الدجل والتزييف بين العلم والتخريف

الدجل والتزييف بين العلم والتخريف!

مقال للدكتور مصطفى بهران

-----------------------------------------------------------------

كتبت هذا المقال قبل أكثر من عام ولم أنشره حينها فقد تسارعت الأحداث فتوارى المقال ووضع جانباً، وبما أن الوضع الوطني لا يزال قاتماً، ولا يعلم إلا الله بما سيأتي، فمن المفيد إشغال الذهن بقضايا حقيقية ومفيدة لعلها تصل إلى أذهان القارئة الكريمة والقارئ الكريم فتحدث فرقاً إيجابياً خاصةً أن زمن الحرب يسمح للكاتب أن يكون أكثر مباشرةً وأقل دبلوماسية وبما أن هذه الصفحة المتواضعة تحدثت مؤخراً عن التخريف والتزييف فمن المناسب نشر هذا المقال بعد أن عُدل وأُضيف إليه فلعله يفيد! النقاش مفتوح في إطار آداب الحوار وحقوق المعرفة والتخصص! مع أنني أفضل النقاش بعد انتهاء كل الحلقات. الحلقات الأولى والثانية والثالثة والرابعة والخامسة نزلت في المنشورات الخمسة قبل هذا مباشرة، وهاهي مجمعة هنا في منشور واحد في خانة المذكرات الفيسبوكية وذلك على سبيل التوثيق.

الحلقة السادسة مؤجلة إلى أجل غير مسمى!

-------------------------

كتبت فيما مضى عن الزيف والمزيفين في الإعلام والسياسة، وهذا الشأن بالتحديد أضحى جلياً للجميع ولم يعد بحاجة إلى توضيح، واليوم في هذا المقال البسيط أكتب عن كثير من الدجل والزيف والمبالغة والجهل والتهويل فيما تنشره وسائل الإعلام والمواقع وينشر في الوسائط الاجتماعية بشأن العلم والعلماء بما في ذلك الإبداع العلمي والاختراع. تعج صحفنا ومواقعنا الالكترونية الخبرية وصفحات الفيسبوك وحسابات تويتر بأخبار عظمة الدارسين والعلماء والمخترعين اليمنيين الذين لو صدقنا ما نقرأ عنهم لحسبنا أننا تجاوزنا أمريكا أو اليابان وأوروبا تقدماً، وأغلب ما نقرأ هو زيف أو تخريف مخلوط بحسن نية أو بجهل أو بالأثنين معاً، وبعضه زيف موجه أو مدفوع الأجر، فالجرائد والمواقع الخبرية على النت ليست في الغالب صادقة في أمور السياسة أساساً فما بالنا بأمور العلم الذي لا يفقهوه، فمحرريها هم غالباً من غير العلميين، وجهلهم العلمي هذا غالباً ما يكون بحسن نية، فهم في ظنهم يقومون بإظهار عظمة أبناء اليمن (اعتقاداً منهم أن هذه العظمة العلمية موجودة)، وهم في الحقيقة يفعلون العكس تماماً فيضيفون للواقع ما ليس فيه، فأين العظمة العلمية اليمنية أيها الناس، بل أين العظمة فينا في هذا الزمان بالله عليكم وقد أوصلنا نحن اليمنيون بلادنا إلى ما هي فيه؟ لا شك أن بيننا شيء من عظمة فردية هنا أو هناك، ولا شك في عظمة الشعب الذي يتحمل ما لم يكن يتوقعه أحد صابراً محتسباً، ولا شك في عظمة اليمن خلال العصور ولكن ليس في هذا الزمان، فلا عظمة جمعية مشتركة في هذا الزمان القميء! إن حجم القبح بين الذين يتصدرون المشهد اليمني كما تعلمون مريع! شئنا أم أبينا: بالمقارنة مع غالبية الأمم الأخرى، خاصةً المتقدمة منها، لا عظمة علمية يمنية تذكر بل ليس لدينا سوى قليل من الجودة العلمية في حالات فردية محدودة أغلبها ليمنيين خارج الوطن وقليل منها ليمنيين في الداخل (والأسباب معروفة)، وبالتالي هؤلاء المحررون في الصحف والمواقع يضيفون للواقع ما ليس فيه أو يُطبّلون لشخص ما لسبب ما أو بدافع أو مصلحة ما، مثل التطبيل الذي وصل حد الترشيح لأعلى مناصب الدولة، لشخص لابد أنه ماهر في تخصصه، تقول المواقع الصحفية أنه اخترع جهازا مهماً وآخر تقول بأنه عظيم زمانه ... الخ، وهذه إن صحت إنجازات كبيرة فعلاً، ولكنها لا تصنع منهم علماء بالضرورة كما لا تصنع منهم رؤساء حكومة أو قادة دول، فصناعة جهاز على أهمية تكنولوجية وعملية ولكنه لا يعني بالضرورة أن تحوله الصحافة إلى أعظم علماء العصر وهو في الحقيقة قد يصنف بأنه عالم وقد لا يصنف بأنه عالم أساساً، وهذا لا يُنقص من جودة وأهمية ما أنجز فله الاحترام وله مكانته في ممارسة اختصاصه، لأن العالم هو من ينتج علماً، والإنتاج العلمي لا يعترف به إلا من خلال النشر في الدوريات العلمية، وتزداد أهمية هذا الإنتاج كلما زادت الإشارة إلية من قبل سائر العلماء فيما ينشرون، أما غير ذلك فهو غير ذلك، أو التطبيل ليمنية قيل أنها حصلت على دكتوراه (ليست في مجال العلوم بل في في مجال له علاقة بالعلوم وتحوم شكوك حول الدكتوراه نفسها)، فإذا بحثت عن إنجازاتها وأبحاثها في الدوريات العلمية لا تجد شيئاً، حتى ما كُتب عنها في ويكيبديا لا مصادر متعددة له وتقول ويكبيديا العربية أن ما كتب عنها ضعيف المصدر ومحل شك، بل أن ويكيبديا الانجليزية في النهاية ألغت صفحتها باعتبار الموضوع شكل من أشكال النصب، وكل ما ستجد عنها هو حديث في مواقع غير علمية عن إمرأة توصف بأنها عبقرية، وقد تكون كذلك ذكاءاً، ولكننا لا نجد لها أثراً في عالم المنشورات العلمية محل الاعتبار والثقة، وبالتالي لا بأس من تمجيدها تحت أي عنوان تشاؤون، ومرحباً بها كأنثى يمنية متميزة، بل هي فعلا "شاطرة" فقد صنعت لنفسها حضوراً إعلامياً فوق العادة، ولكنها ليست من العلماء، فإذا كانت مزورة فلا فرق بينها وبين المزورون الرجال وما أكثرهم ("جيزها من جيزهم")، فالتمجيد في الإعلام العربي هو حديث بلا حرج، فهذا النوع من التمجيد لما ليس صحيحاً ولا حقيقياً موجود في الاعلام العربي كثيراً وليس اليمني فحسب وأقبح وأسوأ مثال عليه شخص مزيف ودجال عربي هو الأكثر دجلاً على الإطلاق لأنه يستغل محبة الناس للدين من جهة ويزعم أنه عالم فيزياء من جهة أخرى كونه كما يقال حاصل على الدكتوراه في الهندسة المعمارية (دجله وزيفه يدفع إلى الشك في أمر حصوله على الدكتوراه في الهندسة بجداره)، وهو يدجل ويزيف بشكل محترف يكسبه مالاً كثيراً من محطات تلفزيونية بعينها باسم الدين والعلم معاً، وهو ليس فقيها دينياً ولا فقيها فيزيائياً (لا يفقه في الفيزياء شيئاً)، بل "فهلوياً" دجالاً لا أكثر، وقد سمعته أكثر من مرة لعلي أجد فيما يقول شيء من العلم فلم أجد إلا "عصيدةً مبرقطةً" تُستخدم فيها مفردات وتعابير فيزيائية لا يعرف قائلها ماهيتها ولكنه لا يخجل أبداً من استخدامها، والمحصلة جهلاً ودجلاً وزيفا ًقبيحاً بدون حدود معروضاً على شاشات التلفزيون، يثير لدى الفيزيائيين رغبة في القيء، والمشكلة أن لهذا الدجال جمهور من الطيبين الذين يحبون الدين ولا يفقهون في الفيزياء فينساقون إلى دجله وزيفه بحسن نية وهم لا يدركون، فهو يبيع لهم مشاعرهم الدينية على أنها فيزياء وعلم حديث وهذا يروق للناس خاصة بعد أن أضحى الخلط بين الدين والعلم "موضةً" معاصرة في منطقتنا العربية.

