من أمومة اللغة المحكية الى تشكيل الصورة الشعرية في ديوان الشاعر احميدة بلبالي

    إن الاشتغال على النص باعتباره مادة لغوية هو خاصية النقد الحديث، صحيح أن المادة اللغوية تشكل بالنسبة للنقد بعامة  و على اختلاف مناهجه منطلقا أساسيا لفهم النصوص و تقويمها. إلا أنها بالنسبة للنقد الحديث أكثر من مجرد منطلق، انها أرض و في حدودها فقط تتحرك العملية النقدية أو عليها أن تتحرك.
إن اللغة العامية التي يتحدث بها المغاربة و لعقود مضت لازالت تعاني من التهميش رغم حضورها في التواصل اليومي و في المحافل الفنية و السياسية و الدينية و الفكرية و رغم حضورها كلغة مكتوبة، في النصوص المسرحية و سيناريوهات الافلام و في الشعر (الزجل) و القصص و الروايات....هناك باحثون يعتبرونها لغة منطوقة هامشية.

لقد وعى الشاعر احميدة بلبالي أن مضمون كلمة من الكلمات، أو عبارة من العبارات أو نص من النصوص لا يمكن أن يكون بمعناه الحقيقي ، معلقا هكذا في فراغ، و لا يمكن أن يسلخ عن سياقه و يظل هو إياه، السياق جسد تعيش فيه الأعضاء، و هو العمق الدلالي للمضمون أو المعنى فمضمونا يوميا رتيبا مبتذلا، في سياق من المقام يومي رتيب مبتذل، لا يمكن أن يفرز من اللفظ إلا ما يجانسه يومية و رتابة و ابتذالا. كما ان مضمونا مميزا مرتفعا عن اليومي المبتذل، لا يمكن في غالب حالاته، أن يفرز من اللفظ إلا ما يجانسه أو يدنو منه. فمن يطرق باب الشعر لا بد لكلماته و تراكيبه ان تجانس المستوى الذي طرق بابه و مواكبته أي لا بد أن تكون لعباراته نقاء و فرادة لفظية تجانس الفرادة المضمونية- السياقة وتواكبهما، ثم تتناغم الفراداتان و تتلاشيان في فرادة واحدة موحدة لا يتميز فيها شكل لغوي من مضمون دلالي إلا بالنظر المتأمل. ذلك ما سيجلو لنا من خلال قصيدة "ازوران" ص53 من ديوانه الثالث شمس الما


جرحت الوسادة

برموش عيوني

سالت لحلام
تفركل قدامي
تموت هي
وتخليني وحداني
الليل ابرد من رخام
ف ليالي حياني
و حياني سهران
ركادي من احلامه عريان
اش جا ما دفاني

و حينما يحس الشاعر احميدة بلبالي ان اللغة العامية لا تستطيع أن تمده بكل ما يحس به و يهفو اليه يتجاوز حدودها الجغرافية الى اللغة العربية أو الامازيغية.
أذروخ ايوارو
أواكاخ ثن اجظاظ
أيا سمون اقار ا يعقوب
أل نقاراخ
ص56

الشاعر احميدة بلبالي خبر جيدا أنه أمام سلم درجته الدنيا، التي تقع في نطاقها لغة تخاطبنا الجارية في مقام يومي يجانسها، لم يقف عندها و درجته العليا التي تقع في نطاقها لغته الادبية الجارية في مقام أدبي فني متميز يجانسها شذبها و هذبها واعتنى بها وعرف أنها لغة لها نسقها الخاص بها صوتيا و صواتيا و صرفيا و تركيبيا و معجميا. أكد لنا ذلك حينما أراد أن يذيل لقصيدته ازوران بترجمة لأبيات شعرية أمازيغية الى اللغة العربة الفصحى ليقرب القارئ العربي من محتوى الابيات و الصور الشعرية الامازيغية. و أصبحنا أمام صور هجينة لا هي أمازيغية و لا هي صور شعرية عربية لاختلاف البنيتين طبعا.
الديوان الثالث للشاعر احميدة بلبالي "شمس الما" جعل مجموعة من الاسئلة تتناسل في ذهني مفرزة مجموعة من التيمات ركزت على واحدة منها هي تيمة البحر-الما و ما تمثله في مخياله و مخيال العامة.
ففي قصيدة ب السلامة عليك اعقلي ص24 يقول:
لا تبقى وحدك شانك
ارحل من خريف ايامي

