من أجل جمالية شعرية لإرهاف القول الزجلي في ديواني احميدة بلبالي

 

 

من أجل جمالية شعرية لإرهاف القول الزجلي في ديواني احميدة بلبالي

 لسان الجمر- الرحيل ف شون الخاطر

 بقلم الناقد حسن خرماز

 

هذه قراءة مختصرة نحاول فيها مقاربة عالم احميد بلبالي، هذا العالم الشاهق في بساطته، المعقد في سهولته، الرحب في خياله.. عالم واسع الأرجاء، لا يستبين إلا إذا حاولنا الغوص في شعريته.

تصبح الكتابة عن الشعر أكثر صعوبة. العالم الشعري يزداد كثافة وتخلق أبعاده إمكانية رؤية جديدة له. تعزل الكتابة نفسها عن النص ، فيما هي تحاول الوصول إليه.

 لحظة الكتابة عن نص شعري هي إذن محاولة للانتقال إلى زمن جديد، هو غير زمن الشعر أو زمن القصيدة. زمن القصيدة هو الماضي، زمن الرغبة. إنه جسدها الذي نقرأه أو نسمعه وقد انتهت صياغته. أما زمن “القراءة” فهو الحاضر. إنه لا يستعيد ماضيا بل يخلده حاضرا في اللحظة نفسها . من هنا ينكسر المنطق شطرين، شطر للماضي وشطر للحاضر، وتأتي القراءة وكأنها لا تضيف شيئا . تحاول فقط أن تصل إلى عمق المسكوت عنه في القول الشعري. هذا المنطق المكسور يحكم كل “قراءة”. إنها إدراج لنص حاضر في حركة نص لم يجهز بعد. إنها تحاول فقط قراءة النص في النصوص التي تجاوره وتتحاور معه.

 في هذه القراءة واجهتني أسئلة ماكرة من قبيل: : هل تتأثر هذه القراءة بمعرفتي الشخصية بالشاعر احميدة بلبالي ؟

 هل بإمكان هذه المعرفة الشخصية أن تسد ثغرات النص وأن تفسر التباساته وتحل إشكالاته وأن تلقي بظلالها على معناه؟ وجدت نفسي منساقا إلى قراءة التجربة الذاتية للمبدع ” احميدة بلبالي” ووجدتني أمام نصين في آن واحد. نص حاضر هو الأثر المكتوب، ونص غائب هو سيرة الشاعر.

 إن المصاحب لتجربة الشاعر “احميدة بلبالي” يجد في بدايتها – إذا اعتبرنا ديوان “لسان الجمر” الصادر سنة 2004 هو البداية – تداخلا بين السياسي والجمالي، وهيمنة الأول على الثاني – يظهر ذلك جليا من خلال كلمة الإهداء وكلمة البدو (1):

 إلى قابل وجهي

 وجهكم ف لمرايا

 لله قبلو عليا

 راني نعشق لامتكم

 عليها ردفتكم سميات

 ف كناش معايا

 لا تلوموني انتم زايدين

 عده واعداد

 قصايدي قليله وانتم كثار

 لله قراو سلامي ليكم ولي

 ففي كلمة الإستهلال/”لبدو” يريد الشاعر أن يجعل لنفسه مكانا بين شعراء “الزجل”، والذين وصفهم بالكثر لكنه فاضل بينهم ( سواء وعى ذلك أم لم يعه) كما أنه قدم لقصائده بمقاطع من أشعار بعضهم . أما في كلمة الإهداء (2):

 لكل من علمني حب الناس

 لكل من خلاني انهز الراس

 لكل من ساعدني انحيد الخوف

 نقول علاش

 لكل من كان سباب ف

 انخرج هذ الكناش

 نهدي حبي وهيامي..

