ثُمَّ اعْلَــمَـنْ بِـأَنَّ هَذَا العَــالَمــَا
*
أَيْ مَا سِوَى الله العَـلِيِّ العَـالِمــَا
ولما فرغ من بيان أقسام الحكم العقلي ووجوب معرفة الله تعالى على كل مكلف أخذ في بيان الطريق الموصل إلى معرفته تعالى وهي حدوث العالم، فقال:
(ثم) بعد أن عرفت أنه يجب على كل مكلف شرعا أن يعرف ما يجب في حقه تعالى وما يستحيل وما يجوز (اعلمنْ) بنون التوكيد الخفيفة، وضمن العلم معنى التصديق فعداه بالباء في قوله: (بأن هذا العالم) بجميع أجزائه سمي بذلك لأنه علامة أى: دليل على وجود صانعه، وفي التعبير باسم الإشارة إشارة إلى أن حقائق الأشياء ثابتة وأن العلم بها متحقق وهو كذلك عند جميع الملل إلا السوفسطائية فقد خالفوا في ذلك وهم فرق ثلاثة:
عنادية يقولون لا ثبوت لحقيقة من الحقائق وإنما هي أوهام وخيالات كالذي يرى في المنام.
وعندية يقولون الشخص عند اعتقاده حتى لو اعتقد أن النار جنة أو بالعكس لكان كذلك.
ولاأدرية يقولون في كل شيء لا أدري حتى إنه يشك في نفسه وفي شكه.
وتوضيح الرد عليهم مذكور في المطولات.
ثم فسّره بقوله: (أى: ما) أي الشيء الذي هو (سوى الله العلي العالما)نعت لله على القطع فهو منصوب على المدح وألفه للإطلاق من الجواهر والأعراض، والجوهر ما قام بنفسه، والعرض ما قام بغيره من الجواهر كالألوان.
مِنْ غَيـْرِ شَــكٍّ حَـادِثٌ مُفْـتَـقِـــرُ
*
لـِأَنـَّــهُ قَـــامَ بـِـهِ الـتَّـــغَـيُّـــرُ
(من غير شك) متعلق بقوله (حادث) أى: موجود بعد عدم وهو خبر أنّ أى: إن حدوثه غير مشكوك فيه لمن تأمل أو أن المراد أنه يجب له الحدوث كما يجب لمحدثه القدم فلا يرد أن حدوثه لا يقول به الفلسفي.
وحقيقة الشك التردد في الطرفين على السواء ومراده به هنا مطلق التردد الشامل للظن وهو الطرف الراجح والوهم وهو المرجوح.
(مفتقر) إلى موجد يوجده من العدم وهو خبر ثان لازم للأول؛ إذ الحادث لا يكون إلا مفتقرا ابتداء ودواما وفي الحقيقة هو يشير إلى نتيجة القياس الذي صرح بصغراه وطوى كبراه ونظمه هكذا: العالم حادث وكل حادث فهو مفتقر إلى محدث ينتج العالم مفتقر إلى محدث.
أما كون العالم حادثا فـ(لأنه قام به) أى: بالعالم يعني باعتبار بعضه وهو الأعراض (التغيّر) من عدم إلى وجود ومن وجود إلى عدم وذلك إما بالمشاهدة كالحركة بعد السكون والضوء بعد الظلمة والسواد بعد البياض والحرارة بعد البرودة إلى غير ذلك والعكس.
وإما بالدليل وذلك لأنا ما شوهد سكونه مثلا على الدوام كالجبال أو حركته على الدوام كالكواكب جاز أن يثبت له العكس؛ إذ لا فرق بين جرم وجرم وإذا جاز عدمها استحال قدمها لأن ما ثبت عدمه استحال قدمه فتكون حادثة، فحينئذ جميع الأعراض حادثة ويلزم من حدوثها حدوث جميع الأجرام والجواهر لعدم انفكاكها عن الأعراض الحادثة وكل ما لا ينفك عن الحادث فهو حادث.
فظهر أن جميع العالم من أعراضه وأجرامه وجواهره حادث أى: موجود بعد أن لم يكن.
وأما دليل كون كل حادث فهو مفتقر إلى موجد يوجده فلأنه صنعة بديعة محكمة الإتقان وكل ما كان فله صانع؛ إذ لو لم يكن له صانع للزم أن يكون حدث بنفسه فيلزم ترجيح أحد الأمرين المتساويين أعني الوجود والعدم على مساويه بلا سبب وهو محال لما يلزم عليه من اجتماع الضدين أعني المساواة والترجيح بلا مرجح على أنه يلزم عليه ترجيح الأضعف على الأقوى لأن الأصل فيه العدم وهو أقوى من وجوده.
هذا هو البرهان المشهور بينهم في بيان حدوث العالم وافتقاره إلى صانع، ولك أن تستدل على حدوثه بكونه أنواعا مختلفة وأصنافا متباينة كما يشير إليه آي القرآن العزيز وذلك لأن بعضه علوي وبعضه سفلي، وبعضه نوراني وبعضه ظلماني، وبعضه حار وبعضه بارد، وبعضه متحرك وبعضه ساكن، وبعضه لطيف وبعضه كثيف، وبعضه شوهد وجوده بعد عدمه وبعضه شوهد عدمه بعد وجوده إلى غير ذلك، وكل نوع من هذه الأنواع مشتمل على أصناف وأفراد وصفات لا قدرة لأحد على إحصائها فدل على أنه مفتقر إلى مخصص حكيم خص كل نوع ببعض الجائز عليه فيكون حادثا بعد عدم وأن خالقه مختار لا علة ولا طبيعة؛ إذ معلول العلة ومطبوع الطبيعة لا يختلف على فرض تسليمه، قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ لَأٓيَٰتٖ لِّأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ﴾﴿أَوَلَمۡ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيۡءٖ﴾ إلى غير ذلك من الآيات.
حُـدُوثُــهُ وُجُــودُهُ بَعْـــدَ العَــدَمْ
*
وَضِـدُّهُ هُـوَ المـُسَمَّـى بِالقِـــدَمْ
(حدوثه وجوده بعد العدم) يعني أن حدوث العالم عبارة عن وجوده بعد عدمه خلافا للفلاسفة فإنهم ذهبوا إلى قدمه ومع ذلك أطلقوا القول بحدوث ما سوى الله تعالى لكن بمعنى الاحتياج إلى الغير لا بمعنى سبق العدم عليه ومعتقد ذلك كافر بإجماع المسلمين.
(وضده) أى: ضد الحدوث أى: مقابله يعني عدم أولية الوجود (هو المسمى بالقدم) ولا يكون إلا لله وحده كما سيأتي ولا واسطة بين الحدوث والقدم.