أما المخترعون من النوع الذي يملئ المواقع الصحفية فحدث ولا حرج، وأغلبهم حسنوا النوايا بكل تأكيد ويعتقدون فعلاً أنهم مخترعون، وقد مر عليّ شخصيا خلال العشرين سنة الماضية العشرات من هؤلاء واختراعاتهم الظريفة من النوع البسيط أو المكرر أو الموجود من قبل ..الخ، وغير الظريفة غير ذات معنى أو الخزعبلاتيه ومنها ما وصف بأنه اختراع سحري لعلاج كل أمراض العصر من الأيدز إلى فيروسات الكبد وغيرها، علاج يشبه العصى السحرية أو "عفريت"سندباد الذي يصنع كل ما يخطر على البال، اختراع كان الرئيس السابق قد كلفني بالنظر فيه عندما كنت مستشاره العلمي وكان صاحبه الشيخ الشهير من كبار مؤيديه وفقهائه آنذاك (من "نزاغته" كلفني وهو يضحك فقد كان يهدف إلى الاستمتاع بما توقعه من خلاف بيني وبين الشيخ، والخلاص من موضوع الشيخ في آن واحد)، وقد أخذت تكليفه كما هي عادتي على محمل الجد، فالتقيت بالشيخ الشهير صاحب الإختراع السحري، وبالرغم من أنه كان لطيفاً متفهماً في بداية الأمر عند اجتماعنا معاً في مجلس رئيس الدولة بحضور طبيبين مختصين مازالا حيّان يرزقان، لكنه رفض لاحقاً أن يسلم عينه من علاجه السحرى حتى يقوم زملائنا في كليتي الطب والعلوم بإجراء الإختبارات عليها ومن ثم تنفيذها على المرضى ضمن بروتوكول طبي عياري منظبط بعد التأكد من خلوها مما هو سمي أو ضار، وقد تحجج الشيخ بأننا في الجامعة سنسرق حقه الفكري في العقار، فعرضت علية خطاب ضمان من رئيس الدولة آنذاك أو أي ضمان حكومي مناسب آخر فرفض قائلاً أنه هو وحده ورجاله هم فقط المخولون بتطبيق عقاره على المرضى ولنا نحن أن نشاهد ونسأل فقط، هو ورجاله ربما لأن بأيديهم البركة (ربما لأنهم يأكلون حبة البركة - مع أنني شخصياً ممن يأكلونها بل يعشقون رائحة وطعم حبة البركة السوداء الجميلة خاصة على الخبز والمعجنات)، وبما أنه لا مجال في العلم لتوثيق بركة هذه الإيدي فلم يكن ممكناً قبولها - أي بركة الأيدي، وكان رأيي يومها وما يزال هو نصيحة للشيخ الشهير بأن لا يقحم نفسه في مجال العلوم فيبقي تقديرنا له كرجل دين (موضوع الشيخ يذكرني دائما بالجنرال المصري المشهور بالـ"كفته" الذي زعم أنه اخترع علاجاً له قدرة مشابهة لعقار الشيخ وطبلت له بعض الفضائيات المصرية وما برح أن سقط أدراج الرياح كما سيسقط أي إدعاء مشابه)، ومن الإختراعات الطريفة حسنة النية التي مرت عليّ اختراع مسكين لرجل ساذج جميل طيب وابتسامة أصيلة وديعه تدخل القلب من أول مقابلة باع كل ما يملك من أجل أن ينفذ ما سماه "بندقية النار" التي يود أن يشتريها الجيش منه، وما جاء به هو اسطوانة كبيرة مملؤة بغاز الطبخ بظغط عالي مرتبطة بماسورة طويلة يخرج منها عمود لهب قوي وطويل نسبياً عندما يشعلها، هذا الرجل الطيب المسكين غير المتعلم إلا قليلاً لم يكن يعرف أن ما توصل إلية بسيط قد عرفته البشرية منذ زمن طويل جداً (بندقية النار سبقت الحرب العالمية الأولى بل يرجع أصل قذف النار للإغريق في القرن الخامس قبل الميلاد)، وأكثر الاختراعات طرافة هي تلك التي تولد طاقة من لاشيء، نعم هذا ما يعتقدون "طاقة من لاشيء"، وهي في الحقيقة لا طاقة و "لا شيء"، أما الذين يعتقدون أنهم دحضوا أو صححوا أو عدلوا نظرية اينشتين النسبية فعلى كثرتهم لم يكن ولا واحد منهم يعلم ما هي نسبية إينشتين أساساً (نظريتا النسبية الخاصة والنسبية العامة)، وحتى المتعلمين منهم لم يدركوا أن نسبية اينشتين هي رياضية أساساً ولا يمكن فهمها إلا إذا تعلموا الفيزياء جيداً بما في ذلك نوع من الجبر اسمه جبر الممتدات (tensor algebra) وهذا النوع من الجبر ربما لصعوبته لا يقدم في أي قسم من أقسام الرياضايت في أي جامعة يمنية بما في ذلك أهمها واقواها وهي جامعة صنعاء (كنت فيما مضى قد عرضت تدريس مقدمة عن هذا المقرر بصفة تطوعية لطلاب الماجستير في الفيزياء ولكنني لم أجد عدد كافي من الزبائن)، وهكذا تستمر المأساة فعلى سبيل المثال شاهدت قبل عامين تقريباً في قناة يمنية معروفة فيديو عن كيف أن اليمن زاخرة بالمخترعين العظام، وكيف أن القناة الرائعة هذه وجدت يمنياً في جعبته ثلاثين اختراعاً (ما شاء الله!)، وعرضت على المشاهد واحد منها يتمثل في قدرة هذا المخترع الطيب الموهوب على تشغيل سيارته من خلال تلفونه المحمول –هو فعلاً موهوب إذا ما أخذنا في الاعتبار تعليمه المحدود ولكنه ليس مخترعاً، وهذا ليس اختراعاً، بمعنى أن تشغيل السيارة عن بعد موجود ومتاح (ليس جديداً)، مع أنه يعكس هواية وفضول جميل عند هذا الرجل فلو كان تعلم كان من الممكن أن يخترع شيئا جديداً، وهكذا لا يتسع المكان للتعليق على كل ما تم تداوله مؤخرا من إختراعات فهي منتهيه وبسرعة ولن يتذكرها أحد ولن يشتريها أحد مثلما حدث لسابقاتها، والقاسم المشترك في أغلبها سذاجتها وطيبة أصحابها وقدر طيب من الذكاء غير الموجه، وقد يقول قائل أن العيب في الدولة ومؤسساتها التي لم تحتضن هؤلاء، وهذا أيضاً كلام حسن النية ليس إلا فالدولة معيبة لهذا السبب بكل تأكيد ولكنها معيبة لسبب أهم وأكثر جذرية من هذا، بل معيبة جداً فيما يتعلق بالعلم، فالعلم قليل في اليمن، بل قليل جداً، وكأنه لا يعني الدولة، فلم يعنيها طيلة عمرها وإذا كانت قد فتحت بعض الأبواب للعلم والعلماء الذين صدقوها محاولة منهم خدمة الوطن في إطار المتاح والممكن فهي ما تبرح تنقلب على ذلك بعد حين، وعندما حاول بعض منا دفع عجلة العلم قليلاً واجهنا ما هو أمر من الجهل، واجهنا أصحاب المصالح، فبمجرد أن حاولنا رفع قضية العلم إلى مصاف القضايا الوطنية تكالبت علينا قوى الشر والجهل والفساد داخل السلطة والمعارضة معاً، وأنهمر علينا قبحهم وكذبهم وزورهم ومازال، والعجيب أن في هذا الأمر تعاونت السلطة مع المعارضة بتوافق وبشكل مُريب! وكأن العلم عدو للسياسيين بكل أطيافهم. يجب أن نعلم جميعاً الحقيقة البسيطة المباشرة وهي أن الإبداع والاختراع ليس موجوداً بعد في بلادنا وإن وجد فهو قليل منعدم، وعيب الدولة والمجتمع ككل هو أن البيئة التي تنتج هذا الابداع والاختراع لم تنشأ بعد، هذه هي الحقيقة التي يجب أن نستوعبها والتي يجب أن تتغير!

