحي علها تغوص في قلب الأزل وترتوي من مياهك السرمدية.

أيها الواحد في الجميع، في كل ما هو موجود أنت الروح الحي! من له القدرة على أن يشير إليك ببنان الحياة الفانية! خلف كل المظاهر أنت الباقي. وفي قلب الأفكار أنت الرقيب العتيد على كل الأشياء. أنت كائن ما وراء الشموس والنجوم والأقمار! اكتب لي النصر المبين على جيوش الحواس في مقارعة الرغائب والوسواس!

فيواصل الصوتُ المبارك حديثه إلى نفس المريد:

ألا مهما شمخت قمم الجهل والغباوة، و عمُقت أغوار الخطيئة والبلايا، يبقى الكائن الأسمى متحرراً لا يحده اتساع ولا تسعه حدود. إنه الواحد في التعداد والمتعالي على كل الأضداد!

المرشد قريب منك! فعندما يغلفك ضباب الحيرة وتطوي عليك شِباك الخطيئة تذكر آنذاك أنه معك.. يقاسمك آلامك ويذرف الدمع من عينيك. إنه يعلم خبايا نفسك… لذلك لا يمكنك أن تخفي عنه خاطرة من أفكارك أو شاردة من شوارد ذهنك. فهو نزيل روحك ويعرفك أكثر مما تعرف نفسك.

أجل أيها المريد، تذكر أنني أسكن روحك، أينما كنت وحيثما حللت. هيا افتح لي قلبك، وصارحني بخوالج ضميرك. تعال اسكن في قلبي واجعله قلبك لأنني صديقك ومحبك وولي أمرك ومقيل عثرتك وموضع سرك وملاذك الأمين المأمون. وستتحسن الأمور وتنجلي غيوم الديجور وتشع أنوار السماء في قلبك ومن عينيك.

في الظل وفي السكون أنا كائن، ولكن مسكني المحبب هو قلبُك!

سوفَ تشعرْ بارتياح ٍ في الضميرْ

وستبقى آمناً من كل ِ ريبْ

وإذا واجهكَ أمرٌ خطيرْ

فتذكرْ أنني منكَ قريبْ.

كلما ناديتني أسمعُكَ

وأجيبُ همســـاتٍ عاجلة ْ

فتيقنْ أني دوماً معكَ

إن على الأرض ِ وإما في العُلى

قد ضمِنتُ روحَكَ منذ ُ الصغرْ

وحفظتُ عهدَكَ طولَ الأبدْ

سوفَ تحيا دون همٍّ أو كدَرْ

في حمى الرحمنِ مولانا الأحدْ

والآن اذهب إلى العالم وانشر التعاليم المباركة على مدى امتداد الروح ـ لأنها بالحق نبض الروح.

بركات الله معك على الدوام، مع محبتي اللامتناهية!

أجل، فمحبَّتي لك أعظم من محبة الأم لوليدها.. أعظم من محبة اليمامة لفرخها.. تلك هي محبتي لك.

فإن عبست الأيام في وجهك وبدت الحياة عبئاً ثقيلاً تذكر أنني خادمك الأمين ومحب روحك.

عندما سمع المريد هذه الكلمات علم أن المعلم المرشد هو الذي نطقها، وقد غسله بقوة الله ونعمته من خطاياه وطهره من أوزاره، فقال بشوق ومحبة ما عليهما من مزيد:

يا لها من نشوة عظمى يشعر بها قلبي في القرب منك يا مجيري الأعظم! إنني واحد معك بعون وبركة الله. ألا ما أعذب إلهامك، وما أكبر غيرتك على تلميذك!

ومن شدة فرحه ردَّد قول القدِّيسين بصوت عالٍ وقد خنقته عبرات الفرح:

في بحار الله غوصوا

واشربوا ماءَ الحياة

واعرفوا أن القديرَ

يُرى في التأملاتْ!

وأضافَ منشداً:

يا مانحَ الفرح النقي

من بحر ِحبكَ أستقي

وتظلُ دوماً حارسي

بالرغم ِ من طبعي الشقي!

مرة ثانية يتحدث الصوت السماوي قائلا:

يا بني، سوف تضطرك الأيام وتجاربها كي تدرك أن في هذا العالم صعوبات يجب مواجهتها والتعامل معها بشجاعة وإيجابية. تلك الصعوبات قد تبدو مريعة.. عسيرٌ التغلب عليها.. صعبٌ تذليلها. ولكن لا تدعها ترهبك أو توهن عزيمتك. واعلم أن العالم وهمومه إلى زوال. فلا تربط خيوط قلبك بحطام الدنيا كي لا تطغى عليك الهموم أو تقلقك المخاوف. ومتى أنجزتَ عملاً ما فليكن تقدمة خالصة نقية منك للرب القدير كي يبارك ثمر يديك وأفكارك ويزيدك من فضله فضلا ومن علمه علما.

يا بني، أنجز أعمالك بهمة صادقة لكن لا تتعلق بنتائج تلك الأعمال. ابذل أفضل ما لديك من مجهود أكيد والله سبحانه وتعالى سيعوض عليك أتعابك ويحسبها لك في اللوح المحفوظ.

اعمل بكل همة ونشاط وواصل المسيرة على دروب الخير حتى نهاية المطاف وبلوغ هدف الأهداف. ولا تنسَ أن غاية الحياة هي التعرف على الله فاصرف وقتك على هذه الأرض بالأعمال الطيبة والنوايا الخيّرة وتمسك بأهداب الفضيلة وكفى بها دليلاً إلى الأعتاب السماوية.

وتذكر أنك تستطيع التحكم بأعمالك وتصرفاتك ولكن ليس بأعمال وتصرفات الغير. فلكل ماضيه وحاضره ومستقبله، وكلٌ مسؤول عن أعماله ونتائجها أمام القاضي العادل الذي يحفظ حقوق الناس ويعطي كل ذي حق حقه بحسب الحاجات والاستحقاقات.

يا بني، لا تدِن الآخرين ولا تتحامل عليهم أو توجه لهم النقد المرير. فالكل عباد الله وأعزاء عليه. والكل يسير على الدرب مهما كانت خطواته قوية أو ضعيفة، ثقيلة أو خفيفة.

أحبب الناس إكراماً لرب الناس وستشعر بأنك تقترب أكثر فأكثر من القلب الإلهي المحب الحنون الذي يفرح بالوئام بين بنيه ويبتهج بمحبة بعضهم بعضا.

لا تقلق ولا ترتبك ولا تجعل مصائب ومصاعب العيش تضعف عزمك أو تفت في عضدك.

تفاءل بالخير وستراه مقبلاً عليك كأمواج البحر، وتعشم الفيوض الربانية وستراها مسارعة نحوك، منسكبة عليك كزخات المطر الإستوائي.

وهنا يهتف المريد قائلاً:

لقد أشعلتَ الأنوار في داخلي وأطلقتَ ألحان الأبدية في سماء روحي.

وقلبي الذي عمّدته بمياه كينونتك يؤكد لي بأنني واحد معك ولن نفترق أبدا.

وكل خلية من خلايا جسمي وذرة من ذرات كياني تترنم بأنشودة الخلود.. أنشودة الحب الإلهي..

قبل سماع صوتك والإحساس بحضورك كنت أشعر بالوحدة والقيود، أما الآن فقد تحولت وحدتي أنساً والقيود تكاد أن تصبح في خبر كان بفضل كرمك الذي لا حد له..

أتطلع حولي فأرى الأشياء وكأنها تتسارع نحو الأبدية فيخفق قلبي فرحاً وتهفو نفسي لمواكبة مسيرتها المباركة والإنطلاق معها نحو غايتها السعيدة..

وأحس أن المحيطات الجبارة بكل ما فيها من أمواج هادرة ومد وجزر تدمدم تسبيحها الأبدي لله.

والسحاب الأحمر يتهادى على وقع وإيقاع المعزوفة الكونية التي تطرب لها النفس وتهتز لها المشاعر.

وحتى تلك الحالة الموهومة المدعوة موتاً أبصر فيها ومن خلالها أنباض الحياة وأضواء التجدد؟

إن قلبي ليرقص ابتهاجاً بهذه المدركات الجديدة التي هي موسيقى لروحي وسلام لقلبي وشوق لأحاسيسي المتعطشة للحضور الكوني المغبوط.

أحس بقرب الرفيق الأعلى الذي هو ربي ورفيق دربي وأسمع أنغام الأبدية متجاوبة في أعمق أعماقي، مترجمة شوق المخلوقات إلى خالقها.. إلى الوعي الكوني الذي لا انعدام له ولا ديمومة إلا به.

ويسترسل الصوت هامسا:ً

لا تكن كثير التعلق بالأشياء والممتلكات التي ستتركها عاجلا أم آجلا. اقنع بما قسمه الله لك وافرح بما وهبك إياه وساعد الناس على قدر طاقتك لأنك إن فعلت تكون قد سمحت لليد الإلهية الكريمة كي تعمل من خلالك وأجرك على الله.

يا بني، عندما يصبح إيمانك بالله راسخاً تكون قد شيّدت صرح حياتك على صخر الدهور. ومهما تقلبت الأحوال وعصفت رياح المحن وتلاطمت أمواج البلايا من حولك ستبقى ثابتاً مطمئناً وابتسامة الظفر تتلامح على محياك النبيل.

لا تسمح للعواطف الجامحة بالتسلط عليك ولا للأفكار والخواطر غير النظيفة بأن تجعل من عقلك مرتعاً لها وساحة لعربدتها. أما إن راودتك الأفكار الوضيعة فلا تلقِ لها بالاً ولا تحتفِ بقدومها غير المرحب به وستعود من حيث أتت غير مأسوف عليها.

لا تتوقع شيئاً من الآخرين ولا تحسدهم على ما عندهم. لا تسمح لهموم الدنيا بأن تتقاذف عقلك ولا للإكتئاب بغزو مشاعرك. واعلم أن الفكر يؤثر تأثيراً بالغاً على الجسم. فاحفظ أفكارك سليمة إن أردت أن يكون جسمك سليماً، وانهمك بالأفكار والأفعال الطيبة وسيكون مردودها كريماً وعظيما.

ترفع عن الميول المنحرفة وابتعد عن الأهواء الجامحة والزم الاعتدال في كل ما تفعل تعِشْ على هذه الأرض كما يريدك الله أن تحيا وستشعر عندئذ براحة الضمير وطمأنينة النفس.

مرة ثانية أهيب بك يا بني كي تتذكر أن طبيعتك الجوهرية هي المحيط اللانهائي الذي يزخر بكل ما هو جليل وجميل ورائع ونبيل.

ثم كن صادقاً مع نفسك وستكون صادقاً مع الله ومع الناس. وجّه دفة حياتك مستعيناً بالله وإن هجمت عليك جحافل الهموم والمخاوف فبددها بذكر الله الذي هو نور على نور ونعمة فوق نعمة.

أنت روحٌ يا بني، فاهتم بأمر الروح وتعامل مع الحياة بهدوء وتعقل فيوافيك السلام وينبع الفرح من أعماقك.

طبيعة الإنسان المادية متقلبة الأهواء كالحرباء فاعمل على رَوحنتها واجعل ضبط النفس من الأولويات.

كن رحب الأفق واسع الصدر بشوشاً يشتاق الناس إلى مجالستك والتقرب منك، ويطيب لهم سماع حديثك والاستئناس بمعشرك الطيب. ولتشرق ابتسامة الرضا على محياك لأنك وجدت الطريق إلى الأعتاب الإلهية.

ألا فليستظل الآخرون بأشجار سلامك الوارفة ويروون ظمأهم من مياه الحب الإلهي المتفجرة من ينابيع الشوق في عينيك. وما دمت مخلصاً صادقا وفياً أميناً سيحنّ إليك الآخرون إن بعدتَ عنهم ويشتاقون لمحضرك ومجالستك والتقرب منك لأنهم سيدركون حساً وحدساً أن سراً روحياً يسكن روحك ويغذي طاقاتك وطاقاتهم بإكسير الحياة.

وكالنحلة التي تحط على الزهرة فترتشف رحيقها ولا تؤذيها، هكذا فلتحيا يا بني بين أهلك وذويك، حياة الصدق والوداعة والتسامح والقناعة.

وكالأرض التي تستقبل نفايات الناس وتمنحهم خضاراً زكية وثماراً شهية ـ هكذا لتقابلن الإساءة بالإحسان والجفاء بالدماثة والوداد.

لا تحاول وعظ الناس بالكلام، بل بالتصرف الحسن وبوجه يعلوه الرضا والابتسام. واعلم أن الأفعال تنطق بصوت أعلى وأفصح وأبلغ من صوت اللسان.

(وإذا المعلمُ لم تكن أقوالهُ

طبقَ الفعال ِ فقولهُ لن يُثمرا.)

وإن أبصرت العيوب في الناس فبالله عليك أن تبصر أولاً الخشبة في عينك قبل أن ترى القذى في عين أخيك. وتذكر أن سعادة النفس تكمن في التسامح إذ (لا يستطيب العيشَ إلا المسامحُ).

المعنى الكامل للحياة الروحية هو التخلص من محبة الذات والأنانية.

أجل، عميقة هي جذور الأنانية، ومحبة الأنا ضاربة في تربة النفس كالداء العضال. والكشف عن تلك الجذور مهمة شاقة إنما حيوية لا يمكن الإستغناء عنها. إن محبة الذات تتخفى تحت مليون صورة وشكل، ولكن من بين كل أقنعتها وحجبها لا يوجد ما هو أكثر ضرراً وأشدّ خداعاً من القناع الروحي.

قد يظن البعض أنهم يعملون من أجل الروحيات، ولكن لدى التعمق في استبطان دوافعهم لا بد من العثور على بواعث أنانية تكمن خلف الأعمال في معظم الحالات.

لذلك انظر نظرة الصقر الفاحصة المدققة واعلم أنه بالقضاء على الأنانية والكبرياء تظهر الذات العليا ويشرق نورها عليك ومن حولك.

إن الموت من أجل الحياة هو غاية الحياة الروحية. بذلك أعني موت الذات والشهوات من أجل إظهار الروح وما فيها من ملكات.

وإذ يقنع العديد بالتصيد في المستنقعات الضحلة المظلمة تفوتهم رؤية الشمس المشرقة على البحار العميقة.

الخلود الحقيقي يمكن التوصل إليه عندما تذوب الأنا الصغيرة ويحل محلها الفهم والبصيرة.

ألا فلتتذكر هذه الحقيقة ولتولِ اهتماماً خاصاً بكيانك الروحي!

إن نور الله الأعلى يشرق على النفوس التي تغلبت على حب الذات والملذات.

وعندما يسطع النور بكامل مجده ستختبر النشوة المقدسة..

والسلام لك ومعك يا بني!

من جديد، عندما سكن الليل واستقطبت الروح كل قوى الاستقبال لديها، تكلم الصوت المبارك قائلا:

أين إيمانك أيها الإنسان؟ أتراك ترتعد هلعاً لأقل خطر يواجهك؟ أم يطيب لك الغوص في أوحال الهموم المادية؟ تحرر من الإحساس بالصغر والصغار! تعال! كن إنساناً بالمعنى الكبير!

ثم أين عنصرك الروحي إن هو لم يظهر في حياتك اليومية؟

هيا تحرر من القيود واعلم أنك إن كافحت وجاهدت من أجل الدائم الباقي فلن يَمَسُّك الموتُ ولن يحيق بك الفناء، لأنك سوف تفقد الإحساس بالموت وسيكون نصيبك الخلود.

الخـُلق القويم هو كل شيء. فاعمل على تحسين طباعك وأخلاقك في كل يوم من أيام حياتك.

عش بروحك مع الحي الذي لا يموت وستختبر نشوة الخلود!

ألا فليكن الحق رائدك وهاديك ولن تسبب لك الولادة أو الموت، أو أي اختبار آخر خوفاً أو اضطراباً.

لا تتعلق بالجسد الفاني. حرر نفسك بالمعرفة اليقينية! إن المعنى الكامل للدين والأخلاق هو التغلب على الوعي الحيواني المقيد بالغرائز والخوف والنوم والطعام.

دعك من التعلق بهذه الجثة الهامدة. قدِّم للجسم ما يحتاجه من حاجيات ولكن لا تنسَ أن الروح هو الأساس.

يا بني، التفكير بالخلود يقود إلى الخلود.

كن شجاعاً. كن جسوراً. كن قويا.ً كن أبياً.

عندما تستيقظ نفسك ستظهر لك خفايا الحياة وأسرارها وستتصل قواك بموكب الكون ومسيرة الأجيال، وسيتعاظم سلامك إذ يبصر أزاهير الوعي الكوني تتفتح في حقول حياتك ورياضها.

إن بهاء الوعي الكوني وروعته دائما الحضور في روحك.. لكنهما متواريان خلف الحجب الكثيفة والأفكار المتلاطمة العنيفة. ولا بد من الكشف عن ذلك النور القدسي الذي فيه الحرية والعزاء والمسرّة.

ذلك النور المبارك هو بحر كوني من الضوء أكثر سطوعاً من مليارات الشموس والنيرات. وهو الكينونة الخالدة وفيه الحماية الكلية لمن يلتمسها بتواضع ورجاء ويرى نفسه قطرة من مياهه وشعاعاً من ضيائه وجزءاً لا يتجزأ من ذاته العظمى.

ذلك النور المبارك يشتاق للمريدين الجادين اشتياقهم إليه.. ليمنحهم الحكمة التي تـُظهر لهم الذات العليا وتوصلهم إلى الأعتاب المقدسة.

