شكوك كما.. بعض القصائد او قصائد كما بعض .. الشك.

     شكوك كما.. بعض القصائد او قصائد كما بعض .. الشك.

                   قراءة في ديوان : " بعض الشك ..قصيدة

               للشاعر الجزائري رشيد بلمومن  

بقلم : احميدة بلبالي

                             من المغرب

 

 

   رشيد بلمومن  من الأسماء الزجلية التي اختارت الاشتغال وفق أفق جديد في "الشعر الشعبي" وهو توجه يحضر الآن في التجربة الجزائرية إلى جانب عبد الرزاق بوكبة ورمزي نايلي ومحمد قسط وتوفيق ومان وقادة دحو مع اختلاف مع هذين الأخيرين. توفيق ومان وقادة دحو يشتغلان على خطين متوازيين، على واجهة القصيدة التقليدية وعلى الأفق الجديد، بينما انخرط ولد المومن وبوكبة ونايلي وقسط في التجريب والاشتغال في الحساسية الجديدة فقط والانشغال بقضاياها وميكانزماتها.  ورفعا لأي لبس أقول إن الحديث عن الحساسية الجديدة أو التجربة الحداثية لا يلغي ولا ينقص من التجربة الكلاسيكية أو التقليدية التي تستمد راهنيتها من قيمة ما تنتج من جمال نحن لازلنا في حاجة إليه بنفس الحاجة للمغامرة الجديدة .

ترك أثر مروره رشيد في اللقاء بالجزائر  حب اطلاع لكن لم تسمح الوقت للتقرب لتجربته أنذاك  تواصلنا عبر الفايس خاصة حين حضر لملتقى ميسور بالمغرب  وتحقق اللقاء المباشر في آزمور حيث جمعتني أحاديث خاصة معه على هامش الملتقى العربي السابع للزجل بآزمور بالصديق رشيد ولد المومن ومكنني من ديوانيه " سيلفي" و "بعض الشك قصيده" . غنيمة من غنائم اللقاء التي اقتنصتُها بشغف يحلو لي ان أقدم لكم تفاعلا معها وخاصة مع " بعض الشك ... قصيدة".

  يمكن الولوج للديوان من العتبة الأولى وهي وجه الغلاف . الصورة  سفر نحو الضوء . من المسافر؟ هل هو الشاعر ؟ المتلقي؟ الناقد؟ مسافر بدون ملامح يخترق  الضباب نحو الضوء قريب منه الاسم وفي الأفق : بعض الشك.. قصيدة وبينهما قرص أحمر يحمل كلمة  زجل كتجنيس للديوان. 

العنوان نفسه يوحي ويشي بتجربة المبدع القادمة فهو يقدم لنا بعض الشك  قصائد وأضيف " ربما كل الشك .. ديوان . الشك هنا طبعا ليس مقابلا مضادا لليقين، الشك بمعناه الديكارتي إنه كوجيتو جديد بالنسبة للشاعر كأني به يقول استعاريا ( أنا أشك إذن أنا موجود ) وهذا ما يمكن أن نقف عنده في الكثير من القصائد بل في جل ما يتضمنه الديوان. الشك هو الخط الرابط ين كل القصائد  أي إن وحدة الموضوع عوضتها وحدة الشك ، ومع أنه انتصر لتجنيس  الديوان بكلمة زجل لكنه يسم المطبوع في الصفحة الداخلية ببعض الشك ويعنونها: " تجرية زجلية" . يقول الشاعر والإعلامي عبد الرزاق بوكبة في كلمة تقديمية على ظهر الغلاف" هل يمكن أن نسمي عملا جديدا "تجربة" إذا لم تضف لما سبقه ، على مستوى الذات الكاتبة نفسها على الأقل؟"  التجربة بهذا المعنى نتيجة محاولة/ تجريب أي مغامرة وركوب شيء جديد، استغوار للبحث عن طريق مغاير في جغرافيا معينة وهي جغرافيا الكتابة الزجلية بالجزائر، المغامرة في حد ذاتها شجاعة ومجازفة لا يقين فيها للنتيجة المرجوة كأني به يشك بطبيعتها ويترك للمتلقي الحسم في كونها تجربة ناضجة في شعريتها أو كأني به يتحسس موقعا في جغرافيا لم تتعود بعد طبيعة ما يكتب ويحاول الحصول على بطاقة انتماء للزجل . 

        يوقع رشيد ولد المومن إهداءه ب: "إلى قصائدي التي قررت أن أمنعها من النشر" هل هناك قصائد لا يريد الشاعر نشرها؟ هل قصائد الديوان انفلتت من قرار المنع ؟ هل هي إشارة لإمكانية أخرى كان ممكنا أن تتخذها القصائد ليسهل نشرها ؟ هي شكوك كما بعض القصائد او قصائد كما بعض الشك.

