* يَقُـوْلُ رَاجِـي رَحْمَةِ القَدِيـرِ *
(يقول) هو من باب نصر، فأصله يقول بسكون فائه وضم عينه فخفف بنقل حركة العين إلى الفاء.
(راجي رحمة) بإضافة الوصف إلى معموله أى: المؤمل المنتظر إنعام (القدير) أى: دائم القدرة فهو صفة مشبهة أو الكثير القدرة بمعنى الاقتدار فيكون صيغة مبالغة.
* أَيْ أَحْمَدُ المَشْـهُورُ بِالدَّرْدِيـرِ *
(أى: أحمد) ابن محمّد ابن أحمد.
(أى) حرف تفسير وبيان لراجي فما بعد أي عطف بيان، وقيل عطف نسق بناء على أنها من حروف العطف وهو قول ضعيف.
(المشهور) أى: الذي اشتهر (بـ)لقب جده (الدردير) بفتح الدال الأولى وكسر الثانية بينهما راء ساكنة، وكذا اشتهر أولاد الجد كلهم بهذا اللقب.
الحَـمْدُ لله العَـلِـيِّ الـوَاحِــدِ
*
العَـالِـمِ الفَـرْدِ الغَـنِيِّ المـَاجِدِ
(الحمد لله) هو وما بعده إلى آخر الكتاب مقول القول في محل نصب، وأل فيه جنسية أو استغراقية، ولام لله للاستحقاق.
والحمد لغة هو الثناء بالجميل على جميل اختياري على جهة التعظيم سواء تعلق بالفضائل أم بالفواضل، وفي عرف أهل الشرع فعل ينبئ عن تعظيم المنعم بسبب كونه منعما ولو على غير الحامد وسواء كان الفعل قولا باللسان أو اعتقادا بالجنان أو خدمة بالأركان فبينهما العموم والخصوص الوجهي لأن مورد اللغوي خاص وهو اللسان ومتعلقه عام ومورود العرفي عام ومتعلقه خاص وهو الإنعام.
وأما الشكر لغة فهو الحمد عرفا، وأما الشكر عرفا فهو صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه من عقل وسمع وغيرهما إلى ما خلق لأجله وهو أخص مطلقا من الحمد والشكر اللغوي لاختصاصه بالله تعالى وبكونه في مقابلة النعم التي على الشاكر فقط.
(العلي) من العلو وهو الرفعة، فأصله عليو، اجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت فيها الياء.
وعلوه تعالى معنوي عبارة عن تنزيهه تعالى عن كل نقص فيتضمن اتصافه تعالى بجميع صفات السلوب ولك أن تقول علوه تعالى عبارة عن تنزيهه عن كل نقص واتصافه بكل كمال فيشمل صفات المعاني أيضا.
(الواحد) أى: المنزه عن الشريك في الذات والصفات والأفعال.
(العالم) بما يكون وما لا يكون وبما هو كائن أى: موجود.
(الفرد) أى: الواحد ذاتا وصفات وأفعالا.
(الغني) عن كل شيء فلا يفتقر إلى محل ولا لمخصص ولا معين ولا وزير ولا غير ذلك، فالغنى المطلق يتضمن اتصافه تعالى بجميع الصفات السلبية والكمالية.
(الماجد)، قيل معناه الكريم الواسع العطاء، وقيل الشريف العظيم، ولا يخفى ما في هذا البيت من براعة الاستهلال.
وَأَفْضَـلُ الصَّـلَاةِ وَالتَّـسْلِـيمِ
*
عَلَى النَّـبِيِّ المُصْـطَفَى الكَرِيمِ
(وأفضل) أى: أتم (الصلاة) وهي لغة الدعاء بخير، فإذا أضيفت إليه تعالى كان معناها زيادة الإنعام المقرون بالتعظيم والتبجيل.
(والتسليم) أى: التحية (علي النبي) المعهود عند الإطلاق وهو سيدنا محمّد بن عبد الله بن عبد المطلب صلى الله عليه وسلم، والنبي إنسان ذكر حر أوحي إليه بشرع أى: أحكام سواء أمر بتبليغها أى: إيصالها للمكلفين أم لا، فإن أمر بذلك فرسول أيضا فالنبي أعم من الرسول.
