« محركات القلوب إلى الله تعالى »


الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .


وبعد :إن القلوب في حاجة إلى محركات ومؤثرات حتى تجعله يتحرك ويتقدم نحو الهدف المنشود، سواء كانت تلك الحركة إلى الأمور الدنيوية أو الأمور الأخروية، وكلما قويت هذه المحركات وزاد العلم بها كلما قوي القلب أكثر ثم ترجم هذا بالمثابرة والاجتهاد عمليا لتحصيل الهدف والسعي إلى تحقيقه.

فالذي مثلا يعمل ويجتهد ليل نهار من اجل الرزق، يا ترى ما الذي يدفعه ويحركه في ذلك، إنها النزعة الداخلية لحب المال وأن يكون من الأثرياء وليملك أفضل المراكب والمنازل، وكذلك الخوف من الفقر أو أن يتردى حاله، بمعنى أن هناك شيء داخلي يحركه للعمل والاجتهاد، فهو في حقيقة الأمر يرجوا شيء، ويخاف من شيء، ويحب شيء.

كذلك الذي يسعى لطرق أبواب الزواج للولوج إليه، فهناك محركات تجعل المرء يسعى للزواج وربما تتفرع من ذلك أمور ، فيرجوا الواحد مثلا من الزواج أن يحقق ضبط شهوته وكذلك الحصول أبناء وبنات له، وزد على ذلك المحبة والأنس مع الطرف الآخر ، وأيضا الخوف الذي يعتريه من السقوط في أوحال الرذيلة والمحرمات.

نستخلص من ذلك – أخواني وأخواتي – أنه لا بد أن نعلم أن محركات القلوب إلى شيء ما ..هي ثلاثة: المحبة والخوف والرجاء، وهي كما تكون وأنت تسير في الدنيا لتحقيق الرغبات والأمنيات الدنيوية.

فكذلك وأنت تسير إلى الدار الآخرة وتطلب رضوان الله عز وجل، فمتى خلا القلب من هذه المحركات الثلاث تاه العبد وابتعد عن الطريق الصحيح وفسد فساداً لا يرجى صلاحه، أما إذا ضعفت إحدى هذه المحركات ضعف إيمان العبد بقدر الخلل التي فيها .

لهذا يقول الإمام ابن القيم رحمه الله عن الخوف والرجاء والحب: فالخوف يبعدك عن معصيته، والرجاء يخرجك إلى طاعته، والحب يسوقك إليه سوقا.اهـ

وربما تتحول هذه المحركات إذا لم تقيد بضوابط الشرع الحنيف إلى شرك بالله عز وجل، فالذي يقدم محبة المخلوقين على محبة الخالق أو يساوي بها فقد وقع في شرك المحبة، لقوله تعالى ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ) البقرة:169.

وكذلك الذي يخاف من المخلوقين أكثر من خوفه من الخالق، فهذا شرك بالله عز وجل أو يساوي خوفه من المخلوقين بخوفه من الخالق، إلا ما يكون من الخوف الطبيعي، مثل: الخوف من العدو، والخوف من السباع ومن النار.

وكذلك الذي يرجوا المخلوقين ولا يرجوا الخالق أو يساوي رجائه للمخلوقين بمثل رجائه من الخالق فهذا شرك بالله عز وجل. قال الله عَزّ وَجَلّ عن أنبيائه ورُسُله ( إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ) الحج: 90.

وقال عز وجل آمرا عباده المؤمنين بذلك ( ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ ) الأعراف: 55-56.

قال القرطبي في تفسيره : قوله تعالى ( وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعًا ) أمْرٌ بأن يكون الإنسان في حالة تَرَقُّب وتَخَوّف وتَأميل لله عز وجل،حتى يكون الرجاء والخوف للإنسان كالجناحين للطائر يَحملانه في طريق استقامته ، وإن انفرد أحدهما هَلَك الإنسان . اهـ


وقد أوصى أبو بكر رضي الله عنه عمر رضي الله عنه فكان مما قال : ألم تَر أن الله عز وجل أنزل آية الشدّة عند آية الرخاء ، وآية الرخاء عند آية الشدة ، ليكون المؤمن رَاغِبا رَاهِبا ، ولئلا يُلْقِي بِيدِه إلى التهلكة ، ولا يتمنى على الله أُمْنِية يتمنى على الله فيها غير الحق . رواه الربعي في "وصايا العلماء عند حضور الموت " .

