من أشهر النماذج المستخدمة لتوصيف الشخصية ما يعرف باسم "نموذج المقاييس الخمسة الكبرى". يفترض هذا النموذج أن الشخصية يمكن توصيفها حسب خمس مقاييس. لنتوقف هنا قليلا لتوضيح معنى "مقياس". عندما تقف على الميزان و تقرأ منه أن وزنك 75 كجم، بافتراض دقة الميزان، فإنه لا يمكن أن يختلف اثنان على هذا المقياس، كذلك فإنه عندما يقاس طولك بشكل جيد و نجد أن طولك 178 سم فإن ذلك مقياس لطولك لا يمكن الاختلاف عليه. من هنا يمكن القول أن وزنك و طولك عبارة عن مقاييس موضوعية عنك. أما أن يأتى أحدهم و ينظر إليك ثم يصفك بالقصير فذلك مقياس هوائى (من الهوى) أو ما يسمى أحيانا بمقياس غير موضوعى. ذلك لأنه قد ياتى أحدهم و يصفك بالطويل بناء على ما تعود عليه من الأطوال، بذلك فإن مقياس طويل و قصير إنما هو مقياس يمكن الاختلاف عليه كما يمكن أن يحدث مع مقياس "رفيع و سمين" أما ما هو موضوعى فلا يمكن الاختلاف عليه.
كثير من المقاييس التى نستخدمها يمكن الاختلاف عليها، لذلك يسعى العلاماء، فى مختلف أوجه المعرفة، إلى وضع مقاييس تميل إلى الموضوعية لتمكنهم من مقارنة الحقائق و تصنيفها. من هذه المقاييس ما أطلق عليه "المقاييس الخمس الكبرى" و التى تستخدم فى توصيف الشخصية كما أسلفنا. مع مرور الوقت، أظهر هذا النموذج دقة عالية فى توصيف الشخصية و التنبؤ بالسلوك. المقاييس الخمسة هى الانفتاح و الوعى و الظهور و التوافق و النفعالية. سنقدم فيما يلى شرح مبسط لكل من هذه المقاييس عن طريق شرح بعض سمات من يحصلون على قياس منخفض أو مرتفع فى كل منها.
تتسم الشخصيات ذات القياس من المنخفض فى الانفتاح بأنها تميل إلى السطحية و التبسيط. تميل الشخصية من هذا النوع إلى قبول أول أو أبسط التفسيرات لما يدور حولها كما أنها لا تبذل كثيرا من الجهد فى البحث عن تفسيرات أخرى أو فى التدبر فى المعطيات و العواقب للأمور. حقيقة الأمر أن التصرف بهذا الشكل قد لا يكون بالسوء الذى يبدو عليه لأول وهلة. تخيل أنك تدرس لأول مرة فى الفيزياء ان المادة تتكون من ذرات و أن الذرات تتكون من نواة و إلكترونات، أليس من المنطقى أن نبدأ بشرح العلاقة بين النواة و الإلكترون كعلاقة الشمس بالكواكب؟ بينما التفسير الأقرب للحقيقة هو تفسير يشرح حركة الإلكترونات كحركة عشوائية ذات محددات إحصائية يصعب على الكثير منا فهمها و قد يكون من المستحيل على طلاب المدارس إدراكها فى مستهل دراستهم لعلوم الفيزياء و الرياضيات.
خلاصة القول أن البساطة و السطحية من الأمور التى نميل لها بشكل طبيعى لصعوبة البحث فى حقائق الأمور فى كل ما نتعرض له فى حياتنا. مع ذلك، فإنه أن لم نبحث بالمرة و لم نتحقق من أى مما يدور حولنا، لما أصبحنا بشرا بالمرة.
على الجانب الآخر لهذا المقياس تأتى الشخصية ذات المستوى المرتفع فى الانفتاح، تلك الشخصية تميل بشكل عام للتفكير الخلاق المصاحب لرغبة دائمه فى البحث عن الجديد و معرفة الحقائق. يمكن القول بدون مبالغة ان الشخصية الخلاقة هى مصدر كل التطور و الحضارة فى تاريخ البشرية، ذلك أنها هى الشخصية التى تتمكن من الربط بين مقدمت الأمور و توابعها و خلق نماذج لوصف و التنبؤ بالنتائج. إلا أن هذا باتبعية ينتج عنه الكثير من النماذج الخاطئة التى لولاها ما وصلت البشرية للنماذج السليمة.