ذلك النور اللطيف يرافق المريدين في أحلك ساعات العمر وفي كل التجارب التي لا تكاد تتوقف، لأنه يريدهم أن يبلغوا آفاقه ويفرحون بمعاينته بعد طول فراق.

فليتأمل عليه المشتاقون في ساعات السكون علهم يجتذبون إشعاعاته ويلمسون حقيقته الحية.

ذلك النور الأبهى الخارج عن نطاق الزمان وحدود المكان، لا شكل له ولا أبعاد ولا قدرة لأحد على وصف جماله الذي يفوق كل ما اعتاده البشر من معايير الحسن والجمال.. ألا فليبارك ساكن الأعماق مسيرة الباحثين عن الحقيقة وليوجه خطواتهم على دروب الإشراقة العظمى. إذ بدون معاينته والإحساس بحضوره الدائم في القلب تخور العزائم وتصبح الإرادات واهنة وعاجزة عن مواصلة السير نحو المقصد الأسمى.

ليت الإنسان المنغمس في الآمال الكاذبة يدرك أن محاولة الحصول على سعادة دائمة من عالم دائم التقلب هي محاولة سقيمة عقيمة تجعل سماءه متلبدة وأحاسيسه متبلدة ومشاعره مشدودة إلى دنيا الحواس بحبال متينة يصعب تقطيعها والإفلات منها.

عندما ينكص القلب ويرتجف أمام التجارب الحتمية، فتذكر حضور الله الواقي في داخلك أيها المريد..

وعندما تحجب غيوم الأحزان الرؤية الباطنية فاطلب منه كي يفتح عين الروح لتدرك مجددا وحدتك معه وتسعد بغبطة الوصال.

في سكينة النفس وهدوء الفكر يردد المريد في قلبه:

أنتَ الذي لا يخذلُ

مريداً عليكَ اتكلْ

أنتَ الطبيبُ الطيّبُ

والشافي من كل العللْ

وفيكَ تحقيقُ الأملْ

يا منتهى الكمال وقمة الوعي..

يا من لا حد لجودك ووجودك، ولا انتهاء لكرمك ومكارمك!

دعني أدرك توحّدي مع ذاتك السرمدية وليبتهج قلبي بعذوبة لقياك.

أنتَ القلب النابض بالكينونة الخالدة

والزاخر بالحب غير المقيد بشروط.

أقباسٌ من الضياء الأعلى تشع من أفكاري المتناغمة

مؤكدة لي قرب الوصول إلى البيت السماوي الذي في الانتظار..

فأدرك أن الفضاء بأسره لا يتسع لشمولية الروح..

التي لا يقيدها الزمان ولا يحدها مكان.

وفي رؤيتي تلك للطبيعة الكلية أحس أنني أولد من جديد بإدراك متجدد لصلتي بالذات العليا ووحدتي معها.

اغسل يا رب حواسي وأحاسيسي بمياه حكمتك الصافية النقية

علها تكفّ وترعوي عن الاندفاع المتهور للإمساك بالمحظورات الضارة الضارية..

وعلني أستعيد فردوسي المفقود وأتذوق غبطة الروح التي تطفئ ظمأ النفس لبضاعة الدنيا التي لا تزيد المغالين فيها إلا تعلقاً بالحطام.

وازجزْ عقلي كي يلتزم الهدوء علني أستشرف واحات ذاتي العليا وأشرب من ينابيع الفرح الكوني.

و يا رب السكينة والسكون، امنحني الهدوء الذي لا يعكره معكـّر

وألهمني الاحتفاظ بكنوز الروح التي أعثر عليها في مناجم اليقين.

يا من يعوم الكون في روحكَ وتطلق العوالم من ذاتك..

لقد صغتني على مثالك وصممتني على صورتك..

فلذلك أنا واحد معك.. مع الكون اللامتناهي!

فلتوجّه أفكاريَ المنسجمة حواسيَ

ولتسيّر مدركاتي لكَ أفكاريَ

وليسطع نورُ الروح على إدراكيَ

ولتشرق حكمتك على روحيَ الآن وإلى الأبد.

يا ما نح الأمان ومحقق الأماني،

لكَ أرفع قلبي

لتسكب فيه من روحك وتباركه بلمستك.

وبشوق كبير ورجاء أكبر ألتمس هدايتك في محراب حضورك الأقدس.

فهب لي أنوار الحكمة وإشراقة المعرفة

وأفِض عليّ بإلهامات قدرتك الكلية

وببركات حبك الأعظم.

واسمح لي بإشعال مصابيح هدايتك في سماء حياتي..

ولتشع أنوار حكمتك الكونية على دروبي

فتبدد منها ظلام الجهل المتراكم المترامي.

ثم يرتفع صوت المرشد الملائكي في هذه الحالة من الوعي:

خلف الزمان… في صميم الزمان… أنا الخلود..

سواء غلفت ذاتي برداء جسدي أم بقيت بدونه فإنني أنا الروح.

في القلب توجد وحدة دائمة.

وفي الأعماق يكمن السلام الأعظم.

وما وراء العواصف والأعاصير، وتحت أمواج التعداد بما فيها من كفاح ومخاوف

يسري تيار الحقيقة الخالدة.

تعالَ يا بني إلى الهدوء العميق، خلف الزوابع والهيجان، خلف الاختبارات المريرة والمريعة.

تعال إلى السلام المبارك، بعيداً عن نقيق وزعيق الشهوات المتصايحة المتلاطمة على السطح. السحب تتجمع وتتلبد، لكن الشمس تبقى مشرقة ساطعة فوق أكداس الغيوم.

في السكينة يخفق القلب بنشوة صامتة.

افتح باب قلبك للحب الذي هو في كل مكان.

ألا ما أعذب ألحان السكينة وما ألذ طعم السلام!

مباركة هي السكينة اللانهائية!

ومبارك هو السلام اللانهائي!

ألا فليزيّن الله نفوس المريدين برداء الترك الباطني علهم يتخلصون من حماقات الأنا ويتبعون الدليل الأمين بثقة تامة لوحدتهم التي لا تنفصم ولا تنفصل عن الذات الكونية.

ولينوّر الله القلوب بالوعي النقي وليخلص أصحابها من وهم الولادة والموت وليظهر لهم الذات الخالدة.

أتمتلك أيها المريد الرغبة في التعرف على سيِّد الأكوان؟

إذاً لا يوجد وقت للتعلق بالجسد ومتطلباته التي لا تنتهي.

الآن هو الوقت والفرصة الوحيدة لكسب المعرفة الروحية والتفكير بالعلي الأعلى.

أنت ابن الحق وطبيعتك هي الحق.

لذلك، ألقِ بنفسك في بحار الله المباركة.

كُن ثابت الجأش راسخ الحلم وستتغلب على هموم العيش ومنغصاته.

تعلم وتعود الترفع عن ملاذ الحياة وآلامها! تذكر أنك أنت الروح. تذكر أنك أنت النفس المباركة.

تعمَّق أكثر فأكثر وستجد أنك قويٌّ. انزل إلى قاع طبيعتك وستجد أنك واسع الحيلة في بذل المجهود الروحي. وإن أخفقت في جهودك فلا بأس من ذلك ما دمت تعيد الكرة المرة تلو المرة!

اعلم أنَّ الخوف والضعف هما منوطان بالجسد الذي هو وكر الأحلام ومستقر الآلام…

لكنك في جوهرك أنت حرٌّ وعديم الخوف.

أنت أهزوجة النصر على ألحان الإرادة والتصميم.

أنت ابن الخلود وغايتك هي معرفة الحقيقة.. وكيانك طافح بوعود الروح.

اختبارات اليوم الزائلة ليست سوى أشباح في السراب البعيد.

يجب أن تؤمن بالحياة، وأن تتذكر على الدوام طبيعتك الإلهية.

في الأبدية لا تـُفقد فكرة واحدة طيبة ولا حنين روحي يذهب مع الريح. لذلك تخطَ عنصري الزمان والمكان وفكر الأفكار الطيبة على الدوام، ولتحنّ نفسك للمطلق اللانهائي طوال ساعات العمر!

إن عالمك الذاتي يكمن في عقلك، وبمقدورك أن تظهر الأبدية حتى في هذه الحياة.

بأفكارك تستطيع الوصول إلى ما وراء حدود الفضاء.

يا لها من قوة! يا له من مجد! ويا له من عز لا يوصف عندما يعرف الإنسان أن نفسه قد تحررت من نير القوى السفلية، وأن لا شيء يحدّها أو يقيِّدها!

الصمتُ عميقٌ.. عميق، والسلام حدوده لا تقاس.. والنور قلبه فسيحٌ ومريح، فادخل يا بني قلب النور حيث الراحة والسرور والوحدة التي لا تعرف الكثرة أو التعداد!

في مملكة الروح لا يوجد أنتَ وأنا ولكَ وليَ... بل الكل في الواحد والواحد في الكل. ومن يعرف هذه الحقيقة بالحق يعرف.

الحب الحقيقي هو الحنين للحرية و للإندماج الكلي في اللانهائي.

الحب الحقيقي هو الشوق الأعظم للسكون حيث تتلاشى الصور وتنعدم الأشكال ويبقى الفكر عديم التفكير، وحيث لا حياة ولا موت بالمفهوم التقليدي، بل جمال وقدسية وخلود أبدي وكينونة سرمدية لا انتهاء لها.

هناك يكتسب العقل الأسمى معارف كلية.

هناك سمو لا حد له وجوهر عديم الفناء.

أجل كل شيء إلى زوال واضمحلال باستثناء روح الوجود اللامتناهي. وتذكر..

إن عملتَ بحماسٍ واجتهادْ

سوفَ تبلغْ في النهاية ْ الهدفا!

لا تبتهل بقلب مجزأ المشاعر

بل تأمل على الله بتركيز كليّ.

فعندما يتحرر القلب والعقل من الثنائية والقيود

تظهر الذات الكلية بكامل مجدها وروعتها.

فيجيب المريد:

لَكـَم أحاول بقدراتي العقلية المحدودة التعرف على الله وإدراك حقه وحقيقته

مع أنني أعرف أنه وعي بحت!

ولكم أشتاق للتحدث إليه والتعبير عن مشاعري نحوه بكلمات بشرية

مع أنني أدرك أن حقيقته أكبر من أن يصفها الكلام البشري المحدود!

ولكـَم أجتهد للإحساس بشموليته داخل ذاتي الصغيرة

في حين أشعر في أعماقي بأنه روح الكون الذي لا نهاية له ولا حدود.!

آه كم يود قلبي أن يجعله حبي الأمجد وحبيبي الأوحد!

فانعمْ عليّ يا رب بقوة المحبة كي أنثر حبك الأعظم في كل النفوس والقلوب.

يا أيها الحق الكوني والحقيقة الكاملة الشاملة،

فلأبصر مجدك وأميّز حضورك في كل صور الخليقة وأشكالها.

عندما أحاول قطف جمالك من ورد البساتين وزهر الربى

يتنهد قلبي لأن بتلاتها لن تبقى ندية بل ستذوى ويعتريها الذبول

إذاً فلأقدّم لك نفسي المشتاقة عوضاً عن تلك الزهور والورود.

إنني دائم البحث عن ذاتك السرمدية في أحراش العقل وغاباته الكثيفة

لأنك مصدر وجودي وحبي وفهمي وبهجتي

وأنت منبع الحياة وروح الجمال وحقيقة الوحدانية وجوهر الغبطة والنعيم.

لقد آن الأوان كي أتعرف على قوى روحي ومداركها الشاسعة.

المصالح الذاتية والرغائب الأنانية تحاول توجيه سفينة حياتي ودفعها في كل اتجاه،

لكن القوة الكونية الكامنة في ذاتي هي وحدها القادرة على تحقيق أماني الروح مهما بدت مستحيلة.

فليرتفع قلبي إلى عرش القدير

علّ روحي تمتلئ بفرح الحب وتتعمد بقوة السلام.

يا رب، عندما أطلب منك أمراً لا أفعل ذلك استخذاءً واستجداءً

بل ألتمس حكمتك التي وحدها لها القدرة على تقديس هيكل روحي وإنارته.

وأسألك قوة الروح التي لا تقهر للتغلب على ما يعترض سبيلي من عوائق وعراقيل.

وأطلب نور الرؤية لأستبين مواقع خطواتي وسط العقبات الكأداء على دروب الحياة الوعرة.

ومتى أدركت جوهر ذاتي المنبثق عن ذاتك

سأستعيد قواي وفهمي وأمني وأماني.

ألا فلتبارك عقلي ولتشحن خلاياه بالقوة الروحية التي لذاتك الكلية

ولأدرك وحدتي معك وقربي الأبدي منك.

عندما أبحث عنك في مجاهل عقلي

تهاجمني تيارات الفكر وتتقاذفني أمواجه العاتية.

وعندما أحاول تأكيد طبيعة روحي الإلهية

تقوم في وجهي تلال الرغبات وهضاب الأنا المتشامخة

فأقبع في إعياء القنوط في ظل الوحدة الموحشة،

في حين تواصل روحي المشتاقة نداءاتها الصامتة لك.

لقد آن الأوان كي أبحث عنك وأتعرف عليك.

وإذ أصغي لهمس الإلهام أحس بحضورك في روحي.

فأندفع لأهدم الحواجز وأزيح العوائق وأقطـّع القيود

لكنني أجدها قد تلاشت كوني عثرت عليك في ذاتي وأدركت حضورك في أعماقي.

عندما يتعاظم الحنين الأبدي لقلبي المشتاق

يبزغ في داخلي الإدراك التلقائي لجمال الروح وكمالها.

في رحلتي إلى ديارك المباركة أبصر الكواكب والنجوم

والبلدان والمحيطات، والجبال والأنهار

والنباتات والزهور، والحيوانات والطيور

والإنسان وكل الكائنات منطلقة في قطار الأبدية إلى أقطارك السعيدة.

فيا أيها الحضور الرباني الفائق

ارفع أفكاري دوماً إلى تلك الحالة السامية

واظهر لي المعرفة الكامنة الكاملة

للوعي الكوني الكامل الشامل.

وإذ تهب نسائم الوجد على قلب المريد يتعاظم شوقه لمعاينة الوجه الأبهى ذي الإشراق وتذوب نفسه في رحاب الأبدية، فيفقد الإحساس بالأنا ولا يبقى سوى النور… نور الله الواحد الأحد، فيجتاح الفرح الكوني أحاسيسه وتهزج روحه مغتبطة:

إني أحبُ المُرشدا

وقلبي فيه قد شدا

لازمني منذ ُ الصغرْ

وعمّرَ وشيّدا

مرة ثانية يتحدث الصوت الأمين في التأمل العميق قائلا:

أي بني، إن ساعة الوداع الأخير قد تقرع الباب في أية لحظة لذلك أحرز أفضل ما في الحياة وعندما يزور إلهامٌ رفيع قلبك تمسّك به وأحببه محبة البخيل للمال خوفاً من أن يفلت منك و يغادرك مرتحلاً عنك بسبب اللامبالاة وعدم الاكتراث، وهيهات أن يعود إليك ثانية.

واعلم أن لكل إحساس سام و شعور نبيل صلة وثيقة بتفتحك الروحي وتقدمك على الطريق. وتأكد أن القليل من التطبيق لأفضل بما لا يقاس من التأويلات النظرية والشقشقات الكلامية والمماحكات التي لا تسمن ولا تغني من جوع.

أجل.. كثرة الكلام توهن قوى العقل والجسد معاً وكثيراً ما تبلبل الأفكار و تحجب الرؤية الصادقة. وما قيمة المرء إن لم يطبق ما ينادي به ويترجم أقواله إلى أفعال؟

يا بني : لا تحمل رياءً و لا دهاءً في ضميرك ولا تنعت خمولك بالقناعة والتسليم للقضاء الإلهي. واعلم أن الجسد هو العائق الأكبر في مواصلة السير على طريق الروح. فلا تسمح له بأن يصدك أو يعيق تقدمك.

طبعاً الجسد سيتظلم من المجهود وسيتعاطف معه الفكر الذي سينصحك بالعدول عن مواصلة المشوار نحو تلك الديار..

لكن الإصغاء لصوت الجسد والعمل بإيحاءات الفكر المثبطة سيبعدانك عن غايتك ويحجبا بصرك عن معاينة بر الأمان.

يا بني، الشجاعة مطلوبة على الطريق الروحي مثلما هي مطلوبة في معركة الحياة الدنيوية.

وكما يواظب محبو المال على كسبه وتكديسه.

وبهمة وبسالة البطل الشجاع هكذا لتقف بالمرصاد لكل ما يعيق تقدمك ويحاول ثنيك عن الوصول إلى منابع الحياة المباركة.

لا تسمح يا بني لشيء في السيطرة عليك وقهر إرادتك التي هي من إرادة الله.

لديك قوى روحية بحاجة لأن تكتشفها وتنميها. إنها كنوز لا تقدر بثمن فلا تغفل تحصيلها والعمل في سبيلها.

عندما تعقد العزم على التقدم نحو أهدافك السامية وتتكل على الله لا بد أن تصل لأن الله يمد يد العون لكل الراغبين الصادقين والعاملين بجد وإخلاص من أجل تحرير نفوسهم من الأصفاد والقيود.

لا بد أن تتعرف يوماً ما على طبيعتك الجوهرية فلا تؤجل تلك المعرفة إلى الغد. كل يوم باستطاعتك أن تعرف شيئاً جديداً عن نفسك وتكتشف طاقات مختزنة في كيانك وتقترب خطوة من غايتك القصوى.