 وكأني بالشاعر احميدة بلبالي يهدي أول ثمراته إلى حقبة زمنية معينة خبر فيها العمل الجمعوي ضمن جمعية الإشعاع الثقافي بمدينة تيفلت، والنقابي ضمن الاتحاد المغربي للشغل، والسينمائي ضمن الجامعة الوطنية للأندية السينمائية.. حقبة تعلم فيها كيف ” يموت ويحيى الوطن “. يتجلى ذلك في قصيدة ” حليمة…لبلاد آلولاد ” التي يتغنى فيها بالوطن ( الأرض / حليمة) دون أن نخوض في اسم حليمة وما يحمله من معاني انشطارية حيث يقول (3) :

 مسامر مصديه

 ف اقدام حليمه تنغز

 حرها يكدي

 تعافر حليمه وتعافر

 حفاري تقفز

 حافية الحافر

 وعلى قد الحال تزيد

 أه زمان وحليمه

 غزاله ترعى بالقيد

 حاصله تنهش فيها

 كلاب الصيد

 كما نجد نفس التيمة للأرض والوطن ” حليمة ” ستتكرر في قصيدته “لغشيم” حيث يقول (4):

 كانت حليمة جنان

 يساره ساكنين زرابه

 يحرثو …يغرسو

 يحلمو بربيع

 لابس ثوب لفجر

 راكب خيل مسرجه

 بصفايح تحفر

 للشهاده حماشه

 كان العشق

 يتصرف ف قلب الليل

 مواكب تفرق حروز لهوى

 الحمل ثقيل

 كانو العشاق

 صفوف ….. صفوف ….

 مادين لكفوف

 كبف نمل راحل

 مسارب …. مسارب

 للفجر المهلّل

 في قصيدة “الربطة ” تتحول ” حليمه ” إلى ” العاليه” حيث يقول (5):

 عشقتك يا العاليه

 يا زينة لريام..

 إن الشاعر” احميدة بلبالي”، وفي كل قصائد ديوانيه، يحلم بالغد المشرق وبالفجر الجديد والحياة الجميلة. لكن يطغى على حلمه في بعض الأحيان نوع من خيبة الأمل. مع أنه يعرف أن درب النضال طويل وشائك ولابد من التضحية والمعاناة لبلوغ الغد المنشود (6):

 سرج عوده

 بين الخيل

 دخل السربه

 ناويها تبوريده

 لقى المحرك

 ب الشوك مفروش

 والبارود سارد مغشوش

 وعود لمقدم جافل..

 إن للشاعر مواقف واضحة من بعض الوقائع حصلت لـ” حليمه / العاليه” وخاب أملها / أمله فيها، منها ما يعرف بالتناوب ….؟ (7):

 حتى عيط شيخ لقبيله

 طالب راغب

 ف التبدال…

 ….

 تطلع الشمس بوجه جميل

 تعري الليل

 تشفي القوم لعليل

 تنجينا من ” السكتة القلبية”

 ….

 وأيضا ما يعرف بقضايا ” الإرهاب ” التي أصابت بعض المدن المغربية(8):

 شكون علمك التنياش

 تحلي بزيم السمطة

 تخربي لعشاش

 ف حجر بلادي..

 وبعد اتساع المرجعية الشعرية للشاعر على التحققات النصية للعبور من هيمنة السياسي إلى الاحتمالات المفتوحة للشعري . نجد أن هذا العبور أتاح له بناء خطاب يمتح من الحلم والخيال ويغذي كتاباته الشعرية بنصوص لا بوقائع. أصبحت قصائده تعبر عن رؤيا ذاتية وإنسانية تستشرف الآفاق والوجود وتتجاوز الواقع الحسي المباشر بتداخل الذاتي بالواقعي بالأسطوري والرمزي فيها .

 في ديوانه الثاني ” الرحيل ف شون الخاطر ” الصادر سنة 2009 والذي يعد في نظري طفرة نوعية في مساره الإبداعي، عاد الشاعر إلى الذات. هذه الذات التي تتأرجح بين الانكسار والمعاناة والشموخ وتجاوز المقدمة الغيرية كما في “لسان الجمر” والمقدمة الذاتية.إذ اكتفى بالإهداء إلى(9):

