فَاعْلَـمْ بِأَنَّ الوَصْــفَ بِالوُجُــودِ
*
مِنْ وَاجِبَـاتِ الوَاحِـدِ المـَعْبُـودِ
إذا علمت أنه يجب على كل مكلف أن يعرف ما يجب وما يستحيل وما يجوز لله تعالى وعلمت الطريق الموصل إلى المعرفة (فاعلم بأن الوصف) أى: اتصافه تعالى (بـ)ـصفة (الوجود)، ويصح أن يراد أيضا بالوصف الصفة والباء للتصوير والتفسير أى: بأن الصفة المفسّرة بالوجود (من واجبات الواحد المعبود) أى: بعض الصفات الواجبة له تعالى؛ إذ الواجبات له تعالى كثيرة لا تنحصر فيما ذكر هنا لأن صفاته تعالى الكمالية لا تتناهى إلا أنه لا يجب علينا تفصيل ما لم يقم عليه الدليل بالخصوص بل الواجب أن نعتقد أن كمالاته تعالى لا تتناهى على الإجمال.
وأما ما قام عليه الدليل بخصوصه فيجب اعتقاده تفصيلا وهو ثلاثة عشر صفة وأضدادها بناء على مذهب الأشعري والمحققين من أن المعنوية ليست بصفات زائدة على المعاني وأن الحق أن لا حال وعليه فالوجود عين ذات الموجود ليس بصفة زائدة عليها وفي عده من الصفات تسامح باعتبار أن الذات توصف به في اللفظ فيقال ذات الله موجودة فليتأمل.
ومعنى كون وجوده واجبا أنه لا يقبل الانتفاء أزلا وأبدا أى: لا يمكن عدمه لما مر في تعريف الواجب.
إِذْ ظَـــاهـــِـرٌ بِــأَنَّ كُــلَّ أَثَــــرٍ
*
يَـهْدِي إِلَى مُـؤَثــِّرٍ فَـاعْـتَــبـِرِ
ثم برهن على وجوده تعالى بوجود صنعته جل وعلا فقال: (إذ ظاهر بأن كل أثر) أى: لظهور أن العالم أثر أى: صنعة لما مر من أنه حادث وكل أثر (يَهدي) بفتح الياء (إلى مؤثر) أى: يدل على صانعه؛ إذ لا يعقل صنعة بدون صانع وإلا لزم الترجيح بلا مرجح وهو محال لما مر.
وإذا علمت أن كل صنعة تدل على وجود صانعها (فاعتبر) أى: تأمل في ملكوت السموات والأرض ودقائق الحكم لتعلم بذلك أنه الواجب الوجوب المالك المعبود القادر الودود العلي العظيم العليم الحكيم فتهتدي إلى ما خلقت لأجله ثم تترقى إلى وفور حبه وشكره فيترتب على ذلك تفجير ينابيع الحكمة من قلبك وتقعد في مقعد صدق عند ربك ولنذكر لك شيئا من ذلك لتقيس عليه غيره، فنقول:
قال الله تعالى:﴿ وَفِيٓ أَنفُسِكُمۡۚ أَفَلَا تُبۡصِرُونَ﴾، فأنت إذا نظرت إلى مبدأ خلقك وجدت ربك سبحانه وتعالى قاد والديك بزمام الشهوة مقهورين في صورة مختارين مع تمام البسط والأنس، وفي هذا المقام أسرار عجيبة يدركها أرباب الكشف من أهل الله تعالى حتى إذا حصل الوقاع صانك الله في قرار مكين فخلق تلك النطفة علقة ثم خلق العلقة مضغة ثم مدها وصورها في أحسن صورة فجعل الرأس في أحسن خلقة وخلق العين والأذن والأنف وصور الوجه في أحسن صورة وأودعها من الجمال والكمال ما لا يخفى ثم أودع البصر في العين والسمع في الأذن والشم في الأنف وخلق الفم وزينه بالشفتين وخلق اللسان وخلق فيه الذوق وجعله جندا من جنوده تعالى يترجم عما في الفؤاد من العلوم والمعارف وجعل الرقبة حاملة لعرش الرأس في حسن بديع وجعل فيها المنفذ الموصل للأكل والشرب إلى المعدة وأودع البطن من الإمعاء والمصارين والقلب والكبد وغيرها مما لا يعلم حقيقته إلا هو تعالى وخلق الأيدي وخلق فيها الأكف والأصابع وجعلها مفاصل وأبدعها والأرجل كذلك وخلق العظام وكساها لحما ثم نفخ فيك الروح وهي سر عظيم معجيب من أسراره تعالى فتحركت في بطن أمك وما زال بك رؤوفا رحيما حافظا لك في أضيق مكان يوصل لك غذاءك وأنت لا تعلم شيئا حتى إذا تم خلقك أنزلك من الرحم من أضيق محل فلطف بك وبأمك حتى إذا برزت ألهمك بمجرد النزول إلى ثدي أمك وأجرى فيه اللبن وأنزل في قلبها الرأفة والرحمة حتى إنها ترى بولك وغائطك من أحسن ما يكون