إن أنت اقتحمت الظلمة سترى أن قلبها قد تحول إلى نور بفعل شجاعتك.

هيا اتخذ الخطوات الجريئة المطلوبة في الحياة الروحية كما في المادية. فمن لا يغامر لا تغمره الحياة بعطاءاتها ولا يمكن أن يأمل الفوز في سباق الأيام.

في قرارة ذاتك كن كالناسك الجوال. أنجز واجباتك على أكمل وجه و لكن لا تتعلق بالأشياء والأشخاص. واعلم أن فقدان الجسد بالموت لا يعني النهاية بالنسبة لك بل بداية جديدة لمسيرة سعيدة.

الجرأة مطلوبة على دروب الحياة.. جرأة النمور في الأدغال و لكن ببراءة الحملان ووداعة الأطفال.

(فعليك مطرود النقا!) والله يبارك الأيادي القوية الكفيلة بتمزيق حجب الخداع و تبديد قبضة الوهم .

التأمل وحده لا يكفي بل يحتاج إلى المجهود لتحقيق الهدف المنشود.

أهل الدنيا لا يبخلون بالتضحيات في سبيل مطامحهم المشروعة وغير المشروعة. أفلا يجدر بك إذاً أن تضحي في سبيل كنوز المعرفة وتحصيل جواهر الروح؟

ليكن أفق حياتك لا متناهياً وليكن الكون بأسره ميدانك الفسيح الذي به تصول وتجول.

لا تخشَ تجارب الحياة. اهجر الأخاديد الضيقة والطرق الملتوية وانطلق إلى حيث الأفق الرحب الذي يليق بأمانيك الكبار وطموحات روحك الوثابة.

في المعرفة الحقيقة ترى الله وجهاً لوجه و في عدم التعلق تكتسب السلام الباطني. واعلم أن أحداً في الوجود لا يمكنه أن يبذل المجهود نيابة عنك. فاتكل على نفسك بعد الله، إذ ما خاب من على الله اتكل.

قف على قدميك وكن دوماً على أهبة الإستعداد لعمل ما ينبغي عمله. وثق أن الله العلي القدير سيباركك ما دمت تعمل وتنوي الخير وتحاول وتكرر المحاولة. وسيشد عضدك ويبسط لك الرزق وستدرك آنذاك أنك ذو حظ عظيم.

فكر بالله واحفظه في أعماق قلبك أيها الإنسان وليكن سبحانه غايتك السامية ومقصدك النبيل في كل ما تفعله وتنتويه.

سر بثقة تامة في أدغال الحياة واعلم أن يد الله معك وعونه يواكبك ما دمت تؤمن به وتفتح له قلبك صباح مساء، و ستهجع الرغبات وتكفّ عن العجيج والضجيج. والفكر المتقلب أيضاً سيرتد ويرتدع عن مداومة الهرولة نحو الملذات والهروب من الذات العليا.

آن لنفسك أيها المريد أن تستيقظ من غفوة السُبات وتدرك شموليتها واتساعها غير المحدود وحريتها التي تصبو إليها وتحن شوقاً إليها.

اطلب العون من الله الساكن في أعالي السماوات وفي أعماق النفس وسيستجيب لك ويعطيك سؤلَ قلبك. فواهب الحياة والروح وزارع الرجاء في القلوب وخالق النور والجمال سيسمع دعاءك وسيمدك بأسباب العون.

قد تتساءل عن طبيعة وأصل الأوهام والكيفية التي بها ترسّخت واستحكم وجودها في طبقات الوعي. ألا فاعلم أن مَردة الجهل هي التي نثرت بذور الأوهام في حقول الفكر فغاصت إلى تربة النفس وتجذرت فيها فأنبتت الأعشاب السامة والأشواك الحادة التي تخز وتؤذي المريدين إذ تمزق سلامهم وتستنزف دماء قلوبهم.

ألا فلتمتلك الإيمان والعزيمة الماضية بحيث لا يقدر شيء على قهرك أو خضد شوكتك وكسر إرادتك.

وإذ تتمرس في عدم التعلق والترفع عن الأمور الزهيدة ستجد أن كل شيء يعمل لصالحك وفي خدمتك.

احترس يا بني من الحماس السطحي الشبيه بنار الأشواك التي تشتعل بسرعة لتنطفئ بسرعة أكبر. تابع السير بهمة عالية ولا تسمح لشيء بأن يبعدك عن غايتك التي هي الله.

لا تتلكأ و لا تتوانَ بعد اليوم. فالوقت قصير والحياة عابرة كسحاب الصيف.

الأمس مضى و اليوم إلى زوال و الغد على الأبواب.

فاعتمد على الله وابذل المجهود الواعي وستحصل على مُنية قلبك إذ سيعطيك ربك فترضى!

تعمق بالغوص إلى أعماق روحك وستجد تيارات الخير المباركة تغمرك من كل جانب. وستتحول كل الأمواج الصغيرة إلى موجة عظمى تحمل في تضاعيفها القدسية النور والفرح والنصر والجمال الإلهي الذي يعصى على الوصف.

كن مخلصاً يا بني وفياً على المبادئ والتعاليم

وسيغمرك الله الرحيم الكريم

بفضله الرباني العميم!

(إن جودَ الله يدعو للسرورْ

زمن الخير وفي وقت الشرورْ

فمتى أضحتْ رُحى البلوى تدورْ

بركات الربِ عددْ شاكرا)

وعليك السلام يا بني!

ثم يتحدث الصوت المبارك في سكينة القلب:

يا بني، الجسد يشن هجمات متواصلة ضد الروح، فكن حذراً متيقظاً.

ألا ما أقدس الحياة وما أروع ثمارها المباركة!

لا تحصر ثقتك بالحواس ولا تجمد عندها، بل اذهب إلى ما هو أبعد بكثير من مجالها المحدود.

اذهب إلى حيث الذات المباركة المتحررة من الثنائيات وستجد أنك قد انتقلت من الوهم إلى الحقيقة.. من ظلمة الجهل إلى نور المعرفة.. ومن الإحساس بالموت والفناء إلى وعي الخلود والبقاء.

ألا فلتبصر الحضور الإلهي في داخلك وتراه متجليا من حولك.. هاجعاً في الصخور، حالماً في الزهور.. مغرداً جذلاً في الطيور.. ومستنيراً في النفوس ذات الأشواق والإشراق.

وستحب عندئذ كل مظاهر الوجود كجزء لا يتجزأ من ذاتك الفردية المتصلة اتصالاً أبدياً بالذات الإلهية.

وإذ يفلح سعيك ويتيقظ ويتمدد وعيك ستدرك أن هذا الكون الفسيح لا يعدو كونه ذرة متناهية الدقة في كيان الله الكلي، وأنك في جوهرك وعيٌ كلي الحضور وغبطة لا تتناقص ولا انتهاء لها على مر الدهور.

فليرفع الرحمن الحجاب عن بصرك الروحي ويريك الأنوار ذات الألوان التي لا وجود ولا نظير لها في عالمك الأرضي المحدود.

روحك يا بني أسيرة المادة تناديك وتنخيك كي تنهض من غفوتك التي طال أمدها وتحطم القيود التي أبقتك مكبلا في زنزانة النسيان والخمول الروحي المهين. إن أردت أن تنساب الحكمة اللامتناهية إلى عقلك فما عليك إلا أن تفتح أبوابه للنور وستهرب منه أشباح الظلام وعفاريت الأوهام التي اتخذته مرتعاً لها وحولته إلى مغارة لتحقيق أهوائها وأهدافها.

لا تظن أن الصور التي لا انتهاء لبزوغها على ستارة الوعي هي كل شيء في الوجود. فالأفكار النقية الصادرة عن العقل السامي هي أيضاً حقائق بقدر ما هي انعكاسات لظواهر ومظاهر الوعي الكوني الذي يفيض بقواه ونوره على عقل الإنسان وروحه وجسمه.

فليغمرك وعي الله المبارك بالحكمة والنقاء والحب والفرح، وليكشف لك الغطاء عن أسرار السماء.

أنت أيها الإنسان نقيٌ جوهرك وخالدٌ لا يمسه الفناء.

الجسد إلى زوال وقد تحين الساعة في أية لحظة. فلذلك توجّه بكليتك نحو هدفك الأسمى واملأ قلبك وفكرك بأمواج الخير وتيارات النور.

و لتكن نواياك صافية كالبلور.

عندها إن باغتتك المنية ستكون على أتم الاستعداد

لملاقاة رب العباد.

عِشْ في هذا العالم كما لو كنت ستفارقه بعد لحظات وعندئذ ستحلو الحياة وتزداد بهجة. عندما يعانق الموتُ الجسد ستندم حقاً إن لم تكن قد عشت طبقاً لمثلك الأعلى على هذه الأرض.

إن كلمة ( يا ليت) تعني التقصير والتخاذل.

كثيرة هي النفوس النادمة التي يتحسر أصحابها قائلين: ليتني استخدمت قواي استخداماً صحيحاً لكنت الآن أقرب خطوة من الله.

لذلك ألقِ بنفسك في خضم هذه الساعة و بكل إخلاص لمثلك الأعلى قل:

"يا رب، ساعدني كي أبصرك في ذاتي واجعلني صادقاً وفياً لمبدأ الخير المنبثق عن كيانك الرباني."

وفي ساعات السكينة والهدوء ردد في قلبك أعظم صلاة.. صلاة المريد ذي الأشواق الذي لا يكف قلبه عن التسبيح والتصريح.. عن التمجيد والترديد: إلهي و حبيبي.. قلبي يميل إليك.. عيني تريد رؤياك.. أنت غايتي ومبتغاي في الدنيا والآخرة.

يا بني، روح الإنسان خالدة لا متناهية، وهي جزء لا يتجزأ من الخالق الأعظم الذي تحيا فيه وتتحرك في كيانه الإلهي. وهو كذلك موجود فيها. وإذ تدرك هذه الحقيقة ستغادرك المخاوف وتصبح صاحب النفس المطمئنة.

وهنا تتوجه النفس إلى مصدر الحياة والنور مرددة:

إلهي، يا مبدع الحياة و السلام والأشياء كلها..

جوهرك هو الحب اللامتناهي..

إنك والحق موجود في كل مكان فانعم عليّ بامتلاك ذلك الوعي المبارك!

في العوالم كلها ليس لي من أمل إلا بك..

المخاوف و أشباح الموت تخطر وتتبختر في كل مكان..

والآلام والأوهام تعدو هنا وهناك..

تلك هي رؤية الحياة الفانية..

هلا حررتني من الوهم القديم!

عندها سأبصرك حيث يتجول الموت وحيث الحياة تعج بكل ضروب الآلام..

آه، دعني أتلمس وجودك من حولي حتى في الأشياء العنيفة والمخيفة.

أيها المجير القدير.. يا قاهر الموت والخداع.. استمع لندائي واستجب لدعائي!

أيها الوعي الأقدس، يا روح الوجود،

كم سرت على دروب الحياة وفتشت عنك بشوق ولهفة!

فمنذ بزوغ فجر الحنين وأنا أعد نفسي برؤيتك

وأقول لا بد أن ساعة الرحمن ستحلّ وتتحقق بلقائي بك والتعرف عليك!

لقد أنصفتني بومضات من مجد الله وجلاله.

وأحسست بإرهاصات الحضور الأقدس في باطني ومن حولي.

لم تحرمني هدية هدايتك،

حتى عندما تلكأتُ في البحث عن النور،

واصل قلبُك المحب العطاءَ بكل أريحية وسخاء!

كثيراً ما تهيب قلبي الحياة وأوجس خيفة من مفاجآتها غير المحسوبة،

إنما كنتَ ولم تزل تلهم نفسي وتجبر بخاطري.

إنني أشعر بقربك مني

وكي لا يوحشني الطريق

تبعث إليّ بين الحين والحين بنفوس طيبة مُحبة

لتخفيف الأعباء وتلطيف الأجواء!

وأنك لتساعدني على الاحتفاظ بتوازني

وسط تيارات الكرب والفرح والحزن والابتهاج.

فيجيب الصوت المبارك من أعماق العقل الكلي:

يا بني، إن أنتَ ناجيت الله وتفكرت به ستدرك أن تلك القوة اللامتناهية تحيط بك و تغمرك بالحب الكوني. وسوف يضمك روح القدير ويلهمك المعارف القدسية.

واعلم أن الاعتماد الفعلي على الله يحل كل الإشكالات والمشكلات لأن الله هو الحل الصحيح لكل معضلات الوجود.

سلـّم أمرك لله أيها المريد والقِ أحمالك عليه وتأمل بعظائمه تحل عليك البركات ومعها المدركات.

التمس سلام الروح في سكينة التأمل مثلما تفعل النفوس الكبيرة المستنيرة الحاملة لمشاعل الحكمة المقدسة أمام القلوب الملتهبة شوقاً للوصول إلى معابد الحضرة وخلوات اليقين حيث الفرح الفائق والجمال الرباني الصاعق.

واطلب من الله كي يرفع عن بصرك الحجاب لترى الذات الخالدة وتشرب حتى الإرتواء من ينابيع الغبطة المتفجرة في واحات الروح ذات الأنسام العليلة والأشجار الظليلة.

ومع الاقتراب من مشارف الوعي الأسمى تتأجج نيران الوجد في الأعماق ويبزغ فجر الإشراق فتحس بفرحة الوصول إلى حرم الذات الكلية الذي يشد إليه الرحال ذوو الإرادات الحازمة والنوايا الجازمة.

وضع في الإعتبار أنك سائح على دروب الله نحو الغاية القصوى التي هي معرفة الذات. وإذ تطمح لتحقيق ذاتك لا تسمح بالتحقق والإرتباط مع عالم الثنائية خوفاً من الإنجراف إلى قاع اللامبالاة والتقاعس الروحي الثقيل على النفوس المجنحة التي تهوى التحليق في فضاء الروح السحيق.

عندما تبدو الحياة خدّاعة مراوغة، ويدنو شبح الموت ويصرخ القلب ألماً وتبلغ المصائب البشرية الذروة.. تذكر أنك أنت الروح المتعالي على كل الثنائيات والنسبيات.

عِش كل يوم كما لو كان يومك الأخير ولا تنقطع عن ذكر الله.

كرّس حياتك لله واذكر نعمه عليك. أبصر حكمة إرادته في كل ما حولك.. وعندها سواء ظننت أنك في جوف القبور أو في أفواه النمور.. في حضرة الموت أو على أعتاب الجحيم ستبقى قريباً من الله المحب الرحيم الذي لن يتركك وحيدا ولن يكون عنك بعيداً.

ما دمت تتذكر الله وتحفظه في سرك سيأتي إليك وينحدر عليك الفرح الأعظم و سيحيا السلام في نفسك.. وما يبدو للآخرين مخيفاً مرعباً ستراه جميلاً محبباً ما دام الله معك وما دمت معه.

يا بني عش طبق المُثل العليا و كن شجاعاً مقداماً باسم الإله القدير.

هناك حب لا يخشى شيئاً.. حبٌ أعظم من الحياة وموجود في كل مكان. ذلك الحب الكوني هو الله المحب الودود.. منبع الخيرات والجود!

ثم يواصل الصوت الإلهي المبارك قائلاً:

الله هو الصمت في صوت الحياة..

وهو السلام ومعنى الوجود..

هو العليم بكل ما كان وما هو كائن وسيكون..

لا شكل له لكنه حاضر في كل مكان..

هو القوة القهارة.. هو الأزل.. هو الوحدة وروح التوحيد..

ومن يتعرف عليه يحقق غاية الحياة.

هيا يا بني تيقظ.. مزّق الحجب وحطم القيود..

لا تسمح لمستنقعات التوافه بابتلاع أشواقك..

تخلص من كل الأحلام .. بدّد قبضة الوهم..

إنك أنت الروح ولا شيء يَحول دون إدراكك لجوهر طبيعتك..

انهض.. لا تتوقف قبل بلوغ الغاية التي هي روح الحياة وحياة الروح..

والتي هي الحب والغبطة الأبدية..

والمعرفة الكلية.

ولتحرسك العناية الإلهية ويضمك قلب الله الدافئ الأمين أينما توجهتَ وكيفما كنتَ وحيثما حللت.

ثم من جديد يسمع المريد الصوت المبارك هامساً لوعيه:

أي بُني، ألعلك تظن أنني لا أعرف نقاط ضعفك! أم تراني غافلاً عن المخاوف التي تنتابك والهموم التي تهبّ على قلبك بين الفينة والأخرى!

أليست الحياة محفوفة بالمخاطر وفيها الكثير من المحن والشدائد؟ لكن ينبغي أن تكون أكبر منها وأقوى.. فلا تدع الوهن يتسرب إلى نفسك فيضعف عزمك ويشل عزيمتك. واعلم أن الروح الأعظم يحيا في أعماقك ويغذي عقلك وأفكارك بأنبل المشاعر وأكرمها.

وتذكر أن بمقدورك أن تصبح ما تنتويه ما دمت تواصل السير على الدرب وتعمل في سبيل الوصول إلى منية قلبك. الجسد طبعاً سيتمرد، والفكر كذلك سيقاوم بعناد. ولكن ما دامت إرادتك قوية ورغبتك صادقة فإنك واصل بعونه تعالى إلى أعتاب المقامات العليا التي في انتظار المشتاقين.

