العلاقة بين الديكتاتور والجن الأزرق

العلاقة بين الديكتاتور و الجن الأزرق

لماذا لايهم كثيرا كيف يرحل الديكتاتور؟

بعد مقالاتي الأخيرة عن الديكتاتور، من تشبيهه بالديناصور المنقرض إلى مقارنته مع رئيس عصابة إلى وضعي دليلا للتعرف عليه وتمييزه عن غيره، أعود اليوم لأسجل ظاهرتين لاحظتهما خلال الثورات الأخيرة التي عمت المنطقة العربية. أما الأولى فهي الإجماع الشعبي شبه المطلق على كراهية الديكتاتور واحتفال الناس بسقوطه هذا السقوط المهين، أما الثانية فهي اكتشافي لعلاقة غريبة بين الديكتاتور وبين الجن الأزرق (إذا كنت من المؤمنين بوجود الجن لتؤمن بوجود الأزرق منه)! سأبدأ بعرض الظاهرة الأولى تاركا الثانية للنهاية، ولكن وقبل هذا وذاك أريد الإشارة إلى (مسيرات التأييد) التي يسيرها الديكتاتور وحاشيته خلال الأزمات ليقول من خلالها للشعب والعالم (وربما لنفسه أيضا) بأنه ليس مكروها للدرجة التي يظهره بها معارضوه. إلا أن كل العالم يعرف حقيقة هذه المسيرات (المسرحية) وأن النسبة الأكبر من المشاركين فيها هم في الحقيقة (مُسَيرون) من قبل النسبة الأقل التي (تسوقهم) بالعصا وتمثل العناصر الأمنية، وسيكون لي وقفة مع ظاهرة (مسيرات التأييد) هذه في مقال لاحق.

فالديكتاتور وخلال سنين سيطرته الكاملة على الحكم، لم يترك لنفسه أي أصدقاء في صفوف الشعب، ولم يحسب حساب ساعة كساعة الثورة هذه، بل اكتفى بشراء الحاشية التي تحيط به والتي تضمن حمايته الشخصية. وهي طبعا الحاشية الأمنية بمعناها الواسع والتي تعرض خدماتها للبيع لمن يدفع أكثر. خلال سنوات التسلط هذه، اختار أن يلعب دور مُـذِل ْ الشعب، وهي سياسة معروفة عن الديكتاتور في كل زمان ومكان. فهو يأمر حاشيته بابقاء شعبه مذلولا من الناحية المعيشية وتنقيله من أزمة إلى أزمة، بحيث كلما تنفس المواطن قليلا بانفراج واحدة خنقه بغيرها. فاليوم يجعله يجري خلف الخبز، وغدا خلف الرز والسكر، ثم خلف الغاز والمحروقات، ثم يعطشه بقطع الماء، ثم يجعل حياته مظلمة بقطع الكهرباء، كل ذلك تحت شعار (بناء الوطن ومجابهة الأعداء يتطلب التضحيات وشد الأحزمة) وطبعا هو يقصد هنا أحزمة الشعب، لاحزامه ولا أحزمة حاشيته. هو في الحقيقة يقول للشعب أن (ضرورات الحكم الديكتاتوري تتطلب الإذلال والتجويع). فبعد هذا هل يعقل أن يتعاطف الشعب مع مذليه أو يقف معهم حين يجدون أنفسهم قد وصلوا هم أنفسهم إلى مواقف ذليلة لايحسدون عليها؟ هذا في الواقع يذكرني بالمثل الشعبي الذي يقول (شو بدي اتذكر منك ياسفرجل، كل عضة بغصة)

بالاضافة لدوره كمذل للشعب، فالديكتاتور يبرع أيضا بلعب دور اللص وعلى المكشوف، غير آبه بمشاعر الشعب الذي يقف متفرجا على حاكمه ومعه أسرته وأقاربه وحاشيته ينهبون خيرات الوطن ويحتكرون الاستثمارات والمشاريع حتى تبلغ ثرواتهم البلايين في حين أن عامة الشعب تعيش من يوم ليوم وعلى أو تحت خط الفقر. ولاينسى الديكتاتور من حين إلى حين إعادة عرض مسرحيات مثل (من أين لك هذا) أو (المحاكم الاقتصادية) من أجل تلميع صورته من جهة (وأنا شخصيا لاأعرف وصفة بامكانها تلميع صورة أي ديكتاتور)، والتخلص ممن خرج عن قواعد اللعبة من جهة ثانية (فاللصوص أيضا يختلفون في بعض الأحيان على قسمة الغنائم وقواعد السرقة). وهذا الأمر بمجمله يذكرني بالمثل الشعبي الذي يقول (حاميها حراميها). ولكن المحزن هنا هو استخفاف الديكتاتور وحاشيته بذكاء الشعوب وظنهم بأن مسرحيات كهذه، أكل الدهر عليها وشرب، مازالت تنطلي على أحد. فهل يعقل أن يتعاطف الشعب مع سارقيه ويأتي لنجدتهم حين يكونوا على وشك السقوط؟

