* أَقْسَامُ حُكْمِ العـَـقْلِ لَا مَحَـالَهْ*
ولما كانت مباحث هذا الفن تتوقف على معرفة أقسام الحكم العقلي الثلاثة أعني الوجوب والاستحالة والجواز بدأ ببيانها فقال: (أقسام حكم العقل) مبتدأ خبره محذوف أى: ثلاثة يدل عليه قوله الآتي ثالث الأقسام، وجملة هي الوجوب الخ استئنافية لبيان الأقسام ويصح أن تكون هي الخبر.
والأقسام جمع قسم بكسر فسكون وهو ما اندرج مع غيره تحت كل أو كلي، والكل ما تركب من جوهرين فأكثر، والكلي ما صدق على كثير، ويسمى المندرج تحت الكل جزءا وبعضا والمندرج تحت الكلي جزئيا، ويسمى مورد القسمة وهو الكل أو الكلي مقسما بفتح فسكون فكسر.
والتقسيم التمييز والتفصيل أى: جعل الشيء أقساما، وعلامة تقسيم الكل إلى أجزائه صحة انحلاله إلى الأجزاء التي تركب منها وعدم صحة حمل المقسم على الأقسام، وعلامة تقسيم الكلي إلى جزئياته صحة حمل المقسم على كل من الأقسام نحو زيد إنسان وعمرو إنسان.
والحكم إما شرعي وهو خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالطلب أو الإباحة أو الوضع لهما، وإما غيره وهو إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه.
والحاكم به إما العقل وإما العادة، فإن كانت العادة فعادي، والحكم العادي إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه بواسطة التكرر بينهما على الحس كإثبات أن النار محرقة وأن الطعام يشبع، وليس المراد من هذا أن النار مثلا هي المؤثرة؛ إذ التأثير لا دلالة للعادة عليه أصلا، وإنما غاية ما دلت عليه العادة الربط بين أمرين، أما تعيين فاعل ذلك فليس للعادة فيه مدخل ولا منها يتلقى علم ذلك كما قاله الإمام السنوسي رحمه الله تعالى وسيأتي في عقد الوحدانية ما يتعلق باعتقاد ذلك.
وإن كان العقل فعقلي وهو إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه من غير توقف على تكرار ولا استناد إلى شرع، وخرج بهذا القيد الأخير حكم الفقيه المستند إلى الشرع كإثبات الوجوب للصلاة المستند إلى خطاب الله تعالى، فخرج بقوله حكم العقل الحكم الشرعي والعادي.
والعقل سر روحاني تدرك به النفس العلوم الضرورية والنظرية، ومحله القلب، ونوره في الدماغ، وابتداؤه من حين نفخ الروح في الجنين، وأول كماله البلوغ ولذا كان التكليف بالبلوغ، هذا هو الصحيح الذي عليه مالك والشافعي رضي الله عنهما وهو مراد من قال هو لطيفة ربانية تدرك به النفس الخ.
وقيل هو قوة للنفس مُعِدَّةٌ لاكتساب الأراء أى: الاعتقادات.
وقيل هو من قبيل العلوم.
قال القاضي هو بعض العلوم الضرورية وهو العلم بوجوب الواجبات واستحالة المستحيلات وجواز الجائزات ومجاري العادات كالعلم بوجوب افتقار الأثر إلى المؤثر والعلم باستحالة اجتماع الضدين وارتفاع النقيضين، وهذا تفسير لقول من قال هو العلم ببعض الضروريات.
وعلى هذين القولين فهو من قبيل العرض.
وقوله: (لا محالة) أى: لا تحول ولا انفكاك عن كونه ثلاثة، يعني أنها ثلاثة لا أقل ولا أكثر، هذا على الإعراب الأول وأما على الثاني فالمعنى أنها هي هذه بعينها لا غيرها.
هِيَ الوُجُوبُ ثُمَّ الاسْتِحَـالَهْ
* ثُمَّ الجَـوَازُ ثَالِـثُ الأَقْـسَـــامِ *
(هي الوجوب) أى: وما عطف عليه وهو عدم قبول الانتفاء.
(ثم الاستحالة) بالدرج للوزن وهي عدم قبول الثبوت.
(ثم الجواز) وهو (ثالث الأقسام) وهي قبول الثبوت والانتفاء وستتضح معانيها زيادة اتضاح في تعريف الواجب والمستحيل والجائز.
وكلمة ثم هنا وفي سائر ما يأتي لمجرد الترتيب في الذكر والتدرج في مدارج الارتقاء بذكر ما هو الأولى فالأولى دون اعتبار تراخ بين المتعاطفين ولا بعدية في الزمان.
* فَافْهَـمْ مُنِــحْتَ لَذَّةَ الأَفْهَــامِ *
فإن قلت تقسيم الحكم العقلي إلى الوجوب والاستحالة والجواز لا يصح أن يكون من تقسيم الكل إلى أجزائه؛ إذ لا يَنْحَلُّ الحكم العقلي إليها ولا من تقسيم الكلي إلى جزئياته لأنه لا يصح حمله على كل منها؛ إذ لا شيء منها بحكم عقلي لما مر من تفسير الحكم بإثبات أمر لأمر أو نفيه عنه.والحاصل أنا لا نسلم أنها أقسام للحكم لأن الحكم إما إدراك وقوع النسبة أو لاوقوعها فيكون كيفية وصفة للنفس كما هو التحقيق، وإما إيقاع أو انتزاع فيكون فعلا من أفعال النفس وأيا ما كان فهو بسيط فلا يكون مركبا حتى يكون من الأول وليست هذه جزئياته حتى يكون من الثاني.
قلت: إن في عبارتهم هذه مسامحة والمراد أن كل ما حكم به العقل من إثبات أو نفي لا يخرج عن اتصافه بواحد من هذه الثلاثة فلما كان لا يخرج عن اتصافه بها جعلوها أقساما له تجوزا.
(فافهم) أى: اعرف هذه الأقسام الثلاثة حق معرفتها لأن على معرفتها مدار الإيمان بالله تعالى وبرسله عليهم الصلاة والسلام.
(منحت) أى: أعطيت أى: أعطاك الله تعالى (لذة) أى: حلاوة (الأفهام) بفتح الهمزة جمع فهم وهو الإدراك أى: العلم والمعرفة فإن من أعطى لذة العلوم والمعارف فقد أعطى خيري الدنيا والآخرة.