كثيرا ما يوصف أصحاب الدرجات العالية فى الانفتاح بالذكاء. هنا تأتى وقفة ضرورية للتفريق بين نموذجين مهمين للذكاء، الأول يعتبر الذكاء معيار ثابت يوصف به المرء أو يفتقده بدرجات متفاوته أما النموذج الآخر فيعتبر الذكاء مهارة تأتى بالتدريب و بالتالى يمكن تنميتها أو إضعافها. كثير من الدراسات أجريت فى هذا المجال مما قد لا يتسع له هذا المقام، إلا أنأ نميل إلى الإيمان بأن أغلب، إن لم يكن كل، ما يتمكن البشر من أدائه سواء جسديا أو عقليا إنما هو مهارة يمكن تنميتها بالتدريب و أن ما يختلف فيه البشر من إمكانات إنما هو نتيجة لما مروا به من خبرات و تجارب على فترات مختلفة من حياتهم. الخلاصة هى أن الذكاء ما هو إلا تدريب مستمر فى طريق ربط الأمور بعضها ببعض سواء فى البحث العلمى أو فى رفع الأثقال.
أخيرا، يمكن تعريف مقياس الانفتاح على أنه الرغبة فى معرفة الحقائق و عدم الميل إلى التبسيط.
تتسم الشخصيات ذات المقياس المنخفض فى الوعى بالإهمال و النسيان. ذلك أن الشخصية قليلة الوعى لا تفكر كثيرا فى عواقب أفعالها و لا تهتم بتأثير ذلك على نفسها أو على الآخرين. ياتى النسيان بالتبعية للإهمال ذلك أننا لا نحفظ فى الذاكرة إلا ما نظن أنه مهم، و إهمال قليلا ما يصاحب الظن بأهمية الأمور و نتائجها. قليل منا من لم يتعامل بأهمال فى بعض الأمور و كثيرا ما ننسى ما نكتشف لاحقا أهميته، فذلك من طبائع البشر. و إنما نصف الشخص بانخفاض الوعى عندما تصبح هذه التصرفات من السمات المرتبطة به.
على العكس نجد الشخصية ذات المقياس المرتفع فى الوعى. تميل هذه الشخصية إلى الحرص و يمكن الاعتماد عليها. ينبع الحرص من المحاولة المستمرة للتعرف على تبعات ما يقومون به أو ما يتخذونه من قرارات. عادة ما تتصف هذه الشخصية بالجدية و الصدق فى التعامل و عادة ما تقوم بالأعمال بشكل متقن، لذلك فدائما ما تكون محل ثقة من حولها و يسهل عليهم الاعتماد على وعودها و التزاماتها. إلا أن الثمن، الذى عادة ما يرتبط بالحرص، هو البطئ.
بناء على ما سبق يمكننا تعريف الوعى على أنه القدرة على إدراك التبعات و التفكير بحرص فى النتائج.
تميل الشخصية ذات المقياس المنخفض فى الظهور إلى الصمت و الخجل و الخصوصية. تحب هذه الشخصية البقاء بعيدا عن التجمعات بشكل عام و عندما تتواجد فى مجموعات تميل إلى عدم الظهور أو التحدث بشكل يلفت إليها الأنظار. كثيرا ما تظن هذه الشخصية فى نفسها نقاط ضعف كثيرة لا تريد أن يتعرف عليها الآخرون لذلك قد تميل إلى تنفير الآخرين لمنعهم من الاقتراب من نقاط الضعف. كثيرا ما يساء فهم ذلك السلوك على أنه من التكبر إلا أن التكبر منبعه إحساس بالأفضلية و ليس بالضعف.
بينما تتسم الشخصية ذات مقياس الظهور المرتفع إلى النشاط و التحدث بثقة و قوة الشخصية. تستمد هذه الشخصية الطاقة من التواجد بين مجموعة من الناس حيث تقوم بالحديث و التفاعل المستمر مع من حولها كما أنها تبدى ثقة عالية فى ما تتقول مما يجعل من حولها أقرب للتصديق و الانفعال مع أفكارها. ذلك يؤدى بالضرورة إلى قدرتها العالية فى التأثير و القيادة أو حتى قدرتها على دفع الآخرين فى الطريق الذى تؤمن به. كما تبدو هذه سمات مهمة عند كثير من الأشخاص فإنها كذلك السمات الضرورية لمن يريد خداع الآخرين. لسنا هنا فى مقام مجح أو ذم إنما نريد توضيح السمات بشكل عام و التى دائما ما يمكن أن ينتج عنها تبعات مختلفة.