وهنا يتعاظم شوق المريد فيردد بوجدٍ ما عليه من مزيد.. ما معناه:

(إلى غاية الغاياتِ قصدي وبغيتي

إلى ربيَّ العالي على كل حاكم ِ

إلى المرتجى الغالي حبيبي ومنيتي

فليس فتى التوحيد فيه بنادم ِ

هو الربُ هادينا الذي جلّ إسمهُ

وليس له شبهٌ، فريدُ المعالم ِ

حكيمٌ عليمٌ قادرٌ سيدُ الورى

عظيمٌ وموجودٌ بكل العوالم ِ

يلبيّ ندا الملهوفِ حباً ورحمة ً

ومنه فيوضُ الخير رب المكارم ِ)

ويواصل الصوت الأمين:

في روحك نهرٌ جبار أرحب من المجرّات، لا يمكن لقوة في الوجود أن تقف في وجهه أو تحْرفه عن وجهته. فإن كنت مخلصاً مع ذاتك، وإن كان الصدق يحيا في قلبك فاستبشر خيراً لأنك ستبلغ المراد وتـُدعى إلى بساتين الأنس.

لا شيء له القدرة على امتلاكك والسيطرة عليك ما لم تسمح أنت بذلك. افتح قلبك أيها المريد ووسع مداركك. ومتى صدقتَ مع نفسك ستصْدق أيضاً ربك ومع كل الناس. كن دقيق الفحص لأفكارك كما لو كانت أفكار شخص آخر. ولتكن نواياك نظيفة نحو الغير لأن تلك النوايا ستعود إليك وترتد عليك إن خيراً فخير وإن شراً فشر. فكل ما يصدر عنك يعود إليك مضاعفاً وهنا فصل الخطاب حيث يكمن الثواب والعقاب! فراقب أفكارك وصحح مسارك وستحيا بعونه تعالى بأمن وأمان وراحة واطمئنان وتتذوق ثمار المعارف الخاصة.

واعلم أن معظم الشوائب والعيوب مصدرها وعي الجسد، فحاول الترفع عن ذلك الوعي المحدود لعلك تستشرف آفاقاً أعلى وتختبر أحاسيسَ أنقى وأبقى. لا تسمح للجسم بإملاء إرادته عليك لأنك إن فعلت فقد تجد نفسك في نهاية المطاف في وضع لا تريده لنفسك ولا تحسد عليه. فالنفس المرتبطة في الوعي الجسدي دائمة التعطش والتحرق إلى أمور قد لا تخلو من أضرار، فينبغي أخذ الحيطة والحذر والتمييز وحسن الإختيار. وليكن الجسد خادماً لأماني الروح ووسيلة لتحقيق ذاتها إبان زيارتها الموقوتة إلى دنيا الفناء.

وهناك سر روحي يا بني أود أن أطلعك عليه لعلك تجد فيه نفعاً وعوناً على الطريق: ألا فاعلم أن الأخلاق الفاضلة هي الأثقل في الميزان والأهم في نظر الديّان، وهي الدعامة التي لا تقوم الحياة الروحية إلا عليها وبها. فالخـُلق القويم يعني الإرادة القوية والفوز في معركة الحياة، وفي هذا فليعمل العاملون وليجتهد المجتهدون.

إن نظرتَ نظرة مدققة إلى حضارات العالم التي معظمها بدا ثم بادَ لوجدت أن الإنسان كان ولم يزل يمجد الحواس ويعتبرها المرجع الأساس لكل تجربة من تجارب حياته. ونتيجة لذلك فهو ينخدع بأوهامها ولا يرى شيئاً أبعد منها وأكثر مصداقية.

وهذا التعلق الكبير بالحواس وأغراضها هو أصل الكثير من البلايا والشرور في دنيا البشر. فلو قدّر للإنسان أن يختبر بالتأمل العميق بُعداً آخر ويدرك طاقاتٍ من غير هذا العالم فلربما أصبحت رؤيته للأشياء أكثر وضوحاً واتزاناً. ولكن مهما حاول الإبتعاد عن مصدر وجوده والإنغماس في كل ما هو متقلب ومتلوّن، لا بد أن يسأم هذه المسرحية الأرضية التي ما فتئت تتكرر عوداً على بدء منذ خلق الله الدنيا ولكن بأدوار وظروف مختلفة.

حريّ بك أيها المريد أن ترتقي بالفكر إلى ما فوق مغريات العالم الرخيصة التي لا تليق بعشاق النور. فدع دنايا الدنيا وازهد بالزهيد إن أنت رغبت في الوصول إلى بساتين الحق والتنعم بالثمر المبارك. وتذكر أن من يزهد في الدنيا يحبه الله ومن يزهد فيما عند الناس يحبه الناس.

آن لك يا بني أن تمزق الأقنعة التي تحجب إشعاعات شمس الحقيقة وتبصر بعين البصيرة طبيعتك الحقة التي هي من جوهر الذات العليّة. وتذكر أن الوعي الروحي هو محور وجود الإنسان ونقطة ارتكازه ومعيار تطوره مهما قال بخلاف ذلك المكابرون. الدنيا وما فيها لا تقاس بروعة الإدراك اليقيني لذلك القبس الرباني الذي هو الحد الفاصل بين التخمين واليقين والجهل والمعرفة.

الناس يؤمنون بالمنظور والمحسوس وقلما يهتمون بما هو أبعد من المرئي والملموس. ولذلك تبقى تجربتهم محدودة ومداركهم موؤودة. اللامنظور هو الأهم والأكثر بقاءً لإن كل شيء عنه ينبثق وإليه يعود.

يا بني، لا تتحرق للمتلكات ولا تتعشق الثراء، بل لتكن لديك الرغبة القوية في امتلاك الدوافع النقية التي هي سمة أهل الأنس والإتحاد. واعلم أن الجري المحموم وراء متاع الدنيا المسموم لا يليق بالجادين في البحث عن أحدية الذات، الراغبين في تذوق أحوال القلب. فاغسل قلبك أيها المريد من الجشع والطمع وانظر للحياة نظرة فاحصة مدققة لتتبين مواقع أقدامك إن كنت حقاً تطمح إلى مراتب المشاهدة التي هي من نصيب أهل اليقين الحاصلين على الإقامة الدائمة مع الله وأنبيائه وأوليائه الصالحين.

وعندما تزور خاطرك الإلهاماتُ العليا تمسَّك بها كما لو كانت طوف الأمان في بحر الشدائد والمحن. ولا تنسَ أن الفرصة الروحية تحدث مرة واحدة في الحياة ونادراً ما تتكرر! فلا تدعها تفوتك بل اغتنمها وتابع السير على طريق المريدين المخلصين المتعطشين إلى رحيق الكشف المختوم في ولائم الرحمن.

وتذكر أنك قبسٌ من الروح الأمين الذي هو الجوهر الأول الدائم البقاء على مدى الأجيال والآزال. وأصخ السمع للنداءات العليا التي يهمس بها أهل الخصوص أركان التوحيد الواصلين والحاصلين على المراتب السنية في قلب الأفق الأعلى.

هذا أوصيك به لأنك إن لم تتنبه لهمسات الإلهام فقد يخف الصوت ويخفت ولن تتمكن عندئذ من سماعه.

القوة القهارة بجانبك دوماً تعيلك وتسندك وتهديك ما دمت على توافق أكيد مع الله وقوانينه الروحية التي لا يمكن خرقها أو التلاعب معها لأنه سبحانه يسكن الأفكار ويعرف النوايا على حقيقتها.

التحرر يلزمه الإخلاص. فإن رغبت في التقدم على الطريق ومعاينة أنوار المعاني والإلهام فلا بد من أن تكون أميناً في العمل والدعاء، مخلصاً لميراثك الروحي ـ لأن الأمانة فكراً وفعلاً تقود إلى الحرية التي يتنعم بها أهل الرضا وأصحاب المقامات والمراتب.

فلتكن خطواتك دوماً نحو الأمام. وما دام القلب منكَ نظيفاً والدوافع نقية ستكتسب القوة التي تحتاج إليها لمساعدة نفسك والآخرين. عندئذ سترنّ نبرة الحقيقة في كلماتك وستـُشحن أقوالك بنعمة الرحمن ونغمة العرفان.

واعلم يا بني أن كل إنسان تنبعث عنه اهتزازات دقيقة رقيقة يشعر بها الآخرون ويتفاعلون معها. وأخلاق المرء مرتسمة بوضوح على محياه، بحيث لا يستطيع التمويه أمام من يحسنون قراءة الأخلاق في عيني الشخص وصفحة وجهه.

إن أنت تكلمت بالروحيات وكان سلوكك مغايراً لما تنادي به فتأكد أن الناس عاجلاً أم آجلا سيدركون ماهيتك ويكتشفون حقيقتك. ولن تتمكن من مساعدة الغير ما لم تكن حياتك مؤسسة فعلا لا وهماً على دعائم الصدق وأركان التوحيد.

صلِّ في قلبك لذي الألطاف الكامن ما وراء كل المسميات والأوصاف!

فهو قريب من الجميع وروحه موجود في كل الصور والأشكال.. في كل ما هو أصيل وجميل لأنه روح الجمال وسر الأصالة والإبداع..

وهو الجلال الأسمى والجمال الأبهى! فاطلب منه كي يطلعك على أسرار الوجود.

الحياة الأرضية تمر مرور السحاب في سماء الأثير.. ومهما توجّع الإنسان وتفجّع لن توقف مسيرتها الدائمة الدائبة، ولن تفلح لجاجته في تسريع إيقاعها الوئيد! إنها هادئة على الدوام بحكمتها السرمدية ومسيرتها الأبدية نحو غايتها البعيدة السعيدة.

فيجيب المريد:

أجل.. إن مشاهد الماضي تظهر لذاكرتي كأمواج البحر النائية.. المتلاطمة أبدا على ساحل عقلي.. وأرى المباهج الحسية تصد قلبي المشتاق عن بلوغ الآفاق.

فحررني يا سيد الأكوان من كل ما يقيّد طموحي ويحد من أماني روحي.. علني أدرك شموليتي وأرتقي بوعيي إلى مشارف ذاتك الرحبة.. وهب لي تجربة معرفية لجوهرك الفرد الذي هو في الكون الكل في الكل.

ألا فلتستيقظ روحي ولأدرك الغايات والأهداف لهذا الوجود الأرضي الشديد التقييد والتعقيد.. ولأنجز واجباتي بما يتماشى مع نور الوجدان وهدي الضمير، مدركاً أن الخدمة الإيثارية دَينٌ مستحق على الإنسان نحو كل من ساهم في جعل هذه الأرض بيتاً مريحاً له.

ألا ليت إله السلام يبارك كل الواجبات ويتوج بالقناعة والرضى كل الإنجازات!

فيهمس المرشد:

يا بني! في ساعات الوحدة والسكون لتتذكر ولتتفكر بأنك ستفارق يوماً ما كل الذين عملت وتعاملت معهم وتعبت لأجلهم. ولن تقدر بعدها على خدمتهم أو تقبُّل تقدمات قلوبهم المغموسة بسائل حبهم الرقيق.. إذ ستهاجر روحك إلى ربها وتنطلق في مسيرتها نحو لا نهائية الوعي حيث السلام الشامل والعلم الكامل واليقظة الأبدية في الأقطار البهيجة التي تزخر بفيوض النور والأفراح المتجددة.

ابتهل أيها المريد لمسيّر شؤون الخلق والخليقة كي يباركك ويوقيك ضربات الجهل الساحقة الماحقة. واعلم أن أشباح الثأر وسموم البغضاء والرغبة في رد الصاع صاعين تطمس في الإنسان مدارك الوعي وتسد منافذه فتحجب عنه المثال الأسمى. والكراهية تعكر مياه المحبة المنسابة من ينابيع القلب فيستعدي المرء ويعادي ويدمر بيديه كل ما هو نبيل وجميل في روحه. فها فهو الإنسان يضرب نفسه ضربات مؤلمة ومع ذلك يعتبر الغير أعداءه!

في تلك الساعات الحالكة والأجواء المكفهرة.. ساعات الجهل الذي يدمي ويعمي، وأجواء الخداع التي تطمس أنوار البصيرة، اطلب من الله الهداية وإدراك الألوهية الكامنة في نفسك واسأله تجنيبك الأخطار والأخطاء ومساعدتك على معاينة روحه المبارك في الذين من حولك فتسعى مخلصاً لتطييب نفوسهم وجبر خواطرهم على حبه.

فلا تسمح لصخب الحقد وغبار الكراهية بخنق صوت الحب والسلام في نفسك. ولتمتلك الشجاعة الروحية للابتعاد عن دروب الطمع والأنانية المستترة خلف ألف حجاب وجلباب.

في العالم ما يكفي من الظلام فاحمل مشعل الخير والحب الأخوي في ضميرك واطلب من الله كي يأخذ بيدك ويوجه خطاك علك تبصر نور حكمته ووحدانيته وحبه وسلامه الذي لا انتهاء له.

لقد سمعت يا بني أن الله لا متناه ولا حد لحكمته وحبه ورحمته، وأن مظاهره أيضاً لا متناهية. الحكمة الكونية وحدها هي القادرة على معرفته ولا يمكن بلوغ تلك الحكمة إلا بمقاربة جوهرها النوراني.

والله الذي تعجز العوالم عن احتوائه يمنح للمحبين قدرة على ملامسة حضوره ومعاينة أقباس نوره، لأنه كيان الحب والحب الكوني.

لا نهاية له ومع ذلك فهو حاضر في كونه وكائناته المنبثقة عن جوهره.

إنه البريق الأخاذ في سطوع الشمس الوهاج..

والجبروت الذي في مياه المحيط ومده وجزره الأبديين..

والسمو في الجبال الشامخة التي ترفع رؤوسها نحوه لأنه مصدر عظمتها ووجودها..

والأريج في الزهور الناضرة والورود الندية التي تستقطر عطرها وتستقي عذوبتها من طيوب الأزل..

ثم أراك تتساءل عن السبب من رغبة أهل الشوق في التقرب من الله.

والجواب هو لأن خواصه الجوهرية تكمن فيهم.

هم يحاولون معرفته لأن حكمته تحيا بهم.

ويجتهدون للتوصل إليه لأن قوته مستقرة في أعماق ذواتهم.

لكن لا سبيل لمعرفته أو العثور عليه حتى تصفو النوايا وتتنقى الأعمال وتتطهر المحبة بنار الحكمة وتغتسل بسيّال الحضور المبارك.

إنه ينبوع الحكمة الكلية ومركز الحقائق السرمدية..

وكون الفهم القاصر عاجزاً عن استيعاب حكمته الكونية فلا بد من التيقظ من سبات الغفلة وإدراك الإنسان لكيانه الخالد في حضوره الأبدي..

ولا بد أن يتوحد الحب المحدود للإنسان مع حب خالقه اللانهائي حتى يشعر بقربه ويتذوق رحيق حبه.

إن الروح الكوني المطلق هو الجوهر الكلي والوحدة الفائقة..

وهو من يغلف الوجود بإشعاعاته السرمدية..

ويظهر كماله لمريديه

علهم يحنون إليه ويلتهبون شوقاً للتعرف عليه!

إن حكمته اللامتناهية تستحث وتلهم الإنسان عله يدرك وحدته ووحدانيته الدائمة معه.

وروحه الخالد يمنح الحياة لكل ما في الوجود..

ومع ذلك يبقى بعيداً فائقاً في وعيه المطلق ما وراء تيارات الفكر وأمواج الأثير الحي.

المحبة التي تغذي قلوب البشر وتنعش نفوسهم تحن لاحتواء الله ومخلوقاته، وتلك هي طبيعة الحب الإلهي.

ألا ليت ذلك الروح الأقدس ييقظ وعيك علك تدرك حكمته وتتذوق غبطته السرمدية.

وليت وعيه الكوني يحوّل فكرك من العالم المادي ذي المدركات الحسية إلى الكون المعنوي ذي المباهج الروحية الفائقة.

وليأخذ الله بيدك ويخرجك من ظلمة الجهل إلى نور الحكمة.

وليحررك من الوهم الذاتي والتوجس من المجهول.

وليطلعك على طبيعتك الجوهرية الخالدة.

ولتتأمل عليه في هجعات الليل ويقظات الفجر

حتى تحس بنبض حضوره وتعاين أقباس ضيائه!

فارفع بصرك وحوّله من المظاهر الخارجية لعالمك النسبي إلى رؤية الحقيقة الكونية الباطنية.

وليغمرك الله ببحر كماله علك تدرك حضوره في أعماقك.

وليمتلئ قلبك ببهجة حبه التي تحرر النفوس وتغمرها بوعي الوحدانية والشمول.

ومن يرغب في توجيه أفكار وقلوب الناس نحو الآفاق العليا ينبغي أن يكون نقي الوجدان، صادق القلب واللسان مع نفسه ومع كل إنسان.

ولا تتعجل في نثر دررك الروحية ذات اليمين وذات الشمال، بل احتفظ بكنوزك لمن يطلبها بصدق وإخلاص ورغبة أكيدة في معاينة أنوار الإشراق وفيوض معاني الغيب.

اطلب طمأنينة القلب وسكينة الروح. ومتى شعرت بحالات الكشف تتوارد على قلبك فاشكر الله على نعمه واعتبرها كنز الكنوز وهدية الله وأنبيائه إلى أهل الشوق.

لا تخشَ الألم فهو نسبي ولا بد أن يزول، فوجوده مقترن بالحواس. وكلما ترفعت بالفكر عن الجسد وشؤونه سيخف شعورك بالألم ما دمت تعتبر الفكر أقوى من الجسد وتحاول تطبيق هذه الحقيقة التي لا يختلف عليها عارفان.