لا يقتصر الزيف الذي تأصَّل في بلدنا ومنطقتنا منذ زمن على الأشخاص فقط بل يصل إلى المؤسسات بما في ذلك الجامعات والمؤسسات المماثلة بل حتى المرموقة منها وإن كان زيفاً من أنواع مختلفة، تتراوح هذه الأنواع ما بين قيادات أكاديمية إما ضعيفة التأهيل قليلة المعرفة لا يعنيها العلم بل تسلقت لأغراض شخصية فاسدة أو لخدمة السياسة أو الأيديولوجيا أو الاثنين معاً، ولذلك نجد ميزانية هذه المؤسسات لا تتضمن ما هو معملي أو مكتباتي أو تكنولوجي أو بحثي أو تطويري إلا النزر اليسير إن وُجد، وبين زيف أكاديمي في الكليات والاقسام العلمية يجعل من الأقل علماً (أو الأكثر جهلاً) له الكلمة العليا أو له الأغلبية، وفساد أكاديمي في التدريس والمقررات فيُدَرِس من لا شأن له ما يروق له بدون معرفة أو سلطان، ويحدث أن توزع الدرجات والتقديرات وكأنها سوق خيري أو مزاد (غير علني)، بل أيضاً قد توزع الدرجات على أساس شللي أو حزبي أو أيديولوجي فيتحول النشاط الأكاديمي العلمي المعرفي البحت إلى مكون حزبي أو شللي أو ايديولوجي هدفه السيطرة على القسم أو الكلية أو الجامعة أو أي مؤسسة معرفية أخرى، وكثيراً ما يضرب عرض الحائط بالقيم والمقاييس الأكاديمية والمعرفية إلا إذا كانت تخدم الشلة أو الحزب أو تستخدم ضد المعارضين، أو يكون المال هو غاية النشاط الأكاديمي وهدفه خاصة في الجامعات غير الحكومية، وأكثر ما قد قهر العبد لله في حياته كان عندما لم يستطع هزيمة مظاهر الفساد الأكاديمي من النوع الموضح أعلاه رغم أنها حدثت وما زالت تحدث أمام ناظريه: مثلاً تمرد الطلاب على أستاذ المادة لأنه لم يلغ ما هو صعب من مفردات المقرر ويتطلب واجبات وبحوث وإنترنت ...الخ ثم يبقون بدون تدريس إلى قرب الامتحانات فيفبرك لهم بديل "تقليد" يدرس محاضرتين ويمتحنهم وينجحون وتعطى لبعضهم تقديرات عظام، وهكذا، حسبت لهم المادة وحسبت على النظام التعليمي مادة مع أنها من أساسيات التخصص ولم يفقهوا منها شيئا وحسبوا على جسد الفيزياء أخصائيين زوراً وبهتانا (من نكد الدهر على عباده أن يرى الانسان هذا القبح كل يوم ولا حول له ولا قوة)، أو يشرف أحدهم على رسالة ماجستير في الفيزياء بعنوان "الآثار الطبية لغاز مشع ما في بيوت مدينة كذا"، وهذا مُعاب ليس فقط لأن موضوع الدراسة مدروس من قبل في أماكن كثيرة في العالم وبالتالي يتم فقط تغيير اسم المدينة، بل الأهم أن هذا ليس فيزياء اساساً (الإشعاع ليس محل الدراسة)، وكل ما كان بيد العبد لله هو الكتابة (نشرت عدد من المقالات في هذا الشأن). وهكذا يتخرج الطلاب معتقدين أنهم تعلموا وهم انصاف متعلمين (أو أنصاف أميين) في أحسن الأحوال، ومن مصائب الدهر أن هذه الأقسام وهؤلاء الأكاديميين المزيفين ينتجون سنوياً آلاف المتخصصين يزج بهم في سوق العمل فلا يجدون عملاً، فإذا حالفهم الحظ لا يستطيعون شيئا لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وخاصة من المعلمين الذين يتم زجهم في النظام التعليمي فيقومون بإعادة إنتاج الجهل ليس إلا، فيسرقون المستقبل (كتبت عنهم مقالاً بعنوان لصوص المستقبل)، فإذا كان الحاضر صعباً فإن المستقبل في كف عفريت إذا لم يعاد تأهيل عشرات الآلاف من المعلمين وإصلاح نظامي التعليم الأساسي والثانوي وبكل تأكيد إصلاح نظام التعليم العالي، وتنتج هذه الأقسام مع تلاميذ لا يدركون الحقيقة عدداً كبيراً من رسائل الماجستير والدكتوراه التي لا قيمة لها سوى خداع الناس والمجتمع بألقاب أضحت تشبه الألقاب العسكرية في طريقة استخدامها، حتى في المنطقة العربية ككل وفي بلدان أفضل حالاً من اليمن يتخرج كل يوم عدد كبير من حملة الدكتوراه ولا يكون لهم أي أثر في تقدم بلدانهم بل يحملون حرف الدال قبل أسمائهم كسلاح شخصي في حرب العيش والبحث عن تحسين الوضع المعيشي أو التفاخرالاجتماعي ليس إلا، ثم إذا عملوا في الجامعة يكون جل همهم ليس العلم والمعرفة (فلا يملكونها أساساً) بل نفس الهدف تحسين المعيشة والتفاخر أو البحث عن مناصب فتجدهم يفعلون المستحيل حتى يضيفون حرف "ألف" قبل الدال في مقدمة أسمائهم وهكذا، ولذلك كما كتبت سابقاً تتحول جلسات مناقشة الرسائل الجامعية إلى احتفالات وكأنها حفلات زفاف يتزوج فيها الشخص المعني بحرف الدال فيحمله خارجاً من القاعة وقد صار عروساً أو ملكاً له ولا شأن للحدث لا بالعلم ولا بالمعرفة إلا قليلا (بكل تأكيد هناك استثناءات إيجابية لهذا الوضع خاصة ما يتعلق بنوعيات استثنائية من الأساتذة والتلاميذ المجيدين فالتعليم كما هو متفق عليه يعتمد على المتعلم قبل العوامل الأخرى)، وبعد ذلك يظهر الدال في كل ما له علاقة بهذا الشخص سواء كان في الجامعة أو في السوق أو في البيت أو حتى في الفيسبوك، وفي الجامعات المرموقة التي تتضمن مناهج طيبة واساتذة مؤهلين نسبياً نجد أمراض من نوع آخر تتمحور حول الشهرة والمال، فالعبد لله مثلاً يعرف واحدة من الجامعات العربية المرموقة جداً والمصنفة ترتيباً ضمن الجامعات العالمية في أعلى قائمة الترتيب الدولي في تخصص من تخصصات العلوم الأساسية ومع هذا لا يوجد ما يعكس ذلك في القسم العلمي لهذا التخصص والسبب هو أن المرتبة العالية لهذه الجامعة ناتجة عن الإشارة إليها في أبحاث عدد من كبار علماء هذا التخصص في الغرب باعتبارهم ينتمون إليها، وانتمائهم هذا شكلي ونسبي فقط فهم لا يُدرسون أو يقومون بأبحاثهم فيها بل يحضرون في زيارات محددة ويكتبون في أبحاثهم أنهم ينتمون إليها وفي المقابل يحصلون على مرتبات مجزية للغاية من هذه الجامعة، أي أن الشهرة والمرتبة هذه ليست حقيقية بل مشتراه، وهكذا!