 ل اللي طلقت جناح الرحمة

 ظل بيه ساتراني

 ل اللي عطف ب رضاه

 شربت منه ما رواني

 ل اللي وهبت طرف من حياتها

 بيه معاوناني

 ل اهلي واحبابي

 نهدي شهد كلامي

 وفي هذا الإهداء إشارة لأمه رحمة وأبيه المرواني والزوجة أمينة والأهل والأحباب وفيه عودة إلى الذات. وإذا كان الشاعر في ديوانه ” لسان الجمر” يبحث له عن مكان له بين الزجالين، فإنه في ديوانه الثاني ” الرحيل ف شون الخاطر” / الطفرة، أقسم على التفرد. يقول في قصيدة “التعراش”(10):

 حلفت ما نكون

 خيال حد

 ما يكون حد لباسي

 نخسر كولشي

 ونربح راسي

 لا أبالغ إن قلت إن قصائد هذا الديوان تشبه لؤلؤا مكنوزا وهي تشع جمالا ولكن جمالها ليس سافرا. إنه يستدعي بذل جهد وافر لرؤيته. معاني القصائد بكر والشاعر يعول على الجدة والإدهاش. وهو صاحب دربة ومراس وذو خبرة في الثقافة الشعبية ( الأمازيغية / العربية) يحوز ثروة لغوية غنية اكتنزها في ذاكرة شحذها تكوينه العلمي .

 وبما أن ديوان “لسان الجمر” و الديوان / الطفرة “الرحيل في شون الخاطر” يحتاجان دراسات تفيهما حقهما، سأركز على لغتهما فقط. يقول الشاعر في ديوان ” لسان الجمر” (11):

 مولوع ب الكلمة

 ناصب نشبة

 نفرح …ها هي حصلت

 نغفل … هاهي هربت

 والليل بحر لكلام

 آ راسي

 وراسي عل المعنى راسي

 ف رمادها يهبش

 وفي ” الرحيل ف شون الخاطر ” يقول في قصيدة ” يد لغدر ” واليد امتداد للعقل :

 قادرة يا يدي

 تزرعي لحروف

 كتوب تجنيها

 يعرف الشاعر أن اللغة العادية لا تستطيع أن توفر لشاعر خصب القريحة مثله ما يمكنه من تجسيد أحاسيسه ومعانيه الذهنية ورؤاه العميقة وأخيلته البعيدة وتنبؤاته اللامتناهية ،ولا تتمكن ألفاظها المعجمية من التعبير عن كل دقائق فكره و خوالج نفسه ونزوات وجدانه. ذلك لأن الحدود الجغرافية لهذه اللغة عادة ما تكون أضيق من المساحات التي يمتد إليها بصره وينفذ إليها خياله وتموج في أعماقها نفسه (12)

 قبل تكعكيع الفروج

 الشمس والكمرة

 صابهم لعمش

 تخاصمو ب جوج

 وحنا نشوفو؟

 لذلك فهو يضطر إلى تجاوز محدودية اللغة إلى خرق النظم الثابتة الساكنة فيها ويتطلع بقدر ما يؤتى من ملكة إلى الكشف عن كل الطاقات الكامنة في اللغة ويعمل على تفجيرها( 13):

 الشوفة بنت النظر

 النظر لون لبصر

 لبصر عروش معركة

 ف كانة الخاطر

 والخاطر مرة غايب

 مرة يشوف القلب

 مراح

 اوسع من ضيق المعنى

 باب مفتوح

 ساروت ل باب المحنه..

 يبحث في الوعي واللاوعي عن كل ما يمكن أن يوجد بين أصوات هذه اللغة وكلماتها من علاقات باطنية أو نفسية أو روحية ، يشحن ألفاظها بدلالات و إيحاءات جديدة، أو يفرغ هذه الألفاظ من معانيها التقليدية ليكسبها معاني أخرى غير مألوفة وغير مستهلكة (14):

 بغيت نخرب عش الظلمه

 يفرخ بيضي زعمه

 يصبغ وجه الليل

 ب لون النهار

 منديل بمشموم وشمعه

 يبرد حر هذه الدمعه

 ب آلف بسمه وبسمه

 بغيت نطرز ف خريفي

 لون الربيع..