بالتالى يمكننا هنا تعريف مقياس الظهور على أنه ميل الشخصية للتواجد و التأثير فى الآخرين.
نلاحظ على الشخصيات ذات القياس المنخفض فى التوافق البرود و القسوة و عدم الود فى التعامل مع الآخرين. ليست هذه من الصفات المحببة للآخرين على الإطلاق حيث تعتبر هذه الشخصية من حولها أقل درجة أو درجات و تتعامل معهم من منطلق عدم استحقاقهم للاهتمام. لا تنزعج هذه الشخصية من إلحاق الاذى بالآخرين كما أنها لا تعبأ بكيفية تقييمهم لسلوكها. بالطبع، فى الحالات المتطرفة، تعتبر هذه الشخصية من أخطر الشخصيات المريضة فى المجتمع و كثيرا ما تمارس الجرائم غير عابئة بالتبعات. فى الحالات المخففة من هذه الشخصية نجدها لا تعبأ بحب الناس و تمارس عملها بجدية بغض النظر عن تأثير سلوكها فى الآخرين و تنحصر دائرة اهتمامها بالناس فى عدد قليل جدا من المقربين بسبب القرابة أو المصالح.
على الطرف الآخر من المقياس نجد الشخصية التى تتسم بالتعاطف و التعاون و الود مع الآخرين. دائما ما تكون هذه الصفات محببة للآخرين و تجعلهم يتقربون من هذه الشخصية و يعتمدون عليها فى مساعدتهم فى الأمور المختلفة. لا يمكن هنا تجاهل تأثير ذلك السلبى على الشخصية التى تتصف بالتعاطف و التعاون و الود، ذلك أنه كثيرا ما يشكل إهتمام هذه الشخصية بالآخرين عبئا ثقيلا عليها حيث تنفق الكثير من الوقت و الجهد الجسدى و النفسى فى محاولاتها خدمة الآخرين مما قد يؤدى بالبعض الى الانهيار تحت الجهد النفسى الذى ياتى مع هذه السمات الجميلة. من هنا وجب التنبيه على أن تنتبه، الشخصية التى تميل إلى هذه السمات الجميلة، إلى احتياجاتها النفسية من السكينة و الهدوء و الجسدية من الراحة و الاسترخاء حتى تستطيع الاستمرار فى خدمة و حب الآخرين.
مما سلف يمكننا تعريف مقياس التوافق على أنه الميل للتعاون و الاهتمام بالآخرين.
كثيرا ما توصف الشخصية ذات الانفعالية المنخفضة بالهدوء و الرضا. و لكن لا يجب ألا نخلط ذلك بعدم الإحساس أو البرود الانفعالى. فإن الهدوء يرتبط بضبط النفس عند الانفعال فهى شخصية تشعر بالغضب و الفرح و الخوف و الحب و لكن سلوكها، كرد فعل للشعور، يأتى فى شكل هادئ و يميل إلى التعادل تحت الظروف المختلفة. الخلط فى هذه الحالة سهل مع الشخصية التى لا تنفعل بالمرة، ذلك أن ردود الأفعال قد تبدو متشابهة إلا أن فقدان الشعور مرض مرير يفقد بسببه الشخص إحساسه بإنسانيته بسبب عدم الشعور بالغضب أو الحزن أو الفرح أو الحب. للتفريق بين الشخصيتين يجب ملاحظة ردورد أفعالهم تحت الظروف المتطرفة و التى تنفعل لها الشخصية الهادئة بشكل غير مبالغ فيه بينما لا تبدو أمارات الانفعال على الشخصية فاقدة الشعور بالمرة.
من الصفات المرتبطة بالشخصية منخفضة الانفعال كذلك سمة الرضا و التى تظهر مع عدم الجزع فى المصائب أو الفرح الشديد فى مواضع الفرح. كذلك فإن الرضا يسهل خلطه بالخنوع و السكوت على الظلم او عدم السعى لتحسين الحال و التغيير بشكل عام و فرق بين الرضا بالحال و السعى للتحسين المستمر مع استمرار الرضا بالنتائج و بين الخنوع و الضعة و قبول الحال كما يكون مع عدم الرغبة أو السعى فى التغيير و التحسين.
أما الشخصية التى تحصل على مقاييس عالية فى الانفعالية فتتسم بالقلق و الانفعالية و التأرجح بين المشاعر.
بالتالى يمكننا الآن تعريف مقياس الانفعالية على أنه مقدار جنوح الشخصية عن ضبط سلوكها تحت ظروف المشاعر المختلفة.