سألني زميل متخصص في العلوم الأنسانية لماذا يعترض العبد لله على عدد من برامج الدراسات العليا في الجامعة، ومع أن الأسباب واضحة (شحة أو انعدام الإمكانيات المادية والبشرية) إلا أن العبد لله ساق له الإجابة البسيطة التالية: يمكن لأغراض هذا الحديث تبسيط الأمر بالقول أن للعلوم الإنسانية مدارس أسسها أو قادها أشخاص مثل أدم سميث في الاقتصاد أو سيجموند فرويد في علم النفس أو برتراند رسل في الفلسفة أو تي إس إليوت في الشعر الإنجليزي، على سبيل المثال وليس الحصر، وهكذا، وما زالت المدارس الفكرية إذا صح التعبير في هذه العلوم تُقام وتنتعش على أيدي علماء معاصرين في الجامعات والمؤسسات المرموقة، ونذهب نحن كتلاميذ نتعلم على أيدي هؤلاء العلماء فيجيزوننا، تماماً مثلما يجيز الفقيه الديني تلاميذه، ولكن بصورة مقننة حديثة متطورة ودقيقة تقيس ما يضيف التلميذ إلى جسد المعرفة من علم جديد مع توثيق لهذا الجديد المضاف في كتاب يسمى رسالة أو أطروحة تخضع للتقييم والتحكيم من قبل لجنة علمية متخصصة ممن لهم السلطة العلمية بذلك، هذه الطريقة المعاصرة المقننة الحديثة أسمها "الدكتوراه"، في حين أن تلميذ فقية الدين المجاز لا يضيف أي شيء بل يجاز استيعابه لما تعلم فقط! وأضفت: وهكذا الأمر في العلوم الطبيعية سواء الأساسية أو التطبيقية، ولكن المدارس فيها ليست فكرية بل تخصصات دقيقة، أدق فأدق، فمثلاً تخصص العبد لله العام هو الفيزياء، والخاص هو الفيزياء النووية والجسيمية، والدقيق هو التفاعل النووي الضعيف، والدقيق جداً هو خصائص النيوترينو في إطار التفاعل النووي الضعيف، والأدق من ذلك هو كتلة النيوترينو في إطار خصائص النيوترينو، وهكذا، يمكن القول المبسط لأغراض هذا الحديث بأن كل مدرسة في الفيزياء نظرية أو معملية هي في الحقيقة تخصص في جزئية فيزيائية ما أو عدد منها.