ياك تخضار ايامك
و ها مجذافي اللي حطيته
قدامك لبحر اللي هجرته
ازعم اركب امواجه
لا ترهبك بحالي
و تقرنص ف ركنة ايامك

يعرف الشاعر احميدة بلبالي أن أوروبا منذ العصر الحديث استخدمت البحار كوسيلة لإقلاعها الاقتصادي و الاجتماعي حيث عملت على نمو صناعاتها المدنية و العسكرية بمجال البحر فهولندا استطاعت السيطرة على الاخطار البحرية التي كانت تهدد كيانها كبلد و حذت حذوها كل من البرتغال و انجلترا.....

يقول في قصيدة يد الشوق ص104
مديت يدي
ل الموج
قلت نشد لبحر
من الجهه الضاراه
نهمد اوصاله
نهديه ليكم

كما يعرف الشاعر احميدة بلبالي أيضا أن المتخيل المغربي متنوع و لا ينحصر في قالب واحد ذلك أن داخل نفس الطبقة الاجتماعية يوجد تباعد في الادراك فهناك من يشبه البحر بالثعبان بالغول الذي يتربص بالناس و يهاجمهم و يبتلعهم.
في قصيدة شمس الما ص 63
لبحر ملي جاع
سرط الشمس
أنا شفته
و سمعت
اتش..اتش...اتش

 

و سمعها صاحبي حدايا
هو يحلف
ب ملح الدموع
و ضحك الشجر
باللي لبحر
واخا سرط الشمس
باقي فيه الجوع

و في الصفحة 64 من قصيدة شمس الما
لبحر غول
فمه محلول
كل عشيه
يسرطها
و كل فجر
يحطها كيف ابلعها

البحر قوة لا تقهر (العامة لا تشعر بالطمانينة امام البحر اذ كيف ترتاح الى قوة الماء في حين أن الانسان أصله من تراب؟ تهاب البحر لأنه يفرض عليها أسلوب عيش مخالف و مغاير لما تعوده على اليابسة).
نسكن الما
حتى يهرب
لبحر من لبحر
حتى يبان البر
نرحل ف كهوفه
نخاوي ظلامي
نتعلم لكلام الاو ل ص54 ازوران

 

البحر أيضا بالنسبة للشاعر أحميدة بلبالي مجال السخاء و العطاء
بيدي شاد قبة السما
و رجلي ف بحر الظلمه
نخيط السحاب مع لمواج
ترافق حورية لبحر
نعنقها نص امرا
و نخلي النص الثاني
ل الصياده
ليلة الكمره
نهم انا و اياها
بعيد على عيون الحضايه
ص55 ازوران

تضع مياه البحر المالحة المعجزات في ذهن الانسان الشعبي.في الموانئ المغربية عادات و تقاليد ذات ارتباط بالبحر و من بينها الحفل الذي يقام في صباح يوم الثالث بعد الزفاف.
و مياه البحر تتوفر على قدرات هائلة تشفي من أمراض الجلد و العقم...و من رأى السمك في حلمه فسوف يغتني
اتش....اتش....اتش...

الألف ما هو إلا حامل للهمزة و التاء أسنانية لثوية مهموسة و الشين متفشية أي تنتشر و تتسع كذاك تجربة الشاعر احميدة بلبالي بدأت مهموسة لكن سرعان ما انتشرت وتوسعت و شغفت قلوبنا حبا .مزيدا من العطاء للبهي الشاعر احميدة بلبالي