منافرة جرير أيام الجاهلية

قصة منافرة جرير البجلي مع خالد الكلبي أيام الجاهلية

بعض المراجع أتخذت من الأبيات التي قيلت أيام منافرة جرير بن عبدالله البجلي وخالد الكلبي حجة في أن بجيلة قبيلة عدنانية ؛ وهو قول يخالف أقوال غالبية كتب النسب والأحاديث الشريفة التي تؤكد قحطانية قبيلة بجيلة وأخوتهم قبيلة خثعم .

والمنافرة هي المحاكمة والمفاخرة ، وهي أن يفتخر الرجلان كل واحد منهما على صاحبه ثم يحكما بينهما رجلا ، وفي أيام الجاهلية تنافر جرير بن عبد الله البجلي زعيم بنو قسر البجليين ، وخالد بن أرطاة بن خشين بن شبث الكلبي زعيم قبيلة كلب بن وبرة القضاعية . وكان سبب المنافرة بين جرير بن عبد الله البجلي وخالد بن أرطاة الكلبي أن قبيلة كلب أصابت في الجاهلية رجلا من بطن عادية من بجيلة ، يقال له : مالك بن عتبة العادي من بني عادية بن عامر بن قداد من بجيلة ، فوافوا به عكاظ ، فمر العادي بابن عم له يقال القاسم بن عقيل بن أبي عمرو بن كعب بن عريج بن الحويرث بن عبد الله بن مالك بن هلال بن عادية بن عامر بن قداد البجلي يأكل تمراً ، فتناول مالك العادي البجلي من ذلك التمر شيئا ليتحرم به(*) ، فجذبه الكلبي ، فقال له القاسم : إنه رجل من عشيرتي ، فقال له : لو كانت له عشيرة منعته . فعظم الأمر على القاسم وانطلق إلى بني عمه بني زيد بن الغوث البجليين فاستتبعهم ، فقالوا للقاسم : نحن منقطعون في العرب ، وليست لنا جماعة نقوى بها . فانطلق القاسم إلى أحمس البجليين فاستتبعهم فقالوا : كلما طارت وبرة من بني زيد في أيدي العرب أردتنا أن نتبعها ؟ . فانطلق القاسم عند ذلك إلى جرير بن عبد الله البجلي فكلمه ، فكان القاسم يقول : إن أول يوم أريت فيه الثياب المصبغة والقباب الحمر ، اليوم الذي جئت فيه جريراً في بني قسر ، وكان سيد بني مالك بن سعد بن نذير بن قسر البجليين ، وهم بنو أبيه . فدعاهم القاسم في انتزاع العادي من قبيلة كلب فتبعوه ، فخرج يمشي بهم حتى هجموا على منازل كلب بعكاظ ، وانتزعوا منهم مالك العادي البجلي ، وقامت قبيلة كلب دونه ، فقال جرير : زعمتم أن قومه لا يمنعونه ، فقالت كلب : إن جماعتنا خلوف . فقال جرير : لو كانوا لم يدفعوا عنكم شيئا . فقالوا : كأنك تستطيل على قضاعة . إن شئت قايسناكم المجد - وزعيم قضاعة يومئذ : خالد بن أرطاة بن خشين بن شبث الكلبي - فقال : ميعادنا من قابل سوق عكاظ . فجمعت كلب وجمعت قسر ، ووفوا عكاظ من قابل . وصاحب أمر كلب الذي أقبل بهم في المقبل خالد بن أرطأة الكلبي . فحكموا الأقرع بن حابس بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع التميمي ، حكمه جميع الحيين (الحي أكبر من البطن) ، ووضعوا الرهون على يدي عتبة بن ربيعة بن عبد شمس في أشراف من قريش ، وكان في الرهن من قسر البجليين : الأصرم بن عوف بن عويف بن مالك بن ذبيان بن ثعلبة بن عمرو بن يشكر بن علي بن مالك بن سعد بن نذير بن قسر البجلي . ومن أحمس البجليين حازم بن أبي حازم البجلي ، وصخر بن العيلة البجلي . ومن بني زيد بن الغوث بن أنمار البجليين رجل . ثم قام خالد بن أرطاة الكلبي فقال لجرير : ما نجعل ؟ ، فقال جرير : الخطر في يدك . قال خالد : ألف ناقة حمراء في ألف ناقة حمراء . فقال جرير : ألف قينة عذراء في ألف قينة عذراء ، وإن شئت فألف أوقية صفراء لألف أوقية صفراء . فقال خالد : من لي بالوفاء ؟ ، فقال جرير : كفيلك اللات والعزى وإساف ونائلة وشمس ويعوق وذو الخلصة ونسر(أسماء أصنامهم) . فمن عليك بالوفاء ؟ ، قال : ود ومناة وفلس ورضا (أسماء أصنامهم) . قال جرير : لك بالوفاء سبعون غلاما معماً مخولاً يوضعون على أيدي الأكفاء من أهل الله . فوضعوا الرهن من بجيلة ومن كلب على أيدي من سمينا من قريش ، وحكموا الأقرع بن حابس التميمي وكان عالم العرب في زمانه . فقال الأقرع : ما عندك يا خالد ؟ ، فقال : نحن ننزل البراح ، ونطعن بالرماح ، ونحن فتيان الصباح . فقال الأقرع : ما عندك يا جرير ؟ ، فقال جرير : نحن أهل الذهب الأصفر ، والأحمر المعصفر ، نخيف ولا نخاف ، ونطعم ولا نستطعم ، ونحن حي لقاح ، نطعم ما هبت الرياح ، نطعم الشهر ونضمن الدهر ، ونحن الملوك لقسر . فقال الأقرع لجرير : واللات والعزى ، لو فاخرت قيصر ملك الروم ، وكسرى عظيم فارس ، والنعمان ملك العرب ، لنفرتك عليهم (أي لحكمت لصالحك) . وأقبل نعيم بن حجبة النمري - وكانت قسر وفدته بفرس إلى جرير ، فركبه من قبل وحشيه ، فقيل : لم يحسن أن يركب الفرس . فقال جرير : الخيل ميامن ، وإنا لا نركبها إلا من وجوهها . وكان قد نادى عمرو بن الخثارم أحد بني جشم بن عامر بن قداد من بني زيد بن الغوث البجلي ؛ فقال :