عندما نُرسل للدراسة العليا في أمريكا مثلا فإننا نتعلم في مدرسة (جزئية فيزيائية) يرأسها عالم كبير (غالبا ما يكون له عدد من الجزئيات على مر السنيين) فنتعلم منه (ومن كل ما هو حولة من قسم فيزياء كامل بكل إمكانياته المادية والبشرية الضخمة بطبيعة الحال، فمثلاً كلفت أبحاث العبد لله للدكتوراه قرابة مليون دولار في إطار ما كان أستاذه العظيم جورج كالبفلش يحصل من دعم من الحكومة الأمريكية فضلاً عن كل إمكانيات قسم الفيزياء والفلك بجامعة أوكلاهوما)، وبمساعدة معلمينا الإرشادية نضيف جديداً في هذا التخصص الدقيق للغاية بأبحاثنا، وبالتالي يمكننا القول على سبيل التبسيط مره أخرى بأننا نصبح نسخة (صورة) من علم هذا الاستاذ زائد ما نضيفه نحن إلى جسد المعرفة (أي نصبح صورة أدق وأوضح بسبب الإضافة التي أضفناها رغم جودة الأصل)، وبعد ذلك من المفترض أن نعود إلى بلداننا حتى ننشئ مدارس ونصبح رؤساءها وننسخ منا نسخ جديدة (صور) مع إضافات جديدة في كل صورة، ولا نستطيع أن ننشئ هذه المدارس إلا إذا أتيحت لنا نفس الإمكانيات التي أتيحت لمعلمينا أو أفضل منها (الحقيقة أنها لابد أن تكون أفضل وإلا ما حدث التقدم)، فإذا غابت الإمكانيات ومع هذا أصررنا على إنتاج صور أو نسخ عنا فستكون الصور بدون إضافة، وبما أنها صور فقط فهي ليست بجودة الأصل بل صورة عن الأصل فقط، ومن ثم تقوم هذه الصور الأقل جودة (بعد أن يصبح أصحابها أساتذة) بإنتاج نسخ منها من خلال مَنْح دكتواره لتلاميذ بدون إمكانيات فيصبحون نسخ من نسخ أو صور عن صور، تماماً مثلما نقوم بتصوير صورة ثم نصور الصورة ثم نصور صورة الصورة حتى نصل الى نقطة عندها لا نتمكن من معرفة ما في الصورة النهائية من ردائتها، أو بمعنى آخر لو كان الأصل كأس عصير حلو لذيذ (الاستاذ الأول) ثم صنعنا منه كؤوس (تلاميذ) بدون إضافة مكونات حلوه لذيذة جديدة (فقط إضافة ماء) سيكون لدينا عدد من الكؤوس الأقل لذة وحلاوة، وبعد ذلك نأخذ كأسا منها ونصنع منه كؤوس بدون إضافات وهكذا دواليك فينتج لدينا كوؤؤس من سائل لم يعد فيه عصير ولا طعم له ولا حلاوه فتدريجيا نفقد الطعم فيصبح مخففا إلى درجة يكف عندها عن كونه عصيرا.

هذا أيتها السيدات أيها السادة يحدث في الجامعات العربية عموما واليمنية على وجه التحديد والتخصيص ومع سبق الإصرار والترصد (مع بعض الاستثناءات لجامعات أو كليات أو أقسام بعينها أو اساتذة أو تلاميذ بعينهم)! وهذا هو الزيف بعينه تحت عنوان دراسات عليا!

ومن مظاهر سيطرة الجهل والتخلف وتعظيم ما هو طبيعي أو ما هو جيد ولكنه غير عظيم في الفيسبوك هو أن تدخل صفحة أستاذ جامعي فلا تجد لا علم ولا معرفة، وأحياناً تجد خرافات، وأحيانا أخرى في صفحات الفيسبوك تجد شبه الخرافة كأن يستند صاحب الصفحة إلى جمل مثل "اثبتت الدراسات" دون أن يحددها ويضع روابطها المرجعية، أو "أثبت العلم" أو "أثبت العلماء" دون أن يحدد المرجع برابط على النت يؤكد صحة ما يذهب إليه بمرجع علمي رصين، أو يستند إلى ما تقوله صحيفة ما نقلاً عن علماء أو أبحاث هنا أو هناك (الصحف أيها الناس ليست مراجعاً علمية - "قولاً واحداً" لا جدال فيه)، وهكذا، والأصل هو أن أي نشر علمي لا قيمة له، لا وزن له، لا معنى له، إلا في حالتين: الأولى إذا كان الشخص متخصصاً مشهوداً له يمثل سلطة عليا في مجال تخصصة، والثانية أن يستند النشر إلى مرجع علمي رصين إما يشار إليه برابط يتضمنه نصاً أو يُنشر المرجع مع الموضوع قيد النشر، أما غير ذلك فلا قيمة علمية له - "قولاً واحداً"، وتعج صفحات الفيس بالخزعبلات مما يتداوله الناس مما يتعلق بالصحة العامة والتطبيب خارج علم الطب أو الغذاء وتخاريف الأولين والخلطات السحرية التي تنظف الدم أو تقضي على العلل أو تفاصيل الحياة اليومية وما هو مبروك وقدسي .. الخ، حتى في حالة المنشورات الرصينة نجدها تتضمن مظاهر عظمة غير مبررة مثل أن ينشر باحث صورة أو رابطاً لورقة علمية نشرت له (وهذا جميل في ذاته) فتأتي التعليقات على شاكلة التبريكات وكأنه عيد أو زواج، أو التعظيم وكأنه أمر غير عادي، التعظيم لأمر جيد ولكنه ليس عظيماً بالضرورة (هنا تصبح الجودة عظمة) وهنا تظهر حقيقة أننا كثقافة لم نعتاد الجودة بعد ولا طبيعية أن الأصل في العالِم هو إنتاج العلم الذي يُنشر عبر أوراق علمية في المجلات المتخصصة المعروفة دون أن يكون في ذلك عظمة بالضرورة (إلا في حالات نادرة لم تحدث بعد ليمني على حد علمي، حالات نادرة مثل تلك التي تستحق جائزة نوبل في الفيزياء أو الكيمياء أو الطب) بل أمر طبيعي لأن العالم ينتج علماً مثلما ينتج النجار أثاثاً أو الخباز خبزاً فهذه طبيعة المهن والتخصصات، ولأن هذا الأصل نادر أو غائب (أي إنتاج العلم عبر نشر أوراق علمية رصينة) يصبح حضوره محل احتفال كبير وكأنه عمل خارق للعادة وهو ليس كذلك بل عمل عادي طبيعي بالنسبة للعالم، ومع أن أهم أسباب غياب الأبحاث يعود للواقع الموضوعي البائس أكثر مما يعود إلى الباحثين أنفسهم إلا أن مظاهر الاحتفال والعظمة لما هو طبيعي وعادي تشكل مع غيرها أعراض مركب نقص علمي نفسي جمعي يصف بيئتنا الوطنية خصوصاً والعربية عموماً! مركب نقص يقوم على فقر معرفي وشح علمي وليس فقط انعدام العظمة العلمية والمعرفية، هذه هي الحقيقة شئنا أم أبينا وهي الحقيقة التي يجب أن تتغير!