 يرتجل الشاعر احميدة بلبالي الألفاظ. يبتكر الصياغات والرموز. يولد العبارات . يصنع صوره، وينحت لها تراكيب لا عهد لأصحاب اللغة الآخرين بها. يقول في ” حمار الليل “(15):

 الليل ضربو حمارو وطول

 الراس موسم

 خيل وبارود

 غبره ونواقس

 النعاس طج له نعاسه

 لبحر زعف من حوته

 الموج هايج

 والواد يخاصم لبحر

 حوت الواد عساس

 القنطرة تحزَّر

 وانا رامي صنارة

 سبيبها اوهام

 حالي نصيد وانا مصيد..

 يطلق الشاعر إشاراته و أضواءه المشعة وإيقاعاته الموحية دون قيود أو حدود. هكذا ارتقى بلغته إلى آفاقه البعيدة اللامتناهية وكون لنفسه قاموسه الخاص. يقول في ” طشاش الكلام “:

 بغيت نملك خاتم الحكمه

 ف بحور سكاتي نغطس

 نكوكط على آ شتمه

 نعرف علاش الموج

 ف ماه عايم

 معنق الرمله

 ولعطش ف جوفه؟

 …

 …

 و مازال ليل نهاري

 شاري سكاتي

 خانق الكلمه

 ما قدرت نجهر

 ب السر المدفون..

 لقد وعى الشاعر ” احميدة بلبالي ” أن لغة الشعر هي لغة خلق وإبداع وليست تفاهما عاديا صريحا، أو لغة نقل الحقائق والمشاهد المألوفة بقدر ما هي وسيلة سفر واستكشاف. ومن غايات هذه اللغة أن تثير وتحرك وتفاجئ وتدهش وتهز الأعماق. إنها تيار تحولات يغمرنا بإيحائه وإيقاعه وأبعاده. هذه اللغة فعل نواة حركة ، خزان طاقات. إن تجاوز الشاعر لمحدودية اللغة العادية وخروجه عن المألوف من معانيها وصيغها وتراكيبها،لا يعني انتهاكها أو السعي لتحطيم كيانها والتمرد على نواميسها، وإنما يعني الإثراء والإخصاب والتطوير والنمو. لقد انطلقت الذات الشاعرة من الموروث دون الالتصاق به والتقوقع حوله . بقول في ” النهيم “:

 راس الليل يلهينا

 خايف نتفكرو

 صباح القمره

 ملي بنا بها لفجر

 ملي غنت عليها النجوم

 هكذا يكون

 بنات ” الرجال المحضية ”

 لهيه ف راس الفجر

 قبل ما يفجر

 يلهيه لا يتفكر

 شوهة النهار

 ما قدر يدخل عل الشمس

 خلاها شماته

 قدام بنات الجيران

 كلها العيون تتغامز عليها

 كالو عزبا

 ما قد عليها

 كالو هجاله

 وستر عليها

 وكثرو لكلام

 والنهار ناسي علاش يقلب..

 هذا الانطلاق هو تبرعم ونمو و تلاقح وتكاثر مستمر في الأصول والفروع.

إنها باختصار لغة الشعر كما يراها وينحتها الشاعر “احميدة بلبالي “، والتي هي إرهاص مبكر للعمل الكبير الذي سيتجسد في مجموعته الشعرية الثالثة: ” شمس الما ” الذي نتمنى أن نحظى بشرف دراسته مستقبلا.

 ** هوامش :

 1- ص.3 . لسان الجمر.

 2- ص.4 . لسان الجمر.

 3- ص.8 . لسان الجمر.

 4- ص.15 لسان الجمر.

 5- ص.43. لسان الجمر.

 6- ص.19. لسان الجمر.

 7- ص.20-21. لسان الجمر.

 8- ص.49. الرحيل ف شون الخاطر.

 9- ص.3 .ن.م .

 10- ص.61. ن.م.

 11- ص.33. لسان الجمر.

 12- ص.29. الرحيل ف شون الخاطر.

 13- ص.4. ن.م.

 14- ص.21. ن.م.

 15- ص. 50. ن.م. 

 

ماي 2012

 حسن خرماز

 ماي 2012