وأصله نبيء بالهمز كما يدل عليه رواية قراءته بالهمز في التشهد فقلبت الهمزة ياء من النبأ وهو الخبر بمعنى المفعول كما يدل عليه التعريف المتقدم أى: إن الله تعالى قد أخبره بأحكام، ويحتمل أن يكون بمعنى الفاعل أى: إنه مخبر عن الله تعالى، ويحتمل أن أصله نبيو من النبوة أى: الرفعة قلبت الواو ياء لما مر وأدغمت فيها الياء بمعنى مرفوع الرتبة أو مرتفعها فهو بمعنى المفعول أو الفاعل أيضا.
(المصطفى) اسم مفعول من الاصطفاء وهو الاختيار فمعناه المختار.
(الكريم) من الكرم وهو صفة تقتضي الإعطاء لا في نظير شيء أوهو نفس الإعطاء المذكور، وقد يراد بالكريم الطيب وهو الأنسب هنا أى: فهو طيب الأصل وطيب الخلق وطيب الخلق عليه الصلاة والسلام.
وَآلِـهِ وَصَـحْـبِــهِ الأَطْـهَـــارِ
*
لَا سِـيَّـمَـا رَفِـيــقِـهِ فِي الغـَــارِ
(و)أفضل الصلاة والتسليم على (آله) المراد بهم في مقام الدعاء كما هنا أتباعه مطلقا، وقيل الأتقياء منهم، وأما في مقام الزكاة فقال الإمام مالك رضي الله عنه هم بنو هاشم فقط وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه بنو هاشم والمطلب.
وأصله عند سيبويه أهل قلبت هاؤه همزة ثم الهمزة ألفا لسكونها وانفتاح ما قبلها كما في آدم، وعند الكسائي أول كجمل من آل يؤول إذا رجع فقلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ولا يضاف إلا لمن له شرف من الذكور العقلاء فلا يقال آل الإسكافي ولا آل فاطمة ولا آل الحصن.
(و) على (صحبه) اسم جمع لصاحب بمعنى صحابي وهو من اجتمع به صلى الله عليه وسلم مؤمنا ومات على إيمانه، وقيل جمع له ورد بأن فاعلا لا يجمع على فعل فلا يقال في عالم علم وهكذا.
(الأطهار) إما جمع طاهر على غير قياس لأن فاعلا لا يجمع على أفعال أيضا فلا يقال عالم وأعلام وكامل وأكمال، وإما أن يكون جمعا لطهر بمعنى طاهر من باب إطلاق المصدر وإرادة اسم الفاعل كعدل بمعنى عادل، ومعناه المطهّرين من دنس المعاصي والمخالفات وعطفهم على الآل من عطف الخاص على العام لمزيد شرفهم على غيرهم.
(لاسيما رفيقه في الغار) لا من لاسيما نافية للجنس، وسي كمثل وزنا ومعنى اسمها وخبرها محذوف وجوبا أى: ثابت.
وأصله سوي فقلبت الواو ياء لاجتماعها مع الياء وسبق إحداهما بالسكون وأدغمت في الياء ويجوز في الاسم الواقع بعد ما الجر والرفع مطلقا والنصب إن كان نكرة وقد روي بالأوجه الثلاثة: «ولاسيما يوم بدارة جلجل» والجر أرجحها وهو على إضافة سي إليه وما زائدة بينهما مثلها في أيما الأجلين.
وأما الرفع فهو على أنه خبر لمبتدأ محذوف، وما موصولة أو نكرة موصوفة بالجملة بعدها، والتقدير ولا مثل الذي هو رفيقه ولا مثل شيء هو رفيقه، وسي مضاف وما مضاف إليه.
فعلى كل من وجهي الجر والرفع تكون فتحة سي فتحة إعراب لأن اسم لا النافية للجنس إذا كان مضافا يكون منصوبا.
وأما نصب النكرة بعدها فعلى التمييز وما كافة عن الإضافة والفتحة فتحة بناء مثلها في لا رجل.