قبل أيام أشار تلميذ جميل من تلاميذي في صفحته عل الفيسبوك إلى ما أسماه "الاستحمار الثلاثي" حول منشور وصورة في الفيسبوك لأنثى في الحرم الشريف تقول أنهاخارقة للعادة وليست ساحرة ولكن لو وضعت رقم كذا ستظهر لك مفاجأة لم تكن تحلم بها ..الخ، وكيف أن منشورها هذا حصل على أكثر من ثلاثة وسبعين الف تعليق وقرابة ألفي مشاركة وعدد هائل من "اللايكات" بما ذلك لأساتذة في الجامعات، نعم هو أمر محزن ومخزي في آن واحد، وانحطاط ثقافي مهول، وزيف ودجل وعوار معيب، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

العجيب في الأمر أن من يجب أن نطلق عليهم علماء من اليمنيين في الداخل والخارج لا يحظون باهتمام هذه الصحف والمواقع إلا قليلاً مثلما يحظى هذا الذي يسمى مخترع أو ذاك أو هذا الدجال أو ذاك من الذين ما أنزل الله بهم من سلطان العلم والاختراع من شيء، وكم تؤذينا هذه الصحف والمواقع عندما تستنصر لخبر تظن أنه علمي وهو ليس إلا تجهيلاً قبيحا. أتذكر فيما مضى من أيام كيف شغلتنا جريدة رسمية كبرى بإطروحات أحد المُخرفين، حول أن الأرض مركز الكون وكيف أن الشمس تدور حول الأرض بدعم حينها من الشيخ نفسه الذي تحدثت عنه في الحلقة الثانية، وكان هذا المخرف اللطيف قد تواصل معي آنذاك بغية إقناعي بأن الشمس تدور حول الأرض حتى أتبنى هذه الخرافة باعتباري مستشاراً علمياً لرئيس الدولة، فشرحت له عوار ما يطرح (بلطف وبدون استخدام الرياضيات فلا طاقة له بها) وأضفت أن تفكيرة ليس متخلفاً فقط بل يعود بالعلم إلى ما قبل كوبرنيكوس في القرن السادس عشر وبالبشرية إلى زمن الأغريق، ولم يرق له كلامي وانتهى اللقاء بيننا سلبياٌ بعد ما طلبت منه بهدوء ولكن بوجه عابس يقترب من الغضب أن ينصرف فقد تلفظ سوء في صورة لي مع الدكتور الإرياني طيب الله ثراه على حائط المكتب، وبعد زمن أُنتخب هذا المخرف عضواً في البرلمان (فكروا في الأمر: تم انتخابه من قبل الناس، بل ودعمة من قبل حزب كبير، هذه هي اليمن علمياً أيها الناس!)، وهكذا تنتصر الصحف للجهل والخرافة وينتصر المجتمع للمخرف فيدخل مجلس النواب! هذه هي صحفنا وهي نفسها التي شغلتنا هي والمواقع مؤخراً حول أن الشمس ستشرق من الغرب في إسفاف يتعدى الغباء، وفي المقابل ما هو موجود من علم لا يحظى باهتمام، فمثلاً كثير منكم سمع عن المثالين ألسابقين ولكن من منكم سمع عن ما قام به فريق من علماء الزراعة اليمنيين من هيئة البحوث والإرشاد الزراعي من أبحاث بديعة على محاصيل البطاط والقطن والعدس والسمسم أذهلت زملائهم العرب والأجانب (المتعاونين معهم في نفس الموضوع)، وأذهلتني شخصياً، أذهلتني من حيث تحسين الإنتاج الزراعي كماً (كمية المحصول للهكتار الواحد) وكيفاً (مقاومة الأمراض كالصدأ أو مقاومة العطش والملوحة)، ونشرت هذه الإبحاث في الدوريات المتخصصة، ولم تحظ إلا بقليل جداً من الاهتمام بالرغم من أهميتها الهائلة للاقتصاد والأمن الغذائي، وكثير منكم سمع عن هذا الدجال أو ذاك أو هذا المخترع المزعوم أو ذاك، ولكن قليل منكم سمع عن مصطفى العبسي أستاذ الطب السلوكي بجامعة مينسوتا وأستاذ كرسي في كلية الطب في نفس الجامعة، وناصر زاوية عميد كلية الدراسات العليا وأستاذ العلوم الصيدلانية بجامعة رود ايلاند، وهلال الأشول المدير التنفيذي لمعهد قطر لأبحاث الطب الحيوي والمدير الأسبق لمختبر الأبحاث الجزيئية لانحلال الأعصاب في المعهد التقني الفيدرالي العالي بسويسرا، وجميعهم غزيروا الإنتاج العلمي المنشور والمتميز ولهم مكاناتهم بين أقرانهم العلماء، وغيرهم من علماء المهجر الذين أوجه لهم من هنا خالص التحية والتقدير أجمعين، وكلما تحدثت عن العلم والعلماء يجيء على البال والخاطر عالم يمني أمريكي نووي جليل كنت قد كتبت عنه فيما مضى طيب الله ثراه فقد تركنا في هذه الحياة الفانية ولكنه مازال وسيظل إلى يوم الدين يحتل مركزاً وموقعاً خاصاً في القلب، الزميل والأخ والصديق الأقرب إلى القلب من كل عباد الله الدكتور فضل أحمد طالب السلامي ابن محفدة لحج وأسرة آل السلامي العريقة (الصورة الأولى)، وقليل جداً منكم يعرف علماء الداخل ولهم إنتاج علمي طيب يستحق التقدير وأود في هذا المقام أيضاً أن أوجه لهم خالص التقدير والاحترام فرداً فردا، كل باسمه وصفته، فلا يتسع المقال لذكرهم جميعاً ولا أود أن أفرق بينهم بذكر البعض فقط، أما في الشأن النووي فقليل منكم يعرف العالم الشاب الدكتور الجميل حسن المريدي (وهو اسم على مسمى) الذي يعاني الآن مثلما يفعل اليمنيون جميعاً، هذا الذي سأكتب عنه لاحقاً مقالا منفرداً إن شاء الله، ولن أكتب عن العالم النووي اليمني الأمريكي المهاجرالشاب الدكتور المهندس النووي ريان مصطفى بهران، على الأقل ليس في الوقت الحاضر فقد طلب مني أن لا أكتب عنه أكثر مما فعلت سابقاً لأساب واضحة.

إذن، من مظاهر الزيف أن لا تكترث الصحافة المشاهدة والمسموعة والمكتوبة والمقرؤة كثيراً للعلم والعلماء في حين تهتم بالعظمة الزائفة والدجل والتخريف، ومعها المجتمع ككل الذي مازالت الخرافة تصادقه وما زال الدجل يمر عليه وأحياناً يسود، هذه هي سمة الزمن الذي نحن فيه وعرض من أعراض مرض الأمة وتخلفها! وهذا لابد أن يتغير.

