من الشرق - موسيقى محمد عبد الوهاب

مقام كورد 1942 تحليل موسيقي / د.أسامة عفيفي

من الشرق.wmv

مجازا لا يمكن مقارنة موسيقى "من الشرق" بأي موسيقى لعبد الوهاب قبلها .. باختصار نحن أمام موسيقى جديدة مختلفة كلية عن موسيقى الثلاثينات ..

هي إجمالا أعمق وأشد تعبيرا وأكثر تطورا، وسيلزمنا الحديث ببعض التفصيل لبيان مدى التغير والاختلاف

وتعد موسيقى "من الشرق" قفزة هامة في موسيقى عبد الوهاب ومحاولة ناجحة للخروج من قيود القديم ومحاذيره التي وقعت الموسيقى العربية في أسرها لحقب طويلة

سمات خاصة

1. التحرر

يتخلص المؤلف هنا من أي علاقة بالأشكال الموسيقية القديمة التي اعتاد استعمالها فيما سبق من موسيقى (السماعي – التحميلة – التقسيم)، ويظهر هذا في:

  • غياب وحدة المقام

  • غياب وحدة الإيقاع

  • غياب تسريع الرتم في الحركة الأخيرة

  • غياب التسليم

2. التعبير

  • العنوان

يرتبط الجو الموسيقي في "من الشرق" بعنوان المقطوعة مباشرة، وصحيح أن المؤلف لم يستخدم أيا من المقامات الشرقية ذات ثلاثة أرباع التون، لكنه استخدم مقامات شرقية صميمة نادرا ما ترد في موسيقى الغرب مثل الشاهناز والحجاز.

وهنا يظهر التساؤل "إلى من يتوجه العنوان ومن الذي يخاطبه؟". الانطباع الأول يوحي بأن العنوان موجه للغرب، فالشرق أعرف بمادته، ولهذا وجب تكوين موسيقى ذات ملامح شرقية تماما لكن باستخدام أدوات يمكن أن يفهمها الغربيون. وتم ذلك للمؤلف بالابتعاد عن استخدام ربع التون ولو كان قد فعل لخرجت الموسيقى شرقية للشرقيين فقط ولا يمكن أن يدركها الغرب لاختلاف الأبجدية الموسيقية.

التساؤل التالي المنطقي "هل كان عبد الوهاب يخاطب الغرب فعلا؟". في ذلك الوقت كان الشرق يعج بالمستشرقين، وكما نشطت حركة الاستشراق في التاريخ والجغرافيا نشطت أيضا في الأدب والفن والموسيقى، أي أنه ليس بالضرورة أن يكون الخطاب موجها للمستمع الغربي في موطنه.

والجواب أنه قد دخل في ديالوج موسيقي مع الموسيقى الغربية واستعار الكثير من أساليبها في موسيقاه لكنه ربما أراد التنويه إلى أن الأساليب الغربية يمكن استخدامها في موسيقانا بحيث يكون الناتج موسيقى شرقية خالصة، وهكذا يثبت أن استعارة الأسلوب شيء والنقل بالنسخ عن ثقافة أخرى شيء مختلف تماما

هذا يقودنا إلى ما هو أخطر من الاثنين، وهو أن موسيقى عبد الوهاب قد لفتت أنظار الغرب بالفعل وظهرت موسيقاه في موسيقى الغرب خاصة في اليونان وروسيا وبريطانيا وأميركا الشمالية والجنوبية مما يؤكد أن علاقة عبد الوهاب بالموسيقى الغربية كانت علاقة متبادلة وليست من طرف واحد

  • التعبير الآلي باستخدام آلة العود الشرقية في العزف المنفرد يخدم مباشرة التعبير عن العنوان "من الشرق"

  • استخدام الصوت البشري في الفقرة الثانية بإشراكه في النسيج الهارموني وليس في الميلودي الأساسي، وهو استخدام خفيف يكاد لا يلحظ لكنه يمنح الموسيقى لمحة غنائية إنسانية

  • التعبير بالإيقاع

- الإيقاع الثلاثي في الحركة الثانية وهو إيقاع مشترك بين الشرق والغرب

- الإيقاع الموحي بوقع سير القافلة العربية خاصة في الحركة الثالثة

- تنويع الإيقاع واستخدام الحوار بين الموسيقى الحرة والموسيقى الموقعة

3. البناء الدرامي

  • تقسيم العمل إلى 3 حركات غير ظاهر تماما لكن المستمع يمكنه التمييز بين الحركات الثلاث لاختلاف مقاماتها وأرتامها

  • استخدام الراية الموسيقية : يستخدم المؤلف جملة واحدة من وسط الحركة الأولى (أداء الوتريات أعلى مقام الشاهناز الملون) لاستعادة جو البداية في نهاية الحركة الثانية كبديل عن التسليم أو الإعادة التقليدية لحركة كاملة وهذا من شأنه ربط الحركات برمز أو أيقونة صغيرة أكثر منه عودة للبداية، ويشبه رفع الراية وسط الحشود للتعبير عن وحدة العمل