والمنة له تعالى في ذلك ولما آن أوانُ الأكل خلق لك الأسنان والأضراس ورتبها ترتيبا عجيبا مع ما فيها من كمال الزينة والجمال والكمال ثم لما قرب بلوغك وكانت هذه الأسنان ضعيفة أسقطها وأبدلها بأقوى منها ثم إذا أكلت فجر الله في فمك عينا جارية وهي الريق لا ينقطع جرايانها ما دمت تأكل لتبتل اللقمة بها ويسهل بلعها لا تملها النفس ولا تجري على الدوام ولا تنقطع فانظر إلى هذه الحكمة العجيبة التي أنت في غاية الافتقار إليها وليس في قدرتك إجراؤها ولا منعها بالضرورة فإذا نزل الطعام والشراب في المعدة صرفه إلى ما يشاء فبعضه يتربى به اللحم وبعضه يتربى به العظم وبعضه يتربى به الشحم وبعضه يتربى به الدم مع كمال اللذة حال الأكل وبعده ثم ما فضل عن ذلك وكان فيه الإيذاء للبدن على تقدير ابقائه في البطن أخرجه من مخرجيك وانظر لهذين المخرجين وبديع حكمتهما وإلى إقدارك على مسكهما عند تهيؤ الفضلة للخروج وبالجملة فلم يزل سبحانه بك رؤوفا رحيما ودودا كريما في كل لحظة وأنت غافل عن نفسك وانظر إلى خروج النفس ودخوله الذي به قوام الروح حالة اليقظة والنوم والصحة والمرض ومن أكبر عبرة العقل الذي به التمييز والتدبير وإدراك العلوم والمعارف وما يضر وما ينفع﴿ وَإِن تَعُدُّواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ لَا تُحۡصُوهَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَغَفُورٞ رَّحِيمٞ ﴾﴿فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحۡسَنُ ٱلۡخَٰلِقِينَ﴾، فيا ليت شعري أهذا ينبغي أن يعصي فيما أمر ونهي.
ثم إذا نظرت إلى السماء وكواكبها والسحاب وتسخيرها والرياح وتصريفها وإلى الأرض وأنهارها وإلى الأشجار وأثمارها لأفضى بك إلى العجب العجاب وعلمت أنه المحسن الوهاب اللهم وفقنا لما فيه رضاك واقطعنا عن كل شيء سواك واملأ قلوبنا من حبك وحب رسلك وأذقنا لذة الوصل من فيض فضلك وخذ بأيدينا إن زللنا وسامحنا إن أخطأنا إنك أنت الجواد الكريم الرؤوف الرحيم.
* وَذِي تُسَـمـَّى صِـفَــةً نَـفْــسِـيـَّـهْ *
(وذي) أى: وهذه الصفة، أى: صفة الوجود (تسمى صفة نفسية) نسبة إلى النفس أى: الذات.
والصفة النفسية هي التي لا تعقل الذات بدونها وهي صفة ثبوتية يدل الوصف بها على نفس الذات دون معنى زائد عليها.
ويقال أيضا: هي الحال الواجبة للذات ما دامت الذاتُ غيرَ معللة بعلة، وذلك كالوجود والتحيز للجرم وكون الجوهر جوهرا والشيء شيئا، فهذا تعريف للنفسية مطلقا قديمة كانت أو حادثة.
وقوله في التعريف الثاني غير معللة بالنصب على أنه حال من الحال أو من الضمير في واجبة، واحترز به من الحال المعنوية ككون الذات عالمة أو قادرة أو مريدة فإنها معللة بقيام العلم والقدرة والإرادة بالذات، فليتأمل.
وجعل الوجود صفة نفسية إنما يصح عند من يثبت الأحوال فيكون صفة زائدة على الذات غير موجودة في نفسها ولا معدومة.
وأما عند من لم يثبت الأحوال فليس بصفة أصلا وإنما هو عين ذات الموجود كما مر.
فإن قلت إذا كنت قد بنيت هذه العقيدة على مذهب الأشعري القائل بنفي الأحوال فالوجه حذف الوجود ولا حاجة إلى ارتكاب التسامح،
قلت لما كان معرفة الوجود يحتاج لها لينبني عليها غيرها من الصفات اعتبرت الوصف الظاهري في قولنا ذات الله موجودة وارتكبت التسمح على أن التحقيق أن الشيخ ولو نفى الأحوال لا ينفي الاعتبارات لظهور زيادتها ذهنا وإن لم يكن لها ثبوت خارجا بل قال العلامة التفتازاني لا خلاف أن الوجود زائد ذهنا بمعنى أن للعقل أن يلاحظ الماهية بدون الوجود وبالعكس ونتعقل الماهية ونشك في وجودها اهـ.