لا يغلب اليوم فتى والاكما ** يا بني نزار انصرا أخاكما

إن أبي وجـــدته أباكما ** ولم أجد لي نســـبا ســواكما

وقال أيضاً عمرو البجلي يحضض الأقرع وينتمي زوراً إلى بني نزار العدناني :

يا أقرع بن حابس يا أقرع ** إنك إن تصرع أخاك تصرع

إني أنا الداعي نزارا فاسمع ** في باذخ من عزة ومفزع

فنفره الأقرع بن حابس التميمي بمضر وربيعة ، ولولاهم نفر خالد الكلبي . ومراجع أخرى تذكر ان شاعر بجيلة عمرو بن الخثارم البجلي صار يحضض الأقرع (اسمه فراس) بن حابس المجاشعي التميمي ، وينتمي زوراً إلى نزار العدناني ، فحكم الأقرع ان بجيلة أبوهم أنمار بن نزار بن معد العدناني ، وان قضاعة بن معد ، وان نزار أشرف من قضاعة .

والجدير بالذكر فأن المراجع تذكر أنه عندما بلغ أمر المنافرة أسد بن كرز البجلي وكان وقتها بينه وبين جرير تباعد ، أقبل أسد في فوارس من قومه ناصراً لجرير ومعاوناً له ، وقيل أن أسداً لما أقبل في أصحابه ورآه جرير ؛ قلق وخاف ، فقيل لجرير : هذا أسد جاءك ناصراً لك ومنجداً ، فقال جرير : ليت لي بكل بلد ابن عم عاقاً مثل أسد ، فقال جعدة بن عبد الله الخزاعي يذكر ذلك من فعل أسد بن كرز البجلي :

تدارك ركض المرء من آل عبقـر * جريراً وقد رانت علـيه حـلائبـه

فنفس واسترخى به العقد بعدما * تغشاه يوم لا تـوارى كـواكـبـه

وقاك ابن كرز ذو الفعال بنفـسه * وما كنت وصالا له إذ تـحـاربـه

إلى أسـد يأوي الـذلـيل بـبـيتـه * ويلجأ إذ أعيت علـيه مـذاهـبـه

فتى لايزال الدهر يحمل معظـماً * إذا المتجدى المسؤول ضنت رواجيه

-----------------------------------------------------------------------

(*) ليتحرم به : تعني يصبح في حرم لا يجرؤ أحد على قتله أو أذيته حسب عرف وعادة العرب .