  • استخدام الحوار الموسيقي

- الحوار بين الجمل الموسيقية

- الحوار بين الآلات والأوركسترا : الكمان ، العود ، الشللو

- الحوار بين المقامات بالتداخل أحيانا وبالإقلاب في مواضع أخرى

- الحوار بين الموسيقى الحرة والموسيقى الموقعة

  • استخدام الهارموني كما يظهر في رد الأوركسترا على سولو الكمان في الفقرة الثانية، مما يمنح الموسيقى البعد الثالث المفقود غالبا في الموسيقى الشرقية

التكوين الفني

الحركة الأولى

1. الفقرة الأولى تبدأ بجملة افتتاحية حرة قوية عبارة عن قفزة موسيقية من الدرجة الرابعة إلى قمة السلم يعقبها رد بنفس القوة بقفزة من درجة الأساس إلى الدرجة الخامسة لينشأ حوار افتتاحي قصير

2. الفقرة الثانية جملة موقعة سريعة ترسخ المقام الأساسي (كورد) باستخدام الدرجات الأدنى من السلم

3. الفقرة الثالثة تبدأ بجملة حرة من قمة السلم بالوتريات مع تغيير المقام إلى شاهناز لكن مع فتح الدرجة الثانية العلوية إلى طبيعية، وهو تلوين شائع للمقام وأكثر شيوعا في مقام الحجازكار (المماثل له في السلم مع الارتكاز على الراست دو) ويمكن الاستماع لنموذج هذا التلوين في موشح "زارني المحبوب" لسيد درويش

تتدرج جمل الفقرة في الهبوط إلى أساس السلم مع التركيز على جنس الحجاز العلوي ثم جنس الحجاز السفلي فيظهر واضحا تركيب مقام الشاهناز من حجازين (أحيانا يسمى بمقام الحجازين)

4. الفقرة الرابعة تعيد الموسيقى بالأوركسترا إلى مقام الكورد، وهنا يظهر أيضا تركيب مقام الكورد من جنسين كلاهما كورد، العلوي يرتكز على الدرجة الخامسة والسفلي على أساس المقام، لكن المؤلف هنا ينهي الفقرة على الدرجة الخامسة الدنيا (لا) دون استخدام الكورد الأساسي (هذا التركيب غير معتاد ذكره في ميثودات الموسيقى الشرقية حيث يذكر تركيبه عادة من جنس كورد على الأساس ثم نهاوند على الرابعة ثم عجم على السادسة، لكن يمكن وصفه كما ذكرنا بأنه يتركب من جنسين كورد وهذا يساير تماما تركيب الشاهناز المتفرع منه من جنسين حجاز)

الحركة الثانية

1. الفقرة الأولى فقرة حرة (سولو كمان) يتغير بها المقام إلى النهاوند المصور على الدوكاه (أي درجة الأساس ري)، وهذا معناه تغيير المقام الأساسي على نفس درجة الركوز من كورد إلى نهاوند، وهذا التغير يختلف كليا عن التغيرات المقامية السابقة التي تستخدم فقط فروع أو أجناس المقام الأساسي

2. الفقرة الثانية عبارة عن رد من الأوركسترا على سولو الكمان من نفس المقام وباستخدام ميلودي مشابه وبعض الهارموني

3. الفقرة الثالثة سولو عود يستخدم ميلودي قريب من سولو الكمان لكن على إيقاع ثلاثي مصحوب بإيقاع نغمي من الوتريات

4. الفقرة الرابعة رد من الأوركسترا ينتهي على أساس مقام النهاوند المصور

5. ختام الحركة الثانية بإعادة للفقرة الثالثة من الحركة الأولى تستعيد جو البداية

الحركة الثالثة

1. الفقرة الأولى جملة توقيعية بإيقاع رباعي

2. الفقرة الثانية حوار بين آلات الشللو والأوركسترا مقام حجاز على نفس الإيقاع تنتهي برد قصير من الأوركسترا في مقام كورد الحسيني ثم الركوز على أساس مقام الفرحفزا (درجة واحدة أقل)

3. الفقرة الثالثة إعادة لميلودي الشللو من الأوركسترا

4. الفقرة الرابعة استعادة للفقرة الأولى التوقيعية

5. ختام بضربات قوية على أساس سلم الكورد

كما ذكرنا تعد موسيقى "من الشرق" قفزة هامة وتطور مميز في موسيقى عبد الوهاب والموسيقى العربية بشكل عام. والأهم من ذلك أن القوالب الموسيقية الأقدم توارت بالفعل بعد ذلك وأصبحت للموسيقى العربية البحتة بصمة خاصة وهوية متفردة. نقد وتحليل د أسامة عفيفي، مؤلفات عبد الوهاب الموسيقية، موسيقى من الشرق