والمعنى والصلاة والسلام على الصحب لا مثل الرفيق فإن الصلاة عليه أتم منها عليهم، يعني أطلب ذلك من الله تعالى.
والمراد برفيقه في الغار أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، خصه بالذكر بعد دخوله في عموم الأصحاب تنويها بعظم شأنه؛ إذ هو شيخ الصحابة وأفضلهم على الإطلاق، وفي ذكر مرافقته في الغار إشارة إلى ذلك أيضا.
والغار ثقب في أعلى جبل ثور على مسيرة نحو ساعة من مكة دخله النبي صلى الله عليه وسلم هو وأبو بكر حين خرجا مهاجرين من مكة إلى المدينة، فذهب المشركون في طلبهما واقتفوا أثرها حتى جاءوا إلى الغار فانقطع الأثر فجعلوا يفتشون حتى قال بعضهم «انظروا الغار» فقالوا «ليس في الغار أحد»، ولو نظروا أدنى نظرة لرأوهما فاشتد الكرب على أبي بكر رضي الله عنه خوفا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال «إنهم لو نظروا تحت أقدامهم لرأونا» فقال النبي عليه الصلاة والسلام «لا تحزن إن الله معنا» فأعمى الله تعالى أبصارهم عنهما كما أعمى بصائرهم، قيل لما دخلا الغار بعث الله حمامتين فباضتا على فم الغار والعنكبوت فنسجت عليه حتى قال بعضهم «ما بالكم بالغار إن العنكبوت قد خيمت عليه والحمام قد باض على فمه» يعني إنه لا يمكن دخولهما الغار والحالة هذه ولا يمكن نسج ولا بيض بعد دخوله،
وإلى ذلك أشار صاحب البردة بقوله:
وما حوى الغار من خير ومن كرم
*
وكل طرف من الكفار عنه عمي
فالصدق في الغار والصديق لم يرما
*
وهم يقـولون ما بالغـار من أرم
ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على
*
خيـر البـريـة لم تنـسـج ولم تحـم
قوله «فالصدق» أى: صاحب الصدق وهو النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله «لم يرما» أى: لم يبرحا ولم ينفكا عنه، ومعنى «أرم» أحد.
وَهَـــذِهِ عَـقِــــيـدَةٌ سَـنِــــيَّـهْ
*
سَمَّـيْتُــهـَا الخَـرِيـدَةَ البَـهِيَّـهْ
(وهذه عقيدة) عطف على جملة الحمد لله، واسم الإشارة عائد على العبارات المتعقلة ذهنا نزلها منزلة الحاضر المحسوس بالبصر فأطلق عليها لفظ الإشارة الموضوع لكل حاضر محسوس، وأختار اللفظ الموضوع للقريب للتنبيه على أنها قريبة التناول سهلة الحصول ولذا أفرد الخبر مع أنها في نفسها عقائد كثيرة.
(سنية) نسبة إلى السنا بالقصر وهو النور، يعني أنها واضحة الدلالة على معانيها.
(سميتها الخريدة البهية) الجملة صفة عقيدة، والخريدة في الأصل اللؤلؤة التي لم تثقب، والبهية نعت الخريدة، والبهاء الضياء واستعار لها هذا الاسم ليطابق الاسم المسمى.
لَطِـيـفَـةٌ صَغِـيرَةٌ فِي الحَـجْمِ
*
لَكِــنَّـهَــا كَبِــيرَةٌ فِي الـعِــلْـمِ
ثم ذكر من نعوتها أيضا ما يقتضي الرغبة في تناولها، فقال: هي (لطيفة) من اللطف وهو ضد الكثافة من لطف ككرم دق أو رق، فاللطيف الصغير الحجم أو الرفيق القوام أو الشفاف الذي لا يحجب ما وراءه كالزجاج فإذا أطلق بهذا المعنى على الله تعالى فمعناه العالم بخفيات الأمور لما مر من أن اللفظ إذا أوهم خلاف المراد في حقه تعالى يراد منه لازمه.