"لو

ساح شكي

ما نضمنش لرض

تتعجب سما" (ص 9)

.....

تبلل الضو

تكسر خيوطو

كبر الله

ذاب الشك

فرتت الطين

نبتت الروح 

رجفة بلا جواب (ص14)

.....

فكرة نطير

جاتني مع الشك

الشك في عرف الشجرة

الشك ف جيهة الريح

الشك ف طول سيقاني

الشك في لي سبق

البيضة ولا الجاجة

الجاجة ولا البيضة

الشك ف لرض

الشك ف عرض الواد

الشك ف عمق لبحر ( ص 27)

الشك بالنسبة للذات الشاعرة هي كل مناحي الحياة وتفاعلها معها حتى وإن تم التفكير في الطيران حتى وإن ذاب في الطين وإن تعجبت الأرض سماء. الشك/ حيرة / سؤالم/ ليل/ ظل/ كاس / طريق/ عطش/ نعاس/ موت...

مقاربة القصائد تحتمل مداخل عديدة من حيث  التيمات المشتغل عليها وعلاقتها بالشك أختار نموذج الموت  مثلا ، الموت انشغال دائم للإنسان منذ الأساطير الأولى إلا الفلسفة وهي مادة دسمة في الشعر  . أكثر من 10 قصائد اشتغل فيها على الموت أقدم ثلاثة نماذج  يكسر فيها النظرة التقليدية للموت ويشك على أنه مقدر ومحتوم فتراه تارة يلاعب الموت بأن يوهمه أنه منه والموت عادة يهتم بالأحياء وعوض أن يبحث عن عشبة الخلود يستثمر الماء  والماء طبعا رمز الحياة ويشتغل على الفهم العادي كون الموت يبدأ من الأرجل في وعينا الشعبي ليركّب لنا المقطع الزجلي. في قصيدة " ماشي محال" (ص49) 

ماشي محال

الموت ينساني

الموت 

ديما مشغول

انا ثاني

رقدت

بعمر مبلول

لقى رجليا باردين

خلاني ... عدني منه

مرة أخرى يستعير من فكرة الانبعاث من جديد بجعل الموت مخطئا في قدومه حيث يأخذ معه بقية من العمر للقبر وبها يهرب/ ينبعث ليعود لإتمام ما بقية من عمره وهذا قد يوحي بتكرار أمر غلط الموت  ليصبح فينيقا .

في قصيدة : " ايام لقبر " (ص 52)

نموت

بلا ... ماااا

نكمل عمري

قد يغلط

الموت ف لحساب

ندّي ياام

معايا

نخبها

نهرب بها 

م لقبر.

الموت بالنسبة لرشيد ولد المومن متعدد وعكس تصورنا إنه يشك في انطفاء  ويجعله  شعلة للاحاسيس من جديد . في قصيدة " نحيب وحب" (ص97)

" قدّاه من مرة نموتلك

باه تحبني

قدام الناس؟؟؟

نحب نموت

ونولي نعزّيك فيا

نحب نموت

ونولي نصبلك كاس

كل هاذ لحساس

حيا مع موتي !!!؟؟؟ "

سقراط يصرح أمام أتباعه قبيل تنفيذ حكم الإعدام فيه" "إن أولئك الذين يوجهون أنفسهم في الطريق الصحيح إلى الفلسفة يعدون بذلك مباشرة وبمحض إرادتهم، يعدون أنفسهم، لأن يموتوا وللموت. والفلسفة بهذا المعنى تمرين فكري يعمل على إضعاف الهواجس والشعور بالخوف من الموت .فن التهيؤ للموت بشجاعة تجعل الموت في ضعف لأنه يتوارى يغيب حين يحتاجه.

في قصيدة " وقت مناسب لأموت" (ص 78) يختمها بالمقطع التالي:

انا نحب نموت

وقت اللي ترضا عليا

وقت اللي تصفى النية

الموت موت

بعض لوقات

مواتية للموت

وين يتخبى

كي نحتاجو !!؟؟؟

مداخل اخرى يمكن أن يسافر عبرها القارى لسبر أغوار  " بعض الشك.. قصيدة أقترح أبوابا لها في المحاور التالية: 

- الطريق رمز للسفر والحكي

- الليل بأسئلته وألوانه وأحلامه 

- الظل والضوء وانكساره والسحاب والعطش 

- الريح والغمام والبحر والموج

- الكأس والسُّكْر والاحساس

 

ما هي بعض خصوصيات المشروع / الديوان الفنية ؟ 

على مستوى الجملة الشعرية نلاحظ اتسامها بالقِصر وبالتكثيف( السطر الشعري لدى المبدع يتراوح بين كلمة وثلاثة كلمات على الأكثر) ونفس الشيء بالنسبة لأغلب القصائد المتضمنة في ربوع بياض الديوان ( لا تتعدى القصائد صفحة أو صفحتين تقريبا باستثناء قصيدة "مليان بك" وقصيدة "أرشم ...أرشم") طبيعة القِصَر تُلزم المبدع بوحدة التيمة/ الفكرة والتكثيف والاقتصاد في اللغة وهي من مقومات الكتابة الحداثية. قد يكون التأثير العلمي لتكوين الشاعر مؤثرا أيضا في تناول الفكرة حيث نجده كأنه يقدم لنا تعريفات للتيمة المشتغل عليها من خلال مصفوفات رياضية تتكرر عبر السؤال وتولد لوحات عدة ... 