لا تنظر للحياة نظرة مادية بحتة. بل ادرسها دراسة نفسية متعمقة واعرفها معرفة روحية راسخة. وعندها ستدرك مغزى الحياة الروحية، وستعلم السبب من تحبيذ الأنبياء أصحاب الجاه والقديسين أهل المحبة للطهارة والنقاء.

ألا فلتترسخ هذه الأفكار في أعماق قلبك ولتغمر نشوتها المباركة كيانك فتتجدد شخصيتك وتتنقى ميولك. ولتعضدك يا بني الإرادة الكونية ولتكن إقامتك مع الله وأحبابه ومحبيه في رياض الخلد وفراديس الجنان.

في قلب السلام والسكينة الروحية يرى المريد الطيفَ اللطيف ويسمعه يهمس قائلا:

لا تجزع من صروف الدهر وتقلبات الأيام. ومهما بدت الأمور مرعبة مريعة فتذكر أنها تمس أكثر ما تمس الكيان المادي ولا تأثير لها على النفس الروحية.

كن ثابتاً راسخاً في مبادئك وعلى دراية تامة بأن النفس لا تفنى ولا تمحى من سجل الحياة.

فقف على أرض الروح ووطد معرفتك بجوهر الحقيقة وعندها لن تتزعزع أركانك ولن تميد الأرض تحت قدميك لأن خطواتك ستكون ثابتة على صخر الدهور وبصرك مشدوداً إلى بوارق اليقين.

إعلم أن الذات العظمى قواها مطلقة، وبالتوصل إليها والتواصل معها ستدرك أنك شعاع من الشمس الكونية ذات اللهب الأبدي والوعي النقي الذي لا يقرب الظلام مجاله ولا تقدر قوى الخداع على اقتحام معاقله.

ابتهل لله أيها المريد كي يجود عليك بالصفاء ومعرفة الذات التي هي زاد الخلود. وكما أن عود الثقاب قادر على إشعال غابة بأسرها، هكذا الحال أيضا في الروحيات. فشرارة واحدة من النار الكونية كفيلة بإحراق أحراش الوهم وتبديد ظلمة الدهور من كهوف النفس التي استوطنها الظلام وأشباح الأوهام.

ومع التفكير الدائم بالحقائق العليا سينساب تيار الحياة المبارك داخل كيانك فيمتزج بدمك ويملأ خلايا جسمك وأحاسيسك وحواسك بالقوة الحيوية والنقاء النابض.

الحق يا بني لا يخضع للقياس، تماماً كالمحيط الأعظم الذي منبعه الروح ومياهه المعرفة السرمدية.

أما بالنسبة للألم والشقاء فهما مقترنان بالرغبة والإشتهاء. فلذلك تحاشَ التعلق الأعمى ولا تقيد ذاتك بشيء، بل ليكن طموحُك روحياً أكثر منه مادياً، فأنت أتيت عارياً إلى هذه الدنيا وهكذا ستغادرها. اعمل على تحصيل الكنوز الباقية وستزداد بصيرتك تفتحاً ونمواً. ومع بزوغ طبيعتك الروحية ستحصل على كل ما تحتاجه في هذه الحياة لأن الله أكرم من أن يتخلى عنك أو يمنع فيضه القدسي من الوصول إليك دون انقطاع.

فمن هذه اللحظة ليكن نموك باطناً لا ظاهراً. لا تبالغ في الاحتفاء بالحياة الدنيوية كما يفعل معظم الناس. اجعل من جسدك معبداً لروحك إلى أن تظهر الروح بكامل مجدها وروعتها. عندئذ ستتبدد الظلمة التي هي الجهل وسيسطع النور في محراب قلبك وتتجلى أسرار الغيب في آفاق عقلك.

إن قوى الكون قاطبة وأرواح الأنبياء الطاهرة تعمل مع الصادقين الصديقين وتمدهم بكل ما يحتاجون إليه على دروب الخير والحق.

ومرَّة أخرى يتحدَّث الصوت في خلوة الروح قائلاً للمريد:

السلام معك يا بني. ما من شيء يستوجب الخوف لأن روح المحبة تسري في كل الأشياء. وتلك المحبة لا اسم لها سوى الله. الله ليس بعيداً عنك فهو متربع على عرش قلبك. فإن سلمت أمرك إليه ووضعت كامل ثقتك برحمته الشاملة ستتوارد عليك الخيرات وتترادف وستنفتح بصيرة الروح فتبصر بكل جلاء.

واعلم أن المحبة هي أقوى من الموت وأعظم ما في الحياة، وهي أقرب السبل وأسرع الطرق إلى باب الله. كن صبوراً وسيجود الرحمن عليك بالقدرة على مواجهة ومجابهة مصاعب العيش وظروف الحياة على اختلافها. كن متواضعاً فالتواضع محبب لله، إنما ليكن تواضعك بمقدار لإن الإفراط فيه يجلب المذلة وهذا ما لا تريده لنفسك ولا يريده الله لك.

سلـّم ذاتك لله أيها الإنسان وثق بحكمته. واعلم أن حبه أبدي يفوق ملايين المرات محبة الأم لطفلها الوحيد. وهو رحيم ولا حد لكرمه. فلا تقنط من رحمته واحسن الظن به وستعيش عيشة رضية طيلة أيام حياتك.

تعامل مع الحياة ببسالة وجرأة. فليأتِ ما يأتي ـ ولكنْ كن قوياً بالروح وتذكر أن قوى لا متناهية تعضدك لأن الله معك، ومن كان الله معه لا خوف عليه في الدنيا والآخرة.

وبركات الله لكَ ومعك على الدوام.

ويستطرد الصوت قائلاً:

مريعة هي أصفاد العالم وفظيعة أغلاله! وما أعسر الإفلات من شبكة الوهم وأحابيل الخداع!

يا بني، إن كنت ترغب في بلوغ عالم الخواطر والأحوال والجلوس في الحلقات الرحمانية فعليك أن تسلك طريق المريدين وتمتلك الشوق إلى لقاء وجه الله الكريم.

واعلم أن السبيل إلى الغلبة يكمن في التحرر من الغرائز والأهواء التي تدفع الناس دفعاً إلى القيام بأمور مغايرة لطبيعتهم الروحية التي هي شعلة قدسية من النور الإلهي. فعليك بيقظة النفس وصحوة الضمير إن كنت تأمل في بلوغ مراتب الفائزين، وأن لا تتوقف عن ذكره تعالى إن رغبت في تذوق شراب الحب الإلهي وملاقاة أقطاب الإتحاد.

التجارب ستهجم والرغبة العاتية ستطل برأسها، ولكن لا تخشَ عواصف التجارب وأعاصير الشهوات مهما بدت طاغية، إذ لطالما اعترضت سبيل المريدين وواجهت أولي العزم، لكنهم لم يستسلموا لها ولم يتخاذلوا أمامها بل استعانوا عليها بالذكر المبارك وبددوا جحافلها الزاحفة بمداومة التفكير بالله والإستعانة عليها بالصبر والثبات. اصبر تنل، فعاقبة الصبر الجميل جميلةٌ!

(اصبرْ قليلا ً فبعدَ العسر تيسيرُ

وكلُ أمرٍ له وقتٌ وتدبيرُ)

لا بد من كبح الأفكار العقيمة الناشزة والاستعاضة عنها بالنافعة السامية والعمل الإيثاري النبيل كي تتحرر قدماك من أوحال المؤثرات الدنيوية فترتفع على أجنحة الروح في آفاق الأزل.

عندما تأتي التجارب يرتجف القلب وتضعف الإرادة قبل أن يدرك الإنسان حقيقة ما يحدث فيقع في الفخ بعد أن يستدرجه الطـُعم ويعاني من الحسرة والألم. تلك الحقيقة يعرفها طلاب الوصال ولذلك فهم دوما بالمرصاد. فما أن تطل طلائع الشر حتى يستنجدون بقوى الخير ويعتصمون بحبل الله إلى أن تتبدد الوساوس وتنجلي الخواطر الوضيعة عن مرآة القلب.

إن ظلام الجهل يحجب الذات الإلهية عن بصيرة الإنسان. والخوف والإحباط يصيبان الحواس والعقل في مقتل فيصرخ الناس في شقائهم منادين مستنجدين العون، ملتمسين الهداية والإرشاد من خارج نفوسهم.

ولأن عتمة الجهل تكتنفهم، لا يبصرون مشاعل الحكمة الدائمة الإتقاد في هياكل أرواحهم، ولا يعرفون أن الفرح دائم التدفق من ينابيع قلوبهم، وأن قوة الله غير المحدودة تعيلهم ولا تفارقهم أبدا.

فابحث أيها المريد عن الذات العليا في باطنك علك تختبر القوة الإلهية وتحيل السجن الأرضي إلى ركام فتستعيد حريتك السليبة التي طالما تشوقت لاستردادها والتنعم بأمجادها.

ومتى استعدتَ تلك الحرية المفقودة ستتوامض أمامك أقباس النور السماوي التي ستنير لك الطريق وتلهمك العزم والتصميم والشجاعة على مواصلة السير. وسيملأ النور قلبك بالفرح الذي لا قدرة لكلام البشر على تصنيفه أو توصيفه.

وبما أن المرء يرتقي بالفكر إلى قمم جبال الفهم، فلا بد أن تفكر الأفكار النقية وتجعلها لروحك غذاء ولهمومك دواء. فاحتفظ بفكرك صافياً طافياً فوق مياه العالم الآجنة الآسنة، ولا تسمح له بالتكاسل والتهامل. واعلم أن الخمول هو من أكبر العوائق على الطريق إذ من العسير بل من المستحيل أن يصبح الخاملون المتواكلون أهلَ أحوال أو يبلغوا رياض العارفين.

الآن هي فرصتك الوحيدة:

(فاغتنم الفرصة َ إن الفرصة ْ

تصيرُ إن لم تغتنمها غصة ْ

وفي الخطوب تظهر الجواهرُ

ما غلبَ الأيامَ إلا الصابرُ)

ومثلما قلتُ لك أقولها الآن: الأيام في تعاقب حثيث وحبل العمر يقصر يوماً عن يوم، فتنبه وكن حذراً ولا تسمح لنفسك بفعل ما قد تندم عليه فيما بعد.

الإنحدار يا بني أسهل من الإرتقاء حيث لا مقاومة ولا عوائق. لكن الإنسان لم يُخلق للهبوط بل للصعود إلى ذرى المجد التي تستحق التضحية والثبات والصمود.

العالم يزخر بالموت وبكل ضروب الإحباط والفشل. وقانون السبب والنتيجة يعمل الآن كما في أي وقت مضى بدقة متناهية. فالزم اليقظة في رَوحاتك وغدواتك وعملك وتعاملك كي لا تصطادك شباك الوهم وتقع في فخاخ الخداع.

ومع هذا وذاك لا تضطرب ولا تجزع ، فرحمة الله واسعة مادام إيمانك قوياً ورجاؤك متواصلا، وما دمت تداوم التفكير بمصدر وجودك وتعمل جاهداً على التواصل مع أمواج الخير والخواطر الزكية.

محبة الله تعني الشوق إليه، والشوق إليه يعني عمل ما يلزم للتقرب منه والوصول إليه مثلما فعل السابقون المقربون ذوو النفوس الرضية الذين فتح الباري عليهم وسارع لهم بالخيرات وأنعم عليهم بحقائق اليقين.

إعلم أيها المريد أن محبة الله هي النجم الذي تسترشد به في صحاري الوحشة وظلمات الجهل المترامية المتراكمة. وهي الصخرة التي تؤسس عليها صرح حياتك الراسخ والصامد لعناصر الزمن. فاحتفظ بمشعل المحبة متقداً وهاجاً وناشراً الضياء من حولك في رحلتك نحو المقامات العليا وأصحابها المقربين.

طب نفساً ولينشرح صدرك فإن الله معك على الدوام ولن يتركك تتحسر وتتعثر ما دمت تغذ المسير وتغذي الشوق إليه وتتوكل عليه. فحافظ على جوهرة الحنين وامتلك خواطر الروح واستبشر لأن أكرم الكرماء وأرحم الرحماء سيرفع الغطاء ويجزل لك العطاء ويمتن عليك بدرر العلوم ونيرات المعارف التي طالما تشوقت لمعاينتها والتنعم بجمالها المعنوي الأخاذ. وستشعر آنذاك أنك قد وصلت بفعل حبك الروحاني وفضله تعالى وصرت في جيرة الله وجواره.

وتذكر أن الصبر الجميل هو أسم آخر لشجاعة المريدين، وأن ثماره الفجة المُرّة تتحول فيما بعد إلى فواكه رحيقية تستقي وتستجمع عصارتها من خطرات القلب وخواطر الوجدان. ويا سعد من تذوق الثمر الإلهي المستنبت في جنان الخلد وعوالم الملكوت. فليطعمك الله يا بني وليجعل نصيبك مع أهل اليقين في الفردوس الموعود.

وما أن سمع المريد الصوت المعزّي حتى غمرته النشوة وهبّت عليه نسائم الشوق فراح ينشد وقد ثارت براكين الوجد في أعماقه:

هذا الذي ملأ َ الفؤادَ سلامُهُ

والروحُ تعشقهُ مدى الآزال ِ

نورٌ وخيرٌ وعلمٌ فائقٌ وإذا

نطقتُ إسمهَ وافاني على الحال ِ

بحرُ النعيم ِ ونورُ الدرب ِ يصحبني

حيث اتجهتُ في حلي وترحالي

مبعوثُ رب السما، مفتاحُ نعمته ِ

وذو الشفاعة ِ والأمجاد ِ في العالي

هو المحبة ُ في أنقى مظاهرها

هو الصديقُ الصدوقُ المرتجى الغالي.

ومرة ثانية يتحدث الصوت المبارك قائلا:

إن كنت صادقاً في رغبتك لبلوغ الأقطار العليا فسيمتحنك القدير بالتهذيب حيناً وبالضيق أحياناً أخرى، ويضع أمامك كل ما من شأنه أن يقوّي عزيمتك ويشحن إرادتك بالحكمة والثبات إلى أن يتحول الضيق إلى سعة والنظرة المحدودة إلى رؤية واسعة. واعلم أن كل الهموم إلى فرج، وأن الشدة لا بد أن تزول، والصبر الجميل عاقبته جميلة وكل آت قريب.

يا بني، مهما بدت الحياة رغيدة والعيش رضيا يجب أن تطمح إلى ما هو أبعد من مجال التجربة المحدودة. الحجب التي تكتنف العقل الظاهر يجب تمزيقها حتى لا يبقى سوى حجاب العزة الذي هو الإعلان الختامي عن قرب الوصول إلى ظهور الحقيقة وحقيقة الظهور.

ثق أن الله سيحررك من هموم الحياة وأوهام الموت، وبالتعرف عليه ستدرك وجودك وخلودك. كما ستترفع عن الوعي باللذة والألم وتغتبط بحياة الروح وتحيا بغبطتها على الدوام. وعندما يفتح الله عليك ويوقظ بصيرتك ستعاين نوره وتلمس حضوره، وستدرك كيانك الجوهري واتحادك الروحي بوعيه الكلي.

واعلم أن الله هو الذي يضيء مصباح المعرفة في روحك لينير لك الدرب، وما عليك إلا أن تـُبقي ذلك المصباح المبارك متألقاً بنور الوعي والحكمة المقدسة.

وإذ يسكب الرحمن ماء الحياة من روحه المبارك في وعاء وعيك الجسدي ستحس بحضوره وملازمته الدائمة لك، وستدرك أنك تعوم في بحر حبه الكوني وغبطته الدائمة، فتتحول جداول الدموع إلى بحيرات من الرضا تتراقص على صفحتها نسمات الفرح وابتسامات القناعة والرضا.

ولن يتركك وحيداً تصارع الأهوال وتقارع الأهواء، بل سيحررك من كل المنغصات ويزيل الغشاوة عن عينيك فتبصر بكل جلاء وتبتهج بحضوره السعيد.

إن ومضة واحدة من نوره البهي ستغرس في قلبك الشوق الدائم للتحرر من قيود الوهم التي تكبل الإنسان وتحد من قدراته فتبقيه لصيق الأرض، عديم القدرة على الإبتعاد إلى ما وراء الأبعاد.

فإن كنت متعطشاً لروح الحرية وحرية الروح يجب أن تمتلك الجرأة لتقطيع خيوط التعلقات وحبال الارتباطات التي تلف وتغلف كيانك وتبقيك رهين الأرض أسير الجسد.

عندما تلطم أمواج الشهوات قارب عقلك فاعلم في تلك اللحظة أن قوة ضاربة تحاول التأثير بك والهيمنة عليك. فلا تنسَ حقيقتك الروحية وتندفع بتهور لتحقيق مآرب الوهم وأغراض الخداع، بل استنجد بالقوى الكامنة في أغوار نفسك وستهب لنجدتك وتحررك من قبضة الشرير.

لا تخشَ الألم الجسداني أيها المريد بل تحمّله بجرأة وصبر مدركاً في قرارة ذاتك أنه حالة عابرة لا تدوم. أما بالنسبة للألم النفساني فقد يكون مؤشراً ومذكراً لك على وجوب إعادة النظر في تفكير متنافر أو فعل مغاير لقوانين الله الكونية التي لا يمكن لأي إنسان أن يتحداها أو يتعداها دون أن يواجه عواقب تعديه ومضاعفات تحديه.