وأما لطف كنصر فمعناه أحسن وأنعم ومعناه في حقه تعالى ظاهر أى: المحسن المنعم على عباده.
وبهذا علمت وجه من فسر اللطيف بالعالم بخفيات الأمور ووجه من فسره بالبر المحسن لعباده.
والمراد هنا أنها قليلة الألفاظ أو سلسة الألفاظ أو واضحتها والكل صحيح وعلى الأول فقوله (صغيرة في الحجم) أى: القدر، وصف كاشف. أبياتها أحد وسبعون بيتا.
ولما كان هذا الوصف يوهم أنها قليلة العلم استدك عليه بأن رفع هذا التوهم بقوله: (لكنها كبيرة) أى: عظيمة (في العلم) أي: المعاني المدلولة لها وذلك لأنها اشتملت على بيان ما يجب لله تعالى وما يستحيل وما يجوز وعلى مثل ذلك في حق رسله عليهم الصلاة والسلام وعلى البراهين القطعية التي يخرج بها المكلف من ربقة التقليد إلى نور التحقيق حتى لا يكون في إيمانه خلاف وسيأتي بيان الخلاف في إيمان المقلد إن شاء الله تعالى، وعلى الرد على أهل الضلال تصريحا تارة وتلويحا أخرى، وعلى السمعيات، وعلى شيء من التصوف الذي هو حياة النفوس كما سترى ذلك كله إن شاء الله مفصّلا.
تَكْفِيكَ عِلْمًا إِنْ تُرِدْ أَنْ تَكْتَفِي
*
لِأَنّـَهـَا بِزُبْـدَةِ الفَــنِّ تَفِــي
ولذا قال مستأنفا في جواب سؤال مقدر نشأ مما قبله تقديره هل تكفي هذه العقيدة المكلف في دينه كما يدل عليه هذا الوصف الذي قدمته أو هذا من باب المبالغة: (تكفيك علما) تمييز محول عن الفاعل أى: يكفيك العلم المستفاد منها في دينك (إن ترد أن تكتفي) أى: بها عن غيرها من المطوّلات.
وذلك (لأنها بزبدة) أي: بخلاصة ومحصل (الفن) المؤلفة هي فيه وهو فن عقائد الإيمان ويسمى علم التوحيد وعلم أصول الدين وعلم العقائد وهو علم يقتدر به على إثبات العقائد الدينية المكتسبة من أدلتها اليقينية، وموضوعه ذات الإله تعالى وقيل الممكنات وقيل غير ذلك، وغايته معرفة الله سبحانه وتعالى والفوز بالسعادة الأبدية، (تفي) أى: توفي به لما تقدم.
وَالله أَرْجُـو فِي قَبُـولِ العَـمَلِ
*
وَالنَّـفْـعَ مِنْـهَـا ثُمَّ غَفْرَ الزَّلَلِ
(والله أرجو) قدم الاسم الأعظم لإفادة الاختصاص؛ إذ تقديم المعمول يفيد ذلك أى: لا أرجو إلا الله تعالى.
والرجاء تعلق القلب بحصول مرغوب فيه في المستقبل مع الأخذ في الأسباب وهو ممدوح شرعا فإن لم يأخذ في الأسباب فطمع وهو مذموم شرعا.
(في قبول العمل) الذي منه تأليف هذه العقيدة وقبول الشيء الرضى به وعدم رده.
(و)أرجوه تعالى (النفع) هو ضد الضر (منها) أى: من هذه العقيدة أى: بها أى: أرجوه تعالى أن ينفع بها كل من قرأها أو طالعها أو حصلها أو كتبها.
ويصح أن تكون من ابتدائية وهي ومجرورها حال من النفع أى: حال كون النفع حاصلا وناشئا منها.
(ثم) وأرجوه (غفر) أى: ستر (الزلل) جمع زلة بالفتح مصدر زل بفتح الزاي أيضا يزل بكسرها يعني المعاصي وسترها صادق بمحوها من الصحف وبعدم المؤاخذة بها وإن كانت موجودة فيها، وورد في السنة ما يدل لكل والمرجو من سعة كرمه تعالى الأول.