نشأة القبائل المعاصرة

التحالفات العشائرية ونشأة القبائل المعاصرة

*****

تذكر المراجع أن القبائل مثل الدول ، فهي أنماط ودرجات ، فمنها قبائل قوية تعتمد على نفسها في الدفاع عن كيانها ، ومنها قبائل أقل من هذة القبائل شأناً وقوة فتتحالف مع غيرها في الدفاع عن نفسها ، وهناك أيضاً بطون قبائل منفصلة عن القبيلة الأم فلا تتمكن من العيش لوحدها ، فتتحالف مع غيرها من القبائل أو البطون الأقوى منها ، فتندمج بها ، وتصبح كأنها منها بمرور الزمن .

وتذكر المراجع بان تحالف القبائل وتكتلها راجع إلى عوامل المصلحة والمنافع لكل قبيلة أو جزء منها ، وتتغير تلك التحالفات بتغير المصالح والظروف ، فتتولد تبعاً لذلك أحلاف لم تكن موجودة وتموت أحلاف كانت قائمة ، ولهذا التغير فعل قوي في تكوين الأنساب ونشوئها ، إذ تتبدل وتتغير الأنساب تبعاً لتغير الأحلاف والتكتلات القبلية .

ومن ناحية أخرى ، تذكر المراجع بان لكل قبيلة جد تنتمي اليه وتفاخر به ، وقد يكون هذا الجد ، جداً حقيقياً (أي انسان) تُنسب اليه القبيلة وتعرف باسمه . وقد يكون جد غير حقيقي (جد رمزي) ، كأن يكون اسم حلف ، أو يكون اسم موضع (اسم مكان) ، أو يكون اسم إله عبدته ، أو يكون اسم أم القبيلة ، مثل : باهلة وبجيلة وجديلة وجميلة وغيرهم .

والثابت بالمراجع أيضاً أن كثير من القبائل المعاصرة (بوقتنا الحاضر) هي بالأصل تحالفات وتجمعات قبلية أتخذت لها اسم جديد أتفق عليه المتحالفون ، كأن تتخذ القبيلة المعاصرة اسم البطن الرئيسي بالتحالف اسماَ للقبيلة ، مثل بني خالد وقبيلتي المناصير وبني ياس وغيرهم . أو قد تتخذ القبيلة المعاصرة اسم يدل على التحالف والتعاقد والتآزر ، مثل اسم قبيلة المنتفق الذي يدل على (الأتفاق) . أو قد يكون الاسم مشتق من اسم مكان ما ، مثل قبيلة الحياليون المشتق من منطقة اسمها (حيال) . أو قد يكون اسم التحالف القبلي مستمد من اسم فعل معين ، مثل قبيلة الجوارين المأخوذ من التجاور أو المجاورة . ويترتب على ذلك انه لايمكن رفع نسب القبيلة الناشئة من تحالف قبلي إلى قبيلة من قبائل العرب ؛ ويختفي بالغالب النسب الحقيقي للبطون الداخلة بالتحالف القبلي ؛ ويكتفى فقط بالانتساب للقبيلة الجديدة الناشئة من التحالف ، لذلك نجد مراجع الأنساب الحديثة تتضارب أقوالها بشأن نسب كثير من البطون المعدودة من قبيلة معاصرة معينة ، فمثلاً نجد العزاوي (في عشائر العراق) يقول ان عشيرة (البدور) من عشائر الأجود بالعراق ، ويقال أنهم بالأصل من قبيلة عنزة المعروفة .

ويقول حمزة (في كتاب قلب جزيرة العرب) أنه من الصعوبة بمكان أن يتمكن الباحث من الوقوف على أصول جميع القبائل العربية الموجودة بوقتنا الحاضر بسبب ضياع الكثير مما كتبه الأقدمون عن الأنساب ، وفقدان حلقات عديدة من سلسلة الأنساب في أيام ضعف وتفكك الدولة العربية والإسلامية . ويضيف حمزة أنه من العسير إرجاع فروع القبائل الحالية الى أصولها القديمة بسبب تحول القبائل عن أسمائها الأصلية إلى أسماء جديدة ، أو بسبب أتساع الفروع وصيرورتها قبائل مشهورة أكثر من القبيلة الأم (الأصلية) ، أو بسبب أشتهار القبيلة باسم أميرها فيغلب اسمه بمرور الزمن على اسم القبيلة الأصلي ، أو بسبب دخول بطون القبيلة بتحالفات قبلية مع بطون أخرى .