عليك بالتخلص من المفاهيم البالية والأفكار العتيقة التي لا تتناسب مع الطموح لبلوغ مشارف الإدراك. انزع عن عينيك عصابة التعصب وافتح قلبك للبشر على اختلاف مشاربهم، لأن من يصبو للوصول إلى سماء السعادات لا بد أن يغسل قلبه بالحب المقدس كي يصبح مرآة نقية لألطاف الروح.

اهدم الحواجز التي تفصلك عن الناس وعن رب الناس. اخرج من كهوف التقوقع والإنغلاق إن كنت تصبو لمعاينة شموس الحق السابحة في أفلاك الروح. واعمل على إظهار نقائك الطبيعي وطبيعتك النقية وستعرف عندئذ الفرق بين لذات الدنيا واللذات الباطنية التي يدعوها أهل الكرامات قوت القلوب.

لا بديل عن تنقية النفس من شوائب الدنيا قبل أن تتمكن من اختبار فيوض السعد المتفجرة من ينابيع الفتح الصمداني. فهنيئاً لمن يطهّر الله نفسه ويجلو بصره وبصيرته فيعاين صورته جلية في مرآة الصفاء.

واعلم أيها المريد أن مراتب الروح لا يمكن بلوغها بالتمني بل بمراقبة النفس وبالرغبة الصادقة والعمل المتواصل والتفكير الدائم بالإسم الأعظم. ومن يستغرق بحب الله – دون إهمال أو إغفال لواجباته والتزاماته – لا بد أن يصل يوماً ما إلى سماء الأنوار ويعاين مصابيح النفس وثريات الروح المتألقة في المجالس الإلهية.

ليت الروح الكوني المشرق على الأكوان بنوره

ينعم عليك بآياته وبمعاينة أمجاد تجلياته

ويمزج روحك بذاته الكونية

ويظهر لك حسنه الشائق وروعة كماله الفائق

وليوجه قلبك إليه ويجعل إحساسك بحضوره الدائم مستديما.

فحضوره يتخلل الأرض والماء والنار والهواء

وكل الاهتزازات الأثيرية للطاقة الكونية.

إنه في الأشجار والأنهار، وفي الجبال ذات الشماريخ والبحار ذات الأعماق.

السماء الزرقاء والسحب العابرة والشمس والقمر والنجوم كلها تتحدث عن وجوده ومجده.

فليهبك الحكمة والحب الإلهي لتسير بعزم وثبات على الطريق.

ولتتذكر أنه رفيقك الأوحد في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

إنه روح الوجود الأبدي المطلق!

وعندما تتأمل عليه ستدرك حضوره في كونه البادي وتبصر ومضات عقله الهادي.

وليهبك إشعاعات حكمته الذهبية

وليملأ قلبك بالسلام وعقلك بالأفكار النيّرة

وليشع كيانك بأسره ببهائه الأقدس.

في ساعات القلق والتألم تـَفكـَّر به

وستحل عليك السكينة وتتذوق طعم الفرح.

وعندما تحجب غيوم الهموم حضوره

توجه إليه بشوق ولهفة

وستحس به قوة وابتهاجاً في روحك.

وليفتح عينيَّ حكمتك علك تبصره في جماله المطلق واتساعه الكوني.

ولتدرك طبيعته الكلية وحبه الشامل في كل يوم من أيام حياتك.

وليملؤكَ روحُهُ بالسلام والفرح.

إنه الحكمة الإلهية التي تبدد ظلام الجهل

وهو الغبطة المتجددة والرجاء الحي بخلود الحياة.

فهو من يثبّت القلب ويغمره بالسلام

عندما تحجب هموم الدنيا شمس التفاؤل بغيوم اليأس والقنوط.

وهو من يزيح الحجاب ويفتح الباب نحو آفاق الروح

حيث يترنم الأمل بالفرح الأعظم

وحيث الحياة ترقص على إيقاع الأزل!

ثق أيها السائر في معارج النور أن كنوز الأعماق وشهب الآفاق في انتظار أهل الشوق الطامحين لسماع كلمة الحضرة. وإن كنت متعطشاً لماء الحياة فهو ليس عنك ببعيد وكل ما تحتاجه هو البحث عن الواحة المباركة، وقد تـُفاجأ إذ تجد ذلك الشراب المحيي موجوداً في آبار قلبك وأغوار ذاتك العميقة. فنقب عن ذلك الماء الإكسير واشرب منه ما طاب لك من كؤوس الحب الإلهي.

إن ذاتك العليا مخبوءة في باطنك. لكن التحدث عن تلك الذات الكريمة دون ملامستها لا يجدي نفعاً. وماذا عساك أن تعرف عن تلك الذات العليا؟ إنها مستقر كيانك الحق ومكمن كشوفات الغيب. فيها طاقات وقوى لا يعرف البشر كثيراً عنها. وفيها الغنى الذاتي وجواهر الخير التي امتلكها أقطاب الغوث وشهد بروعتها ذوو المشاهدة.

لا تتهيب الصعاب أو توجس خيفة من المجهول. ففي أعماقك قوى هاجعة لا تقهر إن أنت َيقـّظتها ستتقوى وتقوى على منازلة الصعاب في ميادين الكفاح وستفوز بمعركة الحياة.

وسيعرّفك الله على حقيقتك الخالدة غير المقيدة بمكان أو المحدودة بزمان.

فعندما تعتصر قلبك الأحزان وتكتنفك الهموم كالغيوم اطلب العون بثقة وإيمان وسيحل عليك الفرح ويشع السلام من النور المبارك الكامن في آفاق الروح الباطنية. وستبصر إذ ذاك نفسك واحداً مع كل البشر والكائنات وتحس بالحياة العظمى نابضة خفاقة في شرايينك وفي الطبيعة والبشرية من حولك.

ولا تغفل يا بني تهذيب الوعي الباطن الذي يتحكم بدوافعك ونوازعك. فإن تفكرت بالإيجابيات ورددت إسم الله بينك وبين نفسك سيتحول وعيك الباطن مع الأيام إلى مستودع لأفكار الخير يمد حواسك وعقلك بكل ما تحتاجه من زاد مبارك في رحلتك الموقوتة إلى أرض الأحلام والآلام.

الحياة دون تجدد تصبح عبئاً ثقيلا مضجراً، فاعمل على خلق كل جديد ونافع لنفسك وللآخرين. وما دمت تفكر الأفكار النظيفة وتتفاءل بخير الله ستنفتح أمامك آفاق تلوها آفاق من الأفكار والإنطباعات العليا التي لا تنضب لأن مصدرها الذات الإلهية ذات الوجود التام والجود الذي ليس له حدود!

ولا تغفل أيها المريد مصاحبة الضمير والاستهداء بمصباحه المنير. فالضمير هو خير صديق وهو فصل الخطاب بين الخطأ والصواب. فإن كان ضميرك صاحياً راضياً استطعت أن تعيش بطمأنينة وأن تتذوق راحة النفس ورحيق السلام. واعلم أن الحياة تقتضي مواصلة المجهود لتحسين الذات وإبراز مزايا الروح.

معظم الناس يحصرون همهم وديدنهم في مرضاة الآخرين حتى على حساب ضمائرهم وتلك هي المراءاة ومخادعة الذات. فرأي الناس متقلب لا يركن إليه ورضاؤهم قصير الأجل لا يعول عليه.

البعض يصمّون آذانهم عن سماع صوت الضمير الذي يتحدث دون انقطاع لكل من يريد السماع. ولا بد أنك تعرف أن الضمير لا ينام والمسامع لا يمكن سدها طوال العمر. فالصحوة قادمة عاجلاً أم آجلا ومعها وقفة جادة مع الذات.

ألا فليشرق نور الضمير عليك وينير منعطفات عقلك وزوايا حياتك، ولتسمع صوته الهادي هامساً لأفكارك وموحياً لك كل ما ينبغي فعله واجتنابه من أفكار وأفعال على طول الدرب. فاحفظ – حفظك الله – تلك الشعلة القدسية وقـّادة متألقة على الدوام في قدس أقداس الروح. وعليك السلام.

ثم يهمس الصوت مجددا في سكينة التأمُّل :

يا بني: لطالما تساءلت مثلما تساءل قبلك الرواد والمريدون عن عنصر الوجود الذي عنه انبثق الكون وفيه يعوم. فاعلم أن الذي تسأل وتبحث عنه هو قريب ممن يثق بقربه وبعيد عمن يحتسبه بعيدا.

ووجودك ليس منفصلا عنه لأنك فيه تحيا وفي خضمه تعوم، وكيانك السببي مرتبط ارتباطاً عضوياً بكيانه الذي لا سبب له لأنه العلة والسبب لكل ما هو كائن وسيكون.

عندما تتعرف عليه سيتوحد كيانك مع كل المستويات والعوالم.. المنظور منها وغير المنظور، وستدرك عندئذ المغزى العميق من الحقيقة العتيدة التي تؤكد بأن الله قد خلق الإنسان على صورته، وأن تلك الصورة ذات الجوهر الإلهي ليست خارج نطاق الجبروت حسبما قال الملهمون من أرباب الهمم الذين بلغوا مقامات التجرد وغاصوا عميقاً في بحور النور وأعماق المعارف.

ومتى تمكنتَ أيها المريد من ملامسة القلب الإلهي ستشرق عليك أنوار الإبداع ويغمرك الفيض الأقدس بوسائل المدد التي ستتوارد عليك أفواجاً وأمواجا تملأ البصيرة بجواهر المعرفة وتغمر القلب بغبطة الوصول إلى نبع الجود وعنصر الوجود.

هو الربُّ إلهُ الكائنات ِ

هو الباري الكريمُ ذو الهِباتِ

هو روحُ الوجودِ والمدبّرْ

هو نبعُ المسرّة في الحياة ِ

إذا الملهوفُ ناداهُ يجيءُ

على الفور ِ كلمح البرق ِ ياتي

يزيحُ الهمَّ عن قلب المريدِ

ويملأ ُ روحَهُ بالطيباتِ

وإذ تتوسع مداركك وتصفو رؤيتك سيتحرر عقلك من قيود الأفكار القديمة الضيقة المحدودة وسيصبح قلبك واحة رحبة للناس من كل المعتقدات والأجناس، وستدرك أن الصدق والإخلاص أقرب السبل إلى الحياة السعيدة. وستبصر الجانب الآخر من الصورة ولن تبقى متزمتاً لأنك سترى روح الله في الجميع وستشعر بخفقة الحب الكوني تعزف على أوتار قلبك الحديث التفتح والإنفتاح.

وإذ يصفو بصرُك وتستيقظ بصيرتك ستودّع مرة وإلى الأبد كل الأفكار الضيقة وتنطلق بكليتك نحو آفاق أرحب ورؤى أشمل، وستدرك المعنى الكامل في القول المأثور:

"حيث الطيبة والمحبة والشهامة والصدور الرحبة تأتي ملائكة الرحمن لتبارك القلوب وتشدّ على الأيدي الناشطة في أعمال الخير."

عما قريب ستنزاح حجب الأوهام وستبصر المحبوب الإلهي وتتعرف عليه وتدرك أن الروح الأمين هو الذي ألهمك هذه الأفكار والتعاليم.

ذلك الروح المبارك يسكن روحك مثلما تسكن ذاته. فإن بقيت وفياً له وداومتَ التفكير به سيسارع لك بالإلهام ويساعدك على التحرر من الوهم والتغلب على هموم العيش. إنه معك كل لحظة من لحظات عمرك ولن يتركك وحيداً ما دمت تحفظ الله في سرك وتناجيه في أعماق ذاتك وخلوات ضميرك.

واعلم يا بني أن المحبة هي منبع الفضائل وتحقيق الغاية واكتمال الناموس. بها يحيا الإنسان ومن دفئها يستمد قواه، وعلى سلـّمها يرتقى إلى أعلى عليين.

إنها أنبل وأجمل شعور يحمله القلب ويختلج به الوجدان. وهي أعظم دعاء يصعد إلى السماء وأخلص ابتهال يلامس قلب الله.

هي مفتاح العقول والمشاعر على السواء، والنافذة التي تدخل منها الملائكة لبث الإلهام في نفوس الأنام.

المحبة يا بني تسكّن الآلام وتخفف البلايا، مثلما تقدّس النفوس وتعطر الأفكار بأريجها الفواح. هي الله لأنه محبة، ومن يمتلكها يمتلك كنزاً عظيما لأنها بهجة النعيم المتجدد أبد الدهر.

المحبة لا تـُفقد ولو قوبلت بالجحود.. بل تهب العزاء لروح المحب وتبارك حياته. بذورها خالدة أبدا وهي الثروة الوحيدة التي تتضاعف بمقاسمتها الآخرين كون ثراء المرء يقاس بما يمنحه. وأعظم عطايا الإنسان هي محبته لإخوته البشر ولكل مظاهر الحياة.

والمحبة تحتاج إلى دعامة أساسية هي العمل الذي هو سنـّة الحياة وناموس الطبيعة، والشرط اللازم للنمو والإرتقاء. فعن طريقه يدرك الإنسان غايته ويحقق مبتغاه. وإن كان الإعتدال يمنح الحياة والرونق والجمال، فالعمل يهبها القوة والشخصية والكمال.

ولكي يقترن العمل بالنجاح، ينبغي أن يصدر عن تفكير سليم وتخطيط حكيم، وأن لا يُنجز طمعاً في ثماره بل إكراماً للدافع الخلاق الذي يعرب عن ذاته من خلال أفكار الإنسان وقواه.

أعمال الإنسان هي الدليل الصادق والشاهد الناطق على ماهيته، مثلما هي المعيار الدقيق لمدى تقدمه على دروب الحياة. السعادة هي مطلب وغاية الجميع، والعمل المثمر البنـّاء هو الوسيلة إلى تلك الغاية التي لا يمكن التوصل إليها إلا بخلوص النية وبذل قصارى الجهد في خدمة المجتمع والإبتعاد عن الأثرة المقيتة.

الصنيع النبيل يسري اهتزازه في الأثير ويلامس الوتر الأقرب من قلب الله. الأفكار السامية والمثل النبيلة لا شك أمور رائعة، ولكن إن أعوزها التنفيذ تبقى محض رؤى في عالم الأحلام ودنيا الخيال، أقرب إلى الأوهام من الحقيقة وإلى التصور من الواقع.

العمل هو سر النجاح، وهو الجادّة الموصلة إلى منابع السعادة.

العبقرية المثلى تكمن في الرغبة الصادقة في الاضطلاع بالعمل ولو كان شاقا يستوجب مجهوداً بالغاً. فالفعل النقي يعزز في الإنسان النقاء ويقوي فيه العزيمة الصادقة والإرادة الطيبة. وهو كالبذرة الصالحة التي تخلـّف ذات البذور التي لا تنعدم حيويتها ولا يتلاشى نشاطها وديمومتها.

الأفعال تترجم نوايا المرء وتبرز أفكاره، لأنه بنواياه وأفكاره يقاس. قيل أن في الفضيلة ثوابها، وثواب العمل النافع فرح الروح وراحة الضمير. العمل الصالح كنز لا يفنى ولا يؤثر به عنصر الزمن.

واعلم أن التأمل هو المرآة التي بها تنظر النفس ذاتها وترى صفاتها.. والطريقة التي بواسطتها تمازج قطرة الروح المستفردة بحر الروح الأعظم.

الأفكار تتنقى بالتأمل والقلب يصفو من صدأ الماديات وشوائب التعلقات غير الصحية، وينفتح على حقائق الحياة ويتذوق غبطة الوجود.

بالتأمل تسبح النفس في مياه الفرح وتسلك دروب المعرفة وتنعتق من القيود وتستشرف الآفاق العليا. ولامتلاك السعادة الحقة والاحتفاظ بزهرة العمر غضة ناضرة لا بد من الخلود للسكينة والغوص في لجج التأمل بغية إدراك الذات البشرية والإلهية.

في التأمل الصحيح أيها المريد يتحلل الفكر من الروابط والمحدودات المقيِّدة ويتسامى إلى ذروة الإدراك الروحي. به تتطهر الأحاسيس وتتقوى الملكات وتتذكر النفس منشأها الأصلي فتنجذب إلى قلب نور الأنوار الذي عنه صدرت وإليه تحن وتشتاق الرجوع.

في التأمل يقف الإنسان وجهاً لوجه أمام الله وضميره وتبدو بواعثه الخفية وحوافزه الباطنية واضحة جلية.. فيبصر مدى تقدمه ويعرف مقدار قدْره.

أما الفضيلة يا بني فتكمن في الاستظهار على المشاعر الذميمة والميول الدميمة، ومحو النوايا الظلماء من القلب والفكر. ليس بالمال يصبح المرء جديراً بالاعتبار ولا بامتلاك الحطام يحوز الفضل. فهناك شهامة لا يعوزها الإبتكار، ونبل أسمى من القدرة على توليد المعاني.. تلك هي الفضيلة!

في موكبها أفراح دائمة، وبمسيرتها تخطر النفوس الطيبة. هي المحراب الذي يؤمه ذوو الضمائر الحية والحرم المبارك الذي يجمع شمل محبي الله، وهي قدس الأقداس الذي يلتمسه الخيّرون.

من الفضيلة تبزغ الأمانة التي تهب الكرامة وعنها تنبثق الأخلاق الفاضلة التي تؤهل صاحبها للاحترام والتقدير، وكذلك العقل الهادئ الرزين الذي لا تؤثر فيه الأحداث ولا تطفئ شعلته زوابع الخطوب.