بالاضافة لدوري الإذلال واللصوصية اللذين يلعبهما الديكتاتور ، وياليته اكتفى بهما، فهو أيضا يؤدي دورا أكثر بشاعة وهو دور الجلاد، حيث يقوم هو وحاشيته بالتنكيل بالشعب إلى أبعد حدود. ويتمثل ذلك بالاعتقالات الفوضوية التي لاتستند إلى أي تهمة قانونية والتي طالما كانوا يبرعون بايجاد التسميات والمبررات لها من ضرورات أمنية إلى شأن سياسي إلى سب الحاكم إلى التآمر لصالح أطراف خارجية وهلم جرا. كل ذلك بهدف إطلاق يد العناصر الأمنية بالتصرف مع المعتقلين دون ضابط أو رقابة قانونية أو أخلاقية، فينزلون بهم ألوان التعذيب اللاإنسانية بل ويقتلوهم ويدفنوهم مع إنكار وجودهم لديهم أصلا، وشعارهم المفضل لتغطية هذه الجرائم هو أن (أمن الوطن فوق الجميع). وبعد أن عانت الشعوب العربية من محيطها إلى خليجها ولأجيال طويلة من هذا التسلط للديكتاتور وحاشيته، فهل يعقل أن يتعاطف أحدها مع جلاديه حين تزف ساعتهم؟ بل هل يعقل ألا يحتفل بساعة السقوط هذه؟

بالإضافة لمجموعة الأدوار السابقة التي يلعبها الديكتاتور ونظامه، إلا أن الدور الذي يجيده أكثر من غيره هو السفاح. فهو لايكاد يلمس أي معارضة حقيقية لحكمه وبالتالي أي تهديد لفقدانه مكاسبه، حتى يسارع إلى استدعاء الأمن والجيش بكامل عدته وعتاده وطائراته ودباباته ومدافعه ومصفحاته لمحاصرة المدن ودكها وقلب عاليها واطيها وكأنه في ساحة حرب حقيقية ويحارب عدوا خارجيا وجيوشا نظامية مدججة بالسلاح. ثم لايجد حرجا من إطلاق مختلف التهم والأسماء على شعبه من جرذان وعملاء للأجنبي وأدوات للاستعمار إلى آخر مايحتويه قاموسه من مفردات حفظها الناس عن ظهر قلب. ولكن وبغض النظر عما يتهم به الناس وبماذا ينعتهم أو حتى بماذا يعدهم من إصلاحات، فهو باختصار شديد يقول لهم بأنه سفاح وبأن ثمن رحيله هو أنهار من الدماء. والشعب، وبعد كل هذه السنوات، بات يفهم الديكتاتور ويعرف تماما أن وعوده بالاصلاح ليست بأكثر من حبر على ورق، فلماذا يصدقه اليوم ويمنحه المزيد من الوقت لسفك المزيد من الدماء؟ وبالتالي لايعقل أن يتعاطف الشعب مع جزاريه حين يشارفون على السقوط، بل لايعقل أن لايحتفل بهذا السقوط. وهذا يذكرني بالمثل العربي القديم (جنت على نفسها براقش).

في النهاية، أريد تسجيل ظاهرة تدعو للسخرية وباتت عاملا مشتركا يجمع كل ديكتاتور يتعرض نظام حكمه للخطر هذه الأيام، بغض النظر عما إذا كان مواليا للغرب أو للشرق، مستسلما أو ثوريا، خانعا أو ممانعا، رجعيا أو تقدميا. وهذه الظاهرة يمكن اختصارها بأن كل هؤلاء الحكام وعلى اختلاف اتجاهاتهم، وهذا بالتحديد مايدعو للسخرية، اتهموا نفس (الأطراف الخارجية) والمتمثلة (بإسرائيل وأمريكا وأوربا) بالوقوف خلف تلك الثورات، وكأن شعوبهم التي عانت طويلا من ظلمهم وإجرامهم ليس لها أي وجود أو كلمة أو دور. وما أريد أن أقوله هنا لهؤلاء الحكام أنهم قد أوصلوا شعوبهم إلى درجة من اليأس والقهر والإفلاس مادفع بعض الناس لدرجة الإنتحار حرقا كما شاهدنا في عدة دول عربية مؤخرا، وهي أصلا ظاهرة غريبة عن مجتمعاتنا المحافظة. ومن يصل إلى مرحلة إشعال النار في نفسه، فهو في الحقيقة لن يهمه كثيرا فيما إذا كانت هناك جهات خارجية تستهدف إسقاط الديكتاتور ونظامه أم لا. فحتى لو كان (الجن الأزرق) خلف هذه الأحداث، فلن يهمه هذا في شيء، وإذا كان حقا يهمه معرفة هوية هذه الجهات، فلا لشئ ولكن ليشكرها على مساعدته للتخلص من سفاحيه!

ملاحظة: من يعتقد بوجود الجن يعتقد أن الأزرق منه هو أسوأ أنواعه.

بقلم: طريف يوسف آغا

هيوستن / تكساس

ربيع الثاني 1432 / نيسان، ابريل 2011

http://sites.google.com/site/tarifspoetry