لهذا ينبغي علينا جميعا ونحن نسير إلى الله عز وجل أن نعلم قواعد وقضايا مهمة تتعلق بالأمور القلبية، ومن ضمنها محركات القلوب إلى الله عز وجل وهي المحبة والخوف والرجاء.

يقول ابن القيم رحمه الله : القلب في سيره إلى الله عز وجل بمنزلة الطائر ؛ فالمحبة رأسه، والخوف والرجاء جناحاه، فمتى سلم الرأس والجناحان فالطير جيد الطيران، ومتى قُطِع الرأس مات الطائر، ومتى فقد الجناحان فهو عرضة لكل صائد وكاسر، ولكن السلف استحبوا أن يقوي في الصحة جناح الخوف على جناح الرجاء، وعند الخروج من الدنيا يقوي جناح الرجاء على جناح الخوف . اهـ .

إذن أول محرك من محركات القلوب إلى الله عز وجل هي المحبة، فالمحبة تجذب الإنسان في أن يتبع محبوبه ويسير على شرعه ومنهجه، وبقدر قوة هذه المحبة تكون قوة الجذب إلى الله تعالى.

فكلما زادت المحبة لله عز وجل وتعلق العبد بربه، كلما اجتهد في عمل الطاعات والفضائل وسعى إلى ترك المحرمات والمنهيات، واستحى أن يجترحها وربه ناظر ومطلع عليه، بل لا تجده إلا في الأماكن والمواقع التي يحبها الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم.

قال ابن القيم: المحبة شجرة في القلب عورقها الذل للمحبوب، وساقها معرفته، وأغصانها خشيته، وورقها الحياء منه، وثمرتها طاعته، ومادتها التي تسقيها ذكره، فمتى خلا الحب عن شيء من ذلك كان ناقصاً.اهـ

وقد وصف الله سبحانه نفسه بأنه يحب عباده المؤمنين ويحبونه، فأخبر أنهم أشد حباً لله، قال الله عز وجل ( وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ.. ) البقرة: 165.

جاء في التفسير الميسر: ومع هذه البراهين القاطعة يتخذ فريق من الناس من دون الله أصنامًا وأوثانًا وأولياء يجعلونهم نظراء لله تعالى, ويعطونهم من المحبة والتعظيم والطاعة, ما لا يليق إلا بالله وحده. والمؤمنون أعظم حبا لله من حب هؤلاء الكفار لله ولآلهتهم; لأن المؤمنين أخلصوا المحبة كلها لله, وأولئك أشركوا في المحبة. اهـ

فعندما نُرزق إخلاص المحبة لله عز وجل، ينقلنا هذا إلى أن نحب كل شيء يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، من صلاة وصوم وزكاة وحج وذكر الله والإحسان إلى الناس.

ونبتعد عن كل شيء يبغضه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من ترك للصلاة والتهاون في الصوم وعدم إخراج الزكاة والإساءة إلى الناس بالأقوال الأفعال، لهذا قال يحيى بن معاذ: ليس بصادق من ادعى محبته ثم لم يحفظ حدوده.

وكذلك الذي ينشأ على حبّ الله تعالى لا يمكن أبداً أن ينكص علي عقبيه، بل سوف يحفظه الله عز وجل وينجيه من أبواب الفتن والهلاك والضياع، قال الله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ) المائدة : 54.

وفي هذا الباب نزلت آية المحبة، فقوم ادعوا محبة الله عز وجل، فنزلت آية تبين أنكم إن صدقتم في محبة الله فإنكم سوف تتبعون المصطفى صلى الله عليه وسلم. قال الله عز وجل ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) آل عمران:31.

جاء في بعض التفاسير: قل -أيها الرسول-: إن كنتم تحبون الله حقا فاتبعوني وآمنوا بي ظاهرًا وباطنًا, يحببكم الله, ويمحُ ذنوبكم, فإنه غفور لذنوب عباده المؤمنين, رحيم بهم.

وهذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله - تعالى- وليس متبعًا لنبيه محمد صلى الله عيه وسلم حق الإتباع, مطيعًا له في أمره ونهيه, فإنه كاذب في دعواه حتى يتابع الرسول صلى الله عليه وسلم حق الإتباع.اهـ

أما ما هي الأسباب الجالبة لمحبة الله عز وجل فهي كثيرة، ومما ذكرها الإمام ابن القيم: قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه وما أريد منه، والتقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، فإنها توصله إلى درجة المحبوبية بعد المحبة.