إن من دواعي الرثاء لحالنا تلك العظمة التي يُسبلها الناس على ما هو ليس عظيما، أو المبالغة في وصف ما هو جيد فيوصف بأنه عبقري ولا مثيل له ومحل فخر اليمنيين أجمعين، وصيغ مثل "رجل بحجم الوطن" ... الخ! من الممكن أن يكون إنساناً لي أو لك أو لمجموعة من الناس كأنه وطن، وفي العلاقات الإنسانية تكون المرأة وطنا لرجل إذا أحبها، أو الرجل وطناً لِإمرأة إذا أحببته، ولكن وطن الجميع لا يمثله شخص بعينه رجل كان أم امرأه، فلا يوجد ولن يوجد رجل أو امرأه بحجم الوطن أيها الناس فلا تبخسوا أوطانكم وتصغروها فتصبح أشخاصاً، حتى العبد لله على تواضع علمه وفعله يصله أحياناً ما لا يستحق من الإطراء المبالغ فيه من الناس الطيبين أو المحبين وخاصة التلاميذ، حتى زملائنا المبدعين الذين في الخارج والداخل والذين أشرت إلى بعضهم هم علماء بالمعنى المعياري وليسوا خارقي العادة، وهم بمعايير الدول المتقدمة على امتيازهم علماء عاديون، ومثلهم ومن نوعيتهم عدد كبير، بل كبير جداً في الأمم الأخرى، فالمشكلة أننا كأمة لم نعتد بعد على ما هو جيد فنصفه كما هو بأنه جيد، أي لم نعتد على الجودة، وبالتالي نميل إلى رؤية الجيد فوق جيد بل فوق العادة، نميل الى رؤية الجودة وكأنها عظمة، وهي عظمة غير موجودة!

في زيارة خارجية لبلد متقدم سألت إحداهن زوجتي الكريمة "ما هي وظيفة زوجك؟"، فأجابت "فيزيائي" فعلقت قائلة "لابد أنه ذكي!"، وهذه أقصى مجاملة ممكنة. في اليابان أو أمريكا مثلا آلاف بل عشرات الآلاف من العلماء، وعندما يقابل الناس فيزيائياً مثلاً في السوق ويسألونه عن مهنته فيجيب بأنه عالم فيزياء تجدهم يبتسمون له قائلين ما معناه "لابد انك إنسان ذكي فالفيزياء صعبة" فينظرون إليه بتقدير واحترام، ولا يزيدون عن ذلك ولا يتم تمجيد أحد أو تعظيمه، ولا يتم الاحتفاء أو الاحتفال أو التطبيل إلا لعدد محدود من العلماء، من الفئة ما فوق الممتازة، ويحدث ذلك بين أقرانهم أكثر مما هو بين الناس أجمعين، وهذا طبيعي لأن اهتمام المجتمع والدولة بهم ليس بتمجيدهم والتحدث عن عظمة وهمية بل من خلال توفير البيئة الحاضنة والداعمة لهم ولأبحاثهم، ويلقى نَفَر قليل جداً منهم، مثل أولئك الذين يحوزون على جائزة نوبل في الفيزياء أو الكيمياء أو الطب أو من هم في مستواهم، تمجيداً وتعظيماً واحتفاءاً مجتمعياً ولكن هذا الاحتفاء على إيجابيته ليس هو المهم، بل أن ما تقدمه الدولة ويقدمه القطاع الخاص من تمويل هائل للبحث العلمي والبحث والتطوير هو المهم لأنه أساس التقدم العلمي والتكنولوجي وبالتالي أساس التقدم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي أيضاً! كما أن العالم في ذاته لا يبحث عن مجد أو شهرة أو عظمة فشغفه العلمي والمعرفي وحبه لتخصصه وعشقه لمهنته في بيئة حاضنة مشجعة وتمويل كاف لأبحاثه يمنحه كل الرضى وغاية السعادة، وغالبا ما تأتي الشهرة والعظمة عرضاً كنتاج ثانوي دون أن يسعى إليها أو حتى يرغب بها! كثيراً ما يقول تلاميذي الطامحون أنهم يريدون أن يكونوا فيزيائيين عظماء مثل فلان أو علان، وهذا قد يبدوا أنه ليس فقط طموحاً جميلاً ومشروعاً بل هذا ما يجب أن يكون، ومع أنه طموح مشروع بكل تأكيد إلا أنه منطلق غير صحيح ومنطق غير صحي ولن يصنع بالضرورة لا فيزياء ولا عظمة فيزيائية، فالصحيح هو أن يطمح التلميذ إلى أن يكون فيزيائياً بسبب رغبته في الفيزياء ذاتها وعشقه للمعرفة ذاتها وغرامه مع البحث العلمي ذاته دون أدنى تفكير في مصلحة مادية أو معنوية كالشهرة والعظمة من وراء الفيزياء أو العلم بصفة عامة! إن أي حب من ورائه مصلحة مباشرة غائية ينتفي بتحقيق تلك المصلحة أما الحب الحقيقي الذي لا يقوم على مصلحة لا يموت أبدا! أنه الحب أيها الناس محرك الإبداع وناموس التطور. أتذكر هنا نظام التعليم في فنلندا وهو من أفضل أنظمة التعليم في المعمورة بحسب امتحانات الأداء المعيارية الدولية لأنه على وجه التحديد يعزز حب العلم والمعرفة لذاتها، ومن أجمل ما فيه أن رجال الأعمال والسياسيين غير مرحب بهم في قاعات الدراسة في فنلندا! فالتعليم "نعم" يهدف إلى انتاج قدرات مهنية احترافية تفيد المجتمع كالأطباء والمهندسين والمعلمين ...الخ ولكنه قبل كل شيء يهدف إلى إنتاج مفكرين أحرار مستقلين قادرين على الإبداع والاختراع، مرة اخرى: إنتاج مفكرين أحرار مستقلين قادرين على الإبداع والاختراع، وهؤلاء هم الحقول التي تنتج عظمة حقيقة، أما المجتمع المتخلف ونظامه التعليمي الذي ينتج قطعاناً من البشر لا ينتج عظمة تذكر ولذلك يبحث القائمون عليه عن عظمة زائفة غائبة بين القطعان!