وقبائل بجيلة المعاصرة كثيرة ومنتشرة في الوطن العربي والإسلامي وينطق عليهم ما ذكرنا ، لذلك كثير منهم بالوقت الحاضر يشتهرون بأسماء مأخوذة من أحد بطون بجيلة أو أحد فروعها ، فمن قبائل بجيلة المعاصرة التي مازال معظمهم في جزيرة العرب : قبيلة بني مالك بجيلة بالحجاز وتهامة وجيرانهم بني الحارث وبني ذبيان وبني بجالة وغيرهم . وأيضاً هناك طوائف وأسر بجلية متحضرة أكتفت بلقب مشتق من اسم جدها الأعلى الذي تألفت من نسله الأسرة ؛ أو مهنة أحد أسلافهم ؛ أو موطنهم .

دخول بعض بطون قبيلة بجيلة بالقبائل المعاصرة

*****

طالما الثابت بالمراجع أن بطون قبيلة بجيلة منتشرة بجزيرة العرب وبلاد الشام والعراق وما حولها منذ القدم ، فمن الطبيعي أن تقوم بعض بطونها بتكوين تجمعات وتحالفات قبلية جديدة ، أو ما يسمى بالقبائل المعاصرة شأنهم شأن القبائل المعاصرة الأخرى ، وبذلك يختفي نسبهم الأصلي ويبقى نسبهم المكتسب من القبيلة المعاصرة الجديدة ، وهو الشيئ الذي جعل كثير من المراجع الحديثة اللجوء إلى التخمين والترجيح عند رفع نسب كثير من القبائل المعاصرة ، فمن أساليب التخمين أن تؤخذ (نخوة) القبيلة المعاصرة كوسيلة لتحديد نسبها الأصلي (قبيلتها الأم) ، فمثلاً إن كانت نخوة القبيلة المعاصرة (دروم) أو (دارم) ، يقال أن نسبها الأصلي يعود لقبيلة تميم ، لأن (نخوتها) نفس (نخوة) بني تميم ، وهكذا .

وأحياناً يكون الإجتهاد الشخصي للباحث هو الذي يحدد نسب القبيلة المعاصرة ، فمثلاً نجد العزاوي (في كتاب عشائر العراق) يرجح ان تكون عشيرة (السعيد) هي أحدى قبائل (زبيد) التي قدمت للعراق من بلاد الشام ، ويضيف بانه لا يعرف تاريخ نزوحهم للعراق ؛ ويقول بعضهم مازال بالشام ويقال لهم هناك (بني سعيد) ، ثم يقول بان السعيد عشيرة مستقلة بذاتها وغير تابعة لرئاسة (زبيد) العامة بالعراق ولا منقادة لعشيرة زبيدية أخرى ؛ وهي تتألف من : النوافع والشجير وبوجمعة وآل راشد وهم فرقة الرؤساء ويقال لهم الرواشدة ويتفرعون إلى الدهامشة والطرامشة .

ويلاحظ ان العزاوي لم يجزم بان (السعيد) من قبائل زبيد ، بل هو يخمن ويرجح ، وليبرر العزاوي تخمينه وترجيحه ؛ قال بان العشائر الزبيدية قدمت العراق منذ بداية الفتح الإسلامي عندما ورد العراق الأمير عبدالله بن جرير البجلي - هكذا ذكر العزاوي اسم الصحابي جرير بالخطأ - بقبائل بجيلة ومذحج ومنها قبائل زبيد ، وبطول الزمن لحقت تلك القبائل عدة تطورات وتحولات ، فاكتسبت أسماء جديدة ، أو إنها ذابت في المدن فلم تعد تعرف بأسمائها الأصلية وبقيت قبائل معاصرة تُنسب إلى قبائل زبيد القحطانية . (انتهى قوله)

وطبقاً لأمهات الكتب والمراجع فقد وقع العزاوي بعدة أخطاء فادحة ، أولها : أخطأ العزاوي باسم الصحابي الجليل جرير بن عبدالله البجلي رضي الله عنه الذي قاد بعض بطون بجيلة بفتح بلاد العراق ، وذلك عندما قال العزاوي ان اسمه (عبدالله بن جرير البجلي) ، وهو اسم أحد أبناء الصحابي جرير بن عبدالله البجلي رضي الله عنه ، وأبنه (عبدالله) لم يكن صحابياً .