دوام ذكره على كل حال : باللسان والقلب والعمل والحال ، فنصيبه من المحبه على قدر نصيبه من الذكر. وإيثار محابه على محابك عند غلبات الهوى والتسنم إلى محابه وان صعب المرتقى. ومطالعة القلب لأسمائه وصفاته ومشاهدتها ومعرفتها .


مشاهدة بره وإحسانه وآلائه ، ونعمه الظاهرة والباطنة، وانكسار القلب بين يدي الله تعالى، والخلوة به وقت النزول الإلهي لمناجاته وتلاوة كلامه والوقوف بالقلب والتأدب بأدب العبودية بين يديه ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة .

ومجالسة المحبين والصادقين والتقاط أطايب ثمرات كلامهم كما ينتقى أطايب الثمر ، ولا نتكلم إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام وعلمت أن فيه مزيدا لحالك ومنفعة لغيرك، ومباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل.

ومن محركات القلوب إلى الله عز وجل..

الخوف والرجاء: فالخوف انفعال طبيعي وفطري في الإنسان، يجعله يتحرك لدفع نفسه من أمكان الخطر والتهلكة. ويرتبط كل من الخوف والرجاء بمحبة الله سبحانه وتعالى، لأن الإنسان يرجو ما يحبه ويريد تحقيقه، والخائف يهرب مما يخيفه إلى ما يحبه.

والخوف من عقاب الله عز وجل يمنع الإنسان من الوقوع في المحظور، وهو باب مهم من أبواب النجاة من الهلاك والضياع، فالذي يأمن الطريق فلن يخاف ما يواجهه من مطبات وعقبات، لهذا تجد أكثر العصاة والمقصرين ينتهكون حرمات الله عز وجل ولا يبالون في ذلك، والسبب في ذلك هو ضعف الخوف من الله عز وجل، وعدم تعظيمهم لربهم سبحانه وتعالى.

إن الله عز وجل أثنى على من يخشاه ويعمل بالطاعات والخيرات بأن له عقبى الدار، قال الله عز وجل ( وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ) الرعد: 21-22.

جاء في التفسير الميسر تحت ( وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ ) أي: يراقبون ربهم, ويخشون أن يحاسبهم على كل ذنوبهم, ولا يغفر لهم منها شيئًا.

وتكثر في القرآن الكريم آيات الخوف والرجاء، فالله سبحانه وتعالى يربط توجيهاته وأوامره ونواهيه إما بالترغيب في نعيم الدنيا والآخرة وإما بالترهيب من عذابهما، وإما بالاثنين معاً.

ليؤثر في مشاعر وسلوك العباد، فيخاف المؤمن من عذاب الله إن قصر ويرجو إن أخطأ، ومن ثم يوفق بين سلوكه وبين ما يرجو وما يخاف. قال تعالى ( قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ...) الأعراف: 156.

أما الرجاء فهو قوة نفسية فطرية تبسط الأمل أمام الإنسان، وقد عرفه بعض أهل العلم بأنه تعلق القلب الإنسان بالله سبحانه وتعالى لينال محبوبه.

ويشجع كذلك الرجاء على طاعة أوامر الله عز وجل بابتغاء مرضاته وكرمه وعفوه. والرجاء ينبغي أن يكون لله تعالى وحده فإن كمل خوف العبد من ربه لم يخف شيئاً سواه، قال تعالى ( الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون إلا الله..)

كذلك الرجاء. فمن تعلق قلبه بمخلوق ورجاه في أمر لا يقدر عليه، من دون الله اعتبر مشركاً شركاً خفياً. ومن فضل الله وإحسانه أنه يمنع إجابة الداعي والراجي غير الله إلى أن يتوب ويعود إلى رشده حتى يجذب قلبه إلى التوحيد الخالص.

وحيث أن القرآن الكريم استخدم أسلوب الترهيب والترغيب في تربية المؤمنين، فإننا نحتاج نحن الآن في وفي كل وقت إلى تطبيق نفس الأسلوب – وبالذات أسلوب الترغيب كبداية – لتربية عواطف المحبة والخوف والرجاء في نفوس النشء، والأهم من ذلك هو توافر هذه المشاعر لدى المعلم لأنه القدوة الحسنة لطلابه والإيحاء العملي في التربية أقوى أثراً من الإيحاء النظري.

كتبه/ نبيل بن ناصر السناني