نعم، لدينا في اليمن علماء ولكنهم قلة، ولدينا قدر لا بأس به من المشتغلين بالعلم خاصة في بعض الجامعات والمؤسسات ذات العلاقة، مشتغلين حاصلين على درجات علمية ولكنهم لا ينتجون علماً حتى لو انتجوا أوراقاً بغرض الترقيات في السلم الجامعي، فالدافع الأصل للبحث العلمي هو الحب، نعم أيها الناس الدافع هو حب العلم، هو شغف المعرفة، هو الإجابة على الأسئلة التي أمامنا وإيجاد حلول للمعضلات التي أمام البشرية سواء فيما يتعلق بحياة الناس أو بفهمهم للطبيعة بما في ذلك أنفسهم، وما الترقية في السلم الجامعي أو الوظيفي إلا نتاج ثانوي لذلك وليست غاية في ذاتها (الترقية في بلداننا حالياً تكاد تكون الغاية الوحيدة لكل ما ينشر من أوراق)، وهؤلاء المشتغلون بالعلوم على تواضع ما يقدمون هم أيضاً بحاجة إلى الرعاية والاحتضان وخاصة الشباب منهم الذين يمكن أن يصنع منهم اهتمام الدولة والمجتمع علماء، هؤلاء الشباب هم ذخر هذا الوطن وهم نواة الأمل نحو المستقبل، ولكن نظام الجامعات والمؤسسات اليمنية ذات العلاقة عقيم يسيطر عليه الروتين الإداري والمعايير التقليدية الموروثة أو المنقولة غالباً عن أنظمة عقيمة في المنطقة العربية، كما تسيطر عليه قيادات جامدة علمياً لا شأن لها بالمستقبل، يسيطر عليه الفساد والسياسة والتسييس وكأن الجامعات والمؤسسات يتم تطويعها في خدمة من بيده السلطة، والمشكلة هي أن أعداد العلميين محدودة، أي أن عدد هؤلاء العلميين الكلي لم يصل إلى ما يمكن تسميته بـ"الحجم الحرج"، أي لم يصل إلى ذلك الحجم الذي يستطيع أن يحدث فرقاً في حياة المجتمع والناس، فمتى ما أصبح حجم المجتمع العلمي اليمني حرجاً سيكون له حضوراً فاعلاً في حياة الناس واقتصادهم وثقافتهم وهكذا. كيف يمكن إذن أن نبني حجماً علمياً حرجاً في اليمن؟ طبعاً هذا عندما تصبح اليمن دولة ناجحة (الله أعلم متى!)،ولكن لابأس أن نجيب على هذا السؤال الآن، والإجابة هي إجابة واحدة فقط لا بديل لها، وهي الابتعاث الصحيح! كيف؟ عبر مئات المنح سنويا للدراسات العليا للشباب المتميز ذكورا وإناثا من الجامعات وغير الجامعات ممن تتوفر لديهم شروط كل منحة، على أن يكون الابتعاث إلى الجامعات الأفضل والأعلى تصنيفاً في أمريكا وأوروبا واليابان والصين وروسيا بدرجة أساس وبعض الجامعات القليلة في بلدان أخرى بحسب التصنيف الدولي لها مهما كانت التكلفة، فيعود المبتعث قادرًا على أن يكون مدرسة علمية كما شرحت في الحلقة من هذا المقال وبالتالي تنشأ لدينا مع الوقت مئات بل آلاف المدارس العلمية، أما الآلاف المؤلفة من المبعوثين في جامعات لا أهمية لها أو ضعيفة التصنيف فلن يزيدوا الطين إلا بله مع بعض الاستثناءات (في حالات خاصة قليلة تعتمد على نوعية الشخص المبتعث قد يخرج عن مثل هذه الجامعات كفاءات عالية، فالمتفق عليه أن التعليم يعتمد على الشخص المتعلم قبل أن يعتمد على الجامعة). إن تمويل هذه المنح مع تمويل إصلاح جذري لنظام التعليم برمته ومن ثم تمويل البحث العلمي في تقديري أهم بالمطلق من أي تمويل لأي قطاع آخر. يُعرّف علماء النفس ما يسمى مركب النقص لدى الإنسان، فتجد المصاب مدفوعا بهذا المركب النفسي يحاول أن يثبت أنه ما ليس هو، فهل لدى المجتمع اليمني، وربما العربي ككل، مركب نقص جمعي يجعله يستنصر للجهل فيصفه بل يطبل له بأنه علما، ربما، ولكن بكل تأكيد مركب النقص هذا موجود لدى الإعلام ولدى الساسة، فيحدث هذا عندما يكون صاحب السلطة شبه جاهل فينظر إلى المتعلمين بلا إكتراث أو بحسد أو بكراهية وازدراء أو بخليط منها، ومركب النقص هذا هو الذي جعل حكامنا لعشرات السنيين، بل منذ زمن بعيد، لا يكترثون للمعرفة بصفة عامة ولا للعلوم بصفة خاصة، وترتب على ذلك ما نحن فيه من تخلف علمي معرفي وبيئة لا تخلق الإبداع والاختراع. ببساطة أيها الناس، لو أخذنا القيادات السياسية في بلادنا، الحزبية أو غير الحزبية، تلك المتحالفة أو المتصارعة، الوحدوية أو الانفصالية، المدنية أو العسكرية أو القبلية، الدينية أو غير الدينية، ووضعناها على ميزان العلم والمعرفة فلن تزن إلا يسيرا، فالصراع السياسي مازال صراعا على السلطة والثروة، بل مازالت القوى المتصارعة قوى لا تكترث لا للعلم ولا للمعرفة إلا بالقدر اليسير الذي يتوافق مع مصالحها ويعزز سلطانها، وقد تختلف هذه القوى من حيث معايير النزاهة والعدل مثلاً، ولكنها لا تختلف كثيراً من حيث معايير العلم والمعرفة. كتبت فيما مضى وقبل هذا الصراع الدموي المرير بأن أصعب التحديات أمامنا كيمنيين ليست الحرب ولا الصراع السياسي لأن حل هذه متاح بأيدينا، ولكن أصعب التحديات المتعلقة بالبقاء والاستمرار من عدمه هي تحديات لا نملك حلولها بأيدينا بالضرورة وفي مقدمة هذه تحديا الطاقة والماء، ولن نستطع مجابهتها إلا إذا امتلكنا ناصية العلوم والتكنولوجيا، وهذه الناصية تبدأ من نظام التعليم الأساسي والثانوي ولا تنتهي بنظام التعليم العالي. هذه الحرب طالت أم قصرت ستنتهي في نهاية المطاف فكل ما له بداية له نهاية، وما بعدها يعتمد على ما ستؤول إليه، وأياً كانت النتيجة فالحرب الحقيقية التي ستقف بيننا وبين المستقبل هي حرب التعليم وامتلاك ناصية العلم وقدرة التكنولوجيا. مازال أمامنا كأمة مشوار طويل، والمصيبة هي أن الصراعات السياسية والدموية على السلطة والثروة تؤجل وتوقف أي حركة نحو المستقبل، ولكن الأمل مازال موجوداً، فلا حياة بدون أمل! الأمل هم الشباب والأجيال القادمة، هذا الأمل هو موضوع الحلقة السادسة والأخيرة!

***** اعتذر لكل القارئات والقراء والمتابعات والمتابعين عن حدة هذا المقال ومباشرته لموضوعه بدون دبلوماسية الكاتب المعهودة فهذا زمن الحرب ولا يناسبه إلا المباشرة بدون تغليف دبلوماسي! كما أعتذر عن نشر الحلقة السادسة الخاتمة والأخيرة فلم يحن وقتها بعد، متمنياً أن تكون الحلقات الخمس هذه مجتمعة في ذاتها تمثل مقالاً متجانساً وشبه مكتمل، وأحتفظ بتحديد توقيت الحلقة السادسة أو الخاتمة في الزمن المناسب!

https://www.facebook.com/moustafa.bahran/posts/1103398016362921

https://www.facebook.com/moustafa.bahran/posts/1102105723158817

https://www.facebook.com/moustafa.bahran/posts/1101400476562675

https://www.facebook.com/moustafa.bahran/posts/1100268410009215

https://www.facebook.com/moustafa.bahran/posts/1099664340069622

وهذا المقال كاملا

https://www.facebook.com/notes/moustafa-bahran/%D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%AC%D9%84-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B2%D9%8A%D9%8A%D9%81-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D9%85-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%AE%D8%B1%D9%8A%D9%81/1105975626105160/