والخطأ الثاني : قول العزاوي أن الصحابي جرير البجلي رضي الله عنه كان على رأس قبائل بجيلة ومذحج وزبيد عند قدومهم مع جيوش المسلمين لفتح العراق ، في حين أن الثابت بجميع المراجع أن الصحابي جرير البجلي رضي الله عنه قدم العراق على رأس بعض بطون بجيلة فقط وليس كقول العزاوي الذي شمل أيضاً قبيلتي مذحج وزبيد القحطانيتين ، وهو خطأ ثاني من العزاوي .

والخطأ الثالث : عندما لم يتمكن العزاوي من رفع نسب كثير من القبائل العراقية المعاصرة ، أدعى ان نسبها يعود لقبائل زبيد وأهمل قبيلتي بجيلة ومذحج ، وذلك بسبب - حسب قوله - أن جميع هذة العشائر لحقتها تطورات عديدة واكتسبت أسماء جديدة .

وملاحظتنا عن التحولات التي أصابت قبيلتي بجيلة ومذحج حسب قول العزاوي ؛ فيفترض انها تصيب أيضاً قبيلة زبيد التي نسب إليها عشيرة السعيد ، فلماذا اقتصر التحولات والتطورات على قبيلتي بجيلة ومذحج دون قبيلة زبيد ؟؟ . علماً أن هناك افخاذ وبطون معاصرة من قبيلة بجيلة مازالوا يقيمون بالعراق ولم يتطرق لهم العزاوي بكتابه ، ومنهم على سبيل المثال : العكابات (العقابات) ، والغلامات ، وحمير ، والمراونة ، وشوكة ، وهم أفخاذ تلتقي بالنهاية بجدهم الأعلى (هلال البجلي) طبقاً للمشجرات التي ارسلت لنا منهم .

وبرأينا أن تخمين العزاوي غير صحيح لأن (السعيد) عشيرة معاصرة تألفت من تحالف بطون مختلفة النسب مثل معظم القبائل المعاصرة ، وبالتالي فأن فرقة (نوافع) التي معها ربما هم بالأصل من نوافع بجيلة ، بل ربما عشيرة السعيد نفسها هي أحدى عشائر قبيلة بجيلة ، لأن الثابت بالمراجع أن هناك قبيلة من بجيلة باسم السعيد ؛ وهم : بنو سعيد بن عوف بن أسلم بن أحمس بن الغوث البجلي . أضف إلى ذلك فأن هناك أقسام من (النوافع) يعدون من قبائل أخرى غير عشيرة السعيد العراقية المعاصرة التي ذكرها العزاوي ، فمثلاً (النوافع) الذين بالسعودية عدهم صاحب (معجم قبائل السعودية) من قبيلة حرب الناشئة من تحالف بطون متباينة النسب القبلي . وأيضاً (النوافع) الذين في أبو ظبي عدتهم المراجع الحديثة من حلف المناصير وبني ياس الناشئ من تحالف بطون قبائل مختلفة النسب .

ومن جانب آخر ؛ كان الأجدر بالعزاوي أن يخمن أو يرجح أن تكون عشيرة العزة العراقية هي إحدى قبائل بجيلة ، لأنه قال عن العزة انها قبيلة عراقية قحطانية تألفت من تحالف عشائري وأصل موطنها (السراة) بالحجاز ، ومن بطونها (البوجيلي) و(البو فتيان) . فطالما العزة قبيلة معاصرة تكونت من تحالف بطون مختلفة النسب ، فربما (البوجيلي) هو تحريف (البجلي) ، وأيضاً ربما (البو فتيان) هم نفسهم (بنو فتيان) بعد إهمال حرف (النون) في لفظ (بنو) حسب نطق أهل العراق ، خصوصاً انه يقول ان أصل موطن العشيرة هو (السراة) ، والسراة بالحجاز هو الموطن الأصلي لبطون قبيلة بجيلة طبقاً للمراجع ، والمراجع تذكر بأن بطن (بنو فتيان) من بجيلة سكنوا الكوفة بالعراق منذ القدم ؛ وهم : بنو فتيان بن ثعلبة بن معاوية بن زيد بن الغوث البجلي ؛ واشتهر منهم : رفاعة بن شداد الفتياني البجلي .