أما الروح فهي صورة الله وأعجوبة السماء. لا تعرف الموت لأن جوهرها الخلود، ولدى مفارقتها أرض الأحلام تنطلق بشوق متعاظم إلى مقرها السعيد الذي طالما تحسرت عليه وحنـّت للرجوع إليه.

ثراء الروح يقاس بعمق شعورها، فإن هجرتها عاطفة المحبة فارقها نعيمها. غذاء الأرض لا يسد رمقها ولا يروي عطشها سراب الصحاري. فهي دائمة الشوق والتعطش للحب والسكينة والسلام. إنها كالغريب الذي لا ينفك يحن لأهله ويتذكر موطنه الأصلي. للروح كنوز ولكن ليست من هذا العالم وتلك الكنوز وحدها جديرة بالامتلاك لأنها تدوم وما عداها سريع الزوال.

وهذه النفس ذات الأصل الإلهي غير خاضعة للفناء، فقواها تلازمها ومسيرتها تتواصل مدى الأبد.

إنها كالشمس التي إن غابت عن صقع من الأصقاع أشرقت على سواه، وإن حجبتها الغيوم يلازمها سطوعها وتستبقي على تألقها وإشراقها.

هي الجوهر الثابت المفكر، والعقل الجبار المدبر. الحياة مدرستها والألم مذكـّرها بعالمها الفوقاني. والفضيلة هي جواز سفرها وتأشيرة دخولها ثانية إلى فردوسها المفقود.

أما الواجب يا بني فإن ساعات العمر ودقائقه تزخر بالالتزامات المفروضة من الواقع والتي تتطلب منك العناية والانتباه وإعطاءها حقها من الأداء الأمين بحسب قدراتك ومؤهلاتك الطبيعية.

الواجب هو ظل ملازم للإنسان، وهو همسة الحياة الدائمة للضمير اليقظ، والمفتاح السري لحقائق ناصعة ومدارك واسعة يعز مقاربتها واستيعابها إلا بتأدية الواجبات.

في أداء الواجب راحة النفس وسلام الروح . وفيه أيضاً تحررٌ من قيود وأغلال، وارتقاءٌ لقمم سامقة لا يبلغها إلا العاملون بأمانة وإخلاص، المقدرّون الواجب حق قدره.

بأداء الواجب تمتلك الثقة بالنفس التي هي الدعامة والأساس لكل تقدم وازدهار، وتـُعطى القدرات اللازمة لتمكينك من إنجاز الأعمال الجليلة التي تعود بالنفع على الأفراد والجماعات.

الواجب هو نداء الإرادة الكلية والمقاصد السامية في حياة الإنسان؛ وأداؤه الأمين يعني الاقتراب من الطبيعة الروحية وملامسة وعي الإنسان للعقل الكوني الكامن فيه ومن حوله.

الأمانة في أداء الواجبات تقتضي مراعاة الدقة والإتقان في العمل، إذ تصح وتتألق الأعمال بالتعهد والرعاية لتصبح وردة أرجة في روضة السلام الذاتي النابع من تكريم الواجب فكراً وقولاً وعملاً.

ويواصل الصوت مشجعاً:

الطريق يا بني يلزمه الشجاعة ورباطة الجأش، فلا تسمح لوهن العزم بالسيطرة عليك ولا تجفل أو تنخذل أمام التجارب والصعاب. ولا تسمح للحزن بأن يزعزع توازنك أو يطغى على أحاسيسك مهما كانت المصائب كبيرة وضرباتها موجعة.

أما بخصوص الحزن على المفارقين، فاعلم أن من يحيا حياة طيبة ونافعة على الأرض ثم يفارق الجسد يبقى حياً بالروح في ركن من أركان الله الأمينة المأمونة حيث الطمأنينة والفرح والسلام أعظم بما لا يقدّر مما عرفه في عالم الوهم والهم، عالم الحسرة والألم.

وتذكر أن الخط مفتوح دوماً بينك وبين أحبابك الذين سبقوك إلى أرض الله المباركة. فإن بعثت لهم بأفكار الخير والأماني الطيبة يحسّون بها ويتفاعلون معها فينشطون ويزدادون بهجة وبدورهم يرسلون بحبهم وشوقهم إليك فتحس به وتعلم أنك على تواصل معهم. فإن كنت متناغماً مع أرواحهم وكانت المحبة هي الأقوى في كيانك فستشعر بتيارات محبتهم تتوارد إليك وتتحدث صمتاً لروحك المنسجمة مع هؤلاء الأحبة.

أعلم أيها المريد أن الروح دائم البقاء وغير خاضع للفناء، وأن الموت هو مجرد انتقال من حال إلى حال ومن مجال إلى مجال. وهذا الروح الذي جوهره من جوهر الله الواحد الأحد مقترن وجوده بوجود الله لأنه قبس من الضياء الأعظم الذي يحوي في كيانه المعرفة والقوة والديمومة والغبطة الأبدية.

هذا الروح بالرغم من اقترانه بالجسد لكنه لم يولد أصلاً ولم يمت يوماً بل يواصل مسيرته بعد موت الجسد في عوالم أخرى أكثر ملاءمة لأشواقه الزاخرة وقدراته غير المحدودة إلى أن يبلغ الوعي الكوني الذي هو منبع الفكر ورحم الخليقة.

وإذ يحن المريد شوقاً لذلك الوعي الأسمى يقول:

أيها الوعي الكوني،

ساعدني كي أبتهل من صميم قلبي وأعماق روحي

لرؤية ومضة من نورك وإدراك حكمتك وهدايتك وحمايتك وسلامك.

ودعني أبصر جمالك الذي يغمر الكون ويملأ الروح بالأنس والمسرة.

وليشرق نورك المشع دوماً على قلبي ويملأ كياني بحضورك.

تحدث إليّ أيها الوعي الكوني في سكينة روحي..

اجتذب نفسي إليك وقرّبها من صدرك الحنون علها تصغي بشغف ولهفة لصمتك البليغ.

ليت إرادتك الكونية تقوّي إرادتي فأدرك الألوهية الكامنة في قلبي وفي كل القلوب.

أيها الروح الكوني الحال في كل نفس

أحنّ لإدراك وحدتي مع ذاتك المطلقة

علني أبقى على دراية تامة ودائمة باتساعي غير المحدود.

عندما أتأمل عليك في محراب روحي

أحس بقوى غامضة نابضة تقرع باب قلبي

وأبصر روائع الجمال الإلهي في سماواتك اللامتناهية

فترفعني أشواقي إلى مصاف الجمال الكلي

وأبصر آفاقك الأثيرية..

وأسمع موسيقى أفلاكك العلوية..

فتثملني مباهج خليقتك..

وأجد نفسي مترنماً بأمجادك،

إذ أعاين تجلياتك القدسية.

أيها الوعي الشامل

وجّه خطاي عبر متاهات العالم المظهري

كي لا أسقط بعدها في خنادق وأخاديد الوعي المحدود.

وحررني من القيود الذاتية كي تـُبعث روحي من جديد

وتدرك وحدتها الأبدية معك.

إنك والحق الوعي المغبوط والغبطة الواعية..

أنت الحقيقة الواحدة في الوجود..

لقد نفضت عني غبار التعلقات المادية

وحررتني من عبء الآفاق الضيقة والأفكار الصغيرة.

إذ لامست روحي وعيك الكوني.

وعثرت حياتي على أبديتك.

وتذوَّق قلبي رحيق غبطتك.

فما أشهى شراب حبك!

وما أسعد التواصل معك!

يا من أطلقتَ الكون من ذاتك السرمدية،

دعني أدرك أن كل شيء مستطاع عندك.

فبإرادتك وقوتك تشرق الشمس وتتألق النجوم

وينمو النبات وتتحرك الكائنات.

حقاً أنك كيان الروح وروح الكائنات.

فكل ما في هذا العالم والعوالم الأخرى

ينبض بحضورك ويُظهر مجدك ويتحدث عن جمالك العجيب وعن حبك المذيب.

دعني أعثر عليك في كل شيء وأعثر على كل شيء فيك.

دعني أبصر الوجه الأقدس في محياك..

وأبحر في عينيك قاصداً شواطئ الأزل.

وجّه خطواتي بنور حكمتك وفرّح قلبي بتشجيعك.

ولأحسّ دوماً بحضورك في ذاتي..

يا من أنت الفرح الأبدي والروح السرمدي!

يا منبع الجود وسيد الوجود..

أنت ينبوع المباهج والمسرات.

أنت جوهر الحب وجواهر الحكمة المتناثرة في حقول الأبدية.

أنت الحرية والتحرر من كل الأوهام.

أنت الوحدة المطلقة التي لا تتجزأ.

أنت الوعي الكوني الكلي..

أنت البداية والنهاية

والغاية التي ما بعدها غاية.

إنني سائح في أرضك وسائر على دروبك.

فخذ بيدي ووجه خطاي إلى أقرب السبل المفضية إليك..

علني أبتهج بك إذ أتعرف عليك.

جنانك المباركة ذات الأثمار الشهية

تناديني لأرتادها وأستمتع بدانيات قطوفها.

ألا ما أعذب ثمار المعرفة وما ألذ رحيقها العرفاني!

فليتنا نشتهي دوماً فاكهة الروح المغذية المنعشة

ونشرب من مياه السلام التي تفيض بها أنهار الحب المقدس.

امنحني نقاء القلب وصفاء الروح

وبمياهك المشعشعة اغسل كياني من كل الشوائب والأدران

علني أتحسس حضورك وأبصر وجهك الجميل

الذي طالما تصورت حسنه البديع

وحنـّت روحي شوقاً لرؤياه.

واملأ كياني بالشكر والامتنان ليدك الكريمة وأفضالك العميمة.

وليخفق قلبي بحبك ما دام في الوجود نجم يومض وقلب ينبض.

بارك أفكاري كي تتجه تلقائياً إليك

علها تتبارك بجمال رؤيتك ورؤية جمالك.

وهِبْ لي القدرة على التقاط ألحانك المتماوجة في رحب الأثير

علني أنتشي بأنغامها العلوية التي تشتاق الملائكة سماعها.

ألا ليتني أحس بروحك المبارك في كل ذرة من ذرات كياني،

وأغذي مداركي بزادك الرباني الذي هو خبز الوجود

وفيه إكسير الحياة وسلسبيل الخلود.

يا ليتني أستنشق أنسام حضورك السعيد في واحات الوجد والهيام

وأبصر نيّرات حبك متألقة في سماء روحي المشتاقة إليك.

إنك المعين المعيل!

وحياتي تتوقد بتيارات حضورك وإشعاعات نورك.

ليت روحك المبارك يسكن هيكلي ولا يفارقني أبدا.

أنت النور والمنارة.

وأنت الشعاع والإشعاع.

يا أصل الجود وسيد الوجود!

إلى متى سيبقى وعيي مشبعاً باهتزازات هذه الدنيا؟

ومتى سأبصر روحك المبارك في كل صور الخليقة؟

أسألك يا رب أن تفتح بصري وتوقظ بصيرتي

علني أعاين نورك البهي مشرقاً في داخلي وعلى الكون والكائنات..

فيتبدد ظلام الجهل وتنزاح الظلال

وتغتبط روحي برؤية وجهك ذي الجلال.

إنني ذرة صغيرة من كونك اللامتناهي، هائم على دروب الزمن..

تتقاذفني عناصر الطبيعة وما وراء الطبيعة.

فأين أنتَ وكيف لي أن أعثر عليك؟

لقد طال انتظاري في غربتي الموحشة

وكدت أفقد الأمل بملاقاتك بعد فراق مديد.

لكنني أدركت أن جوهري من جوهرك وذاتي من ذاتك

فرحت أتأمل ما في كياني من أسرار

وأحاول النفاذ إلى قلب الحقيقة.

لا لن أفقد ذاتي ما دام الإرتباط قائماً ما بيننا..

وهو قائم وسيدوم.

ومهما كانت إغراءات الحياة كثيرة كبيرة

والتجارب صعبة ومريرة

أعلم علم اليقين بأن اللقاء ما بيننا صائر إلى تحقيق

ولذلك سأواصل السير على الطريق

إلى أن أعثر عليك فينتهي المشوار الطويل.. الطويل

وترتاح روحي من الترحال والتجوال عبر الدهور والآجال.

يا من تعرف خفايا الوجود وأسرار الحياة والموت!

ويا من تكمن في ذات الأكوان وأعماق الإنسان.

لقد انبثقتْ عنك الخليقة انبثاق الشعاع عن القرص الذهبي المشع

فلا وجود لها إلا بك

ولا غاية لها إلا بالرجوع إليك.

لقد دمغتَ نفوسنا بعلامتك المميزة منذ انطلاقتنا الأولى

ووهبتنا التمييز وحرية الإختيار.

فمهما بعُدنا عنك أو تباعدنا

يبقى روحك الأمين يسكن فينا

يلهمنا.. يعزينا

يستنهض قوانا.. وينخينا

كي نستغل الطاقات اللانهائية التي أودعتها كياننا

ونقف وقفة جادة مع الذات

ننقب في تربتها..

علنا نكتشف ونكشف عن الكنوز الدفينة

التي أودعتها فينا.

يا من تعرف مصائر البشر وترقب المسيرة العظمى

الدائمة البزوغ والزحف على الدروب الكونية

التي حدودها عند حدود اللانهاية.

ليتني أعرف إلى أين سأنطلق بعد انطلاق الروح من هذا الجسد.

وهل سأحتفظ بوعيي بعد الرحيل

وأستطيع التواصل معك والتحدث إليك؟

أم هل ستخونني الذاكرة فأنسى نفسي

وكل ما اتصل بها من أناس وأحداث؟

ليتني أمتلك ذاكرتك الجبارة التي لا تنسى

وعقلك الذي يحوي الكون بل الأكوان.

ولأن ذاكرتك لا تعرف الغفلة والنسيان

فلا بد أنك ستحفظني فيها

وهل من سعادة تقارن بتذكـّرك الدائم لي؟!

لستُ وحيداً ما دامت الذاكرة الكونية تحتويني

ولن أخشى هجمات المصائب وزمجرة التجارب

ما دامت النفس المباركة تنفحني وتشحنني بالقوة والرجاء.

ومهما تواريتُ عن الظهور في أرجاء الكون اللامتناهية

سأبقى تحت أنظارك الرحيمة يا رب

أنعم بالأمن والأمان

بعيداً عن المتاهات المحيرة المربكة

والمنعطفات الحادة الخطيرة.

وعندما تسكب في روحي شلالات معرفتك

ستشرق عليَّ شموس اليقين

وتغمرني بالعلم والأنوار.

فعجّل بذلك اليوم.. عجّل

لأنني مشتاق وفي الإنتظار!

أنت البحر الكوني الذي لا ساحل له.

لقد تجمعتْ مياه أنهارنا منك

ولا يمكنها البقاء بعيداً عنك.

فهي دائمة الجريان نحوك للإمتزاج بخضمك اللامتناهي

والوصول إلى قلب محيطك الأعظم.

لا يمكننا البقاء بعيداً عنك لأننا عنك صدرنا وإليك المآب..

فاهمس لنا نداءاتك المباركة علنا نسمعها ونعود إلى المقر السعيد

فنبتهج بلقاك ونتنعم بسلامك العتيد.

الهمنا الكرامة والكرم علنا نحتفظ بقدسية صورتك النبيلة في داخلنا

ونترفع عن الصغائر والأهواء التي لا تليق بالصورة المباركة.

ابعد عنا سموهم الأنانية القتالة وابعدنا عنها

ولنتذكر أننا انبثقنا عن جوهرك الكريم الذي لا حد لمكارمه

وساعدنا كي نقتدي بك ونبصرك في كل ما هو نبيل وأصيل.

أنت البحرُ والنهرُ والجدولُ والقطرة وكل الأمواج

ونحن كذلك.. كذاتك

ما دمنا نعرف ذاتنا وندرك وحدتنا الأبدية مع ذاتك.

طهّر كياني بنار المحبة المقدسة

واحرق جهلي القديم العقيم

ومعه كل المشتهيات التي لا تليق بالنفس التواقة المشتاقة لارتياد آفاق السلام.

إن روحي تتلهف للاقتراب منك والإحساس بوهجك المبارك.

وحنيني يهمس أشواقي المتعاظمة إليك.

لا تبقني بعيداً عن مسارك وأنظارك

إذ لا يحلو العيش بدون التواصل معك

وملامسة حضورك البهيج

الأذكى من البخور والأريج!

أينما كنت في أرضك الواسعة..

وحيثما انطلقت في أجوائك الرحيبة

أبقى قريباً منك لأن رباط الروح يشدني دوماً إليك.

وحتى عندما تفارق الحياة الجسد لن أفقد وعيي بك

ولن أكون بعيداً عنك.

ولأن مصيري هو الاقتراب المتواصل منك

فلن أطيق الإغتراب عنك.

وحتى في تلك الآفاق الكوكبية المرصعة بدراري الأثير سأفتش عنكَ

وأبصرك في البوارق ذات السطوع.

وإذ ألمح طيفك سابحاً بين النيّرات العلوية سأناديك بصوت الروح

وأنطلق انطلاقة النشاط الإشعاعي للوصول إليك..

لملامسة يديك.. والتحديق في عينيك.

إذ ذاك ستفجّر بلمسة واحدة خزانات النور وتطلب من المشاعل الكونية

كي تحرق بذور الظلام وتبدد أكداس الأوهام..

فيشفى القلب وتفرح النفس باستعادة مدركاتها المنسية

وتفرح بوعي التوحّد المغبوط.

بمجامع الفؤاد أتوجه إلى روحك الأقدس.