الكتابة الشذرية داخل القصائد كما اللوحة التشكيلية التي تتكون من لوحات مستقلة ومتعالقة في نفس الوقت في انفصال واتصال دلالي ينتج دلالة خاصة ودلالة عامة .في قصيدة الحيرة نموذجا  تتكرر جملة: "الحيرة أنك " لتُولِّد لنا تسعة لوحات / شذرات متعالقة عنقوديا لتمنحنا القصيدة( ص 10) 

"الحيرة أنك // تطح سؤال

جاوب عليه

تسمع روحك

وتضحك"

....

"الحيرة أنك

تلوح خطوة ل غدوة

وانتن سيتي تنوض

م البارح"

....

" الحيرة أنك

حاب تموت

وتعيش جنازتك

بالطول والعرض

وتبكي مع المشيعين

وتهرب من لقبر 

على غفلة

م الشيخ والمعروف"

.....

وهكذا دواليك كل شذرة هي لوحة أو لبنة مستقلة لكنها في نفس الآن جزء من صرح متكامل يؤثث القصيدة.

تقنيات التكرار والمصفوفة أعني تكرار جملة مولدة لمقاطع مستقلة ومترابطة أو متعالقة يستثمرها الشاعر في قصائد عدة من الديوان سيقف عليها المتلقي وهو يعانق "بعض الشك ..قصيدة" ، كأن القصيدة  لدى رشيد ولد المومن رقعة شطرنج والمقاطع بيادق صففها الشاعر في خطوة أولى وترك لنا إمكانية اللعب عبر تحريك البيادق الشطرنجية كما يحلو لنا ( نجد هذه التقنية في قصائد: حيرة/ فكرة نطير/مليان بك/ ظل سحابة/هاذ الليل/ لو كنت ليل/يقدر يصير/ماشي محال/ترقيع حلم/تجريب).

التكرار طبعا له مهمة فنية أيضا، هو يولد ايقاعا داخليا يعوض في الشعر الإيقاع الخارجي أو "الموازن" كما نقول في الملحون . يوظف الشاعر في كتاباته الحوار الداخلي أو لعبة المرايا ( الذات والصورة وتبادل الأدوار) ويعتمد اللغة الثالثة لغة دارجة المتعلمين ويتحاشى اللغة الغارقة في المحلية (فقط كلمتين أو ثلاثة اضطر لشرحها على الهامش في كل الديوان). اختيار اللغة هي اختيار جمالي واختيار انتماء، اللغة هي التركيبة التي نصنعها بين مصطلحات عادية لكن لخلق الدهشة عبر انزياحات مشتغل عليها بحرفية . القاموس اللغوي يحيل على رؤية الشاعر وانتصاره للحداثة أو التقليد .

قصائد الديوان لا تفصح عن معانيها بسهولة هي متمنعة وذات أبعاد متعددة في تأويلها تراهن على متلقي متفاعل يستجمع كثيرا من ثقافته ليقاربها ويقترب لعمقها .

هذه الورقة هي تفاعل مبدع مع مبدع حليف في المغامرة والتجريب ، هي عتبة أبتغي منها تقاسم إعجاب بتجربة تنمو بشكل يوحي لقادم شعري حداثي في جغرافيا الكتابة الزجلية بالشقيقة الجزائر تصنع مع المغرب وليبيا ما أعتبره بقع الزيت التي تتنتشر لتشكل في جغرافياتنا المغاربة تجربة شعرة أو مدرسة قائمة  وهي رغبة في جر عيون النقد لسبر أغوار التجربة بأدوات علمية ومناهج مشهود لها.

خاتمة خارج السياق:

    لأني أنتصر لثقافة الاعتراف أشكر الشاعر الصديق توفيق ومان الذي فتح أبواب التواصل بين التجارب المغاربية وسلط الضوء على الكتابة الحداثية في الزجل المغاربي والصديق المبدع المتعدد عبد الرزاق بوكبة الذي أثق في ذوقه الجمالي ودعمه لمغامرة  التجريب في الكتابة الزجلية كي لا أقول الشعر الشعبي أو العامي وأحمد لمسيح الذي كان جسر محبة بيننا.

                                        إنجاز الشاعر/ الزجال

أحميدة بلبالي

المغرب.