قراءات في قصة المنافرة المذكورة أعلاه :

1- واضح من قصة المنافرة أنها ليست بين قبيلتي بجيلة وكلب ، إنما كانت بين رجلين لا قبيلتين ؛ وهما : جرير بن عبد الله البجلي وخالد بن أرطاة بن خشين الكلبي وليس الفُرافِصة بن الأحْوص الكلبي (والد نائلة زوجة عثمان رضي الله عنه) كما تذكر بعض الكتب .

2- من القصة نستنتج أن بطون بجيلة لم تكن على وفاق ووئام منذ القدم ؛ بل كانوا متفرقين وبين بعضهم قطيعة وخصومة كما يتضح من تخوف وقلق جرير البجلي عندما رأى أسد بن كرز البجلي قادماً مع قومة لمساندته ؛ وعندما قيل له أن هذا أسد جاءك ناصراً لك ، قال جرير : ليت لي بكل بلد ابن عم عاقاً مثل أسد (أنظر ترجمة أسد بن كرز البجلي رضي الله عنه) . ويبدو أن عدم الوفاق بين بطون وفروع القبيلة أستمر كما يلاحظ من المواقف المتباينة في كثير من الأحداث التاريخية منها على سبيل المثال أيام معركة صفين وغيرها .

3- يتضح من القصة أن القاسم بن عقيل العادي الزيدي البجلي أتبع تسلسل درجة القرابة عند طلب الفزعة ؛ لذلك نجده ذهب أولاً لبني زيد بن الغوث البجلي ؛ وبعد رفضهم ذهب لبني أحمس بن الغوث البجلي ؛ وأخيراً ذهب إلى بني مالك بن سعد بن نذير بن قسر بن عبقر البجلي ؛ ففزع له جرير بن عبدالله البجلي رغم بُعد القرابة بينهم (يلتقون في أنمار) .

4- يتضح من القصة أن جرير البجلي في الجاهلية لا يحسن ركوب الخيل وهو شيئ يؤكده الحديث الشريف المتعلق بهدم ذي الخلصة (أنظر سيرة جرير رضي الله عنه في صفحة أعلام ومشاهير بجيلة) .

5- حازم بن أبي حازم البجلي المذكور بالقصة هو الذي قتل بيوم صفين سنة 37هـ ؛ و(حازم) هو أخو الفقية المعروف قيس بن أبي حازم ؛ وولدهم الصحابي أبو حازم الأحمسي البجلي الذي قيل اسمه : عوف بن عبد الحارث بن عوف بن حشيش بن هلال بن الحارث الأحمسي البجلي .

6- صخر بن العيلة البجلي المذكور بالقصة هو الصحابي أبو حازم ؛ صخر بن العيلة بن عبدالله الأحمسي البجلي الذي قال له الرسول صلى الله عليه وسلم (إذا أسلم الرجل فهو أحق بأرضه وماله) .

7- قائل الأرجوزة التي ينتسب فيها صاحبها لنزار العدناني هو شاعر بني جشم من بجيلة ؛ عمرو بن الخثارم الجشمي الزيدي البجلي وليس جرير بن عبدالله البجلي رضي الله عنه .

8- البعض يستند إلى شعر عمرو بن الخثارم البجلي السالف ذكره كحجة بان بجيلة قبيلة عدنانية ، وهو قول يخالف أقوال غالبية كتب النسب التي تؤكد ان بجيلة قبيلة قحطانية ، علماً ان شعر عمرو البجلي وقت المنافرة (المفاخرة) ليس حجة لأن المراجع تذكر ان الأقرع بن حابس كان مرتشياً من قبل بجيلة (بأيام الجاهلية) ، حيث يقول أبي عبيدة صاحب كتاب الديباج : المرتشون في الحكومة (أي في التحكيم) في الجاهلية ثلاثة :

الأول : ضمرة بن ضمرة النهشلي التميمي ، وكان قد تحاكم إليه عباد بن أنف الكلب وسبرة ابن عمرو الأسديان ، فأسترشى ضمرة عباداً ونفره على سبرة ، فأعطاه عباد عشراً من الإبل .

الثاني : الأقرع بن حابس المجاشعي التميمي تنافر إليه جرير بن عبدالله البجلي وخالد بن أرطاة الكلبي فمدحه جرير ورضخ له رضخة فنفر جريراً على خالد .

الثالث : مروان بن زنباع العبسي تحاكم إليه السفاح التغلبي وعمرو بن لأبي فارس مخلد من بني تيم الهل بن ثعلبة ، فأهدى إليه عمرو وأطعمه فنفره على السفاح ، وكان السفاح أفضل منه .