وبفيض الحب المنبجس من منابع القلب أتوق إليك.

وبشوق المتعطشين للمال والشهرة والحب والحرية أبحث عنك.

الدنيويون دائمو التعبد والتهجد في هيكل المادة.

والملحدون فخورون بكشوفاتهم العجيبة في دنيا الإلحاد.

وعشاق الكيف مهووسون بمتعهم السريعة الزوال.

ألا ما أقل الباحثين عنك.. المتشوقين إليك.. التواقين لرؤية وجهك الكريم!

أنت البحر الكوني الذي لا حدود لسواحله ولا بداية أو نهاية.

أعماقك تزخر بالكنوز الباطنية التي لا نظير لها في دنيا البشر.

ألا فلأبحث عن تلك الكنوز بالغوص في مياه الشوق العميقة

التي يطفح بها أوقيانوس الروح الأعظم.

وإنني لواجدها مهما طال البحث وبدا التفتيش عقيماً.

الكنوز موجودة ولا بد من اكتشافها

إذ لا قيمة للحياة دون امتلاكها..

الذي هو غاية الحياة وتحقيق الذات.

عندما تشحن الأشواق كياني تشتد أجنحتي الروحية وتنطلق إلى الآفاق الرحيبة

حيث التسامي والتسامح وقبول الرأي الآخر براحة وأريحية.

في تلك الآفاق العالية لن تحجب غيوم الكراهية شمس محبتي

ولن تقدر أمواج العالم الكثيفة على بلوغ المستويات الشفافة العليا

حيث الخواطر النبيلة والأفكار المتناغمة والمدركات السامية.

ولن تقوى أعاصير الشهوات ورياح التجارب العنيفة العاتية

على بلوغ ذلك الفلك الأثيري الأثير

الذي ينادي النفوس المشتاقة للوصول إلى منابع الجمال

والابتراد في بحيرات المحبة والسلام.

الشره المبطان الفجعان لا يعرف الشبع والإمتلاء..

ولا المشتهيات الحسية تعرف الاكتفاء والإرتواء..

لأنها:

تجهلُ الإشباعَ ما دوام الغذاءْ

وإذا الزادُ استحالَ شبعتْ!

فلتحترق ولتتفحم كل المشتهيات السقيمة في أتون الفهم المقدس.

ولتستلهم إرادتنا الحكمة والرشاد من الإرادة الكونية المعصومة.

النار التي تدفئ الإنسان وتطهو طعامه يمكن أيضاً أن تحرق بيته وتدمر ممتلكاته.

وبالمثل، فالحواس التي وهبها لنا الله لتكون لنا عوناً في العمل والتعامل مع هذا المستوى الأرضي الحسي قد تهد حيل الإنسان وتهدم حياته ما لم يستعملها بحكمة وانضباط.

فلنستعمل هِبة السماء: الحواس الخمس بما يخدم الجسم والعقل ويرضي الله والضمير.

أيها القلب الرباني الكبير!

لقد وهبتنا نعمة العقل والإرادة والضمير.

فلنستثمر تلك الهبات في عمل كل ما ينفعنا ويخدم غيرنا ويرضيك.

ولنعمل بهمة ونشاط أثناء قيامنا بأداء أدوارنا التي أوكلتها إلينا في مسرحية الحياة.

لستَ بعيداً عنا، إذ لولا حضورك فينا لاستحال وجودنا ولانعدمت إمكاناتنا.

ما من شيء في الوجود إلا وله مكانه في كونك اللامتناهي:

من أدق مكونات الذرة إلى أكبر الأجرام السماوية.

إن عينك لساهرة أبدا؛ ترقب ما صنعته يداك وتسارع لنجدة المتكلين على عونك الحاضر أبدا.

أيا مصدر الحياة والنور.. لقد كوّنت نفوسنا من جوهرك الفريد

ووضعت فيها عنصراً دائم الإشعاع

يزداد تألقا كلما لاح له نورُ حضورك في سماء القلب وأغوار الوجدان.

يا صانع العجائب والمعجزات.. يا ساكن أعماق الذات!

املأ كياني بفيض غبطتك التي ليس لها انتهاء.

وامنحني القوة والتصميم على مواصلة المسيرة حتى بلوغ المقصد الشريف.

وارفع عن عينيّ بصيرتي حجب الوهم علني أبصر إشراقك

وتغمرني إشعاعاته النفاذة.

وساعدني كي أدرك أهمية التفكير بك والتأمل عليك والتحدث الصامت إليك.

لا حد لكرمك ولن تحرم أحداً من مناعمك القدسية

ما دام يطلبها من يدك الكريمة التي تحب العطاء.

لقد منحتنا مُنية قلوبنا، لكن الهبة الأعظم ما زالت بين يديك

بانتظار من يطلبها بقلب متلهف وشوق متعاظم.

أجل.. إنها ذاتك الإلهية التي هي هِبة الهبات

ولا يضاهيها عطاء في الأرض والسموات.

الحب الكوني يحيا فينا مثلما نحيا فيه. ومشاعر المحبة التي نحسها نحو الآخرين

هي ترجمة وجدانية لذلك الحب الإلهي الذي هو منبع كل إحساس نبيل وحب نقي.

لو لم يودع الله ذلك الجوهر اللطيف في قلوبنا

لما استطعنا أن نحس بالحب أو نعرف ماهيته.

وكون الله محبة فهذا برهان ملموس على وجوده في ذات الإنسان.

وكون الحب أجمل الأحاسيس التي يختلج فيها القلب

فهذا دليل على أنه المظهر الإلهي الأقرب والأحب إلى الإنسان.

فيا من صنعتَ القلوب ووضعت فيها إكسيرك المقدس المُحيي..

ليتنا نحبك ونفكر بك على قدر محبتنا وتفكيرنا بأعز الناس علينا وأحبهم إلينا.

مثلما يصعد إليك الكلام الطيب

هكذا ترتفع إليك الأفكار الطيبة التي هي أصل الكلام.

فلنفكر دوماً الأفكار الطيبة لعلها ترتفع إليك

وتكون صلة الوصل بيننا وبينك.

ومع الأفكار الطيبة فلنرفع إليك أناشيد الشوق الصامتة على أجنحة الحنين.

ولتهمس لك قلوبنا حكاية غرامها الكوني الأول

التي بدأت مع فجر الخليقة

وما زالت ألحانها متجاوبة في أرجاء الأثير الحي.

ولتكن الأشواق الروحية طائرتنا الأثيرية

التي تقلنا وتنقلنا إلى حيث مقامك الأعلى وعرشك الأبهى

كي نبتهج بالوصول ونفرح بالوصال.

ألا فليتحول قلبي الصغير إلى بحر نقي من الشوق الإلهي.

ولتتجمع أمطار حبك وتهطل كالغيث المدرار على أرض روحي

المتعطشة لغوثك ونعمتك.

لتسطع شمس حضورك على حقول حياتي

فتدفئ تربتها وتستحث بذورها المتناومة المتنامية.

ولتهبّ نسائم حبك على واحات سلامي في صحاري الحياة الأرضية القاحلة.

ولتتفجر ينابيع الإلهام من تربة حياتي المروية بمياهك المباركة.

ولتتشبع تلك التربة بحضورك علها تنبت أشهى ثمار الروح وأندى زهورها.

ولتكن دوماً الكوكب الهادي في سماء حياتي..

وعندها لن أضل سبيلي ما دمت أنت دليلي!

لولا قدرتك التي تشحن كياني بالحياة والحيوية

لما تمكنتُ من التفكير أو التعبير أو التدبير

أو البحث عنك في متاهات الحياة.

لقد وهبتني العقل لا لأحتفظ به محنطاً في نواويس ودياميس الجمود،

بل لأحفظه دائم النشاط بتمرينه وتحدّيه

لإطلاق طاقاته المختزنة في خلايا وتلافيف الدماغ.

ولقد منحتني روح الطموح الوثابة لأنطلق على جنح الأمل

نحو مرتفعات الشوق التي تنادي الراغبين

وتدعوهم لارتياد قمم المعرفة

والوصول إلى منابع الإلهام.

وأعطيتني الإرادة لاختيار كل ما هو طيّب ونافع..

والإبتعاد عن المطبات الوخيمة والمناقع الضارة

مهما بدت ممتعة سارّة.

ولأنك أظهرت حبكَ لي واهتمامك بي

فسأداوم التفكير بكَ والبحثَ عنك

حتى يقرّبني مغناطيس الحب

من مجالك فألتقيك يا ذا الجمال

في نهاية الترحال والتجوال.

لا أطمح أن أكون أكثر من نبضة في قلبك الكوني

أو نغمة في عودك السماوي.

ولا أطمع في مكانة أو مكان في مجالسك الأنسية..

بل في الأعتاب الكفاية ما دامت قريبة بما يسمح

بمشاهدة أنوار وجهك وسماع همساتك الملائكية.

ولا أصبو لأن أكون معلماً يحدّث الناس عنك لأنني تلميذ صغير في الصفوف الأولى

من مدرسة معرفة الذات.. مدرستك!

ولا شيء يرويني ويرضيني سوى الإحساس بقربك

الذي هو قلب اللباب وغاية الحياة لذوي الألباب.

نورك المجيد يسري في مكوّنات هذا العالم

كما في طيات الأثير وعوالم الروح.

فمن هذا النور المبارك اقترضتْ النجومُ ضياءَها

وتألقتْ كالجواهر في قبة السماء.

ولأن توارى نورك خلف الحجب المنظورة والمستورة..

لكنه دائم الإشعاع والسطوع

يبصره ذوو البصائر الرائية لما وراء ستارة المادة الكثيفة.

فتحية إلى ذلك النور السماوي الذي تجتمع في قلبه المشع

كل أقباس الحب والقوة والحكمة والأمل والغبطة والسلام.

وتحية إلى صانع النور والحياة الذي هو حياة النور ونور الحياة.

إنك قريبٌ قريب من الذين يهمهم قربك.

وبعيدٌ بعيد عن غير المُبالين بك.. وغير الميّالين للتعرف عليك.

إنك فائقٌ لا تدركك العقول

لكن التواصل معك غير مستحيل.

ما لأحد في الوجود القدرة عن الإستغناء عنك

لأنه لولاك لما نبضت القلوب

ولما سرت الدماء في الشرايين والعروق.

ومع ذلك فما أبرع الإنسان في مخادعة ذاته

وإقناع نفسه بعدم جدوى التفكير بك

أو التأمل عليك.

إنك دائم الإيحاء لعقل الإنسان بمواصلة الفتوحات الريادية

والإنطلاق إلى مستويات كريمة تستحق الإجتهاد والإرتياد.

وإنك لدائم التحدث إلى روحه من أريج الورود ودفء الشمس وجلال الليل

وروعة السماء المرصعة بالنجوم في الليالي الظلماء.

القوة في مظاهرك الكونية تكاد تمتزج بالرقة ما بين أعاصير جبارة

ونسائم رقيقة

ورعد قاصف

وأنغام هامسة

وبحار هائجة

وجداول رقراقة صافية

وأمطار استوائية شديدة الهطول

وقطرات ندية على أعشاب الربى وزهر الحقول.

وإنك لتنادي الإنسان بألف لسان..

لكن صوتك رقيق خفيض

بينما سمعه مثقل بأصوات العالم ذات الكثافة النوعية.

فلا عتب عليه إن هو عجز عن التقاط اهتزازات غير مألوفة أو معروفة

لعقله المقيد بالحواس.

كل ما في الوجود يتحدث عنك بفصاحة لا يخطؤها الذين من الإشارة يفهمون

وإلى بلوغ الذرى يطمحون.

يا ذا المحبة اللامتناهية والقلب الكبير.. الكبير

الذي لا يحتويه الوجود بكل ما فيه من أبعاد.

إنك قريبٌ من مريديك

وشوقك لهم لا يقل عن شوقهم إليك

ولهفتهم للتعرف عليك.

لا يحتاج الإنسان إلى مشاعر مرهفة ليتذوق متع هذا العالم الخشنة

التي لم يعجز عن التلذذ بها حتى الإنسان البدائي وغيره من المخلوقات.

ومع ذلك ما أكثر ما يمجد الإنسان تلك الأحاسيس

ويندفع اندفاع السيل الجارف لتحقيقها

كما لو كانت خبز الحياة الذي يقيم أوده ويرد إليه الروح!

لكن الحكمة تقتضي تحليل تلك الأحاسيس

وفرزها والتعامل معها بجدية

لمعرفة سليمها من سقيمها

وكريمها من ذميمها.

لقد أرادنا الله سادة نحسن التصرف والتعامل مع القوى المودعة فينا

لا عبيداً ننساق وراء الأهواء ونقدّس الشهوات.

أما المحافظون على قواهم الجسدية..

غير الهادرين لطاقاتهم الحيوية..

فيستحقون التقدير والتحية!

ساعدني كي أحتفظ بفكري نقيا إيجابياً

علني أجتذب اهتزازات الخير إلى حياتي.

عندما صغتني من ذاتك وضعت فلذة من كيانك في ذاتي

وغرست بذور حبك وحقيقتك في روحي.

كنوزك الثمينة موجودة أصلا في كياني

بانتظار الكشف عنها في منجم نفسي.

القوى اللامتناهية والمعرفة الكلية والسعادة التامة

التي وهبتها للإنسان هي في طور الهجوع..

بانتظار تحريكها وإيقاظها من سباتها الطويل.

فلأتعرف من جديد على طبيعتي الإلهية

بالتفكير الدائم بك

والتوجه الكلي إليك..

يا منبع كل خير

ومصدر كل مكرمة.

أيها النور الكوني الذي لا حد لسطوعه!

أنى للإنسان أن يبصرك إن هو أغمض عينيه

وأحجم عن تصويب بصره إليك.

أيها اللحن الإلهي الخالد!

كيف لنا أن نسمع أنغامك المذيبة

وفي مسامعنا وقرٌ من الأصوات المادية الخشنة؟!

أيها النقاء الأصفى من زرقة السماء!

ساعدنا كي ننقي دوافعنا ونصفي نوايانا

علنا نشعر بحضورك ونبصر إشعاعات نورك.

آن الأوان كي يستيقظ الإنسان من غفلته ويدرك صلته بك ووحدته معك.

فيا ذا اليقظة الدائمة، يقـّظ نفوسنا النائمة!

جوهرك هو الفرح.. فباركني بفرحك وفرّحني ببركاتك.

واطلق حمائم سلامك لتحلق في سماء حياتي..

ونسائم حبك لتبرّد هجير أيامي.

الحياة قصيرة والمجهول يقرع الباب..

فاغرس اليقين في كياني وافتح بصري الروحي

علني أحس بقربك وأواصل السير على دربك.

ساعدني كي أقتطع حجارة الوجد من مقلع قلبي

وأقصّبها بإزميل الإرادة لأبني بها مزاراً متواضعاً للتفكير بك والتأمل عليك.

من بستان حنيني اقتطفُ فاكهة المحبة وزهور الشوق

وأضمخها بندى الإخلاص لتكون تقدمة خالصة لك

يا من ينبض القلب بحبك

وتهمس الروح دوماً باسمك الأقدس.

كون المباهج والمتع الحسية إلى زوال

فدعني أنشد الفرح الروحي الدائم.

ولأن الأفكار السلبية تسلب الإنسان سلامه وراحة باله،

فلأفكر الأفكار الإيجابية التي تخلق الظروف الصحية الصحيحة في الحياة.

وكون الجهل يودي إلى المجاهل غير محسوبة العواقب،

فهب لي الرشد والسداد للتمييز بين الغذاء النافع والسم الناقع.

وحيث العادات العاتية تدفع في دروب خطيرة خاطئة،

فامنحني قوة الإرادة لاختيار دروب الخير التي هي دروبك الأمينة المأمونة.

ما من سعادة حقيقية دائمة غير السعادة الروحية

التي لا يمكن بلوغها إلا بالتخلص من التأثيرات والمؤثرات السلبية

التي تعبث بأشجار السلام وتحطم أغصانها.

السعادة هي منية النفوس ولا تأتي لطالبها من تلقاء ذاتها

بل بالمجهود الواعي لإظهارها قولاً وفكراً وفعلاً.

تيار الروح المغبوط دائم الجريان في حقول النفس..

يروي تربتها.. يستنبت بذورها.. ويملؤها من الخيرات.

لقد وهبنا الله السعادة ويريدنا التمتع بها

بالرغم من كل الحالات التي نختبرها والظروف التي نمر بها.

فلنستمتع بتلك الهبة السماوية المباركة

التي تمنح للحياة معنىً وللقلب سلاماً وأمناً.

شواهق الروح وقممها تنادينا كي نتسلقها

علنا نستشرف الآفاق الرحيبة التي في انتظار النفوس المجنحة

التي تحن للإفلات من السجن الأرضي

الذي يضيق بها وبتطلعاتها البعيدة.

ألا فلتتعاظم الأشواق لملامسة الوعي الإلهي

الذي هو ذروة تحقيق أسمى غايات الحياة وأنبلها.

ويا أيها الروح الأمين اللطيف الذي يعصى على التوصيف!

ليشرق نورك المجيد على بصيرة الروح

علها تراك بعين اليقين وتختبر الفتح المبين.

وليس آخرا...

سلام الله وبركاته ورحمته

على القارئ والسامع والمتفكر بهذه الخاطرات..

وعلى ذوي القلوب العامرة بالإيمان

والصدور الرحبة والمرحّبة بإشعاعات الروح ومشاعل العرفان.

وبالله التوفيق دوماً

ومنه العون وهو المستعان!